أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٩

أما ما أفاده الشيخ في التقريرات (١) فهو كما سيأتي (٢) راجع إلى دعوى كون أسماء المعاملات أسماء للأسباب ، وأنّها موضوعة للأعم من الصحيح والفاسد على ما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

ويمكن أن يقال : إنّ مراد الشيخ في المكاسب من المسبب هو عين ما أفاده شيخنا قدس‌سره من الفعل بالآلة الذي هو عين البيع الانشائي الذي يوجده

__________________

بعت عند العرف والشرع حقيقة في الصحيح المفيد للأثر ومجاز في غيره ، إلاّ أن الافادة وثبوت الفائدة مختلف في نظر العرف والشرع.

وأما وجه تمسك العلماء باطلاق أدلة البيع ونحوه ، فلأن الخطابات لمّا وردت على طبق العرف ، حمل لفظ البيع وشبهه في الخطابات الشرعية على ما هو الصحيح المؤثر عند العرف ، أو على المصدر الذي يراد من لفظ بعت ، فيستدل باطلاق الحكم بحله أو بوجوب الوفاء على كونه مؤثرا في نظر الشارع أيضا ، فتأمل فان للكلام محلا آخر [ المكاسب ٣ : ١٩ ـ ٢٠ ].

[ كما أن في نسخة الأصل في ورقة اخرى مرفقة حكاية عبارة الشهيدين عن المكاسب واستدراك تتمتها ، وكأنّه بملاحظة النظر إليها في هذا البحث كما سيأتي الاشارة إليها في ثنايا الكلام قال : ] ثم إن الشهيد الثاني قدس‌سره نصّ في كتاب اليمين من المسالك على أن عقد البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح مجاز في الفاسد ، لوجود خواص الحقيقة والمجاز كالتبادر وصحة السلب ، قال : ومن ثمّ قبل الاقرار به عليه حتى لو ادعى إرادة الفاسد لم يسمع منه إجماعا ، ولو كان مشتركا بين الصحيح والفاسد لقبل تفسيره بأحدهما كغيره من الألفاظ المشتركة ، وانقسامه إلى الصحيح والفاسد أعم من الحقيقة ، انتهى.

وقال الشهيد الأول في قواعده : الماهيات الجعلية كالصلاة والصوم وسائر العقود لا تطلق على الفاسد إلاّ الحج لوجوب المضي فيه ، فلو حلف على ترك الصلاة أو الصوم اكتفى بمسمى الصحة وهو الدخول فيهما ، فلو أفسدهما بعد ذلك لم يزل الحنث ، ويحتمل عدمه لأنه لا تسمى صلاة شرعا ولا صوما مع الفساد ، أما لو تحرّم في الصلاة أو دخل في الصوم مع مانع لم يحنث. انتهى كلامه قدس‌سره [ القواعد والفوائد ١ : ١٥٨ ].

(١) راجع مطارح الأنظار ١ : ٤٠ وما بعدها.

(٢) في صفحة : ٢٠٤.

٢٠١

المنشئ بقوله بعت ، وليس مراده بالمسبب هو الملكية الواقعية الحاصلة بعد تمامية العقد وصحته ، أعني بذلك الملكية الشرعية التي هي من الأحكام الوضعية ، فانّ تلك من الأحكام الشرعية التي لا تتصف بصحة ولا فساد ، وانّما تتصف بالوجود والعدم.

ثم إنّ ما افيد من تصحيح التمسك بالإطلاق بكون العقد من قبيل الآلة لا من قبيل السبب في غاية الجودة والمتانة. وقد يقال إنّه لا ينحصر هذا الوجه بكون العقد آلة بل يتأتى حتى لو قلنا إنّه سبب ، فانّه كما تكون الآلة منوّعة للفعل فكذلك يكون السبب منوعا له ، وكما أنّ حاصل الاطلاق على الأول أنه لا فرق بين ما يحصل بهذه الآلة وبتلك الآلة ، فكذلك حاصل الإطلاق على الوجه الثاني أنّه لا فرق بين ما يحصل بهذا السبب وبذلك السبب ، هذا.

ولكن لا يخفى الفرق بين المسبب والفعل بالآلة ، فانّ المسبب لا يتنوع بتنوع سببه ، بل لو تعددت أفراد أسبابه واجتمعت فانّما هي سبب واحد وهو القدر الجامع ، ولو وجد هذا تارة وذاك اخرى لم يكن الموجود بالأول مغايرا للموجود بالثاني ، بل لا يكون في البين إلاّ مسبب واحد كما لا يكون إلاّ سبب واحد ، فان كان السبب صحيحا انوجد المسبب وإلاّ كان المسبب معدوما ، فنحن إذا شككنا في صحة السبب فقد شككنا في وجود المسبب فلا معنى للتمسك بإطلاق المسبب ، وهذا بخلاف الفعل بالآلة فان العقد يكون آلة في فعل العاقد وهو إيجاد البيع في صقعه الانشائي ، ويتنوع البيع الذي ينوجد في صقع الانشاء بتنوع آلته ، ولو كانت الآلة فاسدة لم تخرج عن كونها آلة في إيجاد البيع في صقعه الانشائي ، غايته أنّ ذلك الإيجاد يكون فاسدا لا يترتب عليه الأثر لا أنّه يكون غير موجود ، وحينئذ

٢٠٢

يمكن التمسك باطلاقه على عدم اعتبار تقيّده بآلة خاصة.

نعم إن السببية بهذا المعنى ممنوعة ، فان المسبب إن كان هو الملكية الحاصلة بعد العقد وإمضاء الشارع لها ، فلا ريب أن اسم المعاملة كالبيع مثلا ليس بموضوع لذلك المسبب ولا هو مستعمل فيه ، بل إن ذلك المسبب هو من الأحكام الوضعية الشرعية المجعولة للشارع إما إمضاء أو تأسيسا ، وذلك لا يتصف بصحة ولا بفساد ، وإنما يتصف بالوجود والعدم ، وإن كان المسبب هو الانتقال بالعوض المعبّر عنه بالمبادلة بين المالين ، أعني بذلك المبادلة الانشائية الحاصلة بالعقد أو بالمعاطاة ، فذلك ليس بمسبب للعقد بل إن ذلك فعل للعاقد ، غايته أنه فعل له بواسطة الآلة وهي العقد ، وذاك أيضا يتصف بالصحة والفساد ولو باعتبار صحة آلته وفسادها ، وحيث إنه معنى عرفي لا اختراعي للشارع ، فلا منافاة بين كون ذلك الاسم موضوعا للصحيح عند العرف والشرع وبين إمكان التمسك باطلاقه عند الشك في اعتبار الشارع فيه ما شك في اعتباره بعد فرض أنّ فاقد ذلك الشيء المشكوك يسمى عند العرف بيعا كما هو الشأن في جميع موارد الشك في الاطلاق والتقييد (١).

__________________

(١) [ في نسخة الأصل ورقة مرفقة فيها كلام فيه تكرار لبعض ما تقدّم ولفظه : ] ولكن التحقيق هو عدم تمامية هذا النقض ، وتفصيل ذلك : هو أنّ في المعاملات أسبابا ومسببات وأسماؤها للمسببات ، فلا يمكن التمسك باطلاقها ، وقول الشيخ في التقريرات [ مطارح الأنظار ١ : ٤١ ] بأن المسببات لمّا كانت عرفية وكانوا في مورد الشك يحكمون بوجود المسبب ينزّل كلام الشارع على ذلك مخدوش ، فانّ نظر العرف إنّما يتبع في تحديد المفاهيم لا في وجود مصداقها ، فلو كان شخص مرتفع الحرارة إلى درجة خمسين وأمرنا بتخفيض حرارته ، فان شك في مقدار التخفيض وفي وقته مثلا ونحو ذلك من حدوده ، كان المرجع في ذلك هو العرف ، أما لو كان

٢٠٣

ثم لا يخفى أنّ أصل الاشكال هو أنّ المعاملات هل يشملها النزاع في الصحيح والأعم أو لا؟ وأنه بناء على كونها أسماء للمسببات لا يشملها النزاع المذكور لعدم اتصافها بالصحة والفساد ، وإنّما تتصف بالوجود والعدم على ما افيد في الكفاية (١) ، وبناء على كونها أسماء للأسباب تكون داخلة في حريم هذا النزاع ، وكان حاصل الاشكال أنّه بناء على القول بالصحيح فيها لا بد من القول بسقوط التمسك بالاطلاقات الواردة في المعاملات كما

__________________

الشك في حدوث التخفيض بشرب الدواء الفلاني فلا يرجع فيه إلى العرف ، إذ ليست المسألة حينئذ مسألة شك في حد المفهوم ، وإنّما هي شك في الوجود ، ولا يكون العرف في مثله إلاّ شاهدا على ما لا يكون محسوسا عنده ، فلا يكون قوله معتبرا في ذلك حتى من باب الشهادة بالوجود.

ثم بعد ذلك نقول : إنّه يمكن دفع الاشكال بالمنع من كون المسألة من باب الأسباب والمسببات بل هي من باب الفعل بالآلة ، فالعقد يكون آلة في إيجاد البيع في صقعه الانشائي ، ويتنوع البيع الذي ينوجد في صقع الانشاء بتنوع آلته ، ويمكن التمسك بالاطلاق على عدم اعتبار تقيّده بآلة خاصة ، وهذا بخلاف باب الأسباب والمسببات فانّ المسبب لا يتنوع بتنوع سببه بل لو تعددت أفراد أسبابه يكون واحدا ، ويكون المسبب والسبب أيضا واحدا لرجوع الأسباب إلى القدر الجامع ، فان كان السبب صحيحا كان المسبب موجودا وإلاّ لم يكن موجودا ، فنحن إذا شككنا في صحة السبب فقد شككنا في وجود المسبب فلا معنى للتمسك باطلاق المسبب.

وكأن الشيخ في المكاسب قد سلك هذا المسلك الذي أشار إليه شيخنا قدس‌سره ، وقد عرفت أنه بناء عليه يمكن التمسك بالاطلاقات بناء على كون الموضوع له هو الأعم من الصحيح والفاسد من دون حاجة إلى التشبث بما في الكفاية [ كفاية الاصول : ٣٣ ] من تنزيل الدليل الشرعي على طريقة العرف ، لكن الشيخ قدس‌سره اقتصر على ذلك دون دعوى كون الموضوع له هو الأعم ، لأنه بصدد تصحيح ما عن الشهيد [ القواعد والفوائد ١ : ١٥٨ ] من كون الموضوع له هو الصحيح ، ومع ذلك يمكن التمسك بالاطلاق لأنّ الطريق حينئذ منحصر بما في الكفاية فلاحظ.

(١) كفاية الاصول : ٣٢.

٢٠٤

تقدم في العبادات ، وكان عمدة همهم في تنقيح وجه للتمسك بتلك الاطلاقات بناء على القول بالصحيح المتفرع على القول بأنّ ألفاظ المعاملات أسماء للأسباب ، ومن الواضح أنّ ما أفاده شيخنا قدس‌سره من الوجه في صحة التمسك بتلك الاطلاقات خارج عن سلسلة هذا الاشكال ، وإنّما هو توجيه للتمسك بها بناء على كونها أسماء للمسببات بالمعنى الذي أفاده قدس‌سره من السببية أعني الآلية ، ومن الواضح أنّ هذا وجه آخر للتمسك بتلك الاطلاقات غير ما هو مطلوب الجماعة من توجيه التمسك بها بناء على كونها أسماء للأسباب وأنّها موضوعة لخصوص الصحيح.

وهذا الاشكال أعني اشكال التمسك بتلك المطلقات بناء على ما ذكر من كونها أسماء للأسباب وأنّها موضوعة لخصوص الصحيح منها هو الذي دعا الشيخ قدس‌سره في التقريرات إلى الالتزام بكون ألفاظ المعاملات موضوعة للأعم ، لأنّ دعوى كونها موضوعة للصحيح منافية بنظره قدس‌سره لصحة التمسك بتلك الاطلاقات كما يظهر من التقريرات مما أفاده من قوله : أقول ـ إلى قوله ـ : فتأمل (١) ، المتوسط بين ما نقله عن الشهيد الثاني وبين ما نقله عن صاحب الحاشية قدس‌سرهما.

لكن الشيخ قدس‌سره في أوائل البيع من المكاسب قبل الشروع في المعاطاة له قدس‌سره كلام في توجيه التمسك بالاطلاقات بناء على كونها موضوعة لخصوص الصحيح ينبغي مراجعته والتأمل فيه ، وهل هو مبني على كونها أسماء للمسببات أو أنّها أسماء للأسباب ، أو هو مبني على كونها فعلا بالآلة فراجعه وتدبر ، والذي يترجّح في النظر القاصر هو أنّ مراد الشيخ هناك

__________________

(١) مطارح الأنظار ١ : ٤٠ ـ ٤١.

٢٠٥

بقوله : فالبيع الذي يراد منه ما حصل عقيب ... إلخ (١) ، أنّ البيع لم يستعمل إلاّ في نفس ذلك المعنى الذي ينشئه المنشئ ، أعني بذلك البيع الانشائي ، وهذا يتصف بالصحة والفساد ، وأنّه موضوع لخصوص الصحيح وأنه يمكن التمسك باطلاقه على الصحة بعد فرض كونه عند العرف بيعا ، وأنّ الاختلاف بين العرف والشرع عند ثبوته يكون من قبيل الاختلاف في المصاديق ، فيكون حينئذ عين ما أفاده شيخنا قدس‌سره من كونه فعلا بالآلة ، وحينئذ يكون مسلكه في المكاسب مخالفا لمسلكه في التقريرات.

وأما ما أفاده في الكفاية (٢) من التوجيه فهو راجع إلى ما أفاده صاحب الحاشية (٣) فيما لخّصه عنه في التقريرات (٤) ، وحيث إنّ الشيخ قدس‌سره في التقريرات ردّ على صاحب الحاشية ما أفاده من التوجيه المذكور لرفع المنافاة بين دعوى كون ألفاظ المعاملات أسماء للصحيح وبين التمسك بتلك الاطلاقات ، أفاد في آخر كلامه في التقريرات بقوله : وبالجملة فلا نعلم وجها لتصحيح ما أفاده الشهيد قدس‌سره (٥) بناء على أنّ التمسك بالاطلاقات أمر مفروغ عنه كما جرى عليه الشهيد نفسه في كتبه.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ الوجه فيما أفاده في التقريرات أخيرا بقوله : ومما ذكرنا يظهر أنّ النزاع لا يجري في المعاملات ، هو ما أشرنا إليه وما يظهر منه مما تقدم منه من عدم تأتّي القول بالصحيح فيها ، لمنافاته للتمسك بالإطلاقات ، لا ما ربما يتوهم من توجيه ذلك بأنها أسماء

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٢٠.

(٢) كفاية الاصول : ٣٣.

(٣) هداية المسترشدين ١ : ٤٩٢.

(٤) مطارح الأنظار ١ : ٤١ ـ ٤٢.

(٥) المصدر المتقدم : ٤٤.

٢٠٦

للمسببات ، فتأمل.

وأما عبارة الشهيد قدس‌سره فحاصلها دعوى كون ألفاظ العبادات والمعاملات عند الشارع أسامي للصحيح ، ولازم ذلك أنّ من نذر ترك واحد منها لا يحنث بفعل الفاسد لو كان في أول الشروع فيه فاسدا ، وأما ما يطرؤه الفساد في الأثناء فيحتمل فيه القول بالحنث ، نظرا إلى حاله قبل طرو المفسد ، ولكن الاقوى فيه عدم الحنث أيضا لأنّه وإن لم يكن فاسدا من أول الأمر إلاّ أنّه بعد طروّ المفسد يخرج عن كونه متعلق النذر ، فيكون الحاصل توقف تحقق الحنث على إتمامه صحيحا. وأما استثناؤه الحج فهو مبني على دعوى استفادة صحة إطلاقه عند الشارع على الفاسد من الأمر باتمام فاسده. وكيف كان فيكون حاصل العبارة دعوى اختصاص تلك الألفاظ عند الشارع بخصوص الصحيح.

ويظهر من قوله : « وسائر العقود » أنّ كلامه في المعاملات ناظر إلى مقام الأسباب ، وحينئذ فيتوجه عليه الاشكال بأنّها لو كانت مختصّة بخصوص الصحيح لسقط التمسك بالاطلاقات فيها ، ولا بد حينئذ من توجيه التمسك بما أفاده صاحب الحاشية والكفاية قدس‌سرهما.

وحاصل التوجيه وتوضيحه : أنّ أسماء المعاملات بعد فرض كونها أسماء للأسباب لا المسببات إما أن نقول بكونها موضوعة لمفاهيم عرفية والموضوع له عندهم هو الصحيح ، وليس للشارع تصرف في أصل معانيها ومفاهيمها ، بمعنى أنها ليست من الماهيات المخترعة للشارع كما قيل في العبادات بناء على الحقيقة الشرعية ، بل إن الشارع جرى في أصل تلك الماهيات المعاملية على طبق ما عليه العرف من أصل ماهياتها ومفاهيمها ، غايته أنه يحصل الاختلاف بين الشرع والعرف في بعض المصاديق مع

٢٠٧

الاتفاق على المفهوم الكلي الذي وضع اللفظ بازائه كما يحصل الاختلاف بين العرف أنفسهم في المصاديق العرفية لمفهوم واحد عرفي من جهة تخطئة بعضهم بعضا في بعض مصاديقه كما في مصاديق الضار أو النافع ، أو من جهة اختلاف أذواقهم كما في مصاديق الملاحة والجمال ، أو من جهة اختلاف عاداتهم كما في مصاديق التحية والتعارف برفع ما على الرأس أو بالسلام أو برفع اليد على الرأس ، مع اعتراف الكل بأنّ الكل مصداق لذلك المفهوم الكلي.

وإما أن نقول بأنها موضوعة عند الشارع لمعان شرعية اختراعية وماهيات جعلية مغايرة لما هو عند العرف من معانيها ومفاهيمها ، واعتبرها أن تكون صحيحة بحيث تترتب عليها آثارها ، فيكون حالها حال أسماء العبادات بناء على القول الصحيحي.

وإمّا أن نقول بأنّ التصرفات الشرعية خارجة عن جميع هذه الانحاء ، بمعنى أنها ليست من قبيل تخطئة العرف ، ولا من قبيل اختلاف الذوق أو العادة ، ولا من قبيل الاختراع الجديد لماهيات ابتدائية ، بل إنه جرى في أحكامه على طبق تلك الماهيات العرفية ، غايته أنه في مقام ترتيب الأثر عليها قيّدها بقيد خاص مثل التقابض في المجلس في باب الصرف ومثل كون العقد بالعربية مثلا ونحو ذلك من القيود ، فيكون حال هذه القيود حال التقييد بمثل الايمان في اعتق رقبة مؤمنة. فهذه وجوه أربعة في المخالفة بين الشرع والعرف في مصاديق المعاملات مثل البيع :

أولها : كون ذلك التصرف الشرعي من قبيل الاختراع الجديد والتسمية الجديدة مثل باب العبادات.

ثانيها : أنه ليس من قبيل الاختراع الجديد لكنه من قبيل التخطئة في

٢٠٨

المصداق.

ثالثها : أنه من قبيل اختلاف في التباني والاصطلاح الذي يكون منشؤه فيما بين العرف أنفسهم اختلاف الذوق أو اختلاف التباني ، مع الاعتراف من الجميع بأنّ الجميع مصداق للمفهوم الكلي.

رابعها : أن يكون من قبيل التقييد والتخصيص.

أما الاول : فيمكن منعه من جهة العلم بأنه ليس للشارع اختراع جديد في باب المعاملات وإنما يمكن ذلك في باب العبادات.

وأما الثاني : فهو الذي يظهر من الكفاية (١) ، لكنه ممكن المنع أيضا ، فان ذلك إنما يمكن في الماهيات الواقعية التي تكون لها آثار واقعية مثل النافع والضار ونحوهما ، دون باب المعاملات مما تكون آثارها اعتبارية محضة ، بل ليست إلا من قبيل الأحكام الشرعية أو العرفية ، ومن الواضح أنه لا معنى للتخطئة فيها.

وأما الثالث : فيمكن تطرق المنع إليه ، حيث إن لازمه اعتراف الشارع بأن ما لدى العرف أسباب أيضا ، غايته أنه جرى على أسباب خاصة غير تلك الأسباب ، وأنه عند إرادة التمليك لا يفعل إلا الأسباب التي جرى هو عليها ، وهذا لا ينافي ترتب الأثر على الأسباب العرفية التي جروا عليها كما نراه من اعتراف كل فريق بتحقق التعظيم بما يفعله الفريق الآخر فيما لو كان الاختلاف في المصاديق عاديا أو ذوقيا ، وحينئذ فالمتعين من هذه الوجوه هو :

الوجه الرابع ، وحاصله : أنه بعد فرض كون لفظ المعاملة كالبيع اسما للعقد عند كل من العرف والشرع ، يكون ترتب الملكية عليه من قبيل

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٣.

٢٠٩

ترتب الحكم الشرعي على ذلك الموضوع ، فلو قيّده الشارع بقيد يكون ذلك كسائر التقييدات الطارئة على المطلقات ، فلا مانع من التمسك باطلاق دليل ذلك العقد عند الشك في اعتبار شيء فيه بعد فرض صدق اسم البيع عرفا على ما هو فاقد لذلك القيد المشكوك.

ثم لا يخفى أنّا لو أغمضنا النظر عمّا أشكلنا به على بقية الوجوه لكان التمسك بالاطلاق في مقام الشك لا بأس به على كل واحد من تلك الوجوه.

أما على الوجه الثاني والثالث فواضح ، لأنه بعد فرض الاتفاق من الشرع والعرف على مفهوم البيع الذي هو العقد المتضمن للمبادلة بين المالين ، لو فرضنا أن الشارع يخطّئ العرف في عدّهم العقد بالفارسية مثلا بيعا ، أو أنه كانت مخالفاتهم في ذلك من جهة مجرد التباني والاختلاف في الاصطلاح كما هو مقتضى الوجه الثالث ، لكان عليه البيان ، فلمّا لم يبيّن وأطلق البيع في قوله تعالى : ( أحلّ الله البيع )(١) مع كونه في مقام البيان استكشفنا من ذلك الاطلاق أنّ ما يصدق عليه عند العرف ذلك المفهوم الكلي العرفي فهو عند الشارع أيضا كذلك.

ومنه يظهر الوجه في التمسك بالاطلاق المذكور بناء على الوجه الأول الراجع إلى دعوى كون هذه الألفاظ لها حقائقها شرعية مجعولة للشارع وأنها مختصة بخصوص الصحيح منها ، في قبال حقائها العرفية ، فانه لو وردت منه مطلقة ولم يقيّدها بقيد زائد على ما يعتبره العرف فيها ، لزمنا تنزيل ذلك الاطلاق على معانيها العرفية ، ويستكشف من ذلك أنه ليس للشارع اختراع جديد في قبال ما عليه العرف ، أو نقول إن ذلك إمضاء

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

٢١٠

لما جرى عليه العرف فيها ، ويكون ذلك الامضاء كافيا في كونها مجعولة للشارع ، إذ المراد من الجعل هو الأعم من الجعل التأسيسي والجعل الامضائي ، وهذا بخلاف أسماء العبادات فانها لمّا لم تكن لها حقائق عرفية لم يمكن تنزيل الاطلاقات فيها على المعاني العرفية.

ولكن في النفس شيء من هذا الوجه ، فان حاصله إثبات ظهور الاطلاق وعدم البيان في إرادة المعنى العرفي ، بأن السكوت وعدم البيان مع عدم إرادة المعنى العرفي مخلّ بالحكمة ، لأن اللفظ حينئذ ينزّل على المعنى العرفي مع أنه لا يريده ، ومن الواضح أن اللفظ لا ينزّل على ذلك إلا إذا كان له ظهور فيه ، فكان ظهور الاطلاق في إرادة المعنى العرفي موقوفا على كون السكوت مع إرادة خلافه خلاف الحكمة ، وكونه خلاف الحكمة يتوقف على ظهور الاطلاق في إرادة المعنى العرفي ، فجاء الدور.

مع أن هذا الوجه لو تمّ لجرى في العبادات أيضا ، إذ لا شبهة في أنّ لها معاني عرفية ، فحيث إنه لم يقيّدها بقيد على خلاف المعنى العرفي يستكشف من ذلك أنه لم يكن له اختراع جديد في تلك العبادة ، أو أنه قد أمضى ما عليه العرف في تلك العبادة ، فتأمل.

قوله : وأما ما في كلام صاحب التقريرات من أن العرف حيث يرى حصول المسبب بسبب معيّن عندهم فامضاء المسبب يستلزم إمضاء السبب عنده ، فغير تام ، فان المتبع هو أنظار العرف في تعيين المفاهيم لا في التطبيق ... إلخ (١).

قد عرفت فيما تقدم (٢) أن الشيخ قدس‌سره في التقريرات بنى على خروج

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٧٢.

(٢) في صفحة : ٢٠٤ ـ ٢٠٦.

٢١١

أسماء المعاملات عن النزاع في الصحيح والأعم ، بل بنى على أنها موضوعة للأعم لأجل توقف صحة التمسك باطلاقاتها على ذلك. وأنه لو قلنا فيها بالصحيح لسقطت الاطلاقات المزبورة ، وأنه قدس‌سره أطال في الردّ على صاحب الحاشية القائل بهذه المقالة أعني كون المعاملات موضوعة عند العرف والشرع لخصوص الصحيح ، وإن اختلفت الأنظار في تعيين المصداق وأنّ الاطلاقات الشرعية تنزّل على أنّ الصحيح هو ما يراه العرف.

نعم ، إن الشيخ قدس‌سره (١) في المكاسب قبيل الشروع في المعاطاة تصدى لتصحيح التمسك بالاطلاقات بناء على كونها موضوعة لخصوص الصحيح ، وقد وجّهه بنحو هذا التوجيه الذي عرفت الكلام فيه ، وأنه هل هو مبني على كونها موضوعة للأسباب أو للمسبّبات ، وهل المراد بالمسبّبات هي المعاني الانشائية أو هي تلك الامور الواقعية الشرعية التي تحصل بتمام العقد وواجديته لجميع الأجزاء والشرائط. وفي تقريرات المرحوم الشيخ محمد علي (٢) نقل هذا التوجيه عن المكاسب ، لكنه بناه على الاخراج عن اللغوية ، وأنت بعد مراجعتك للمكاسب لا تجد فيها لدعوى لزوم الخروج عن اللغوية عينا ولا أثرا.

وأما ما ذكره المحرر في الحاشية من قوله : بل التحقيق أن يقال : إنّ المراد بالمسبّب في المعاملة ليس هو الامضاء الشرعي أو إمضاء العقلاء ، ضرورة أن البيع ونحوه اسم لفعل البائع ، وهو يصدر منه لا من غيره ، بل المراد منه هو الاعتبار الصادر من البائع المظهر باللفظ أو بغيره ، والاعتبار أمر قائم بالمعتبر بالمباشرة بلا احتياج إلى سبب أو آلة ، وقد عرفت سابقا

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٢٠.

(٢) فوائد الاصول ١ ـ ٢ : ٨٠.

٢١٢

أنه لا أساس لما هو المعروف من كون الانشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ ... إلخ (١).

فلا يخفى أنه راجع إلى ما أفاده شيخنا من أن المسبب هو فعل العاقد وبعبارة [ اخرى ](٢) هو ما يوجده العاقد من البيع الانشائي. وأما كون هذا الاعتبار قائما بنفس العاقد وأن اللفظ يكون مبرزا له كما هو مبنى المحشّي في باب الانشاء ، فذلك مبنى لا أساس له ولا أصل سوى دعوى الكلام النفسي ، وأنّ اللفظ يكون مبرزا لذلك الكلام النفسي في كل من الاخبار والانشاء ، وقد تعرضنا لذلك في موقعه ، وحينما كنا مشغولين بهذه التعليقة على ما أفاده شيخنا قدس‌سره لم تكن هذه الطبعة الجديدة حاضرة لدينا ، ولكن الآن احتجنا في درس الفقه إلى مراجعة هذه المباحث فراجعنا الحاشية المذكورة وألحقنا هذا التعليق بما حررناه سابقا.

وكيف كان ، فالذي تلخّص في نظر الأحقر في هذه النظرة الأخيرة من هذه المعامع : هو أنّ ما أفاده شيخنا قدس‌سره راجع إلى ما أفاده الشيخ قدس‌سره في المكاسب ، وأنّ ما أفاده الشيخ قدس‌سره في المكاسب هو عين ما نقله في التقريرات عن صاحب الحاشية (٣) ، وأن الجميع راجع إلى دعوى كون المراد من أسماء المعاملات هو المسببات الموجودة في عالم الانشاء لا تلك التي هي مرحلة الملكية الشرعية الواقعية المتحققة بعد الامضاء ، فانّ تلك لا تتصف بصحة وفساد بل بالوجود والعدم ، بخلاف الملكية الانشائية التي سماها شيخنا قدس‌سره بالأفعال بالآلة فانها تتصف بالصحة والفساد ولو

__________________

(١) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٧٣.

(٢) [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

(٣) كما تقدم في صفحة : ٢٠٦.

٢١٣

باعتبار آلتها ، وأنّ الألفاظ موضوعة لخصوص الصحيح منها ، وأنه يمكن التمسك باطلاقاتها نظرا إلى كونها بيعا بحسب النظر العرفي ، فنحن محتاجون إلى التشبث بأذيال الصدق العرفي بعد فرض أنه لا اختلاف بين الشرع والعرف في مفهوم البيع.

وهناك مطلب آخر وهو دعوى كون الاختلاف بينهما من باب التخطئة. وقد عرفت أن الاختلاف في المصاديق مع الاتفاق على المفهوم الكلي يكون على أنحاء ثلاثة : التخطئة المبنيّة على التجهيل من الشرع للعرف نظير الاختلاف في مصداق النافع والضار. والاختلاف المبني على اختلاف الذوق. والاختلاف المبني على الاختلاف في التعارف والتباني ، وأنّ كلا منها لا يناسب البيع ، وحينئذ لا بد من القول بأنّ البيع موضوع من الموضوعات العرفية قد حكم عليه الشارع بالملكية ، وأنّ هذا الحكم ربما كان مقصورا عنده على بيع خاص ، وحيث لم يقيّده بمثل العربية مثلا علمنا أنه مطلق من هذه الجهة ، فلا يكون حال البيع الإكحال سائر المطلقات التي حكم عليها الشارع نظير الرقبة. ولعلّ ذلك هو مراد الشيخ في التقريرات من الحكم بخروجها عن محل النزاع في الصحيح والأعم ، فلاحظ وتأمل.

وخلاصة البحث : أنّ هذه الأسباب التي ذكرناها أعني الدواء النافع والدواء الضار ، وأسباب التعظيم والاجلال ، وأسباب الاستحسان وانشراح النفس تكون المسبّبات فيها أمورا واقعية ، وإنما الاختلاف في سببية تلك الأسباب لهاتيك المسبّبات ، فسببية الدواء الفلاني للنفع أو الضرر واقعية ، وسببية رفع ما على الرأس للتعظيم عادية ، وسببية الصوت الفلاني للانشراح طبعيّة ذوقية ، وهذا بخلاف سببية العقد لحصول الملكية فانّ

٢١٤

المسبّب فيها وهو الملكية من سنخ الأحكام.

وتوضيح ذلك : أنّ كون العقد سببا للملكية ليس المراد به مجرد العقد ، بل المراد به العقد الذي يقصد به إنشاء الملكية ، والمسبب فيه وهو الملكية من الأحكام الوضعية التابعة لاعتبار المعتبر ، سواء كان المعتبر لها هو العرف أو الشرع ولو من باب الامضاء ، فليس المسبب فيها من الامور الواقعية كي يكون الاختلاف فيها من باب التخطئة أو من باب اختلاف العادة أو من باب اختلاف الذوق ، بل يكون الاختلاف فيها من باب اعتبار الحكم وعدم اعتباره ، ففي الحقيقة يكون العقد المقصود به إنشاء الملكية موضوعا من الموضوعات ، ويكون محكوما عليه بتحقق الملكية عند تحققه ، وهو موضوع عرفي قابل للتوسعة والتضييق وقابل للتمسك فيه باطلاق دليل ذلك الحكم المجعول عليه. ولا فرق في ذلك بين كون الموضوع هو العقد الذي قصد به الملكية الانشائية ، وبين كون الموضوع هو تلك الملكية الانشائية التي أوجدها العاقد في صقعها الانشائي. فلا فرق في ذلك بين ما أفاده في الكفاية (١) من كون أسماء المعاملات هو العقد الذي قصد به إنشاء الملكية ، وبين ما أفاده شيخنا قدس‌سره (٢) من كونها أسماء لتلك المعاني الانشائية التي هي أفعال للعاقد بالآلة التي هي العقد ، فانّ كلا منهما يتصف بالصحة والفساد ولو باعتبار تمامية آلته وعدم تماميتها. فلو قلنا بأنها للأعم فلا إشكال في التمسك بالاطلاق ، كما أنا لو قلنا بأنها أسماء لخصوص الصحيح فلا إشكال أيضا في التمسك بالاطلاق ، بعد فرض كون العقد الذي يقصد به إنشاء الملكية أو كون الملكية المنشأة من الامور

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٣.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٧٤.

٢١٥

العرفية ، وأن الشارع لم يعتبر فيها أمرا زائدا على ما اعتبره العرف فيها ، ولعل قول الشيخ قدس‌سره في المكاسب : فلأنّ الخطابات لمّا وردت على طبق العرف حمل لفظ البيع وشبهه في الخطابات الشرعية على ما هو الصحيح المؤثر عند العرف ، أو على المصدر الذي يراد من لفظ بعت ، فيستدل باطلاق الحكم بحله أو بوجوب الوفاء به على كونه مؤثرا في نظر الشارع أيضا ... إلخ (١) إشارة إلى إمكان التمسك بالاطلاق على كل من الوجهين المذكورين ، فلاحظ وتدبر.

قوله : لا إشكال في إمكان الاشتراك والترادف ... إلخ (٢).

تقدم (٣) الكلام على ذلك في مباحث الوضع ، ومجرد كون الوضع هو التباني لا ينافي التباني من الآخر أو بعد النسيان للتباني الأول ، والاستشهاد بما ذكره بعض المؤرخين (٤) أو فلاسفة اللغة إنما هو على الامكان لا على الوقوع. والخلاصة : هي أنه لو ثبت الاشتراك أو الترادف فهو إنما يعلل بذلك. هذا في أصل اللغة ، أما فروعها ومنها الأعلام الشخصية فلا شبهة في وقوع الاشتراك فيها ، بل لعل العلم واللقب من الترادف ، فلاحظ وتأمل.

قوله : ولازمه الجمع بين اللحاظين في آن واحد وهو ممتنع ... إلخ (٥).

إنّ الاستعمال شعبة من الوضع الذي عرفت أنه إيجاد للمعنى بايجاد اللفظ ، وجعل اللفظ نفس المعنى ، وهذا لا يعقل بالنسبة إلى معنيين

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٢٠.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٧٦.

(٣) تقدم البحث عن الترادف في مبحث الصحيح والأعم صفحة : ١٦٨ وما بعدها.

(٤) لاحظ ما ذكره جرجي زيدان في تاريخ آداب اللغة العربية ١ : ٥٤.

(٥) أجود التقريرات ١ : ٧٦.

٢١٦

مستقلين إلاّ بنحو الاستعمال بالقدر المشترك أو في المجموع المركب منهما ، وكل من ذلك خارج عما هو محل الكلام.

ومنه يظهر لك الخدشة فيما في الحاشية (١) من جعل الاستعمال من قبيل كون اللفظ علامة على إرادة المعنى ، حتى لو قلنا بأنّ حاصل الوضع هو التباني ، فانّه إنّما يكون من قبيل البناء على أنه إذا أراد إحضار المعنى في ذهن فانّما يحضره بذلك اللفظ على وجه يكون إحضاره اللفظ إحضارا للمعنى ، لا أنه من مجرد التباني على التلفظ بذلك اللفظ عند إرادة المعنى ليكون ذكره اللفظ علامة صرفة على أنه أراد المعنى. مضافا إلى أنه لو تمّ كون حاصل الوضع هو جعل اللفظ علامة على إرادة هذا المعنى الذي هو الذهب مثلا ، كان مقتضاه هو أنّه لو أراد كلا من الذهب والباصرة لم يكن ذلك على طبق الوضع الذي هو جعل اللفظ علامة على إرادة الذهب تارة وإرادة الباصرة اخرى ، إذ لم يكن من الواضع التباني على كون ذكر اللفظ علامة على إرادة الاثنين.

وإن شئت قلت : إنّ إرادة الاثنين بارادة واحدة ليس من قبيل استعمال المشترك في الأكثر ، بل هو من الاستعمال في المجموع ، والذي هو محل الكلام هو تعدد الارادة بحيث يكون هذا مرادا مستقلا وذلك مراد مستقل ، فلو قلنا إنّ التباني كان على جعل اللفظ علامة على الارادة الواحدة فلا يدخل فيه جعله علامة على الارادتين ، فتأمل.

وأما التورية فهي من المواراة بمعنى كون المتكلم قاصدا لمعنى بلفظ ظاهره غيره ، نظير ما يذكرونه في لزوم التورية عند الالتجاء إلى الكذب أو

__________________

(١) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٧٦.

٢١٧

التكلم بكلمة الكفر. وبالجملة أنّ المورّي لا يكون قاصدا للمعنيين وإلا لم تكن فيها مندوحة عن الكذب أو الكفر ، وإنما هو قاصد لواحد منهما ساترا له في ظهور اللفظ بآخر أو باجمال اللفظ ، وإلا فكيف يقصد الفعل والاسم في قوله : « قالت صف ورد خدّي وإلاّ أجور ، فقلت جوري » وقوله : « قالت وجسيمك يوم البين صفة عسى نعوده ، فقلت يا أهل الهوى عودوا » إلى غير ذلك من أمثلته.

٢١٨

[ مبحث المشتق ]

قوله : منها : ما يكون مبدأ الاشتقاق فيه نفس الذات أو مقوّما للذات ... إلخ (١).

لا يخفى أنّ الذات مركبة من المادة والصورة ، وانعدام الصورة والتبدل إلى صورة نوعية اخرى مثل تبدل الحيوان ملحا أو ترابا معقول. نعم إنه غير داخل في محل النزاع في المشتق ، أمّا انعدام المادة وحدها أو هي مع الصورة فلعل ذلك غير معقول.

قوله : كعنوان العلة والمعلول والممكن ... إلخ (٢).

لا يخفى أنّ كون الشيء علة أو كونه معلولا أو كونه ممكنا لا يتصور فيه الانقضاء ، وليس الاشكال فيه مثل الاشكال في أسماء الزمان ممّا لا بقاء للذات فيه بعد انقضاء المبدأ. بل هذا ونحوه ممّا هو من لوازم الذات مثل زوجية الأربعة لا يتصور فيه الانقضاء ، فانّ العلة علة وجدت أو كانت معدومة أو انعدمت بعد الوجود ، وهكذا في إمكان الممكن وزوجية الأربعة فانّ جميع ذلك ممّا لا يتصور فيه انقضاء المبدأ يكون خارجا عن محل النزاع ، لا من جهة أنّ المبدأ غير قابل للزوال مع بقاء الذات كما في الحاشية (٣) ، بل من جهة أن هذا المبدأ غير قابل للزوال عن الذات ، سواء

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٧٨.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٧٨.

(٣) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٧٩.

٢١٩

كانت الذات معدومة أو كانت موجودة أو انعدمت بعد الوجود. والحاصل : أن ما هو من لوازم الذات غير داخل في محل النزاع. نعم إنّ خروجه من جهة خصوصية المادة وإن كان هو مساويا لباقي المشتقات بحسب الهيئة.

وبالجملة : أن النزاع في هيئة المشتق إنما هو فيما تكون مادته قابلة للانقضاء ، ليتكلم في أن استعماله بعد الانقضاء مجاز أو حقيقة ، ولعله سيأتي إن شاء الله تعالى مزيد توضيح له في أسماء الزمان (١).

نعم يمكن أن يقال إن هذا الاشكال إنما يتأتى في لوازم الماهية مثل زوجية الأربعة وإمكان الممكن ، أما علية العلة ومعلولية المعلول فهما من لوازم الوجود ، وعند ارتفاع الوجود يرتفع العنوان وهو العلية ، وحينئذ يكون حاله حال اسم الزمان فلاحظ.

[ مسألة ](٢) لو قارن عقد إحدى الاختين العقد على الاخرى بطل العقدان ، وله بعد ذلك أن يتزوج بمن شاء منهما. وكذا لو طرأت الاختية الرضاعية ، بأن كانت له زوجتان صغيرتان فرضعت إحداهما عند ام الاخرى.

والظاهر أن الأمر كذلك في البنت والأمّ ، فلو كان عقده على إحداهما مقارنا لعقده على الاخرى بطل العقدان ، وله التزوج بالبنت بعد ذلك بل بالام لعدم حرمتها عليه أبدا ، لأن المفروض بطلان زوجية كل منهما بمعنى عدم تحققها لا تحققها وارتفاعها. نعم لو كانت البنتية طارئة ، بأن كان متزوجا بهما وأرضعت الكبرى منهما صغراهما ، حرمت الصغرى جمعا والكبرى ذاتا لتحقق زوجية كل منهما قبل الارضاع ، وارتفاع الزوجية عن كل منهما بالارضاع ، وهي المحررة في مسألة المشتق.

__________________

(١) في صفحة : ٢٣٩.

(٢) [ هذه المسألة حررها قدس‌سره في ذيل هذه الحاشية ، وقد ارتأينا إدراجها في المتن ].

٢٢٠