أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٩

والايراد الثاني ، فقد عرفت الجواب عنهما. وأما الايراد الثالث ، فقد تخلص منه شيخنا بجعل المعظم من قبيل الكلي في المعيّن نظير الصاع من الصبرة ، ونظّر ذلك بالكلام المؤلّف من حروف الهجاء. والأولى تنظيره بالكلم ، فانهم ذكروا أن تقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف من تقسيم الكلي إلى أفراده وجزئياته. وتقسيم الكلم إلى هذه الثلاثة كما قاله ابن مالك : واسم وفعل ثمّ حرف الكلم (١) ، من تقسيم الكل إلى أجزائه التي يتركب من مجموعها لا من جميعها ، بمعنى أن الكلم يتكون من هذه الثلاثة ، سواء كان مركبا من الثلاثة أو من الاثنين أو من الواحد ، بأن يكون مؤلفا من ثلاثة أسماء. وإلى ذلك يرجع قولهم : إنّ الكلم اسم جنس جمعي ، بمعنى أن اسم الجنس يصدق على الواحد والكثير ، لكن خصوص هذا الجنس وهو الكلم لا يكون إلاّ عند اجتماع ثلاثة من هذه الأقسام.

إذا عرفت ذلك فقس الصلاة على الكلم ، وقل إنّ لنا أجزاء متعددة وهي التكبير والقراءة والركوع والسجود إلى آخر الأجزاء. والصلاة تتكون من هذه الأجزاء سواء كانت واجدة للجميع أو كانت واجدة للبعض ، لكن بشرط أن يكون ذلك البعض ذا أهمية ويكون هناك تركيب معتنى به ، وعبّروا عن ذلك بمعظم الأجزاء أو بما يكون مصحّحا للتسمية.

وعلى كل حال فلا بدّ في الصلاة من اجتماع مقدار من تلك الأجزاء ويكون هناك تركيب منها ، وإن لم يكن الحاصل في ذلك المركب هو معظم تلك الأجزاء أو أغلبها ، وإنما المدار في ذلك على صحة التسمية ، وهي منوطة بالتركيب على وجه يكون فيه روح تلك العبادة الذي هو الخضوع

__________________

(١) شرح ابن عقيل ١ : ١٣.

١٦١

والحضور عند الرب ، وبالأخرة يكون ذلك شعبة مما ذهب إليه الباقلاني (١). فليس المعظم بالقياس إلى كل فرد من أفراد الصلاة ، وأن كل فرد فيه معظم أجزائه ، وفيه ما يزيد على المعظم ، ليترتب على ذلك إيرادات صاحب الكفاية ، فلاحظ وتأمل.

قوله : واخرى باضافة الشرائط المأخوذة في المأمور به إلى أجزاء العبادة. وثالثة باضافة عدم المزاحم ... إلخ (٢).

لا ينبغي الريب في دخول الشرائط ـ مثل كونها مع الطهارة أو إلى القبلة ـ في محل النزاع ، وكون مرتبة الشرط متأخرة عن مرتبة الجزء لا يكون مانعا عن أخذه في المسمى كما سيصرح به في التذييل الذي ذكره في آخر المقام الأول (٣) ، وكذلك كون بعض هذه غير متوقف على القصد لا ينافي كونه معتبرا في الصلاة المعتبر فيها القصد ، فانّ اعتبار القصد فيها لا ينافي كون شرطها غير قصدي لكونه تابعا لدليل شرطيته ، ولا دليل على أنّ الصلاة بجميع أجزائها وشرائطها قصدية. هذا مضافا إلى أنّ الشرط هو التقيّد لا القيد ، فلا يتوقف دخوله في محل النزاع على التوأمية التي افادها الاستاذ العراقي قدس‌سره (٤).

أما عدم كونها منهيا عنها ، أو عدم مزاحمتها لواجب أو لمحرّم ، أو كونها مقيدة بداعي الأمر المتعلق بها ، ففيه إشكال الطولية بين هذه القيود وبين أصل الماهية.

__________________

(١) التقريب والإرشاد ١ : ٣٩٥.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٥١.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٧٠.

(٤) مقالات الاصول ١ : ١٣٩.

١٦٢

والذي ينبغي في هذا المقام تقديم مقدمتين :

المقدمة الاولى : وهي أنّ الطولية تارة تكون في مقام أفراد الطبيعة الواحدة ، بأن تكون الطبيعة الواحدة شاملة لأفرادها الطوليّة كما هي شاملة لأفرادها العرضية ، سواء كانت الطولية بين الأفراد من ناحية الزمان كما في شمول الصلاة للفرد الواقع في الزمان الأول والواقع في الزمان الثاني وهكذا ، أو كانت الطولية ذاتية لما بين الأفراد من نسبة العلية والمعلولية كما في الانسان الجامع بين الآباء والأبناء ، وكما في الموجود الشامل للعلة والمعلول ، هذا حال الطولية بين الافراد.

ومنه يظهر لك الحال في الطولية بين أجزاء الطبيعة الواحدة ، فكما يمكن التركيب بين أجزاء عرضية بمعنى عدم العلية والمعلولية بين الأجزاء ، سواء تقدم بعضها على الآخر زمانا كما في الركوع والسجود ، أو كان أحدها مقارنا للآخر زمانا كما في الركوع والاستقبال والاستقرار ونحو ذلك ، فكذلك يمكن تركب الماهية من أجزاء طولية يكون بعضها سابقا في الرتبة على الآخر كما في تركب ماهية الصلاة من أجزاء وشرائط وعدم الموانع ، فانّ مرتبة الجزء سابقة على مرتبة الشرط ومرتبة الشرط سابقة على مرتبة عدم المانع ، ولم يكن هذا الترتب الطولي بين هذه الامور بمانع من أخذ الماهية مركبة منها ، سواء كان ذلك في ناحية الوضع والمسمى أو كان في ناحية المستعمل فيه أو كان في ناحية متعلق الأمر ، ومنه ما يقولون من أن العلة التامة هي المركبة من المقتضي والشرط وعدم المانع.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الاشكال في دخول هذه القيود في محل النزاع في الصحيح والأعم لو كان هو مجرد الطولية بينها وبين أصل مادة الصلاة ، وأن هذه الطولية مانعة من أخذ الصلاة مركبة من أصل المادة وهذه

١٦٣

القيود ، لأمكن الجواب عنه بأنه لا مانع من تركيب الماهية الجعلية من أجزاء وقيود طولية حتى ولو كان بعض الأجزاء علة للبعض الآخر ، فلك أن تركّب ماهية واحدة من أجزاء كثيرة يكون كل واحد منها علة لما بعده وتسمّي المجموع باسم واحد ، بل منشأ الاشكال في أخذ هذه القيود في الماهية أمر آخر كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

المقدمة الثانية : أن دخول هذه القيود في محل النزاع في الصحيح والأعم يتوقف على إمكان تقييد الماهية بها. ولا يخفى أن تقييد الماهية بقيد تارة يكون في مقام التسمية والوضع ، واخرى يكون في مقام المستعمل فيه وإن لم يكن قيدا في مقام الوضع والتسمية ، وثالثة يكون في مقام تعلق الأمر والنهي بها ، وإن لم يكن قيدا في المسمى والموضوع له ولا قيدا في المستعمل فيه.

إذا عرفت هاتين المقدمتين فنقول بعونه تعالى : إنّ الذي ينبغي هو التكلم في كل واحدة من هذه القيود على حدة ، فنقول بعونه تعالى :

أما تقييدها بعدم كونها منهيا عنها ، فانّ النهي عنها وإن أوجب فسادها ، إلاّ أن عدم النهي عنها لا يمكن أخذه في تلك العبادة المتعلقة لذلك النهي ، سواء اخذ على نحو القيدية في الموضوع له أو المستعمل فيه أو في تعلق النهي بها ، لا لأنّ تقييد الموضوع له أو المستعمل فيه بذلك القيد محال ، بل لأنّ تعلق النهي بما هو مقيد بعدم ذلك النهي محال ، وهو مساو في المحالية لأخذ متعلق النهي مقيدا بوجود ذلك النهي.

وبالجملة : أن موضوع الحكم لا يعقل أن يقيد بعدم ذلك الحكم كما لا يعقل أن يقيد بوجوده ، لأن مرتبة الحكم متأخرة عن موضوعه فلا يعقل أخذه وجودا أو عدما في موضوع نفسه. ولا فرق في ذلك بين كون الماهية

١٦٤

من العبادات أو من المعاملات ، لأن منشأ المحالية إنّما هو في تعلق النهي بما يكون عدمه مأخوذا فيه ، سواء كان أخذه فيه في مرتبة الموضوع له أو في مرتبة المستعمل فيه أو في مرتبة تعلق النهي به.

أما تعلق الأمر بما يكون مقيدا بعدم كونه منهيا عنه ، فالظاهر أنه لا مانع منه إذا كان في مرحلة تعلق الأمر ، دون ما لو كان في المسمى فانه محال ، لا من جهة الأمر بل من جهة عدم تصور تعلق النهي بذلك المسمى.

ومنه يظهر الاشكال في أخذه قيدا في المستعمل فيه في كل من مورد الأمر ومورد النهي ، إلاّ إذا أخذناه في المستعمل فيه في الأمر دون النهي فتأمل.

ثم لا يخفى أن تعلق النهي باحدى هذه الماهيات المخترعة لا بد أن يكون لخصوصية اشتملت عليها تلك الماهية عبادة كانت أو معاملة ، وحينئذ فلنا في مقام التسمية أو في مقام الاستعمال أو في مقام تعلق النهي بها أو الأمر أن نأخذها مقيدة بعدم تلك الخصوصية الموجبة للنهي عنها ، فيسلم من الاشكال بحذافيره المتوجه على أخذ قيد عدم النهي في الماهية في هذه المراحل الثلاثة.

ومن ذلك يظهر لك أنّ روح الاشكال إنما هي في تعلق النهي بالماهية المقيدة بعدم ذلك النهي ، فانّ ذلك محال كما عرفته.

أما التقييد في مقام التسمية وكذلك في مقام الاستعمال ، فان كان على هذا النحو بأن يجعل لفظ الصلاة مثلا اسما للماهية المقيدة بعدم النهي المتعلق بها بما أنّها مقيدة بعدمه ، كان التقييد المذكور محالا ، لأنك في مقام التقييد سواء كان في مقام الوضع أو في مقام الاستعمال لا بد أن تنظر المقيد

١٦٥

بذاته وتنظر إلى قيده وتأخذ ذلك القيد قيدا في تلك الذات باعتبار وضعك اللفظ لها.

أما لو لم تكن حالتك في مقام الوضع أو الاستعمال كذلك ، بل إنك نظرت إلى ماهية الصلاة ونظرت إلى تعلق النهي بها وجعلت لفظ الصلاة اسما لتلك الماهية المقيدة بعدم ذلك النهي ، فالظاهر أنه لا مانع منه لا في مقام الوضع ولا في مقام الاستعمال. نعم في مقام تعلق النهي لا يعقل أخذ ذلك القيد فيها ، بل يلزم في مقام تعلق النهي النظر إلى ذات الصلاة غير ملحوظ فيها القيد المذكور ، ولا يصح تعلق النهي بها مقيدة بالقيد المذكور فانه محال كما عرفت ، سواء كان القيد هو عدم تعلق هذا النهي بها أو كان هو عدم تعلق طبيعة النهي بها التي يكون أحد مصاديقها هو هذا النهي. نعم لو كان القيد هو عدم النهي السابق الذي هو غير هذا النهي فلا مانع منه.

ثم ان من هذه المحالية يتّضح لك الوجه في محالية الصورة الخامسة ، وهي أخذ داعي الأمر في متعلقه فانه محال ، سواء أخذناه في الموضوع له أو المستعمل فيه أو في مرحلة تعلق الأمر. ومحاليته من جهة أخذ ما لا يتأتى إلاّ بعد مرتبة الأمر في متعلق ذلك الأمر ، وهذه المحالية لا يرفعها إلاّ تعدد الأمر كما هو رأي الشيخ قدس‌سره (١) وشيخنا قدس‌سره (٢) أو التوأمية كما هو رأي الاستاذ العراقي قدس‌سره (٣) كما سيأتي في مبحث التعبدي إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) مطارح الأنظار ١ : ٣٠٣ ـ ٣٠٥.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٧٣.

(٣) بدائع الأفكار للمحقق الآملي قدس‌سره : ٢٢٨ ، وقد أوضح فكرة التوأمية في مقالات الاصول ١ : ٢٤٣ ، ٢٤٥.

١٦٦

ومع قطع النظر عن هذه المحالية المقصورة على تعلق الأمر ، لا مانع من أخذ الداعي المذكور في المسمى أو في المستعمل فيه لو كان الشخص المسمى لها بذلك الاسم أو المستعمل فيها ذلك اللفظ هو غير ذلك الآمر الذي أراد أخذ داعي أمره في متعلق أمره ، سواء كان ذلك الشخص قد أمر بها أو كان بصدد الإخبار عنها ، من دون فرق في ذلك بين اخذه داعي الأمر الشرعي في تلك العبادة في المسمى أو في المستعمل فيه أو في متعلق أمره بأن يقول الوالد لولده : أوقع الصلاة بداعي أمرها الشرعي ، بل إنّ ذلك جار حتى لو كان الآمر هو الشارع نفسه بأن يقول : صلّ بداعي أمري الذي تعلق بذات الصلاة. وهذا هو حاصل دفع الاشكال بتعدد الأمر.

وأما تقييده بعدم مزاحمة أمر آخر فهو في حد نفسه وان لم يكن موجبا للفساد بناء على الملاكية أو الترتب ، إلاّ أنه لا مانع من أخذه في المسمى والمستعمل فيه ومرتبة تعلق الأمر ، لو كان المراد من المزاحمة هو أن يكون وجود الصلاة مزاحما لأمر آخر ، بأن نقيّد ذات الصلاة في هذه المراحل الثلاث ، بأن لا تكون مفوّتة لواجب ، وأما لو كان المراد بالمزاحمة المعتبر عدمها هو أن لا يكون الأمر بها مزاحما لأمر آخر ، فلا شبهة في محاليته ، لكن لا من جهة التسمية أو الاستعمال ، بل من جهة استحالة تقيد متعلق الأمر بأن لا يكون ذلك الأمر مزاحما لأمر آخر ، فانّ مزاحمة الأمر لغيره من أطوار نفس الأمر ، فلا يعقل أخذه في نفس متعلق ذلك ، ويكون حال هذا القيد من هذه الجهة حال قيد داعي الأمر. نعم الظاهر أن المحالية في هذا القيد لا تندفع بالتوأمية التي أفادها الاستاذ العراقي قدس‌سره في قيد داعي الأمر ، ولا التعدد الذي أفاده شيخنا قدس‌سره إلاّ بان يتعلق الأمر بنفس الصلاة ثم يقول لا تزاحم بذلك الأمر غيره من الأوامر.

١٦٧

ومن ذلك يظهر لك الكلام في مزاحمة العبادة للنهي ، كما لو كانت متوقفة على مخالفة النهي أو كانت مقرونة بذلك كما في مسألة الاجتماع على القول بالجواز من الجهة الاولى.

قوله : الرابعة ـ إلى قوله : ـ فالقول بأنّ لفظ الصلاة موضوع لمفهوم الصحيح أو فريضة الوقت غير معقول ... إلخ (١).

لا يخفى أنّ الترادف هو عبارة عن اتحاد اللفظين في المعنى ، بأن يكون كلّ من اللفظين موضوعا لنفس المعنى الذي وضع له اللفظ الآخر ، ولازم ذلك هو كون المفهوم من أحدهما عين المفهوم من الآخر ، فإنّ اتحاد الموضوع له يلزمه أن يكون ما يحضره أحدهما في ذهن السامع هو عين ما يحضره الآخر. وذلك عبارة اخرى عن أنّ المفهوم من أحد اللفظين عين المفهوم من اللفظ الآخر ، وعلى كلّ حال ليس حقيقة الترادف هو كون كلّ من اللفظين موضوعا لما هو المفهوم من الآخر ، بل حقيقته هي ما عرفت من كون كل منهما موضوعا للمعنى الواقعي الذي وضع له اللفظ الآخر ، ولازم هذا الاتحاد بحسب المعنى الموضوع له الاتحاد بحسب المفهوم.

ثم إنّ من هذا الذي ذكرناه من اعتبار وحدة المعنى في الترادف ، يظهر لك أنه لو اخذت في المعنى في أحد اللفظين جهة زائدة على أصل المعنى ، لم يكن ذلك من الترادف كما في مثل السيف والصارم حيث إنه قد اخذت في معنى الصارم جهة زائدة على أصل المعنى المشترك بينهما وهي جهة الصرم والقطع ، فلا يكون اللفظان مترادفين بل يكونان من قبيل

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٥١ ـ ٥٢.

١٦٨

الموصوف والصفة.

وعلى هذا الأساس قد أنكر الترادف بعض المحقّقين (١) بدعوى اختلاف الجهة حتى في مثل الانسان والبشر والرقبة والجيد ، ومع اختلاف الجهة المأخوذة في المعنى في أحد اللفظين عن الجهة المأخوذة في اللفظ الآخر لا يكونان مترادفين ، بل يكون اللفظان متباينين ، وعلى هذا الأساس زعم هذا البعض استحالة اتحاد المفهوم في كل من اللفظين ، نظرا إلى تلك الدعوى الاولى ، أعني اختلاف الجهة في أحد المعنيين عن الجهة في المعنى الآخر ، ومع اختلاف الجهة يستحيل ما هو لازم الترادف أعني الاتحاد بين اللفظين في المفهوم ، بأن يكون ما يحضره أحد اللفظين في ذهن السامع عين ما يحضره فيه اللفظ الآخر.

ثم إنه لعل الوجه في الدعوى الاولى أعني اختلاف الجهة في أحد الوضعين عن الجهة في الوضع الآخر هو كون الواضع حكيما ، ومع وجود اللفظ الأول لا داعي له لوضع لفظ ثان إلاّ باعتبار لحاظه جهة اخرى في المعنى هي غير الجهة التي لاحظها في وضع اللفظ الأول ، ولكنّك قد عرفت إمكان الترادف باعتبار تعدد الواضعين ، وأن الواضع الثاني لم يكن مسبوقا بالوضع الأول ، فيضع اللفظ الآخر لنفس المعنى الذي وضع له الواضع الأول اللفظ الأول ، هذا.

مضافا إلى إمكان كون الحكمة في تعدد اللفظ مع فرض وحدة المعنى من جميع الجهات هو تكثير الألفاظ وتوسعة اللغة ، ليتسنى للمتكلم بها أن يعبّر عن المعنى الواحد بأيّ عبارة شاء ولا يتضيق بخصوص لفظ

__________________

(١) [ لم نعثر عليه ].

١٦٩

واحد ، إذ ربما لا يكون ذلك اللفظ الواحد ملائما للسجع أو الوزن أو القافية أو غير ذلك مما يدعو إلى تغيير العبارة والتفنن في التعبير.

إذا عرفت ذلك كله فاعلم أنه لا ريب في أن لفظ وظيفة الوقت أو المطلوب من هذه الطبيعة إنّما هو موضوع لنفس تلك الماهية الواقعية ، وحينئذ لو كان لفظ الصلاة موضوعا لذلك المعنى الواقعي الذي وضع له لفظ وظيفة الوقت أو لفظ المطلوب ، صح الترادف بين اللفظين المذكورين وكان الموضوع له في كل منهما جامعا بين مصاديق ذلك المعنى الواقعي. أمّا دعوى كون لفظ الصلاة موضوعا للصورة الذهنية للماهية التي هي وظيفة الوقت ، ففيها أنّ ذلك ليس من الترادف ، بل إنّ لفظة وظيفة الوقت موضوعة للمعنى الواقعي من تلك الماهية ، ولفظة الصلاة موضوعة للصورة الذهنية من تلك الماهية الواقعية.

ومنه يظهر لك أنّا لو قيّدنا الصورة الذهنية بما يحضره في الذهن لفظة وظيفة الوقت كانت الحالة أردأ ، لأنّ حاصله أنّ لفظة الصلاة موضوعة للمعنى الذهني الذي تحضره لفظة وظيفة الوقت وهو المعبّر عنه بالمفهوم من لفظة وظيفة الوقت ، ولفظة وظيفة الوقت موضوعة للمعنى الواقعي من تلك الماهية ، فأين الترادف الذي هو عبارة عن كون الموضوع له واحدا في كل من اللفظين.

ولازم هاتين الدعويين هو امتناع تعلّق الأمر بالصلاة ، لأنّها حينئذ عبارة عن الوجود الذهني مطلقا أو مقيدا بما تحضره لفظة وظيفة الوقت ، ولا ريب أنّ ذلك الوجود الذهني غير قابل لتعلّق الطلب به ، هذا.

مضافا إلى امتناع الدعوى الثانية الراجعة إلى ما يشبه الطولية بين اللفظين ، فلفظة وظيفة الوقت موضوعة للماهية الواقعية ، وهي بواسطة هذا

١٧٠

الوضع تكون آلة في إحضار تلك الماهية في ذهن السامع ، ولفظة الصلاة موضوعة لذلك الذي تحضره لفظة الوظيفة في ذهن السامع ، وعلى ذلك فتكون لفظة الصلاة آلة في إحضار ما تحضره لفظة الوظيفة في ذهن السامع ، بمعنى أنّها تحضر في ذهن السامع ما تحضره فيه لفظة الوظيفة ، فيكون هناك حضوران في ذهن السامع : أحدهما هو الذي وضعت له لفظة الصلاة ، والآخر هو المستعمل فيه لفظة الصلاة ، وهذا جار في كلّ لفظ يدعى أنّه موضوع لما هو المفهوم من اللفظ الآخر ، ولعلّه هو المحالية التي أشار إليها شيخنا قدس‌سره ، فلاحظ وتدبر.

قال قدس‌سره فيما حررته : قد عرفت أن حقيقة الاستعمال من قبيل قوس الصعود والنزول ، فالمعنى الموضوع له اللفظ هو الحقيقة الواقعية بمادتها وصورتها ، وبعد هذه المرتبة مرتبة وجوده في الحس المشترك مجردا عن المادة. ولكن على ما هو عليه من الصورة التي هو عليها ، ثم مرتبة وجوده في الذاكرة مجردا عن المادة والصورة الخارجية ، ثم وجوده العقلاني وهو أبسط من مرتبة وجوده في الذاكرة وهو المعبّر عنه بالمعنى والمفهوم. ثم إن ذلك المفهوم البسيط الذي هو في أقصى درجات البساطة هو الذي يحضره المتكلم في ذهن السامع بواسطة الألفاظ فينطبق على ما في الخارج.

ومن ذلك يظهر لك أنه لا يعقل أن يكون الموضوع له هو نفس مفهوم الصحيح أو ما هو لازمه من كونه وظيفة الوقت ، لعدم صحة كون الموضوع له اللفظ والمراد الواقعي هو نفس مفهوم لفظ آخر ، انتهى.

ومن ذلك كله يظهر لك الوجه في عدم معقولية كون لفظ موضوعا لما هو المفهوم من لفظ آخر ، ولو اغضي النظر عن عدم معقوليته وسلّمنا إمكانه فليس ذلك من الترادف ، لما عرفت من أن حقيقة الترادف هو

١٧١

الاتحاد بحسب المعنى الموضوع له اللازم للاتحاد بينهما مفهوما ، وليس هو عبارة عن كون أحد اللفظين موضوعا لما هو المفهوم من اللفظ الآخر.

ومنه يظهر لك ما في الحاشية على ما في المتن من قوله : لا يعقل ، وذلك هو قوله في الحاشية : لا ينبغي الريب في إمكان وضع لفظ الصلاة مثلا لمفهوم الصحيح حتى يكون اللفظان مترادفين ، ولا استحالة في ذلك أصلا ، غاية الأمر عدم وقوع ذلك خارجا ، وأين ذلك من الاستحالة وعدم الامكان (١) ، فإنك قد عرفت محالية كون لفظ موضوعا لما هو المفهوم من لفظ آخر ، ولو سلّم إمكان ذلك فليس هو من الترادف.

وأما ما أفاده في الكفاية (٢) من الاشكال على كون الجامع هو عنوان المطلوب من لزوم الترادف بين لفظ الصلاة والمطلوب ، فليس هو مبنيا على كون لفظ الصلاة موضوعا لنفس مفهوم المطلوب ، بل هو مبني على كون لفظ الصلاة موضوعا لما قد وضع له لفظ المطلوب ، فيكونان من قبيل تعدد اللفظ ووحدة المعنى الموضوع له في كل منهما ، ويكون لازمه الاتحاد بينهما بحسب المفهوم كما عرفت تفصيل ذلك ، فلاحظ وتأمل.

والحاصل : أن وضع لفظ الصلاة لمفهوم الصحيح أو لمفهوم المطلوب أو لمفهوم لفظ الوظيفة كل ذلك غير معقول ، هذا.

مضافا إلى أنّ لفظة الوظيفة لو كانت جامعة بين الأفراد المندرجة تحت تلك الماهية فهي كافية في الجامع ، وأيّ داع لدعوى كون الجامع هو لفظة الصلاة ، ثمّ لو قلنا بأنّها هي جامعة أيضا فأيّ داع إلى ارتكاب دعوى كون لفظة الصلاة موضوعة لمفهوم لفظة الوظيفة أعني الصورة الذهنية ، ولم

__________________

(١) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٥٢.

(٢) كفاية الاصول : ٢٤ ـ ٢٥.

١٧٢

لا نقول إنّ لفظة الصلاة موضوعة لنفس الماهية الواقعية التي وضعت لها لفظة الوظيفة ويتحقق الترادف بينهما حينئذ ، وهذا كلّه مما يكشف عن أنّ الجامع المسمى ليس هو الوظيفة ولا عنوان المطلوب ، لأنهما متأخران عن عالم التسمية. نعم لك أن تدّعي أنّه قبل الطلب أو قبل الطلب في الوقت ليس لنا عالم تسمية وإنّما التسمية بعد ذلك ، بمعنى أنّ الشارع بعد تعلق طلبه بتلك الماهية وتحقق كونها مطلوبة أو كونها وظيفة الوقت ، نقول إنّا نجعل لفظة الصلاة لتلك الماهية التي طرأ عليها الطلب في الوقت الكذائي وصارت بذلك وظيفة الوقت ، ولكن يبقى السؤال في اللفظ الذي استعمله الشارع فيها عند تعلق أمره بها وما هو ذلك اللفظ ، ثم بعد طي مرحلة الطلب أيّ فائدة في تلك التسمية التي لا يكون المسمى به فيها ولا المستعمل فيه إلاّ ما هو بعد مرتبة الطلب ، فلاحظ لتعرف أنّ هذه الطرق كلّها خيالات صرفة لا واقعية لها.

تنبيه : قال في متن الشمسية : وكلّ لفظ فهو بالنسبة إلى لفظ آخر مرادف له إن توافقا في المعنى ومباين له إن اختلفا فيه.

وقال الشارح بعد أن عرّف الترادف بما أشار إليه في المتن وهو الاتحاد في المعنى ما هذا لفظه : ومن الناس من ظن أنّ مثل الناطق والفصيح ومثل السيف والصارم من الألفاظ المترادفة لصدقهما على ذات واحدة ، وهو فاسد لأنّ الترادف هو الاتحاد في المفهوم لا الاتحاد في الذات. نعم الاتحاد في الذات من لوازم الاتحاد في المفهوم دون العكس (١).

__________________

(١) شرح الشمسية ( للتفتازاني ) : ٣٠.

١٧٣

وقوله هنا : لأنّ الترادف هو الاتحاد في المفهوم ، تعريف له بلازم تعريفه الأوّل وهو الاتحاد بحسب المعنى الموضوع له. وأما قوله : لا الاتحاد في الذات ، فليس المراد بالمنفي هو الاتحاد في المعنى ، بل المراد به هو الاتحاد بحسب المصداق الخارجي مع فرض الاختلاف في الجهة المأخوذة في المعنى الموضوع له كما في مثل السيف والصارم على ما عرفته من الاختلاف بينهما بحسب الجهة ، وأنّهما من قبيل الموصوف والصفة وإن كان المصداق فيهما واحدا.

ومن ذلك كلّه يتضح لك المراد بقوله : نعم ، الاتحاد في الذات من لوازم الاتحاد في المفهوم دون العكس ، لأنّ الاتحاد بحسب المفهوم اللازم للاتحاد بحسب المعنى الموضوع له الذي هو حقيقة الترادف تلزمه الوحدة بحسب الذات أعني المصداق ، بخلاف مجرد الاتحاد بحسب الذات أعني المصداق ، فانّه لا يلزمه الترادف الذي هو الاتحاد بحسب الموضوع له الذي يلزمه الاتحاد بحسب المفهوم ، إذ ربما اتحدت الذات والمصداق ولم يحصل الترادف كما عرفت من مثال السيف والصارم ، فلاحظ.

قوله : ويمكن دفع الإشكال عن كلا القولين بالتزام أنّ الموضوع له أوّلا هي المرتبة العليا الواجدة لتمام الأجزاء والشرائط ، والاستعمال في غيرها من المراتب الصحيحة على قول الصحيحي أو الأعم منها على الأعم من باب الادّعاء والتنزيل. والموضوع له على كلا القولين هي المرتبة العليا ، وبقية المراتب الصحيحة أو الأعم يستعمل فيها الألفاظ ادّعاء ومن باب تنزيل الفاقد منزلة الواجد مسامحة ، كما في جملة من الاستعمالات ، أو من باب اكتفاء الشارع به كما في صلاة الغرقى ؛ فإنّه لا يمكن فيه الالتزام بالتنزيل المذكور كما هو واضح.

١٧٤

ثم إنّ الاستعمال في فاسد صلاة الغرقى أيضا بتنزيل الفاقد منزلة الواجد المنزّل منزلة تام الأجزاء والشرائط من باب الإجزاء والاكتفاء ، فبعد البناء على كون الصحيح فردا للطبيعة من جهة الإجزاء يصحّ تنزيل الفاقد منزلته أيضا ، ولا يلزم سبك مجاز عن مجاز. وأمّا القصر والإتمام فهما وإن كانتا في عرض واحد بالقياس إلى المرتبة العليا إلاّ أنّه يمكن تصوير الجامع بينهما فقط.

وعلى ما ذكرناه فيبطل نزاع الأعمي والصحيحي رأسا ، فإنّ ثمرة النزاع كما سيجيء إن شاء الله تعالى هو التمسك بالإطلاق على تقدير تمامية مقدمات الحكمة على الأعمي ، وإجمال الخطاب على الصحيحي ، وهذا لا يصحّ على ما ذكرناه ، لأنّه لو بنينا على أنّ الصلاة موضوعة لخصوص المرتبة العليا وإطلاقها على غيرها من باب المسامحة والتنزيل ، فعلى تقدير وجود المطلق في العبادات أيضا فحيث إنّ اللفظ لم يوضع للجهة الجامعة المشتركة حتى تكون الأجزاء والشرائط المأخوذة في المأمور به من قبيل القيود ، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق ، بل اللفظ يكون مجملا لعدم العلم بالتنزيل والمسامحة في مقام استعمال اللفظ حتى يتمسّك بإطلاقه ... إلخ (١).

قلت : لا يخفى أنّه ربما كان الفاقد مباينا في النظر للواجد كما في صلاة الغرقى ، فكيف يصح جعله فردا ادعائيا ، وكيف يمكن القول بالتنزيل في أمثال ذلك ، وأين المناسبة بين الصلاة التامّة وبين الصلاة التي هي عبارة عن أربع تكبيرات ، بل عبارة عن إيماء محض ، ولو التزمنا بتصحيحه

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٥٣ ـ ٥٤.

١٧٥

بالتنزيل الشرعي لكان ذلك مختصا بالفاقد الصحيح دون الفاسد.

ثم لا يخفى أنّ المسامحة من باب تنزيل الفاقد منزلة الواجد أو من باب اكتفاء الشارع بالفاقد لا تخرج الاستعمال عن كونه مجازا ، غايته أنّه مجاز على رأي السكاكي (١) ، وذلك لا يجعل استعمال اللفظ في ذلك المقام استعمالا حقيقيا على وجه يكون توجيها للأعم أو توجيها للجامع بين الأفراد الصحيحة ، بل إنّ محصّل ذلك هو تضييق دائرة القول بالصحيح ، وأنّ الصلاة ليست حقيقة إلاّ في الصحيح الأعلائي ، وأنّ الاستعمال في غيره لا يكون إلاّ من باب التنزيل والعناية ، سواء كان ذلك الغير صحيحا أو كان فاسدا.

ثم إنّه كيف لا يلزم منه سبك المجاز عن المجاز في فاسد صلاة الغرقى مع أنّ صحيحها لا يكون صلاة إلاّ بتنزيل من الشارع ، ومجرد أنّ هذا التنزيل كان بجعل من الشارع من جهة الإجزاء أو الاكتفاء الشرعي لا يخرجه عن المجازية ، غايته أنّه من قبيل الاستعارة على رأي السكاكي ، وأنّ المصحّح لذلك التنزيل الشرعي هو الاجتزاء والاكتفاء ، وذلك لا يخرجه عن كونه مجازا ، غايته أنّه لا يكون مجازا في الكلمة كما هو الشأن في كل مجاز بناء على هذا القول ، كما أنّ استعمال اللفظ في فاسد صلاة الغرقى لكونه منزّلا منزلة صحيحها لا يكون إلاّ من هذا القبيل أيضا لكونه استعمالا مبنيا على التنزيل المذكور.

ثم إنّ الذي حررته عنه قدس‌سره في هذا المقام هو ما نصه : إنّ حقيقة الصلاة هي الجامعة لجميع الأجزاء والشرائط ، وأمّا الفاقد فإن كان هناك ما

__________________

(١) مفتاح العلوم : ١٥٦.

١٧٦

يدل على صحته عند الشارع كان فردا تنزيليا ، وإن لم يكن في البين ذلك الدليل ، وقلنا بصحة الاستعمال فيه ولو من جهة كونه مناسبا لذلك الفاقد فهو وإلاّ كان الاستعمال مقصورا على ما دلّ الدليل الشرعي على الاكتفاء به ، والثاني عبارة اخرى عن القول بالصحيح والأول عبارة عن القول بالأعم.

والحاصل : أنّ الفرد الحقيقي هو التام ، وأمّا الفاقد لبعض الأجزاء فإن كان لنسيان أو عجز ودلّ الدليل الشرعي على الاكتفاء به فهو فرد تنزيلي وإن كان باطلا ، فإن قلنا بصحة الاستعمال فيه ولو من جهة مناسبته لذلك الفرد التنزيلي كان محصل ذلك هو القول بالأعم ، وإن لم نقل بصحة الاستعمال المذكور كان محصل ذلك هو القول بالصحيح ، فمحصّل القول بالأعم هو تعميم المناسبة المصححة للاستعمال وعدم قصرها على الصحة ، ومحصّل القول بالصحيح هو قصرها على ذلك.

قلت : لا يخفى أنّ محصل ذلك هو الالتزام بالتجوز في غير الصحيح الأعلائي ، غايته أنّ القائل بالصحيح يقصر ذلك التجوز على التعبد الشرعي بالاجتزاء بذلك الفاقد والقائل بالأعم لا يقصره على ذلك ، فيمكن القول بأنّ هذا التوجيه لا يوافق كلا من القول بالصحيح والقول بالأعم ، لأنّهم لا يدعون الاستعمال في الفاقد الصحيح على القول بالصحيح والفاقد الفاسد على القول بالأعم إلاّ استعمالا حقيقيا ، ولأجل ذلك احتجنا إلى وجود الجامع على كل من القولين ، ومجرد المناسبة والتنزيل لا تخرج الاستعمال عن التجوز كما عرفت فيما تقدم.

ثم لا يخفى أنّ الصلاة الصحيحة قدر مشترك بين فريضة الصبح والمغرب والعشاء والآيات والجمعة والعيد وصلاة جعفر و ... ، ولا ريب في اختلاف هذه الصلوات من حيث الأجزاء كما وكيفا ، فلو أردنا أن نقول :

١٧٧

إنّ لفظ الصلاة موضوع لما هو الجامع لجميع الأجزاء ما ذا نعني من الأجزاء؟ هل هي أجزاء الصلاة اليومية وأيّ فريضة منها ، أو هي أجزاء صلاة العيد أو صلاة الآيات.

ولا يخفى أنّ هذا إشكال آخر غير ما أشكله في الكفاية على هذا التوجيه بقوله : ولا يكاد يتم في مثل العبادات التي عرفت أنّ الصحيح منها يختلف حسب اختلاف الحالات ، وكون الصحيح بحسب حالة فاسدا بحسب حالة اخرى (١). فإنّ هذا الاشكال يمكن دفعه بما تضمنه صدر التوجيه ، من أنّ الموضوع له أوّلا ليس هو مطلق الصحيح بل هو الصحيح التام الجامع لجميع الأجزاء والشرائط ، وهذا لا يختلف حاله. اللهم إلاّ أن يقال : إنّه ربما كان فاسدا إذا كان صادرا ممن لا يتمكن من تمامية تلك الأجزاء ولو لضيق الوقت أو لعذر ملزم بترك بعض الأجزاء ونحو ذلك.

أمّا الايراد عليه بأنّ الصلاة ذات ركعتين تكون فاسدة ممن هو مأمور بالأكثر وبالعكس كما في الحاشية (٢) ، فهو راجع إلى مثل القصر والإتمام ، ويمكن الجواب عنه بأنّ المقياس الأصلي هو الركعتان ، وتكون الزيادة عليها صلاة بالتنزيل ، فإنّ القيود لا تختص بالوجودية ، ولا يختص التنزيل بما هو الفاقد ، بل يتأتى فيه القيود العدمية ، ويكون التنزيل فيما هو مشتمل على الزيادة.

أمّا الإشكال المذكور ، أعني كون الصلاة قدرا مشتركا بين كل من الفرائض اليومية وصلاة العيد وصلاة الآيات وغير ذلك من الصلوات والصحيح الأعلائي في كل واحد من هذه الصلوات هو غيره في الآخر.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٧.

(٢) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٥٣.

١٧٨

فيمكن الجواب عنه : بأنّ هذه أنواع للصلاة ، وكلّ نوع منها له صحيح أعلائي وله صحيح ناقص وله فاسد ناقص ، فصلاة الصبح مثلا موضوعة أوّلا لما هو التامّ منها ، ومستعملة تنزيلا في الصحيح الفاقد لبعض الأجزاء ، وهكذا الحال في غيرها من الصلوات. ولعل هذا هو المراد مما أفيد بقوله : وأمّا القصر والاتمام فهما ، إلخ (١) ، لكن مع ذلك لا بد من الالتزام بوجود جامع بين هذه الأنواع ، فلا محيص حينئذ من جعل ذلك الجامع بين جميع تلك الأنواع هو المركب من مجموع الأجزاء الخاصة وهو ما سيأتي من الكلّي في المعيّن ، وإذا تم هذا الجامع كان هو الجامع أيضا بين التام والناقص الصحيح بناء على القول بالصحيح ، بل كان هو الجامع بين الصحيح والفاسد بناء على القول بالأعم.

ومنه يظهر تصوير الجامع على كلّ من القول بالصحيح والقول بالأعم ، أمّا على القول بالأعم فواضح ، لأنّ الجامع الذي هو المسمى يكون عبارة عمّا تركب من مجموع تلك الأجزاء على ما سيأتي شرحه (٢) من كونه من قبيل الكلّي في المعيّن ، وأمّا على القول بالصحيح فكذلك أيضا ، بأن يكون الموضوع له عند القائل بالصحيح هو المركب من تلك الأجزاء بشرط كونه صحيحا مسقطا للأمر الذي يتعلّق به بعد التسمية ، فلا يتوجه عليه أنّ الصحة بمعنى إسقاط الأمر تكون متأخرة عن الأمر فلا يمكن أخذها في المسمى ، أو نقول : إنّ الموضوع له على القول بالصحيح هو المركب من تلك الأجزاء بشرط كونه بحيث يترتب عليه النهي عن الفحشاء ، وإن كان ترتب هذا الأثر عليه متوقفا على الأمر ، فيكون محصل ذلك هو أنّ الجامع

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٥٤.

(٢) في صفحة : ١٨٢.

١٧٩

والمسمى على القول بالصحيح هو المركب من تلك الأجزاء الذي لو أمر به لترتب عليه النهي عن الفحشاء وغيره من الآثار الباعثة على الأمر به على وجه لا يكون التقييد بكونه بحيث يترتب عليه الأثر إلاّ من قبيل المعرّف لذلك الجامع لا من قبيل التقييد على ما تقدم (١) تفصيله في شرح مراد الكفاية من استكشاف الجامع بآثاره على القول بالصحيح.

ثم إنّه في الكفاية قرّب هذا التوجيه بقوله : إنّ ما وضعت له الألفاظ ابتداء هو الصحيح التام الواجد لتمام الأجزاء والشرائط ، إلاّ أنّ العرف يتسامحون كما هو ديدنهم ، ويطلقون تلك الألفاظ على الفاقد للبعض تنزيلا له منزلة الواجد ، فلا يكون مجازا في الكلمة ـ على ما ذهب إليه السكاكي (٢) في الاستعارة ـ بل يمكن دعوى صيرورته حقيقة فيه بعد الاستعمال فيه كذلك دفعة أو دفعات ، من دون حاجة إلى الكثرة والشهرة ، للانس الحاصل من جهة المشابهة في الصورة أو المشاركة في التأثير ، كما في أسامي المعاجين ... إلخ (٣).

وقد أجاب عنه بما تقدم نقله ، وقد عرفت فيما تقدم (٤) أنّ كونه من قبيل الاستعارة على رأي السكاكي لا يخرجه عن التجوّز. ودعوى صيرورته حقيقة بالاستعمال الواحد أو الاستعمالين لا تخلو من غرابة ، سيّما بعد ما شرحناه من امتناع الوضع التعيني الناشئ من كثرة الاستعمال.

ثم إنّ المشابهة في الصورة ممنوعة في كثير من موارد فساد العبادة ،

__________________

(١) في الصفحة : ١٤٥ وما بعدها.

(٢) مفتاح العلوم : ١٥٦.

(٣) كفاية الاصول : ٢٦ ـ ٢٧.

(٤) في صفحة : ١٧٦.

١٨٠