أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٩

الصادرة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله سواء كان المراد هو المعنى الأصلي أو كان المراد هو المعاني المستحدثة ، ولم يدّع أن جميع استعمالاته صلى‌الله‌عليه‌وآله كان المراد بها هو المعاني المستحدثة بواسطة القرينة.

وبالجملة : أنّ فعلية هذه الثمرة تتوقف على ورود استعمال من الشارع لهذه الالفاظ مع التردد في كون مراده من ذلك الاستعمال هو المعنى الاصلي أو المعنى الجديد ، وليس لدينا من استعمالاته ما يكون من هذا القبيل ، بل إنّ جميع ما ورد عنه معلوم المراد ، فلا تكون الثمرة حينئذ الاّ فرضية ، فلاحظ.

نعم ، إنّ هذه الدعوى تحتاج إلى تتبع ، وهي وإن وردت في القرآن الكريم معراة عن القرائن المتصلة مثل قوله تعالى : ( أقم الصلاة لدلوك الشمس )(١) ومثل قوله تعالى : ( أقيموا الصلاة )(٢) وربما وردت في الحديث أيضا كذلك ، لكن المراد بذلك وهو المعاني المستحدثة معلوم لنا ولو من جهة التفسير الواصل إلينا ونحو ذلك من القرائن ولو مثل الإجماع ، وهكذا الحال فيما لو استعملت واريد منها المعنى السابق كما في صلاة الأموات.

المقام الثاني : في حاصل الجملة الثانية ، وهي أنّه على الثبوت تحمل على المعاني الجديدة.

وقد أشكلوا على ذلك بما حاصله : أنّ ثبوت الحقيقة الشرعية لا يوجب هجر المعنى الأول ، وأقصى ما فيه أنّه يوجب الاشتراك اللفظي فلا يكون أثرها إلاّ الإجمال.

واجيب عنه بما حاصله : أنّ التتبع شاهد في أنّ أرباب الاختراع

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٧٨.

(٢) البقرة ٢ : ٤٣.

١٢١

عند ما يضعون لفظا لما يخترعونه ، يكون غرضهم سلخ اللفظ عن معناه الأول وجعله للمعنى الذي اخترعوه ، ولو بأن يستقرّ بناؤهم على عدم استعماله فيه إلاّ مع القرينة.

قال في المقالة : فنفس هذه الجهة من القرائن العامة على إرادة المعنى الشرعي عند استعماله حتى مع فرض عدم هجر الوضع السابق (١).

قلت : بل عرفت أنّ الوضع الجديد يوجب بناءهم على سلخ اللفظ عن المعنى السابق ، فلا بد أن يكون مع هجر الاستعمال فيه إلا مع القرينة. وبالجملة يعود اللفظ عندهم مجازا فيه على وجه لو صدر اللفظ منهم لا يحمل على المعنى القديم إلاّ بالقرينة ، ومن ذلك تعرف التأمل فيما أفاده بعد ذلك بقوله :

اللهم إلاّ أن يقال : إنّ ما ذكرنا من طريقة أهل الصنائع إنّما هو في الألفاظ المستحدثة غير المسبوقة بوضع آخر ( قلت : هذا فرض لا واقعية له ) واما الألفاظ المتداولة بين العرف لا نسلّم كون طريقتهم في التسمية بها تفهيم المعنى بنفس اللفظ ، بل من الممكن كون الغرض إحداث الاشتراك في اللفظ بحيث يصير عند عدم القرينة مجملا إلخ (٢).

ولا يخفى أنّ مثل هذه الغاية ممّا يقطع بعدمها ، فانّ الغرض من نقلهم اللفظ من معناه الأصلي إلى المعنى الجديد ليس إلاّ ليكون اللفظ في لسانهم ظاهرا في الجديد ، ولا يكون ظاهرا فيه الاّ مع سلخه عن معناه الاول ، وأنّ بناءهم قد استقر على عدم استعماله فيه إلاّ مع القرينة. وهذا هو الفارق بين الاشتراك والنقل ، فإنّ الوضع الثاني في الاشتراك لا يكون إلاّ من

__________________

(١ و ٢) مقالات الاصول ١ : ١٣٤ [ أسقط قدس‌سره جملة قصيرة من العبارة الثانية ].

١٢٢

جهة عدم اطلاع الواضع الثاني على الوضع الأول أو غفلته عنه أو نسيانه له ، بخلاف النقل فانّه عبارة عن نقل اللفظ عن معناه الاول إلى المعنى الجديد ، ولا يكون ذلك إلاّ عبارة عن سلخه عن المعنى الأوّل ، ولو بأن يلتزم هذا الواضع الجديد بعدم استعماله في المعنى الأول إلاّ بنحو عناية وتجوز عن المعنى الجديد ونصب قرينة على ذلك. ومنه يظهر لك أنّ النقل إلى المعنى الجديد لا يجتمع مع عدم هجر الوضع السابق ، بل إنّ أساس النقل هو هجر المعنى السابق وعدم استعماله فيه إلاّ مع القرينة.

قوله : وأمّا ما يقال كما عن صاحب الكفاية قدس‌سره ـ إلى قوله : ـ فيردّه أنّ جملة من المعاني وإن كانت ثابتة في الشرائع السابقة ـ إلى قوله : ـ إلاّ أنّها لم تكن يعبّر عنها بهذه الألفاظ بل بألفاظ أخر قطعا ... إلخ (١).

وتوضيحه : أنّ هذه الماهيّات وإن كانت موجودة في الشرائع السابقة وكانت مخترعة قبل شرعنا ، إلاّ أنّ ذلك لا ينافي الحقيقة الشرعية ، لما عرفت في المقدمة الاولى من أنّ المدار في الحقيقة الشرعية على كون التسمية منه صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن كان الاختراع من السابق ، لكن لا يخفى أنّ كون التسمية منه صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه الأسماء يتوقف على أنّ لا يجد في لغته صلى‌الله‌عليه‌وآله أسماء لهذه الماهيات ، وحينئذ هو صلى‌الله‌عليه‌وآله إمّا أن يخترع لها اسما ابتدائيا أو ينقل لها لفظا من لغته ، بأن ينقل لفظ الصلاة من معنى الدعاء في لغته صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى هذه الماهية ، وحينئذ فمن الممكن أن يجد لهذه الماهيّات أسماء خاصة في لغته فلا يحتاج إلى النقل ولا إلى الاختراع ، بل هو صلى‌الله‌عليه‌وآله في مقام بيان مراده يجري على الأسماء التي وجدها لتلك الماهيات في لغته صلى‌الله‌عليه‌وآله الاّ أنّا مع

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٥٠ [ مع اختلاف عما في النسخة القديمة غير المحشاة ].

١٢٣

ذلك ننقل الكلام إلى نفس أهل لغته ونقول : إنّهم بعد أن اطلعوا على تلك الحقائق اضطروا إلى بيانها بالألفاظ ، فهم إمّا أن يخترعوا لها ألفاظا خاصة بها ، أو ينقلوا لها لفظا ممّا في لغتهم كما في الصلاة من الدعاء ، أو أنّهم لا يخترعون ولا ينقلون بل يتابعون ، أعني أنّهم يجرون في تسميتها على ما كانت تسمى به ، فيدخلونه في لغتهم ، فإن كان من قبلهم عربا مثلهم فهو وإلاّ كان ذلك اللفظ الذي يجرون عليه كسائر الألفاظ التي جروا عليها وأدخلوها في لغتهم من اللغات الاجنبية كما يدعى في القسطاس ونحوه ، ثم بعد أن جاء صاحب شريعتنا ( صلوات الله عليه وعلى آله الطاهرين ) جرى في تلك الماهيات على ما وجده من ألفاظها في لغته ، وهذا وإن لم يكن من الحقيقة الشرعيّة اصطلاحا ، بمعنى أنّ جاعل الوضع هو صاحب شريعتنا ، الاّ أنّها لا تخرج عن كونها حقيقة شرعية ولو بالنسبة إلى الشريعة السابقة ، ولو فرضنا أنّها لغوية كما لو كان الذين سمّوها هم أهل اللغة العربية فيما قبل زمانه ، إلاّ أنّه مع ذلك يترتب عليها الثمرة المترتبة على الحقيقة الشرعية الخاصة ، وهو لزوم حملها على هذه الماهيات عند ورودها في لسانه صلى‌الله‌عليه‌وآله مجردة عن القرينة.

ولا يخفى أنّ ذلك كلّه لا يخرج عن الاحتمال ، إلاّ أنّه نافع في قبال الاستدلال على عدم ثبوت الحقيقة الشرعية بمجرد وجود هذه الماهيات قبل زمان الشارع.

والانصاف أنّه ليس لنا دليل على الثبوت ، وإن كان الاعتبار يساعد عليه ، إلاّ أنّ مجرد مساعدة الاعتبار لا تكون دليلا على الثبوت. مع أنّ هذا الاعتبار فيما لو كان الشارع هو المخترع لهذه الماهيات ، حيث إنّ اختراعه لها يناسب اختراع اسم لها ، أمّا إذا كان المخترع لها من سبقه فلا يتأتى فيه

١٢٤

الاعتبار المذكور. ومجرد أمره بها لا يوجب اختراع اسم لها ، مع أنّ باب المجاز واسع. وعلى كلّ حال فلو وصلت النوبة إلى الشك فالأصل مع المنكرين حتى بالنسبة إلى الاستعمالات العربية قبل الشارع ، لإمكان أنّهم لم يستعملوا هذه الالفاظ في هذه الماهيات إلاّ بالعناية.

ويترتب على هذا الأصل المعبّر عنه بأصالة عدم الوضع أو عدم النقل أنّه لو وردت مجردة عن القرينة في كلام الشارع ، ولم يكن المراد معلوما لنا ، يكون اللازم هو حملها على المعاني الأصليّة ، ويكون ترتب هذا الأثر أعني لزوم حملها على المعاني الأصلية على ذلك الاستعمال المقارن لعدم النقل ، من قبيل الترتب على الموضوع المركب من جزءين : أحدهما وهو الاستعمال محرز بالوجدان والآخر وهو عدم النقل محرز بالأصل ، سواء قلنا إنّ التركب من قبيل الاقتران في وعاء الزمان أو قلنا إنّه تقييدي ، أمّا الأول فواضح ، وأمّا على الثاني ، فلأنّ عدم النقل وإن أخذناه في المستعمل على نحو مفاد ليس الناقصة ، فهو أعني مفاد ليس الناقصة ثابت باستصحاب حال ذلك المستعمل وأنّه لم يصدر عنه النقل المذكور.

ومن ذلك يظهر لك الحال فيما لو علم كلّ من النقل والاستعمال ولم يعلم المقدّم منهما ، فإنّ استصحاب عدم النقل إلى حين الاستعمال قاض بالحمل على المعاني الأصلية ، ولا تعارضه أصالة عدم الاستعمال قبل النقل ، إذ لا يترتب عليها الأثر إلاّ بلازمها وهو وقوع الاستعمال بعد النقل.

ومن ذلك يظهر لك التأمل فيما أفاده في الكفاية بقوله : وأصالة عدم النقل إنّما كانت معتبرة فيما إذا شك في أصل النقل لا في تأخره ، فتأمل (١). فإنّ الشك فيما نحن فيه وإن كان في تأخّر النقل ، إلاّ أنّه لمّا كان مشكوك

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢.

١٢٥

الوجود قبل الاستعمال ، كان الشك من هذه الجهة بالنسبة إلى تلك القطعة من الزمان شكا في حدوث النقل فتجري فيه أصالة العدم ، وهي بضميمة الاستعمال كافية في الحكم بإرادة المعنى الأصلي.

وأمّا ما أفاده بقوله : ولم يثبت بناء من العقلاء على التأخر مع الشك فكأنّه تكملة لقوله : لا دليل على اعتبارها تعبدا إلاّ على القول بالأصل المثبت ، فإنّ أصالة تأخّر الاستعمال إلى ما بعد النقل لا بد من إرجاعها إلى أصالة عدم الاستعمال قبل النقل ، وحينئذ لا يترتب عليها الأثر المطلوب وهو الحكم بأنّ المراد هو المعاني الجديدة إلاّ بلازمه وهو تأخّر ذلك الاستعمال عن النقل ، وليس التأخّر بنفسه من الاصول العقلائية كي يدفع به إشكال المثبتية ، إذ لم يثبت بناء من العقلاء على التأخر مع الشك ، وإنّما جل ما عندهم هو أصالة العدم ، وقد عرفت أنّها في طرف الاستعمال قبل النقل مثبتة ، ومقتضى ذلك أنّ الجاري هو أصالة العدم في طرف النقل فيقال : إنّ الأصل عدمه إلى ما بعد الاستعمال ، وهذا الأصل لا غبار عليه ، وقد عرفت أنّه يترتب عليه الحكم بأنّ المتكلّم أراد المعاني القديمة ، إلاّ أنّه قدس‌سره أشكل عليه بقوله : وأصالة عدم النقل ، إلخ. وقد عرفت اندفاع هذا الاشكال ، ولعلّه إليه أشار بقوله : فتأمل ، أو لعلّه إشارة إلى عدم جريان الاصول ولو العدمية في موارد العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما ، لعدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، نظير الاستصحاب في موت المتوارثين ، ونظيره في تعاقب الحالتين من الطهارة والحدث أو الطهارة والخبث كما شرحه في مباحث الاستصحاب في موارد الشك في التقدم والتأخر (١) ، ولعلّ هذا هو الأولى في تفسير وجه التأمل في كلامه قدس‌سره

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤١٩ ـ ٤٢٢ / التنبيه الحادي عشر.

١٢٦

فتأمل. هذا كلّه فيما لو جهل التاريخان.

ومنه يظهر الحال فيما لو كان تاريخ الاستعمال معلوما وكان تاريخ [ النقل ](١) مجهولا ، فإنّ الجاري فيه هو أصالة عدم النقل إلى حين الاستعمال ، أما عكسه بأن فرض العلم بتاريخ النقل والشك في تاريخ الاستعمال ، فلا يجري فيه أصالة عدم النقل للعلم بتاريخه ، كما لا يجري فيه أصالة عدم الاستعمال إلى حين النقل لكونه مثبتا ، وحينئذ يكون المتعين فيه هي الاصول العملية ، ومقتضى ذلك هو الاحتياط ، لتردد الواجب بين المتباينين ، أو تكون الشبهة من قبيل الأقل والأكثر لو كان المعنى الأصلي جزءا من المعنى الجديد ، فلاحظ وتأمّل.

__________________

(١) [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

١٢٧

[ الصحيح والأعم ]

قوله : وأمّا على الثاني فإنّه يقع الكلام في أنّ المعاني الشرعية التي استعمل فيها الألفاظ مجازا ، ولوحظ العلاقة بينها وبين المعاني اللغوية ، هل هي المعاني الصحيحة أو الأعم منها ... إلخ (١).

يمكن أن يكون هذا التوجيه موافقا لما أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره بقوله : وغاية ما يمكن أن يقال في تصويره : إنّ النزاع وقع على هذا في أنّ الأصل في هذه الألفاظ المستعملة مجازا في كلام الشارع ، هو استعمالها في خصوص الصحيحة أو الأعم ، بمعنى أنّ أيّهما قد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية ابتداء وقد استعمل في الآخر بتبعه ومناسبته ، كي ينزّل عليه كلامه مع القرينة الصارفة عن المعاني اللغوية ، وعدم قرينة اخرى معيّنة للآخر ، إلخ (٢).

وربما يتوهم من قول صاحب الكفاية : بتبعه ومناسبته ، أنّه يلزم عليه سبك مجاز عن مجاز ، فإنّ لفظ الصلاة مثلا إذا كانت موضوعة في اللغة للدعاء ، ثم استعملها الشارع في خصوص الصحيح مثلا لمناسبته لذلك المعنى اللغوي ، كان الصحيح مجازا عن المعنى اللغوي حينئذ ، فإذا استعملها في الفاسد أو الأعم لأجل مناسبته للصحيح كان استعمالها فيه مجازا عن مجاز.

ويندفع هذا التوهم بأنّ سبك المجاز عن المجاز إنّما هو فيما إذا كان

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٥٠.

(٢) كفاية الاصول : ٢٣.

١٢٨

المعنى الأخير غير مناسب للمعنى الحقيقي وكان مناسبا للمعنى المجازي فقط ، فحينئذ نحتاج إلى جعله مجازا عن المجاز ، وأمّا إذا كان المعنى الأخير مع كونه مناسبا للمعنى المجازي مناسبا أيضا للمعنى الحقيقي فلا حاجة إلى جعله مجازا عن المجاز بل نجعله مجازا عن المعنى الحقيقي ، غاية الأمر أنّه يكون مجازا ثانيا لا ينتقل إليه إلاّ مع القرينة على عدم إرادة المعنى الحقيقي والمعنى المجازي الأول ، وقد أشار في الكفاية إلى ذلك بقوله : بمعنى أنّ أيهما قد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية ابتداء ، إلخ ، فإنّ الظاهر منه أنّ العلاقة موجودة بين المعاني اللغوية وبين كلا المعنيين لكنّها قد اعتبرت في أحدهما أوّلا.

إن قلت : إذا كان المعنى المجازي الأخير مناسبا للمعنى اللغوي وهو مجاز عنه كالمجاز الأوّل ، فلم يكون الانتقال بمجرّد وجود القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي إلى المجاز الأوّل ، ولا ينتقل إلى الثاني إلاّ مع وجود قرينة تدلّ على إرادته.

قلت : إنما يكون ذلك لكون المجاز الثاني تابعا للأوّل وإن كانت مجازيته عن المعنى الحقيقي. وبالجملة : أن كون المجاز الثاني تابعا للأول ومتفرعا عليه أوجب ذلك الانتقال ، وكون مجازيته عن المعنى الحقيقي يوجب عدم كونه من سبك المجاز عن مجاز ، ولا تنافي بين المطلبين.

ولكن لا يخفى أنّه إذا كان المجاز الثاني كالمجاز الأوّل مناسبا للمعنى الحقيقي ، فلا وجه لجعل أحدهما أوّلا والآخر ثانيا ، وإلى ذلك أشار في الكفاية بقوله : وأنت خبير ... إلخ (١) ، مع أنّ مجرّد كون أحدهما أوّلا

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٣.

١٢٩

والآخر ثانيا لا يوجب الانتقال إلى الأوّل بمجرد وجود القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي ، وإلى ذلك أشار في الكفاية بقوله : وأنّ بناء الشارع ، إلخ (١).

اللهم إلاّ أن يقال : إنّ الصحيح لمّا كان هو المطلوب والمراد ، ففي مقام الاستعمال يكون هو المعتبر أوّلا ، فبعد العلم بعدم إرادة المعنى الحقيقي يحكم بكونه هو المراد ما لم يكن قرينة على خلافه. ولكن هذا إنّما يتمّ على القول بالصحيح فانّه هو مطلوب الشارع دون القول بالأعم.

ويمكن أن يدّعى أنّ المنشأ في كون أحد المجازين مجازا أوّلا والآخر ثانيا هو كون الأوّل أقرب إلى المعنى الحقيقي ، فالنزاع في الحقيقة يكون في أنّ أيّهما هو الأقرب إلى المعنى الحقيقي والأنسب به كي ينتقل إليه بمجرد وجود القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي. ولكن لا يخفى أنّ كلا من القائل بالصحيح والقائل بالأعم لا يمكنه إثبات القرب فيما يدعيه.

هذا حاصل ما يرد على التوجيه المذكور في الكفاية ، وهو الذي اختاره في تقريرات الشيخ قدس‌سره (٢) وأجاب عما يلزم ذلك من سبك المجاز عن المجاز ، بأنه ليس من هذا القبيل ، بل غاية ما في ذلك أن المعنى المجازي الأول هل هو خصوص الصحيح ثم توسّع في تعميمه أو هو الأعم ثم توسع في تخصيصه ، كذا نقل عنه بعض أساتذتنا على ما في تقريراتي عنه.

ولكن لا يخفى أن هذا الجواب لا يدفع الاشكال المزبور ، حيث إنّ المجاز هو عين التوسع ، فاذا فرض أنّه وقع التوسع في المجاز فقد فرض

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٣.

(٢) مطارح الأنظار ١ : ٣٣.

١٣٠

التجوز في المجاز وهو عبارة اخرى عن سبك المجاز عن المجاز. فالأولى في الجواب هو ما ذكرناه ، ولكن قد عرفت ما يتوجه عليه.

ثم لا يخفى أنه قد ذكر في التقريرات المذكورة على ما نقله بعض أساتذتنا وجها آخر ، ولعلّ ما أفاده شيخنا قدس‌سره هنا راجع إليه بقرينة ما افيد بقوله : وبعبارة اخرى ، وحاصل هذا الوجه هو جعل النزاع فيما شاع في لسان الشارع واشتهر التجوز عنه بهذه الألفاظ في لسان المتشرعة حتى صارت تفيده بلا قرينة ، هل هو خصوص الصحيح أو الاعم ، وعليه فيمكن تنزيل العنوان عليه بأن يكون المراد من قولهم هل هذه الألفاظ موضوعة في لسان المتشرعة للصحيح أو الأعم ، وبذلك يستكشف ما يكون مشهورا في لسان الشارع ، حيث إنّ هذا الوضع عند المتشرعة ناش عن تلك الشهرة. كذا أفاده بعض اساتذتنا.

قلت : لكن يكون حينئذ هذا العنوان غير ملائم للقول بثبوت الحقيقة الشرعية كما لا يخفى ، اللهم إلاّ أن يقال إنّهم أيضا يستكشفون الموضوع له في لسان الشارع بالموضوع له في لسان المتشرعة ، حيث إنّ هذه الحقيقة مناشئها ذلك الوضع الشرعي أو ذلك التجوز الشرعي.

ثم إنّه ربما اشكل على هذا التوجيه بمنع الملازمة ، إذ لا ملازمة بين كون المعنى موضوعا له في لسان المتشرعة وبين كونه هو المشهور في لسان الشارع ، لجواز حدوث الشهرة بعد الشارع إن لم تكن الشهرة في لسانه على خلاف الوضع عند المتشرعة.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ هذه الحقيقة المتشرعية الناشئة عن كثرة المجاز المتشرعي الناشئ عن المجاز الشرعي الواقع في لسان الشارع لا بد أن تكون مطابقة لذلك المجاز الشرعي الواقع في لسانه ، وحينئذ ينحل

١٣١

النزاع إلى أنّ المعنى الحقيقي المتشرعي هل خصوص الصحيح أو هو الأعم.

ثم إنّ هذه الطريقة إنّما تأتي لو كان استعمال الشارع ، أما لو كان من باب الاطلاق والتقييد فلا يمكن تأتّي الطريقة المذكورة ، لأن التقييد تصرف في متعلق الأمر ، فلا تكون الحقيقة المتشرعية إلاّ كاشفة عن متعلق الأمر وهو لا يتّصف بالفساد.

ثم إنّ بعض (١) من كتب على الكفاية قد زعم عدم الاحتياج إلى هذه التوجيهات ، لامكان كون الاتصاف بالصحيح والفاسد من توابع المعنى اللغوي ، ولم يكن المعنى الجديد زائدا على المعنى اللغوي إلاّ بأجزاء وشرائط.

قلت : هذا موقوف على اتصاف المعنى اللغوي بالصحة والفساد ، والظاهر عدمه ، فانّ الدعاء المطلق لا يتصف بكونه تاما وناقصا. على أنّ اتصاف الدعاء بذلك لا يستلزم أن تكون الصحة والفساد في المعنى الشرعي هي نفس ما في اللغوي ، لجواز أن يكون الشرعي صحيحا وفاسدا من جهة اخرى هي غير جهة تمامية الدعاء وعدم تماميته ، بل من جهة تمامية بقية الأجزاء وعدم تماميتها ، فان ما يكون فاسدا عند الشارع لا يلزمه أن يكون فاسدا لغة ، وكلامنا إنّما هو في الصحة والفساد عند الشارع. والحاصل أن الفساد الشرعي قد يكون من جهة فساد ما اشتمل عليه من الدعاء الذي هو المدار في اللغوي ، وقد يكون لأجل فساد بقية الأجزاء الأخر ، وكذلك الصحة ، فصحة الدعاء وفساده على تقدير تسليم اتصافه

__________________

(١) [ لم نعثر عليه ].

١٣٢

بهما لا يغنيان عن الصحة والفساد الشرعيين ، فتأمل ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ ثمرة النزاع في مسألة الحقيقة الشرعية تختلف عنها في مسألة الصحيح والأعم ، فانّ ثمرة النزاع في الحقيقة الشرعية تتوقّف على تشخيص المجاز والحقيقة ليحمل اللفظ عند التجرد عن القرائن على المعنى الحقيقي ، وحينئذ فهل المعنى الحقيقي هو المعنى الأصلي أو هو المعنى الجديد. أما ثمرة النزاع في مسألة الصحيح والأعم فليست هي الحمل على المعنى الحقيقي عند التجرد عن القرائن ليتوقف على تشخيص المجاز والحقيقة ، بل هي إجمال الخطاب على القول بالصحيح وعدم إجماله على القول بالأعم ، حتى لو قلنا بالحقيقة الشرعية ، فانه لو قلنا بأن الموضوع له هو خصوص الصحيح لم نحتج في ترتيب ثمرة الصحيح عليه على كونه مجازا في الأعم ، وكذلك العكس ، لما هو واضح من أنّ هذه الثمرة لا تتوقف على أن يكون في البين معنى حقيقي وآخر مجازي ، بل أقصى ما في البين هو أن يقال إنّ المراد الاستعمالي سواء كان حقيقيا أو كان مجازيا ، إن كان هو خصوص الصحيح كان الخطاب مجملا ، وإن كان هو الأعم لم يكن الخطاب مجملا ، وصحّ التمسك به لو تمت شرائطه من كونه واردا في مقام البيان إلى آخر مقدمات الحكمة ، سواء كان ذلك الاستعمال حقيقيا أو كان مجازيا ، وكأنّ شيخنا قدس‌سره في عبارته الاولى ناظر إلى هذه الجهة ، أما عبارته الثانية اعني قوله : وبعبارة اخرى ... إلخ (١) فلعلّ النظر فيها إلى جهة اخرى وهي أنه :

ربما يقال : إنّا لا طريق لنا إلى تحصيل المراد الاستعمالي في كلام

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٥١.

١٣٣

الشارع ، وحينئذ فعلينا استكشاف مراده الاستعمالي من الحقيقة المتشرعية لكونها تابعة لما هو المراد الاستعمالي في كلام الشارع ، وحينئذ فعلينا أن ننظر في أنّ هذه الحقيقة المتشرعية هل هي خصوص الصحيح أو هي الأعم ، وإذا أثبتنا أحد هذين الوجهين استكشفنا أنه هو المراد الاستعمالي في كلام الشارع ، فان كان هو الأول كان الكلام الشرعي مجملا ، وان كان هو الثاني أمكننا التمسك باطلاقه ، ومن الواضح أنّ ذلك كله لا يتوقف على وجود مجاز للقول بالصحيح وللقول بالأعم.

لكن صاحب الكفاية قد أخذ ذلك ، أعني وجود المجاز لكل من القولين على عاتقه ، فالتزم بما التزم به ممّا لا يخرج عن سبك المجاز عن مجاز ، بناء على عدم ثبوت الحقيقة الشرعية ، وذلك قوله : إن النزاع وقع على هذا ( يعني القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية وأن الشارع لم يستعملها في المعاني الجديدة إلاّ مجازا ) في أنّ الأصل في هذه الألفاظ المستعملة مجازا في كلام الشارع ، هو استعمالها في خصوص الصحيحة أو الأعم ، بمعنى أنّ أيهما قد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية ابتداء وقد استعمل في الآخر بتبعه ومناسبته ، كي ينزّل كلامه عليه مع القرينة الصارفة عن المعاني اللغوية ، وعدم قرينة اخرى معيّنة للآخر ... إلخ (١).

وقد عرفت ما في ذلك من لزوم سبك مجاز عن مجاز أو لزوم الابتدائية والأولية لأحدهما بلا موجب ، وقد عرفت أنّ صدر عبارته وهي قوله : « أيهما اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية ابتداء » يلائم كون المقام من باب أقرب المجازات ، وذيلها وهو قوله « بتبعه » يلائم سبك مجاز

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٣.

١٣٤

عن مجاز.

والخلاصة : هي أنّا لو قلنا بثبوت الحقيقة الشرعية ، وقلنا بأن الموضوع له هو خصوص الصحيح مثلا ، لا يلزمنا القول بأنه مجاز في الأعم كي نحتاج في طرد احتمال إرادته إلى أصالة الحقيقة أو أصالة عدم القرينة ، ثم بعد إثبات أن المراد هو الصحيح نقول إنه يكون الدليل مجملا لا يمكن التمسك باطلاقه على نفي ما شك في مدخليته ، وهكذا الحال لو قلنا بأن الحقيقة الشرعية هي الأعم ، لا يلزمنا القول بأنّه مجاز في خصوص الصحيح كي نحتاج في طرد احتمال إرادته الصحيح إلى أصالة الحقيقة أو أصالة عدم القرينة ، ثم بعد إثبات أن المراد هو المعنى الحقيقي أعني الأعم ، نقول إن الدليل يكون قابلا للتمسك باطلاقه على نفي ما شك في مدخليته.

اللهم إلاّ أن يقال : إنا بعد فرض قولنا بأحد الأمرين ، نعلم بأن الشارع قد استعملها مجازا في مقابله ، ويكون الحاصل هو أن الشارع قد استعملها في كل من الصحيح والأعم ، غايته أنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر ، وحينئذ نقول إنها لو وردت مجردة عن القرينة لا بد لنا من طرد احتمال الطرف المقابل إلى أصالة الحقيقة أو أصالة عدم القرينة ، ثم بعد ثبوت أن المراد هو المعنى الحقيقي نقول إنه مجمل إذا كنا قائلين بالوضع لخصوص الصحيح ، وأنه يمكن التمسك باطلاقه إذا كنا قائلين بالوضع للأعم ، هذا لو قلنا بثبوت الحقيقة الشرعية.

ومنه يظهر لك الحال فيما لو قلنا بعدم الثبوت ، وأنّ الشارع استعملها في ذات الأركان مجازا ، كان الأمر فيه كما ذكرناه على القول بثبوت الحقيقة الشرعية ، وذلك أن نقول : إنه قد ثبت أنّ الشارع قد استعملها مع القرينة في خصوص الصحيح تارة وفي الأعم اخرى ، ثم ورد منه استعمال لها في ذات

١٣٥

الأركان مجردة عن قرينة كونه صحيحا أو كونه هو الأعم ، فحينئذ لو كنا قائلين بخصوص الصحيح يلزمنا أوّلا إثبات أنه مجاز أول يحكم بارادته بمجرد القرينة الصارفة ، وهذه الطريقة أعني كونه مجازا أول بمنزلة أصالة الحقيقة تثبت لنا أنّ مراده المجازي هو خصوص الصحيح ، فنرتب عليه أثره وهو إجمال الخطاب. ولو كنا قائلين بالأعم لزمنا أيضا أوّلا إثبات أنه مجاز أول يحكم بارادته بمجرد القرينة الصارفة ، ثم بعد إثبات ذلك نرتّب عليه أثره وهو إمكان التمسك باطلاق الخطاب على نفي ما شك في مدخليته ، ولعلّ هذا التفصيل هو مراد صاحب الكفاية. لكن إثبات كون ما يدعيه هو مجاز أول من دون سبك مجاز عن مجاز في غاية الصعوبة ، ولعله لأجل ذلك عدل شيخنا قدس‌سره عن العبارة الاولى إلى العبارة الثانية أعني قوله : « وبعبارة اخرى » فنحن ننتقل من هذه الحقيقة المتشرعية إلى أنها هي ما استعمله الشارع فيه ، ولا يخفى أنّ لازم ذلك هو أنّ الشارع لم يستعملها إلاّ في هذه الحقيقة المتشرعية ، وإلاّ فمع العلم بأنّه استعملها في الموردين لا مجال للاستكشاف المذكور.

والخلاصة : هي أنه مع العلم بأن الشارع استعملها في الموردين لا تتم طريقة الكفاية ، لتوقفها على دعوى المجاز الأول ، كما لا تتم الطريقة الثانية التي أفادها شيخنا قدس‌سره بقوله : « وبعبارة اخرى ». نعم لو يكن لدينا إلاّ أنّ الشارع قد استعملها في ذات الأركان مجازا ، ولم يعلم أنه أراد الصحيح منها أو أراد الأعم ، كانت هذه الحقيقة المتشرعية كاشفة عن ذلك المستعمل فيه ، إمّا هو خصوص الصحيح أو هو الأعم ، وتمّت الطريقة الثانية لشيخنا قدس‌سره ولا مورد فيه لطريقة الكفاية.

نعم ، مع قطع النظر عن طريقة شيخنا قدس‌سره نقول : إنّ كلا ممّن يدّعي

١٣٦

الصحيح ومن يدّعي الأعم يحتاج في إثبات دعواه إلى إقامة الدليل عليها ، وهذا أمر آخر لا دخل له بامكان تأتّي النزاع. ولنضرب لذلك مثالا خارجيا ، وهو أن نقول قد علمنا أن الشارع قد استعمل هذه الألفاظ مائة مرة في خصوص الصحيح من هذه الماهيات ، كما أنا نعلم أنه استعملها مائة مرة اخرى في الأعم ، ثم عثرنا على استعمال واحد لم نعلم أنه أراد به خصوص الصحيح أو أراد به الأعم ، فهذه الصورة لا تاتي فيها طريقة شيخنا قدس‌سره أعني استكشاف المراد من ذلك الاستعمال الواحد من الحقيقة المتشرعية. نعم تأتي فيها طريقة الكفاية من دعوى الأولية ، لكنك قد عرفت منعها في المقام ، سواء كان المنشأ فيها هو الأقربية إلى المعاني الأصلية ، أو كان المنشأ فيها هو سبك مجاز عن مجاز ، أما إذا لم يكن لنا علم بحال تلك الاستعمالات أعني المائتين والواحد ، ولم نعلم إلاّ أنّه أراد بها المعاني الجديدة مجازا ، ولم نعلم أنها كلا للصحيح أو كلا للأعم أو هي مبعّضة ، كانت طريقة شيخنا قدس‌سره جارية فيها ، بل لعلّه يمكن إجراء طريقة الكفاية فيها ، بدعوى أن المتعيّن مثلا هو كون المراد في جميع تلك الاستعمالات هو الأعم ، أو كون المراد بها هو الصحيح ، بدعوى كون ذلك هو المجاز الأول ، لكنك قد عرفت المنع من هذه الأولية.

ولا يخفى أنّه لو تمت طريقة صاحب الكفاية في إجراء النزاع بين الصحيح والأعم على تقدير عدم ثبوت الحقيقة الشرعية ، يكون جريان هذا النزاع على تقدير عدم الثبوت أوضح منه على تقدير الثبوت ، إذ على تقدير عدم الثبوت يكون مدرك القول بالصحيح ومدرك القول بالأعم هو دعوى أولية المجاز ، وهي لو صحت يكون الأمر فيها سهلا ، بخلاف ما لو قلنا بثبوت الحقيقة الشرعية فانه يصعب إثبات القول بأنّه خصوص

١٣٧

[ الصحيح ](١) أو أنّه هو الأعم ، إذ لا مدرك للقولين حينئذ إلاّ دعوى التبادر وصحة السلب ، وهما في غاية الصعوبة كما سيأتي ان شاء الله تعالى (٢) في ذكر أدلة الطرفين.

نعم ، ربما يسهل الأمر على طريقة شيخنا قدس‌سره (٣) وهو استكشاف حال الحقيقة الشرعية بحال الحقيقة المتشرعية ، إلاّ إذا كانت الحال في الحقيقة المتشرعية موقع شك من حيث الصحيح والأعم ، فنحتاج حينئذ إلى دعوى التبادر في نفس الحقيقة المتشرعية. هذا كله على طريقة التجوّز أو على ثبوت الحقيقة الشرعية.

أما على طريقة الاطلاق والتقييد ( وهي المنسوبة إلى الباقلاني ) (٤) فالظاهر أنّ طريقة الكفاية غير نافعة فيها ، ولأجل ذلك صوّر تأتّي النزاع على هذا القول بصورة اخرى. والظاهر عدم تأتيها على طريقة شيخنا قدس‌سره فإنّا لو رجعنا إلى حقيقتنا المتشرعية ووجدنا لفظ الصلاة في عرفنا حقيقة في الصحيح من ذات الأركان ، وإن أمكننا استكشاف أن الشارع استعملها في الدعاء وقيّده بجميع الأجزاء والشرائط ، إلاّ أنّه لا يبقى لنا شيء نشك في قيديته كي نقول إنه بناء على الصحيح لا يكون لفظ الشارع مطلقا وحاكما بنفيه. ثم إنّا لو وجدنا لفظ الصلاة في عرفنا حقيقة في الأعم ، لم يمكننا أن نستكشف أن الشارع استعملها في الدعاء وقيّده ببعض القيود دون بعض.

__________________

(١) [ لا يوجد هذا في الأصل ، وإنّما أضفناه للمناسبة ].

(٢) [ لم يذكر قدس‌سره أدلة الطرفين ، نعم اشير إلى بعضها إجمالا في أجود التقريرات ١ : ١٦٥ ].

(٣) لاحظ ما تقدم في صفحة : ١٣١.

(٤) التقريب والإرشاد ١ : ٣٩٥.

١٣٨

وعلى أيّ حال ، أن نفس هذا القول وهو أن الشارع لم يستعملها إلاّ في الدعاء وقيّده بقيود وأجزاء ، هو موافق للقول بالأعم في النتيجة ، وهي صحة التمسك باطلاق كلام الشارع عند الشك في اعتبار قيد أو جزء ، فلا معنى للقول بأنه بناء عليه يمكن تأتّي النزاع في الصحيح والأعم ، وتوجيهه بامكان النزاع في القرينة المضبوطة التي لا يمكن رفع اليد عنها إلاّ بقرينة اخرى ، وأنّ مفاد تلك القرينة هو الصحيح الجامع أو أنّ مفادها هو الأعم كما في الكفاية ، ممّا لم يتضح وجهه ، فانّ القرينة المضبوطة هي القرينة العامة مثل وقوع الأمر عقيب الحظر ، ومن الواضح أن ذلك إنما يتأتّى في المجازات دون ما نحن فيه ممّا يكون اللفظ مستعملا في أصل معناه وقد قيّد بقيود وقد شك في اعتبار قيد آخر ، إذ لا يتصور حينئذ صحيح وأعم ، بل كل دليل اشتمل على تقييد ينبغي لنا الأخذ به وننفي الزائد بالبراءة ، وحينئذ يكون الصحيح هو الواجد لذلك القيد الذي دلّ الدليل على التقييد به ، ثم لو جاء دليل آخر بقيد آخر فوق ذلك القيد ، ضممناه إليه وكان الصحيح هو الواجد لهما. وهكذا في كل دليل يثبت لنا قيدا من القيود ، وحينئذ فهذا القول إن شئت فسمّه قولا بالصحيح لهذه الجهة التي ذكرناها ، وإن شئت فسمّه قولا بالأعم نظرا إلى إمكان التمسّك بالاطلاق في نفي قيدية المشكوك ، هذا.

ولكن الأولى في توجيه النزاع هو ما أفاده الشيخ قدس‌سره في أول تحرير المسألة (١) وتبعه عليه شيخنا قدس‌سره (٢) في صدر عبارته وحاصل ذلك : هو أن الشارع قد استعمل هذه الألفاظ في هذه الماهيات ، سواء كان بنحو الحقيقة

__________________

(١) مطارح الأنظار ١ : ٣٢.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٥٠.

١٣٩

أو كان بنحو التجوّز عن المعاني الأصلية ، فهل المراد من ذلك الذي استعملها الشارع فيه هو خصوص الصحيح أو هو الأعم. وأما كونه مجازا أول كما هي طريقة الكفاية ، أو كونه مستكشفا من الحقيقة المتشرعية كما هي طريقة شيخنا قدس‌سره فلا دخل له في أصل النزاع ، وإنما هو تصحيح لدعوى من يدعي الصحيح ودعوى من يدعي الأعم ، ولا دخل لها في تصوير النزاع ، وإنّما تصلح لبيان الوجه في كل من القولين ، وليس المقام مقام الاستدلال للقولين ، بل المقام هو مقام بيان نفس القولين ، وعلى كل حال أنّ هذين الوجهين موجودان في التقريرات (١) عن الشيخ مضافين إلى الوجه الأول ، فراجع.

قوله في الكفاية : منها أنه لا شبهة في تأتّي الخلاف على القول بثبوت الحقيقة الشرعية ، وفي جريانه على القول بالعدم إشكال ... إلخ (٢).

لا يخفى أن القول بالثبوت لم يكن بنحو الايجاب الكلي ، وإنما هو بنحو الايجاب الجزئي ، فحق العبارة أن يقال : لا شبهة في تأتّي الخلاف فيما ثبت كونه من الحقيقة الشرعية ، وأما على القول بعدم الثبوت على نحو السلب الكلي فقد عرفت أن القول بذلك يكون على وجوه ، الأول : دعوى كون هذه الألفاظ حقائق في هذه المعاني قبل شريعتنا المقدسة. الثاني : دعوى كون استعمال الشارع لها مجازا. الثالث : دعوى أنّ الشارع المقدس لم يستعملها إلاّ في المعنى اللغوي أعني الدعاء لكن بزيادة قيود وأجزاء.

ولا يخفى أنه على الأول من هذه الوجوه يجري النزاع في الصحيح

__________________

(١) مطارح الأنظار ١ : ٣٢ ـ ٣٤.

(٢) كفاية الاصول : ٢٣.

١٤٠