أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٩

كما أنّ المشاركة في التأثير أيضا ممنوعة ، مضافا إلى إمكان القول بأنّ المشاكلة في الصورة ربما كانت لا تكفي في التجوز والتنزيل وإلا لجاز استعمال زيد في عمرو مجازا للمشاركة في الصورة بين جميع أفراد الإنسان.

ثم إنّه لو سلّمنا حصول الحقيقة فذلك حاله حال المنقول الذي يكون بواسطة كثرة الاستعمال حقيقة في المعنى بعد أن كان استعماله فيه مجازا ، إمّا مع عدم هجر المعنى الأوّل فيكون مشتركا لفظيا ، أو مع هجره فيكون اللفظ حقيقة في المعنى الجديد ، وحينئذ فلو سلّمنا صيرورة اللفظ حقيقة في الفاقد كان حاله حينئذ حال المنقول في أنّ لازمه الاشتراك اللفظي بين الفاقد والواجد ، أو هجر الواجد وصيرورته حقيقة في خصوص الفاقد ، لا أنّه يكون للأعم من الواجد والفاقد بعد ما كان مختصا بخصوص الواجد.

قوله : ولكن التحقيق إمكان تصوّر الجامع من هذا الوجه ، بأن يكون الجامع هو الكلّي في المعيّن ـ إلى قوله : ـ بل المأخوذ في الموضوع له هو عدّة من الأجزاء فصاعدا المبهمة من حيث التشخص ، فيكون كليا منطبقا على القليل والكثير نظير لفظ الكلام فانّه وضع بحسب اللغة لما يتركب من حرفين من الحروف الهجائية فصاعدا ... إلخ (١).

لا يخفى أنّ لازم هذا التوجيه بمقتضى صدر هذه العبارة هو التبادل فيما هو المسمى بالنسبة إلى الفرد الواحد ، فإنّه لازم أخذ المعظم من قبيل

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٦٣ ـ ٦٤.

١٨١

الكلي في المعيّن ، مع أنّه لا يصحح دخول ما عدا المعظم في المسمى ، وأقصى ما فيه أن لا يكون وجوده مضرا كما هو مقتضى اللابشرطية ، لا أن يكون داخلا في المسمى.

مضافا إلى أنّه إن كان المراد من الأجزاء التي ادعى كون معظمها هو المسمى هي أجزاء المأمور به ، ففيه أنّ مرتبة التسمية قبل مرتبة الأمر ، وإن كان المراد من الأجزاء المذكورة هي أجزاء المسمى ، ففيه : أنّ كون معظمها هو المسمى خلف ، لأنّ محصله حينئذ أنّ معظم أجزاء المسمى هي المسمى ، وإن كان المراد معظم أجزاء الماهية المخترعة ، كان محصله أنّ المسمى هو معظم تمام الأجزاء ، ولا يخفى أنّه لا يصدق على أغلب الأفراد الناقصة ، إذ ليس معظم الأجزاء فيها هو معظم التام ، وإن كان المراد أنّ كل فرد أيّ فرد كان يكون معظم أجزائه هو المسمى ، ففيه إشكال التبادل فيما هو المسمى بالنسبة إلى الأفراد ، ولا يصححه أخذه من قبيل الكلي في المعيّن ، لأنّ ذلك إنّما يدفع إشكال التبادل في المسمى بالنسبة إلى فرد واحد لو سلم أنّه يندفع بذلك ، ولا يندفع به اشكال التبادل بالنسبة إلى الأفراد.

وأمّا ما افيد بقوله : بل المأخوذ في الموضوع له هو عدة من الأجزاء فصاعدا المبهمة من حيث التشخص ، فيكون كليا منطبقا على القليل والكثير نظير لفظ الكلام ... إلخ ، فكأنّه مطلب آخر يوجّه به القدر الجامع على القول بالأعم لا ربط له بالكلي في المعيّن ، وذلك الوجه هو أن يقال : إنّ الموضوع له هو طبيعة الأجزاء الصادق على القليل والكثير على وجه لو اجتمعت كلها في فرد يكون ذلك الفرد بتمامه هو المسمى ، لا أنّ المعظم من أجزائه داخلة في المسمى والزائد على ذلك المعظم يكون خارجا عنها ،

١٨٢

ومحصل كونها من قبيل الكلي في المعيّن أنّ الواضع نظر إلى مجموع الأجزاء وجعل لفظ الصلاة لما يتركب منها ، سواء تركب من اثنين منها أو من ثلاثة أو من أربعة أو تركب من المجموع ، فلو قال القائل إنّ الصلاة تكبير وقراءة وقيام وركوع وسجود إلى آخر الأجزاء ، كان ذلك نظير قول القائل إنّ الكلام اسم وفعل وحرف ، يعني أنّه من قبيل تقسيم الشيء إلى ما يتألف من مجموعه لا من جميعه ، فهو كما قال بعض الشرّاح في قول ابن مالك ( واسم وفعل ثم حرف الكلم ) أنّ هذا ليس من تقسيم الكلي إلى أفراده نظير تقسيم الكلمة إلى هذه الثلاثة ، بل هو من تقسيم الكل إلى أجزائه التي يتركب من مجموعها لا من جميعها.

ولا يخفى أنّ هذا ليس من قبيل الكلي في المعيّن ، لأنّ الكلي في المعيّن هو ما يكون مقدارا محدودا منطبقا على كل واحد من أبعاض ذلك المعيّن كالصاع من الصبرة ، وحينئذ فما هو غير محدود من تلك الصبرة على وجه يكون صالحا للانطباق على البعض القليل وعلى البعض الكثير وعلى تمام الكل لا يكون من قبيل الكلي في المعيّن ، بل هو نحو آخر محصله أن الموضوع له ما يكون مؤلفا ومركبا من هذه الأجزاء سواء تركب من بعضها أو كلّها ، فإن اعتبرنا أن يكون مشتملا على معظم تلك الأجزاء كان محصله أنه لا بد أن يكون مؤلفا من أغلبها ، إن اعتبرنا المعظمية بالنسبة إلى العدد ، أو أنّه لا بد أن يكون مؤلفا من عمدها وأركانها إن اعتبرنا المعظمية بالنسبة إلى ما هو العمدة من تلك الأجزاء ، وعلى كل حال يكون ذلك تضييقا في القول بالأعم ، لأنّهم لا يلتزمون بأنّه لا بد في المسمى من كونه مشتملا على معظم تلك الأجزاء أو كونه مشتملا على أغلبها. هذا مضافا إلى أنّ نفس تلك الأجزاء المنظور إليها في التركيب منها لها مراتب

١٨٣

وأبدال فلا بد أن يقال إنّ الموضوع له هو المركب من مجموع هذه الأجزاء وأبدالها وقد تقدم في حاشية صفحة ٢٨ (١) تصوير الجامع على القول بالأعم بهذا النحو ، فراجع.

قوله : إلاّ أنّ الأعمّي لا يمكنه ذلك أيضا ، فإنّ المأمور به هو الصحيح قطعا ، فثبت تقييد المسمّى بقيد يشك في تحققه عند الشك في الجزئية والشرطية ... إلخ (٢).

ذكر المرحوم الشيخ علي القوچاني رحمه‌الله (٣) هذا الإشكال وأجاب عنه ما حاصله : أنّ هذا التقييد من قبيل التقييد العقلي ، وهو لا يمنع من التمسك بالعموم في مقام الشك ، لكونه من المخصصات اللبية التي لا توجب خروج العام عن الحجيّة إلاّ فيما علم أنّه من مصاديق الخارج أعني معلوم الفساد فيما نحن فيه دون ما يشك في فساده.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ حكم العقل إذا كان واضحا يعدّ بمنزلة القيد المتصل في كونه موجبا للإجمال في مورد الشك ، على أنّ أصل المبنى محل تأمّل كما حررناه (٤) في مسألة التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية ، فراجع.

أما ما أفاده شيخنا قدس‌سره في الجواب عن هذا الإشكال بما هو مرسوم في هذا التحرير ، وقد حررت عنه قدس‌سره بعد بيان هذا المحرر هنا ما هذا لفظه : والحاصل أنّه إن كان المراد من الصحة المدعى كونها قيدا في متعلق الأمر

__________________

(١) [ يقصد قدس‌سره بذلك الصفحة ٢٨ من الطبعة القديمة من الأجود والتي تقدمت في صفحة ١٤٥ من هذا المجلد ، وقد أشار إلى تصوير الجامع في الصفحة ١٥٤ ].

(٢) أجود التقريرات ١ : ٦٩.

(٣) كفاية الاصول ( مع تعليقة الشيخ علي القوچاني ) ١ : ٢٤.

(٤) في المجلّد الخامس من هذا الكتاب صفحة : ٢١٢ وما بعدها.

١٨٤

هي الصحة بمعنى التمامية السابقة في الرتبة على الأمر ، ففيه : أنّه لا دليل على كونها قيدا ، وإن كان المراد منها الصحة المنتزعة عن مطابقة الأمر المأخوذة من انطباق متعلّق الأمر على ذلك الفاقد لما شك في اعتباره ، ففيه أنّ الصحة بهذا المعنى متأخرة رتبة عن الأمر فلا يعقل أخذها في متعلقه.

ولا يخفى أنّه يمكن اختيار الشق الأول ، ويكون الدليل عليه هو العقل ، فإنّا بعد أن فرضنا أنّ الصحيح هو التام الجامع لجميع الأجزاء والشرائط أعني التمامية السابقة في الرتبة على الأمر ، وهذه التمامية هي التي ادعاها القائل بالصحيح ، وأنّ حكم العقل بخروج الفاسد هو عبارة أخرى عن أن الشارع لا يأمر إلاّ بما هو التام فيعود المحذور.

وأما ما أفاده في أول الكلام وهو ما حرره في هذا التحرير ، فالظاهر أنّه في حد نفسه غير دافع للإشكال ، لأنّا بعد فرضنا أنّ الصلاة على قسمين صحيح وفاسد ، وأنّها اسم للجامع بين هذين المفهومين ، يكون محصل الحكم العقلي المذكور هو أنّ المأمور به هو خصوص مفهوم الصحيح ، وأنّ ما هو مفهوم الفاسد خارج عنه ، وحينئذ يعود الإشكال المذكور.

فالأولى إتمام الجواب بمقدمة وهي : أنّ مراد القائل بالأعم ليس هو ما ذكر من القدر الجامع بين مفهوم الصحيح ومفهوم الفاسد ، بل المراد به هو الجامع بين مصداق الصحيح أعني التام الواجد لجميع الأجزاء والشرائط ومصداق الناقص أعني الفاقد لبعض الأجزاء والشرائط ، فإنّ القول بالأعم إنّما هو في مقابلة القول بالصحيح ، ولا ريب أنّ القائلين بالصحيح لا يريدون به الصحيح بمعنى مفهوم الصحيح ، بحيث يتساوى عندهم لفظ الصلاة ولفظ الصحيح ، بل المراد مصداق الصحيح ، وليست الصحة حينئذ إلاّ التماميّة.

١٨٥

ثم إنّه ليس المراد بالتمامية بلحاظ الأمر ، لأنّ كلامهم إنّما هو في مقام التسمية ، وهي أعني التسمية سابقة على مقام الأمر ، وحينئذ يكون مراد القائل بالصحيح هو الجامع لجميع الأجزاء والشرائط التي هي دخيلة في التركيب والاختراع الذي هو قبل التسمية ، فيكون مقابله هو الأعم من الجامع لجميع تلك الأجزاء والفاقد لبعضها ، ولا دخل لذلك بعالم الأمر ومطابقة المأتي به لما هو المأمور به بحيث يكون الموضوع له هو الأعم مما هو مطابق المأمور به وما هو غير مطابق له ، بل المراد من الأعم هو الأعم من واجد الجزء والقيد بالنسبة إلى عالم الاختراع وفاقده ، فبالنسبة إلى التشهد مثلا يكون لفظ الصلاة موضوعة للأعم من واجد التشهد وفاقده ، فإذا أمرنا بالإتيان بالصلاة فقد أمرنا بالجامع بين المصداق الواجد للتشهد والمصداق الفاقد للتشهد ، فلو لم يقيد الصلاة بالتشهد المذكور لثبت أنّ المأمور به هو الأعم من الواجد له والفاقد له ، وأنّ التشهد ليس بقيد في ذلك المأمور به ، وبعد تمامية هذه المقدمات نحكم بأنّ الفاقد للتشهد مأمور به كالواجد ، وبعد ذلك ننتزع وصف الصحة للفاقد بمعنى أنّه مطابق للمأمور به.

ولا يخفى أنّ ما ذكره المرحوم الشيخ علي قدس‌سره لعلّه مأخوذ ممّا أفاده الشيخ قدس‌سره فإنّه قدس‌سره قال في أثناء الجواب عن الاشكال المزبور ما هذا لفظه : فإن قيل : الفاسد خارج عن العموم قطعا ، والفرد المشكوك يحتمل أن يكون فاسدا وأن يكون صحيحا ، فلا وجه للتمسك بالعام عند الشك في دخول الفرد في عنوان المخصص أو في العام كما قرر في محله. قلنا : ليس الفاسد خارجا عن العموم بل ليس الخارج إلاّ فاسدا. وبعبارة ظاهرة : الفساد ليس عنوانا للأفراد الخارجة ، وإنّما هو وصف اعتباري منتزع من

١٨٦

الأفراد بعد اتصافها بالخروج ، فكونها فاسدة موقوف على خروجها والعموم حاكم بدخولها ، فلا تتصف بالفساد بل يجب اتصافها بالصحة ، إذ لا معنى للصحة إلاّ هذا. وقد قررنا في محله جواز الرجوع بل وجوبه إلى العموم فيما إذا امتنع الوصف جعله عنوانا للعام أو للمخصص كما في وصفي الصحة والفساد ، بل قد يستكشف بالعموم دخول ما يمكن أن يؤخذ عنوانا للمخصص ، ولكنّه لم يؤخذ ، كما في قولك أضف جيراني ، مع العلم بأنّه لا يريد إكرام عدوّه ، فانّه بالعموم يستكشف أنّه في جيرانه ليس من هو عدوّه.

وأما ما زعمه المعترض من تقييد المطلوب بالصحيحة ، فيحصل الشك في حصول المكلف به في الخارج ، فيظهر النظر فيه مما ذكرناه ، وتوضيحه : أنّه ناش من عدم الفرق بين كون الصفة مأخوذة في موضوع الحكم ، وبين أن يكون لازما مساويا للموضوع ، فعلى الأوّل يجب إحرازه وعلى الثاني فما هو الموضوع بحكم اللفظ يلازم وجوده وجود لازمه ، وما ذكرناه بمكان من الظهور (١).

ولا يبعد أن لا يكون الشيخ قدس‌سره ناظرا في ذلك إلى التفرقة بين المخصص اللفظي والمخصص اللبي ، بل هو ناظر إلى ما أشار إليه من عدم أخذ الصفة قيدا في الموضوع وإن كان نفس الموضوع ملازما لتلك الصفة ، فيثبت حينئذ بمقتضى الأصل اللفظي الحاكم بأنّ الفاقد للسورة مثلا موضوع الحكم ، أنّ الفاقد للسورة واجد للوصف المذكور ، وفي مثل أكرم جيراني موضوع الحكم هو الجار ، ولازم كونه موضوعا لوجوب الاكرام هو عدم

__________________

(١) مطارح الأنظار ١ : ٦٥ ـ ٦٦.

١٨٧

كونه عدوا. وهذه الطريقة لو تمت تغنينا عن الركون إلى دعوى أن كون المخصص لبيا لا يمنع عن التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، لكنها لو تمت في مثل وصف الصحة فهي غير تامة في وصف العداوة والصداقة ، فإنّ مثل وصف الصداقة والعداوة ليست معتبرة من جهة مجرد الملازمة بين وجوب الاكرام والصداقة أو عدم العداوة ، بل هي بحكم العقل قيد في الموضوع فلاحظ وتأمّل. ولعل نظر الشيخ قدس‌سره في الاستشهاد بمثل أكرم جيراني إلى مجرد التنظير لما نحن فيه من ترتيب الأثر اللازم لاجراء أصالة الاطلاق أو اصالة العموم ، لا أنّ ما نحن فيه هو عين مثل أكرم جيراني ، فتأمّل.

ثم إنّ ما نقلناه عن شيخنا قدس‌سره من قولنا : والحاصل ، إلخ ، أيضا مأخوذ من كلام الشيخ قدس‌سره فانّه في طليعة الجواب ردّد في المراد بالصحة المدعى كونها قيدا ، وأنّها إن كانت هي الصحة المنتزعة عن الماهية قبل تعلّق الطلب بها ، فهذه مما يجب استكشافها بالاطلاق ، إذ لا سبيل لاحرازها بحسب الأسباب الظاهرية إلاّ بالإطلاق ، وإن كان المراد بها هي الصحة المنتزعة من الماهية بعد تعلّق الطلب بها ، فكونها قيدا في المطلوب محال ، لأنّها منتزعة من الطلب فهي متأخرة عنه رتبة ، فيستحيل أخذها في متعلّقه ، فراجع تفصيل ما أفاده قدس‌سره فيما نقله عنه في التقريرات (١).

وقد عرفت أنّ من يدعي أنّه على القول بالأعم أنّه لا بد من تقييد المأمور به بالصحة ، مراده بالصحة هي الصحة التي زعم القائل بالصحيح أنّ اللفظ موضوع لما هو واجد لها ، وليس تلك الصحة المدعى دخولها في

__________________

(١) مطارح الأنظار ١ : ٦٤ ـ ٦٥.

١٨٨

المسمى هي الصحة المنتزعة من مطابقة المأمور به ، بل المراد بها التمامية بالقياس إلى الأجزاء والشرائط التي اخذت في عالم الاختراع الذي هو سابق على تعلّق الطلب.

وحينئذ نقول : إن كان المراد بالصحة المزعوم كونها قيدا في المأمور به على القول بالأعم هو تلك الصحة أعني تمامية الأجزاء والشرائط في مقام الاختراع ، فهذا يتوجّه عليه ما أفاده شيخنا قدس‌سره من أنّه لا دليل على هذا التقييد ، وإن كان المراد بها هو التمامية بالقياس إلى ما يكون له الدخل في الملاك الباعث على الأمر ، لأنّ الشارع لا يأمر إلاّ بما هو واجد لملاك الأمر بناء على تبعية الأحكام للمصالح في المتعلقات ، فهذه الصحة وإن لم تكن منتزعة من الأمر لكونها دخيلة في الملاك المفروض كونه سابقا في الرتبة على الأمر ، إلاّ أنّ هذه ليست على نحو القيود في المأمور به يعتبر إحرازها قبل رتبة الأمر ، بل إنّ إحرازها يكون بتعلق الأمر ، وإلاّ لورد الإشكال في جميع المطلقات حتى في مثل اعتق رقبة ، فانّا نعلم أنّ الشارع لا يأمر إلاّ بما هو واجد للملاك والمصلحة الباعثة للأمر ، ولا طريق لنا إلاّ إثباته من ناحية الأمر كما أفاده الشيخ قدس‌سره.

وإن شئت فقل : إنّ واجدية المطلوب لما هو الملاك لا يكون داخلا تحت التكليف ، بل إنّ إحرازه موكول إلى الشارع ، فلا يكون قيدا في المطلوب كي يلزمنا إحرازه ، ويكون ذلك موجبا لإجمال الدليل عند الشك فيه ، بل ليس علينا إلاّ الاخذ بنفس ما تعلق به الأمر ، وبعد إثبات كون المأمور به هو نفس الرقبة نقول إنّها واجدة للملاك وأنّه لا مدخلية في ذلك الملاك لوصف الايمان.

وإن شئت التوضيح في هذا المقام فقل : إنّ الصحة وكذلك الفساد

١٨٩

في المقام ليست من الامور الواقعية ، وإنّما هي من العناوين الانتزاعية ، فانّها على القول بالصحيح منتزعة من وجود المسمى وعدم وجوده ، ويتبع ذلك وجود المأمور به وعدمه ، وعلى القول بالأعم تكون الصحّة ويقابلها الفساد منتزعة من وجود المأمور به وعدم وجوده ، مع فرض وجود المسمى وتحققه في كلا الحالتين أعني حالة وجود المأمور به وحالة عدم وجوده ، وليس الاجمال على القول بالصحيح ناشئا عن تبادل المركبات وعدم انضباط ما يكون الصحيح منها إلاّ بالجامع البسيط المجمل في أنظارنا ، بل إنّ منشأ الإجمال على القول بالصحيح أمر آخر حتى لو فرضنا انحصار الصحيح بمركب خاص لا تبادل في أجزائه ولا تغيير ، وكانت أجزاؤه منحصرة في عشرة من الأفعال الصلاتية مثلا ، فانّه عند الشك في دخول الجزء الحادي عشر يحصل الشك في انطباق المسمى على العشرة وحدها ، ومع الشك في الانطباق لا يمكن التمسك بالاطلاق.

وبيان ذلك : أنّ القائل بالصحيح لا بد له أن يلتزم فيما ذكرناه من المثال أن يكون للشارع فيه أدوار أربعة :

الدور الأول : دور اختراع الأجزاء العشرة أو انتقائها من بين الأفعال.

الدور الثاني : دور اعتبار التركيب في هذه العشرة على كيفية خاصة من تقديم وتأخير وموالاة واستقبال وغير ذلك.

الدور الثالث : دور تسمية ذلك المركب باسم خاص كالصلاة مثلا ، وهو في هذا الدور لم يجعل الصلاة اسما للصحيح ولا اسما للتام ولا غيره من المفاهيم الانتزاعية ، بل إنّما جعله لنفس تلك الأجزاء التي جمعها ورتّبها واعتبرها شيئا واحدا ، فانّ تمامية المسمى أو صحته إنّما تنتزع بعد التسمية ، فان وجدت تلك الأجزاء بجميعها كان المسمى تاما وكان

١٩٠

موجودا ، وإن فقد بعضها لم يكن المسمى تاما وفي الحقيقة لم ينوجد المسمى ، لأنّ المركب ينعدم بانعدام بعض أجزائه ، لا أنّ نفس المسمى قد وجد ناقصا.

الدور الرابع : دور الأمر بذلك المركب.

فنحن عند الامتثال لو جئنا بتلك العشرة بتمامها على الكيفية التي أخذها الشارع في تركبها ، نكون قد أوجدنا المسمى كما أنّا قد أوجدنا المأمور به أيضا ، ولو نقصنا منها جزءا أو خالفنا شرطا يكون المسمى منعدما كما أن المأمور به أيضا منعدم ، وحينئذ فلو احتملنا أن الشارع قد أدخل في مركبه المذكور جزءا حادي عشر منظما إلى العشرة المذكورة ، كان ذلك موجبا للشك في انطباق المسمى على العشرة وحدها ، وهو عبارة اخرى عن الشك في انطباق عنوان الصلاة عليها ، لتردد المسمى حينئذ بين الوجود بوجود العشرة وبين كونه منعدما في حال وجودها ، هذا على القول بالصحيح.

وأما على القول بالأعم ، فانّ صاحبه يلتزم أيضا بهذه الأدوار إلاّ الدور الثاني أعني دور التركيب والتأليف ، فانّ الشارع بعد انتقاء الأجزاء وتعدادها يكون لسان حاله : ركّبوا منها ما شئتم ، وإني قد جعلت لفظ الصلاة اسما لما تألّفونه وتركّبونه من هذه الأجزاء ، ثم يأمرنا بالصلاة المذكورة ، فنحن لو جئنا بمركب من تلك الأجزاء أيّ مركب كان ، نكون قد حصلنا على المسمى وعلى المأمور به ، إلاّ إذا قيّدنا الشارع في مقام الأمر بجزء خاص منها أو بكيفية خاصة فعلينا أن نأتي بذلك المركب على طبق أمره ، فان خالفناه نكون قد حصلنا على المسمى لكن لم نحصل على المأمور به ، ولو شككنا في اعتباره الجزء الفلاني أو الشرط الفلاني في مقام الأمر بذلك المسمى نقول إنّ المسمى حاصل بدونه ، وأما عدم حصول المأمور به فهو

١٩١

موقوف على التقييد ، وحيث لم يقيّد يكون المأمور به حاصلا أيضا بدون ذلك المحتمل ، وعلى أيّ حال لا يكون المأمور به مقيدا بالصحة ولا بالتام ولا بذوات خاصة من الأجزاء ، ولا أنّ الفاسد خارج بحكم العقل ، كل ذلك لم يكن ، وليس في البين إلاّ وجود المأمور به وعدم وجوده ، وأنّ ما تعلق به الأمر مأمور به وما لم يتعلق به الأمر ليس بمأمور به.

ومن ذلك كله يظهر لك أنّ منشأ الاشكال في التمسك بالاطلاق على القول بالصحيح ليس هو إلاّ تردد المسمى بين الأقل والأكثر الذي هو عبارة اخرى عن أنّ الفعل الفاقد للقيد أو الجزء المشكوك يكون التردد بالقياس إليه بين وجود المسمى وعدمه ، بخلافه على الأعم فانّ المسمى بناء عليه يكون معلوم الوجود وإنّما يقع الشك في وجود المأمور به وعدمه ، ومنشأ الشك في وجود المأمور به هو الشك في تقييد المسمى في مرحلة تعلق الأمر به بقيد زائد على المسمى ، والاطلاق لمّا كان نافيا لهذا القيد كان قاضيا بتحقق المأمور به مع فقد القيد المشكوك ، وليس المانع من التمسك بالاطلاق على القول بالصحيح هو أنّ الموضوع له أو المستعمل فيه على هذا القول هو الذات المقارنة لوصف الصحة ، كي يقال إنّه على القول بالأعم يكون المأمور به هو تلك الحصة المقارنة لوصف الصحة ، ليكون ذلك مانعا عن التمسك بالاطلاق على القول بالأعم كما كان مانعا منه على القول بالصحيح.

ومن ذلك يظهر ما فيما حرره الآملي عن درس الاستاذ العراقي قدس‌سره بقوله في مقام الجواب عما اجيب به عن إشكال عدم التمسك بالاطلاق على القول بالأعم مما حاصله راجع إلى ما أفاده شيخنا قدس‌سره مما تقدم (١) نقله

__________________

(١) في صفحة : ١٨٤ ـ ١٨٥.

١٩٢

ما هذا لفظه :

وفيه : أنّ الصحة على الصحيح لم تؤخذ قيدا للموضوع له أو للمستعمل فيه ، لا على نحو دخول القيد والتقيد ، ولا على نحو دخول التقيد فقط ، بل الموضوع له أو المستعمل فيه هي الحصة المقارنة للصحة ، فالقيد والتقيد كلاهما خارجان عن الموضوع له أو المستعمل فيه كما أشرنا إليه غير مرة ، والمأمور به على الأعم أيضا هي تلك الحصة ، لاستحالة الأمر بالفاسد واستحالة الاهمال في متعلق إرادة الطالب ، وعليه لم يبق فرق في متعلق الأمر بين القول بالصحيح والقول بالأعم ، إلاّ بالوضع لخصوص الحصة المقارنة للصحة على الأول وعدم الوضع لخصوصها على الثاني ، ومثل هذا الفرق لا أثر له في جواز التمسك بالاطلاق وعدمه (١).

وقد عرفت أنّ وصف الصحة والفساد لا واقعية لهما ، وإنّما هما منتزعان من وجود المأمور به أو المسمى وعدمه التابعين لصدق المسمى أو المأمور به وعدمه التابعين لأخذ المشكوك قيدا في المسمى أو المأمور به وعدم أخذه.

نعم ، إنّ في المقام مطلبا آخر : وهو استحالة أخذ القيود الناشئة من الأمر في متعلق ذلك الأمر نفسه كما في مسألة داعي الأمر ، وللاستاذ العراقي قدس‌سره (٢) في ذلك كلام حاصله : استحالة الاهمال في مقام الثبوت ، وأنّ المأمور به هو الذات التي تكون توأما مع هذا النحو من القيود ، ووصف الصحة بمعنى مطابقة الأمر تكون من هذا السنخ من القيود ، لكنّك قد عرفت حقيقة وصف الصحة وأنّها لا واقعية لها ، فلا يتوجّه الاشكال المزبور

__________________

(١) بدائع الأفكار : ١٣٠.

(٢) المصدر المتقدم.

١٩٣

الناشئ عن أخذ الحصّة المقارنة لوصف الصحة.

نعم ، الانصاف توجّه الاشكال على ظاهر ما اشتمل عليه الجواب من أنّ وصف الصحة على القول بالأعم تكون متأخرة عن الأمر فلا يعقل أخذها في متعلقه ، إلاّ أنّه إشكال مبنائي في المسألة المعروفة في التعبدي ، فلاحظ.

ونحن اذا جرّدنا الجواب عن هذه الجملة أعني كون وصف الصحة من طوارئ الأمر ، بل أسقطنا وصف الصحة بالمرة على ما عرفت تفصيله ، تخرج المسألة عن ذلك المأزق المحتاج إلى مسلك الاستاذ العراقي قدس‌سره (١) من التوأمية.

ولا يخفى أنّ العمدة في المسألة هي هذه الدعوى ، وهي حكم العقل بأنّ الشارع لا يأمر بالفاسد ، وأنّ أمره إنّما يتعلق بالصحيح ، فانّا لو سلّمنا هذه الجملة كان حال مسألتنا حال مسألة التعبدي ، والتخلص منها بحديث التوأمية أو بما يراه شيخنا قدس‌سره (٢) من الاحتياج إلى تعدد الأمر وأنّ الثاني متمم للجعل ، وعلى كل من المسلكين يكون القول بالأعم مشاركا للقول بالصحيح في عدم إمكان التمسك بالإطلاق.

ثم لا يخفى أني لم أعثر في المقالة على هذا الاشكال ، بل الذي يظهر منها هو الالتزام بترتب الثمرة المذكورة ، أعني أنّه على القول بالصحيح لا يمكن التمسك بالاطلاق بخلافه على القول بالأعم. قال في المقالة بعد أن أفاد أنّه لا ثمرة للنزاع في المعاملات لتنزيلها على الأفهام العرفية حتى

__________________

(١) لمزيد الاطلاع على مسلك التوأمية راجع بحث التعبدي والتوصلي من مقالات الاصول ١ : ٢٤٣ ، ٢٤٥ ، وبدائع الأفكار : ٢٢٨.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٧٣.

١٩٤

بناء على القول بالصحيح عند صدق العنوان عندهم ما هذا لفظه :

وحينئذ تنحصر الثمرة المزبورة الباعثة على النزاع المشهور في أسامي المخترعات الشرعية ، مع عدم سوق الخطاب أيضا بلحاظ الأنظار العرفية ، إذ حينئذ صح دعوى إجمال العنوان على الصحيحي وعدمه على الأعمي في غير ما هو مقوّم العنوان حتى لدى الأعمي. هذا ولكن ذلك أيضا مبني على كون الاطلاقات على الأعمي في مقام البيان ، وإلاّ فلا بيان على الأعمي أيضا ، لأنّ المهمل بمنزلة المجمل كما لا يخفى ، وحينئذ لا تبقى ثمرة مهمة في مثل هذه المسألة (١).

ولكن المقرر لما رأى ظاهر الجواب المتذرع فيه عن الاشكال بكون وصف الصحة من طوارئ الأمر ، كان مقتضى ذلك إدراج المسألة في الجهة المنظور إليها في التعبدي ، ولاجل ذلك حوّر المسألة فيما نحن فيه إلى تلك المسألة ، ولعل الاستاذ العراقي تعرض لذلك في درسه لكنّه لم يدرجه في مقالته ، فلاحظ وتأمّل.

خلاصة البحث أو توضيحه ببيان امور :

الأول : أنّ هذه العناوين أعني الصحة والفساد والتام والناقص والواجد والفاقد ، وإن قلنا فيما تقدم أنّ أحدها عين الآخر ، إلاّ أنّ الانصاف أنّها ربما اختلفت ، فرب ناقص صحيح بل رب تام فاسد ، وهكذا الحال في الواجد والفاقد.

الأمر الثاني : أنّ هذه الامور الثلاثة ، أعني كون الشيء صحيحا أو فاسدا أو كونه تاما أو ناقصا أو كونه واجدا للقيد الفلاني أعني التشهد مثلا

__________________

(١) مقالات الاصول ١ : ١٥٥ ـ ١٥٦.

١٩٥

كلّها من قبيل مفاد كان الناقصة ، وهي لا تصدق إلاّ بعد وجود الشيء ، فانا لو سلّمنا الصدق بانتفاء الموضوع ، فانّما هو في مفاد ليس الناقصة مثل كون زيد ليس بقائم ، دون مفاد كان الناقصة مثل كون زيد قائما.

الأمر الثالث : هو أنّا لو أمرنا الشارع بعشرة أجزاء ونحن جئنا بالتسعة فقط ، فهذه التسعة لا يقال فيها إنّ المأمور به فاسد ولا أنّه ناقص ولا أنه فاقد للعاشر ، بل لا يكون ذلك إلاّ من باب العدم المحض ، بمعنى أنّ المأمور به لم يكن موجودا بمفاد ليس التامة ، فلا يكون المقام إلاّ من باب وجود المأمور به بمفاد ليس التامة لو أوجدنا العشرة بتمامها ، أو من باب عدم وجود المأمور به بمفاد ليس التامة لو تركنا العاشر ، فهو لا يتصف إلاّ بالوجود والعدم التامين ، وهكذا الحال في عالم التسمية ، فانّ المسمى لو كان هو العشرة ونحن قد جئنا بالتسعة ، لم يكن ذلك من باب وجود المسمى فاسدا ولا من باب وجوده ناقصا ولا من باب وجوده فاقدا للجزء العاشر ، بل هو من باب عدم وجود المسمى بمفاد ليس التامة في قبال ما لو جئنا بالعشرة الذي هو من باب وجود المسمى بمفاد كان التامة.

الأمر الرابع : أنّا لو شككنا في أنّ المسمى أو المأمور به مقيد بالعاشر أو أنّه غير مقيد ، لم يمكننا التمسك بالإطلاق على الاكتفاء بالتسعة ، لأنّ احتمال دخل العاشر يوجب احتمال انعدام الشيء بانعدامه فلا يمكن التمسك باطلاقه.

ومنه يظهر لك أنّ عدم إمكان التمسك بالاطلاق على القول بالصحيح لم يكن منشؤه هو كون الموضوع له هو المفهوم البسيط ، بل لكون احتمال المدخلية يوجب الشك في الصدق ، حتى لو قلنا بأنّ الصلاة مثلا على القول بالصحيح موضوعة للمركب ، ولكن شككنا هل هو التسعة أو هو العشرة

١٩٦

يكون انطباقها على التسعة مشكوكا ، فتكون المسألة من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من ناحية العام.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّا لو شككنا في مدخلية التشهد في المسمى على القول بالصحيح لا يمكننا التمسك بالإطلاق ، لكون المسألة حينئذ من باب التمسك بالعام في الشبهة المصداقية في ناحية العام ، فهو نظير ما لو وجب إكرام العادل وكان زيد تاركا للكبيرة ومرتكبا للصغيرة ، فلو شككنا في أنّه يعتبر في العادل ترك الصغيرة كترك الكبيرة ، لم يمكننا أن نتمسك باطلاق إكرام العادل على لزوم إكرام زيد المذكور ، للشك في انطباق العادل عليه ، ويكون من قبيل التمسك بالعام في مورد الشك في كون زيد مصداقا له ، وهذا بخلاف ما لو قلنا بالأعم على رأي الباقلاني (١) أو على رأي المحقق القمي قدس‌سره (٢) في كون الجامع هو الأركان مثلا ولم يكن المشكوك محتمل الركنية بل كان على تقدير اعتباره أمرا زائدا على الأركان ، نظير التشهد فانّه لو كان معتبرا لكان معتبرا في متعلق الأمر لا في المسمى ، وحينئذ يمكننا التمسك باطلاق المسمى في مقام تعلق الأمر بالصلاة ، وبذلك يثبت عدم اعتبار التشهد في متعلق الأمر ، فانا وإن شككنا في انطباق المأمور به عليه بما أنّه مأمور به ، إلاّ أنّ هذا الشك باطلاق المتعلق فيه يثبت عدم اعتبار التشهد في المتعلق ، وبذلك يزول الشك في انطباق عنوان المأمور به عليه ، وتكون الصلاة الفاقدة للتشهد مصداقا للمأمور به.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ هذه الجملة ، وهو كون الفاسد خارجا عن المأمور به أو كون المأمور به مقيدا عقلا بالصحة ، لا تخلو من الغلط ،

__________________

(١) التقريب والإرشاد ١ : ٣٩٥.

(٢) قوانين الاصول ١ : ٤٤ ، ٦٠.

١٩٧

حيث إنّ المراد من الصحة إن كان هو الصحة من ناحية التسمية ففيه أوّلا : أنّ ذلك لا يوجب تقيد المأمور به حتى لو قلنا بأنّ الاسم موضوع للصحيح الجامع لجميع الأجزاء ، فانه للآمر أن يأمر بالصلاة ويقول إنّ المأمور به غير مقيّد بمثل التشهد ، بل يكون المأمور به حاصلا عند ترك التشهد وان لم يكن المسمى حاصلا.

وثانيا : أنّ الكلام إنّما هو على القول بالأعم ، ومن الواضح أنّ المسمى بناء على هذا القول لا يكون مقيّدا بالصحة ، فلا محصل للقول بأنّ المأمور به مقيّد بالصحة من ناحية التسمية.

ولو كان المراد بالصحة من ناحية الأمر ، بمعنى ما يكون مطابقا للمأمور به ، كان محصله هو تقيّد المأمور به بالمأمور به ، وأن غير المأمور به وهو الفاسد غير المطابق للمأمور به خارج عن المأمور به ، ولا يخفى [ ما فيه ](١) من الغلط ، وكونه من قبيل لقلقة اللسان التي لا معنى لها أصلا ، فلاحظ وتدبر.

ومن ذلك يظهر لك الخلل فيما قد يقال : إنّ المراد هو أن الشارع لا يأمر إلاّ بما له الأثر ، فانه إن كان المراد من الأثر هو الأثر المعلول للأمر كما في النهي عن الفحشاء بناء على ما تقدم منا من كونه من آثار الصلاة بعد الأمر وبعد وقوعها امتثالا له ، فذلك عبارة اخرى عن أنّ الشارع لا يأمر إلاّ بما هو مقيّد بأنّه مأمور به ، وإن كان المراد من الأثر علة الأمر أعني الملاك والمصلحة ، فقد حقق في محله (٢) أنّ ذلك لا يكون عنوانا أو قيدا في المأمور به لكونه من معلولات الفعل التكوينية التي يكون الفعل منها من

__________________

(١) [ لا يوجد في الأصل ، وإنّما أضفناه للمناسبة ].

(٢) راجع أجود التقريرات ١ : ٥٦ ـ ٥٩.

١٩٨

المقدمات الاعدادية ، وذلك لا يتعلق التكليف به بل أقصى ما في البين هو أنّه على الشارع الحكيم أن يعلّق أمره بما يكون إعدادا لذلك ، وليس علينا تحصيل ذلك. نعم ، من تعلق أمره بالفعل المركب نستكشف أن ذلك المركب ذو ملاك ، بناء على مسلكنا معاشر العدلية من أنّ أحكامه تعالى تابعة للمصالح في المتعلقات.

ولعل المراد مما أفاده الشيخ قدس‌سره في مسألة الأقل والأكثر في الرسائل في مقام دفع هذه الشبهة هو هذا الذي شرحناه ، وذلك قوله قدس‌سره : ودفعه يظهر مما ذكرناه من أنّ الصلاة لم تقيّد بمفهوم الصحيحة وهو الجامع لجميع الاجزاء ، وإنما قيّدت بما علم من الأدلة الخارجية اعتباره ، فالعلم بعدم إرادة الفاسدة يراد به العلم بعدم إرادة هذه المصاديق الفاقدة للامور التي دلّ الدليل على تقييد الصلاة بها ، لا أنّ مفهوم الفاسدة خرج عن المطلق وبقي مفهوم الصحيحة ، فكلّما شك في صدق الصحيحة والفاسدة وجب الرجوع إلى الاحتياط لإحراز مفهوم الصحيحة ، وهذه المغالطة جارية في جميع المطلقات ، إلخ (١) ومع ذلك فان عبائره قدس‌سره هنا لا تخلو عن تسامح مثل قوله : فالعلم بعدم إرادة الفاسدة يراد به العلم بعدم إرادة هذه المصاديق الفاقدة ، انتهى ، فان ذلك عبارة اخرى عن العلم بعدم إرادة غير المأمور به وأنّ الخارج عن المأمور به هو غير المأمور به ، لكن المراد واضح ، والأولى هو إنكار هذه القضية من أصلها كما عرفت ، فلاحظ.

قوله : لا يخفى أنّ جريان النزاع في المعاملات يتوقف على كون ألفاظها أسامي للأسباب ، ـ إلى قوله : ـ وتحقيق الجواب يحتاج إلى

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٣٤٥.

١٩٩

بسط في المقال ـ إلى قوله : ـ والتحقيق في حل الإشكال أن يقال ... إلخ (١).

قلت : لا يخفى أنّ حاصل ما في الكفاية (٢) هو دعوى كون تلك الإطلاقات ناظرة ابتداء إلى مقام السبب الشرعي ، ويستكشف منه أنّ ما هو السبب عند الشرع هو السبب عند العرف ، وحينئذ يتوجه عليه ما أفاده شيخنا قدس‌سره من منع كون تلك المطلقات واردة في مقام السبب وأنّها لم ترد إلاّ في مقام المسبب.

وأمّا ما أفاده شيخنا قدس‌سره من منع صحة الرجوع إلى العرف في تعيين المصداق بعد فرض كون تلك المطلقات واردة في مقام المسببات ، وأنّ أسماء المعاملات أسماء لتلك المسببات ، فهو متوجه على ما أفاده الشيخ قدس‌سره في المكاسب (٣) قبل الشروع في المعاطاة.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٧١ ـ ٧٣.

(٢) كفاية الاصول : ٣٣.

(٣) المكاسب ٣ : ٢٠. [ هذا وفي ورقة مرفقة في نسخة الأصل حكاية عبارة المكاسب بلفظها ، وكأنّه من جهة تكرر التأمل في مفادها في هذه التعليقة وما بعدها ، فلننقلها كما جاء فيها : ] قال الشيخ قدس‌سره بعد نقله عن الشهيدين قدس‌سرهما ما مفاده : أن البيع حقيقة في الصحيح مجاز في الفاسد ما هذا لفظه : وظاهره إرادة الاطلاق الحقيقي. ويشكل ما ذكراه بأن وضعها للصحيح يوجب عدم جواز التمسك باطلاق نحو ( أحل الله البيع ) [ البقرة ٢ : ٢٧٥ ] وإطلاقات أدلة سائر العقود في مقام الشك في اعتبار شيء فيها ، مع أنّ سيرة علماء الاسلام على التمسك بها في هذه المقامات.

نعم يمكن أن يقال : إن البيع وشبهه في العرف إذا استعمل في الحاصل من المصدر الذي يراد من قول بعت عند الانشاء ، لا يستعمل حقيقة إلاّ فيما كان صحيحا مؤثرا ولو في نظر القائل. ثم إذا كان مؤثرا في نظر الشارع كان بيعا عنده ، وإلاّ كان صورة بيع نظير بيع الهازل عند العرف ، فالبيع الذي يراد منه ما حصل عقيب قول القائل

٢٠٠