أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٩

التي تقع محكية باللفظ الاسمي الحاكي عنها الموجب لاخطارها في الذهن ، دون المعاني الخلقية التي تنوجد بآلة إيجادها ، سواء كانت هي النسب بين المفهومين الاسميين ، أو كانت من الامور الاعتبارية التي تنوجد في صقعها بآلة إيجادها ، ولا ينتقض ذلك بمادة البيع في بعت الانشائية ، لما عرفت من أن هيئة بعت ليست لايجاد البيع ، بل هي لايجاد النسبة بين مفهوم البيع والمتكلم لا بداعي المماثلة للنسبة الواقعية ، بل بداعي انوجاد تلك النسبة الواقعية ، وعن ذلك ينتزع وجود البيع في صقعه الانشائي ، وذلك لا يخرج مادة البيع التي هي تحت لفظ البيع في بعت عن قابلية التقييد ، وهذا بخلاف الترجي المنوجد بلفظة « لعل » إذ لا يكون في البين إلا إيجاده ابتداء بآلته التي هي « لعل » وهو في تلك المرحلة لا يكون طرفا للنسبة ، وسيأتي إن شاء الله في مبحث الواجب المشروط (١) توضيح ذلك بما هو أوسع من ذلك إن شاء الله تعالى.

قوله : ثم إن استعمال اللفظ في نوعه أو صنفه أو مثله من هذا القبيل أيضا ، بمعنى أنّ حسنه بالطبع والوجدان ـ إلى قوله : ـ غاية الأمر أنّ مصحّح الفناء في الاستعمال الحقيقي جعل الواضع ، وفي الاستعمال المجازي شدّة مناسبة المعنى المجازي مع الحقيقي ، وفيما نحن فيه كون اللفظ الملقى بنفسه متّحدا مع المفنيّ فيه خارجا ، والارتباط بينهما أشدّ من الارتباط الجعلي ... إلخ (٢).

قد يقال : إنّه إذا كانت المناسبة ذاتية ، وأنّ الدلالة إنّما نشأت من تلك

__________________

(١) راجع حواشي المصنّف قدس‌سره الآتية في الصفحة : ٢٦ وما بعدها من المجلّد الثاني من هذا الكتاب.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٤٤ ـ ٤٥ [ المنقول هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].

١٠١

المناسبة ، لم يعقل أن يقصد باللفظ النوع تارة والمثل اخرى ، لأنّ المناسبة إذا كانت بين اللفظ ونوعه فكيف يدلّ على مثله ، وإن كانت بينه وبين مثله فكيف يدلّ على نوعه ، وإذا كان اللفظ مناسبا لهما معا ، فمع أنّه غير معقول يلزمه أن يكون دالا عليهما معا في استعمال واحد.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ المناسبة إنّما هي بين اللفظ وبين النوع لكن يكون إرادة خصوص صنف خاص أو خصوص مثال ولفظ خاص إنّما هي بالقرينة.

ثم لا يخفى أنّ ما اريد به نوعه أو صنفه لا بد فيه أن يكون ذلك اللفظ الملقى من أفراد ذلك النوع أو ذلك الصنف ، وذلك وإن كان ممكنا في النوع كما إذا كان المحمول شاملا لذلك اللفظ الملقى مثل قولك : ضرب ثلاثي ، دون مثل قولك : ضرب فعل ماض ، أمّا الصنف فانه لا يمكن فيه ذلك ، إذ لا بد في كونه صنفا من كونه محدودا بحد مثل قولك : زيد بعد ضرب فاعل ، ومن الواضح أنّ ذلك لا ينطبق على اللفظ الملقى ؛ لأنّ ذلك اللفظ الملقى ليس بفاعل ، وحينئذ فلا بد أن يكون المراد من القسم الثاني هو إطلاق لفظ مثل زيد وإرادة صنف خاص وهو خصوص ما وقع بعد ضرب ، فلا يكون من قبيل استعمال اللفظ الملقى في صنفه الشامل له ، بل من باب إعماله في صنف خاص لا يشمله ، ومن الواضح أنّ ذلك يتعيّن فيه كونه من باب الاستعمال لا من باب الالقاء كما صنعه في الكفاية بقوله : فإنّه فرده ومصداقه حقيقة ، لا لفظه وذاك معناه ، إلخ (١) إذ بعد فرض عدم كون هذا الملقى فردا من ذلك الصنف ، كيف يكون هذا فرده ومصداقه. نعم

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥.

١٠٢

يمكن ذلك في النوع ، لكن في خصوص ما كان الحكم فيه شاملا للفظ الملقى مثل قولك : ضرب ثلاثي ، دون ما إذا لم يكن شاملا مثل قولك : ضرب فعل ماض حيث إنّ ذلك اللفظ الملقى حينئذ لا يكون فعلا ماضيا ، فمثل هذا لا يكون من باب الإلقاء ، بل لا بدّ أن يكون من باب الاستعمال.

وبالجملة : أن حال الصنف وحال النوع الذي لا يكون الحكم فيه شاملا للفظ الملقى حال المثل في عدم كونه من باب الإلقاء وتعيّن كونه من باب الاستعمال ، فإنّ ملاك كونه من باب الإلقاء هو كون ذلك اللفظ الملقى فردا ومصداقا من ذلك النوع أو الصنف ، فمع عدم كونه فردا منه لا يعقل أن يكون إلقاؤه إلقاء لذلك النوع أو الصنف. نعم في النوع الذي يكون اللفظ الملقى فردا منه مثل قولك : ضرب ثلاثي ، مع قطع النظر عن الإشكال الذي ذكره شيخنا قدس‌سره في استعمال اللفظ وإرادة شخصه ، يمكن أن يكون من باب إلقاء الفرد والحكم على النوع الموجود فيه ، فيكون حينئذ من باب الإلقاء لا من باب الاستعمال ، لكن إشكال شيخنا قدس‌سره على إرادة شخص اللفظ جار فيه ، فيكون امتناع كونه من باب الإلقاء من جهة ذلك الإشكال لا من جهة عدم كونه فردا للنوع.

ولا يخفى أنّ هذا الذي ذكرناه في الصنف ، وأنّه لا يعقل فيه كونه شاملا للفظ الملقى إنّما هو بالنظر إلى غالب الأمثلة وإن أمكن كونه شاملا له في بعضها ، كما إذا قيل : زيد المبتدا مرفوع ، أو قيل : إن ضرب المقصود بها لفظها لا تحتاج إلى فاعل ، فان المراد من الأول والثاني هو صنف خاص من لفظ زيد ولفظ ضرب ، وذلك الصنف شامل للفظ زيد في قولك : زيد المبتدأ مرفوع في المثال الأول ، كما أنه شامل للفظ ضرب في المثال الثاني.

وبالجملة : أنّ الذي يظهر من شيخنا قدس‌سره أنّ إعمال اللفظ في نوعه

١٠٣

وإعماله في صنفه كلّه من باب الاستعمال لا من باب الإلقاء ، وأنّ ذلك النوع أو الصنف يكون نوعا أو صنفا لذلك اللفظ الملقى ، وحينئذ يتوجه عليه أن ذلك إنما يمكن فيما لو كان ذلك النوع أو ذلك الصنف شاملا لذلك اللفظ ، بحيث يكون ذلك اللفظ محكوما بذلك الحكم المذكور في تلك القضية.

ثم إنّ ما كان الحكم فيه شاملا للفظ الملقى مثل قولك : ضرب ثلاثي الذي تعين عند شيخنا كونه من باب الاستعمال ، فيه إشكال حاصله : أنّ ذلك اللفظ الملقى ( المفروض كونه من جملة أفراد النوع المحكي به ، وأنّ الحكم بأنّه ثلاثي شامل لنفس ذلك اللفظ الملقى ) يجتمع فيه اللحاظ الآلي والاستقلالي ، فمن جهة أنّه لفظ حاك عن النوع يكون منظورا إليه بالنظر الآلي ، لكونه حينئذ مرآة لما يحكيه من النوع ، ومن جهة أنّ النوع المحكي به شامل له وأنّه أيضا يكون محكوما عليه بأنّه ثلاثي ، يكون النظر إليه نظرا استقلاليا.

ويمكن الجواب عنه : بمنع كونه منظورا بالنظر الاستقلالي وإن كان الحكم شاملا له وساريا إليه ، لأنّ النظر من هذا اللفظ إلى نوعه الشامل له لا يستلزم النظر إلى أفراده التي هو منها ، وأمّا سراية الحكم إليه فهي من جهة الحكم على طبيعة ذلك النوع الشامل له سراية قهرية أو من جهة تنقيح المناط ، فتأمّل.

فقد تلخّص لك : أن إعمال اللفظ في مثله أو الصنف أو النوع الذي لا يشمله الحكم كلّها من باب الاستعمال ، أمّا إعماله في إرادة شخص نفسه فلا يكون إلاّ من باب الإلقاء لا من باب الاستعمال. وهذا هو الذي منعه شيخنا قدس‌سره وبيّن محاليّته.

١٠٤

ومنه يظهر لك أنّه لا بد من القول بأنّ إعمال اللفظ في نوعه الشامل له ليس من باب الإلقاء ، وأنه لا بد أن نقول بأنّه من باب الاستعمال ، والمنشأ في هذه المحالية التي أفادها قدس‌سره هو ما تقدّمت (١) الإشارة إليه في المعنى الحرفي وأنّ مفادها إيجاد النسبة بين المفهومين ، وقد تقدّم الكلام فيه فراجع وتأمّل.

وحيث قد تبيّن لك صحّة تحقق النسبة بين واقع المنسوب إليه وبين مفهوم المنسوب ، تعرف إمكان كون النوع الشامل والصنف الشامل من باب الإلقاء لا الاستعمال ، بل يمكن أن يقال : إنّ النوع والصنف وإن لم يكونا شاملين بل المثل أيضا كله من باب الإلقاء لا الاستعمال ، فإنّ جميع ذلك لا يكون إلاّ من قبيل تكرار الوجود ، بمعنى أنّ المحكوم عليه بقولك : ضرب لفظ ، أو ضرب فعل ماض ، هو ذلك اللفظ الموجود في جملة ضرب زيد سواء لوحظ نوع ضرب الموجود فرد منها في جملة ضرب زيد أو صنفها أو شخصها ، وليس لفظ ضرب في قولنا : ضرب ثلاثي ، أو ضرب فعل ماض إلاّ عبارة عن تكرار وجود ذلك اللفظ الموجود في قولنا : ضرب زيد ، وهو وإن كان وجودا ثانيا غير الوجود الأوّل ، إلاّ أنّه لمّا كان متّحدا معه من جميع الجهات صار بحسب نظر الذوق والطبع هو هو ، فكأنه بنفسه هو الملقى المحضر أمام السامع لا أنّه لفظ آخر ، ونظير ذلك الوجود الكتبي مثلا لو كتبت قول الشاعر : بانت سعاد إلى آخره ، فتارة ترسم على سعاد في ضمن البيت لفظ فاعل ، فيكون المخبر عنه هو تلك اللفظة المرسومة في ضمن البيت ، واخرى ترسم تحت ذلك البيت هذه الجملة ( سعاد فاعل )

__________________

(١) راجع صفحة : ٤٤ وما بعدها ، وقد تقدم ما يرتبط بالمقام في صفحة : ٦٨ ـ ٦٩.

١٠٥

فسعاد المرسومة ثانيا وإن كانت غير تلك الصورة المرسومة في ضمن البيت ، إلاّ أنّها لمّا كانت متحدة معها من جميع الجهات كانت هي هي ، وكان كتبها ورسمها كتبا ورسما لتلك الكلمة المرسومة في ضمن البيت ، وهذا الاتحاد الاعتباري هو مركز ذلك الاستحسان الطبعي المذكور في هذه المسألة ، وإلاّ فإنّ استعمال اللفظ في لفظ آخر لا وجه له أصلا ، ولا محصل لاستحسان الطبع والذوق في الامور التوقيفية. فتأمّل.

لا يقال : إنّ المقوّم للفعلية إنّما هو قصد دلالة اللفظ على نسبة الحدث إلى الذات ، وفي مثل ضرب فعل ماض لم يقصد ذلك ، لعدم كون الغرض من إلقائه حكاية معناه الفعلي به ، وحينئذ فلا بدّ أن لا يكون ذلك اللفظ فعلا في ذلك الحال ، فكيف صح الإخبار عنه بأنّه فعل ماض ، فلا بدّ من القول بأنّ هذا اللفظ في هذه الجملة حاك عن تلك الألفاظ الواقعة في ألسنة المستعملين التي قصد به فيها نسبة الحدث إلى الذات.

لأنّا نقول : فعليّة الفعل إنّما تتقوّم بنفسه لا بقصد الدلالة به على النسبة المذكورة ، وإنّما المتقوّم بذلك القصد هو الدلالة التصديقية ، وحينئذ فيكون ذلك اللفظ فعلا قصد به الحكاية عن نسبة الحدث إلى الذات أو لم يقصد ، ولذا يصحّ لنا أن نشير إلى لفظة ضرب الموجودة في كلام الساهي أو السكران بقوله ضرب زيد ، ونحكم عليها بأنّها فعل ماض ، مع أنّه لم يقصد منها الدلالة على المعنى الفعلي أعني نسبة الضرب إلى زيد ، وهذه الاجمالات هي مجمل مما حرّرناه على الكفاية في هذا المقام ، فراجعه فإنّ فيه الكفاية إن شاء الله تعالى.

والخلاصة : هي أنّ أمثال هذه القضايا لا بدّ فيها من النظر إلى نفس المحمول المذكور فيها ، وهل هو صالح للانطباق على اللفظ الملقى فيها أو

١٠٦

أنّه غير صالح لذلك ، كما في قولك : زيد فاعل ، تعني به الواقع في ضرب زيد ، أو مضاف إليه وتعني به الواقع بعد غلام في قولك : غلام زيد ، فإن كان المحمول من هذا القبيل امتنع كونه من باب الإلقاء ، وامتنع كونه من باب إرادة الشخص ، بل لا بدّ أن يكون من باب الاستعمال في النوع أو الصنف أو المثل ، فتقول : زيد فاعل وتقصد به نوع ما يقع بعد الفعل ، أو تقصد به صنفا خاصا وهو ما وقع بعد ضرب ، أو تقصد به مثله بأن يقول القائل ضرب زيد وأنت تقول زيد فاعل تعني به لفظة زيد التي وقعت في شخص الجملة التي ألقاها ذلك القائل ، وحينئذ يبقى الكلام في وجه صحّة هذا الاستعمال ، ونحتاج إلى دعوى كون المصحّح له والموجب لاستحسانه هو الطبع.

أمّا لو كان الحكم في القضيّة صالحا لأن يكون لاحقا للفظ الملقى فيها مثل قولك : زيد ثلاثي ، فتارة يقصد به النوع ، بأن يكون المحكوم عليه بأنّه ثلاثي هو هذا اللفظ لكن بما أنّه مصداق للنوع أو بما أنّه مصداق للصنف أو بما أنّه عبارة عن مثله أو أنّه بنفس شخصه ، ويكون الحاصل هو أنّه تارة يقصد به النوع واخرى يقصد به الصنف وثالثة يقصد به المثل ورابعة يقصد به الشخص الملقى ، ويكون الجميع من باب الإلقاء لا الحكاية والاستعمال ، على إشكال في إرادة المثل ، فإنّه لا يمكن فيه أن يكون من باب الإلقاء إلاّ بنحو من تكرار الوجود ، ولكن ربما لا يكون القصد هو الإلقاء ، بل كان القصد هو الحكاية عن النوع أو عن الصنف أو عن المثل ، ولا يتأتى فيه الحكاية عن الشخص ، وحينئذ يكون الحال فيه هو الحال فيما لم يكن الحكم فيه لاحقا للشخص الملقى.

وعلى كلّ حال ، أنّ كون المسألة من باب الإلقاء إنّما يتأتى فيما لو

١٠٧

كان الحكم المحمول صالحا لأن يكون لاحقا للفظ الملقى ، ويتأتى فيه حينئذ قصد النوع وقصد الصنف وقصد الشخص ولا يتأتى فيه قصد المثل.

ثم بعد هذا يقع الإشكال في هذه القضيّة ، وأنّ الهيئة فيها ليست لإيقاع الربط بين اللفظين على حذو قولنا : زيد قائم ، بل يكون الربط بين مفهوم المحمول وواقع الموضوع ، ويكون حاله من هذه الجهة حال قولنا : هذا قائم بناء على ما ذكرناه من تمحض لفظ الإشارة للحرفية ، وأنّ المحكوم بقائم هو الذات الواقعية التي وقعت إليها الإشارة بهذا.

ويمكن المناقشة في تحقق كون أمثال هذه الجمل أعني زيد ثلاثي من قبيل الإلقاء ، بل لا يبعد دعوى كونها من قبيل الاستعمال ، وأنّ ما ادعي فيها من إرادة الشخص الملقى قابل للمنع ، فإنّ الذوق لا يساعد على أنّ مثل قولك : زيد لفظ ، أنّ الحكم بقولك لفظ على خصوص زيد الذي ألقيته في هذه الجملة ، فلاحظ وتدبّر.

ثمّ إنّا يمكننا المناقشة في كون ذلك من قبيل استعمال زيد في لفظ زيد ، ولا يبعد أن يكون الجميع من باب تقدير المضاف ، بأن يكون المراد من قولنا : زيد ثلاثي ، هو أنّ لفظ زيد ثلاثي والإضافة بيانيّة ، إذ لا شكّ في أنّ لفظة زيد لفظ وأنّها صوت من الأصوات ، وهذا معنى ما يقال إنّ دلالة الألفاظ على معانيها وضعيّة لكن دلالتها على أنفسها طبيعية حتى المهملات في مثل قولك : ديز مقلوب زيد ، وهو من باب حذف المضاف ، وأنّ الأصل هو أنّ لفظة ديز هي مقلوب لفظة زيد.

١٠٨

[ الحقيقة الشرعية ]

قوله : الأمر الرابع في الحقيقة الشرعيّة ... إلخ (١).

الكلام في هذا المقام يستدعي تقديم مقدّمات :

الاولى : أنّ الحقيقة الشرعيّة تتوقّف على أمرين : الاختراع والتسمية ، ويتحصّل من ذلك عقلا صور أربع ، الاولى : أن يكون كلّ من الاختراع والتسمية من جانب الشارع. الثانية : أن لا يكون شيء منهما من جانبه بل يكون كلّ من الاختراع والتسمية ممن سبقه. الثالثة : أن يكون الاختراع ممن سبقه وتكون التسمية من جانب الشارع. الرابعة : أن يكون الاختراع من جانب الشارع ولا يحدث منه التسمية ، بل لا يحدث منه إلاّ استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل ، أو استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الجزء نفسه ، ويكون هناك قرينة متصلة على اعتبار ضمّ باقي الأجزاء إلى ذلك الجزء على حذو استعمال اللفظ الموضوع للمطلق في المقيد نظير قوله رقبة مؤمنة.

والصورة الاولى والثالثة أيضا من الحقيقة الشرعية ، والثانية والرابعة خارجتان عن الحقيقة الشرعية. وبالجملة قوام الحقيقة الشرعية بالتسمية من جانب الشارع ، سواء كان هو المخترع كما في الصورة الاولى أو كان الاختراع ممن سبقه كما في الصورة الثالثة. والمراد بكون التسمية من جانب

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٤٨.

١٠٩

الشارع هو أنّ صيرورة هذا اللفظ حقيقة في هذا المعنى من جانبه ، سواء كان ذلك بالوضع التعييني أو كان بالوضع التعيني الناشئ ببركة استعماله اللفظ في المعنى المجازي حتى صار يفيده بلا قرينة. أمّا الصورة الثانية فهي خارجة عن الحقيقة الشرعية كالرابعة ، نعم على تقدير كلّ منهما يكون تصرّف الشارع منحصرا بالحكم إمضاء أو تأسيسا أو ردعا أو نسخا.

المقدّمة الثانية : أنّ التسمية الشرعية أعني مجرد صيرورة اللفظ حقيقة في المعنى الجديد التي بها قوام الحقيقة الشرعية يمكن في عالم الثبوت أن تكون على صور أربع ، الاولى : الوضع الابتدائي بأن يعمد إلى تلك الماهية التي اخترعها هو أو اخترعها من كان قبله ، ويقول جعلت هذه اللفظة أعني لفظة الصلاة مثلا اسما لهذه الماهيّة. الثانية : الوضع الاستعمالي بأن يستعمل فيها لفظة الصلاة على أنّها لها. الثالثة : أن يستعمل فيها اللفظ الموضوع لجزئها الذي هو الدعاء أو الميل والانعطاف مجازا ، فيكثر ذلك في لسانه حتى يكون ذلك موجبا لكونها حقيقة فيها. الرابعة : أن يستعمل اللفظ المذكور في معناه الأصلي أعني الدعاء أو الميل والانعطاف ويضمّ إليه باقي الأجزاء والشرائط بدالّ متصل ليكون على حذو قوله : اعتق رقبة مؤمنة ، ويكثر ذلك حتى يكون موجبا لكونه حقيقة.

والصورتان الأوليتان من سنخ الوضع التعييني ، والأخيرتان من سنخ الوضع التعيني.

أمّا الصورة الاولى : فقد أورد عليها بأنّه لو كان لبان لنا ونقل إلينا.

واجيب عنه : بإمكان صدوره منه صلى‌الله‌عليه‌وآله لكنّه قد اخفي علينا ولم ينقل ذلك لنا.

واعترضه بأنّه لا داعي للإخفاء ، إذ ليس ذلك مثل نصوص الخلافة

١١٠

وما يرجع إليها ممّا توفّرت الدواعي لإخفائه.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ عدم النقل وعدم الوصول إلينا لا ينحصر بدواعي الإخفاء ، بل إنّ الكثير من أفعاله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقواله لم تنقل إلينا لأجل عدم الضبط وعدم العناية كما في وضوئه صلى‌الله‌عليه‌وآله وكيفيّة قراءته في صلاته ، وهل كان يبدأ في الحمد بالتسمية ، إلى غير ذلك ممّا لم يضبطه لنا الصحابة وعرّفنا به أئمّتنا ( صلوات الله عليه وعليهم ) ولكن أصل الوضع بمعنى الإعلان والإخبار بأني وضعت هذا اللفظ لهذا المعنى ممّا يستبعد كما مرّ مشروحا في الوضع وحقيقته ، فراجع.

وأمّا الصورة الثالثة : فقد استبعدها في الكفاية (١) باعتبار عدم العلاقة المصححة للتجوّز ، من جهة أنّ الجزء وهو الدعاء ممّا لا ينتفي الكل بانتفائه ، لكنّه لو كان الجزء هو الدعاء ، أمّا لو كان الجزء هو الميل والانعطاف نحو الرّب مأخوذا من « صليت العود على النار » من لينته وعطفته الذي هو روح الصلاة ، فلا يرد عليه عدم انتفاء الكل عند انتفائه.

نعم ، يرد عليه : أنّه ليس في البين تركّب حقيقي. لكنّه يمكن القول بأنّه لا يعتبر في علاقة الكل والجزء التركب الحقيقي بل يكفي فيه التركّب الاعتباري.

نعم ، يرد على هذه الطريقة ، أعني حصول الحقيقة من كثرة الاستعمال مجازا ، ما حررناه (٢) في الوضع التعيني ، من أنّ الاستعمال بالعناية وإن كثر لا ينقلب الى الاستعمال بلا عناية ، وعلى كلّ حال أنّ هذه الاشكالات إنّما تتوجّه على الصورة الثالثة.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢١.

(٢) راجع صفحة : ٣٨ ، ٤٠.

١١١

وأمّا الصورة الرابعة : فلا ورود لها عليها ، أمّا إشكال عدم العلاقة فواضح ، لما عرفت من عدم التجوّز في استعمال المطلق في المقيد بالقرينة المتصلة ، كأن يقول : أعتق رقبة مؤمنة ، فلفظ الرقبة يحضر نفس الرقبة في الذهن وهو الدلالة التصورية ، ثم بإلحاق لفظة مؤمنة يستكشف أنّ ما هو المراد من مطلق الرقبة هو خصوص المؤمنة وهو الدلالة التصديقية ، وحينئذ نقول : إنه لو كثر الاستعمال بهذه الطريقة لربما أوجب أنّ السامع يفهم بأوّل سماعه لفظة الرقبة من المتكلّم أنّه اراد بها خصوص المؤمنة ، بل يخطر في ذهنه خصوص المؤمنة بمجرّد سماع اللفظ وهو الدلالة التصوّرية ، ثم إنّ المتكلّم بعد تلك الكثرة وبعد اطّلاعه على مسبّبها الذي هو أنّ اللفظة صارت تخطر خصوص المؤمنة في الذهن ، يعود فيتكلّم بلفظ الرقبة عارية عن إلحاق قيد الإيمان ويعتمد في بيان إرادته الخصوصية على نفس اللفظ ولا يتوقّف ذلك على انقلاب من الاستعمال مع العناية إلى الاستعمال بلا عناية.

نعم ، الإنصاف أنّه يمكن تأتّي هذا البيان في طريقة التجوّز ، فإنّ من سمع قول القائل رأيت أسدا يرمي ، عند ما سمع لفظ الأسد يحضر في ذهنه الحيوان المفترس ، ثم بعد سماعه قوله يرمي ينقلب ذلك الخطور الذهني إلى الرجل الشجاع ، والحكم بأنّ مراد المتكلّم من قوله رأيت أسدا هو الرجل الشجاع ، وأمّا المتكلّم فهو لا يريد أن يحضر الحيوان المفترس في ذهن السامع ، بل لا يريد إلاّ أن يحضر في ذهنه الرجل الشجاع وقد استعان في ذلك بأن ضمّ إلى لفظ الأسد قوله يرمي ، فيكون من قبيل تعدّد الدال ووحدة المدلول بالنسبة إلى الدلالة التصديقية. وأما الدلالة التصوريّة للفظ الأسد على الحيوان المفترس ، أعني كون اللفظ موجبا إحضار الحيوان

١١٢

المفترس في ذهن السامع ، فذلك قهري على المتكلّم لا يمكنه التصرف فيه. هذا حال أوائل الاستعمالات ، وأما بعد الكثرة على السامع فلربّما انقلب تصوّره من مجرّد سماع لفظ الأسد الحيوان المفترس إلى تصور الرجل الشجاع ، وأمّا المتكلّم فهو بعد تلك الكثرة واطلاعه على ما صار إليه الحال في ناحية السامع من ذلك الخطور الذهني لا يحتاج إلى الاستعانة في إفهام مراده من لفظ أسد إلى إلحاق قوله يرمي ، بل يكون صدور نفس ذلك اللفظ منه كافيا في إحضار الرجل الشجاع في ذهن السامع وإفهام السامع أنّه يريد الرجل الشجاع لا الحيوان المفترس.

وحينئذ ينحصر الإشكال في الصورة الثالثة بما في الكفاية من إنكار العلاقة ، ولا يتوجّه عليها إشكال الانقلاب كما لا يتوجّه على الصورة الرابعة ، وعلى كلّ حال أنّ حصول الحقيقة في الصورة الرابعة لا غبار عليه لا من ناحية عدم العلاقة ولا من ناحية إشكال عدم الانقلاب. أمّا الصورة الثالثة فهي مع قطع النظر عن إشكال الكفاية من ناحية عدم العلاقة ، ومع قطع النظر عن الوضع الاستعمالي أعني الصورة الثانية ، بمعنى أنّا نبني على عدم حصول الوضع الابتدائي (١) وعدم حصول الوضع الاستعمالي (٢) ، ومع ذلك نرى الشارع قد استعمل هذه الألفاظ ، وحينئذ يكاد يحصل لنا القطع بأنّ الشارع لم يكن استعماله مبنيّا على العناية والتجوّز ، بل هو على تقدير كونه غير مسبوق بوضعها ولو بأول استعمال ، لا يكون إلاّ من باب استعمال المطلق أعني الدعاء أو الانعطاف في معناه الأصلي مع الدلالة على تقييده بباقي الأجزاء والشرائط بدال آخر ، ويكون نظير قوله : اعتق رقبة مؤمنة في

__________________

(١) [ في الأصل : الابتداء ، والصحيح ما أثبتناه ].

(٢) [ في الأصل : الاستعمال ، والصحيح ما أثبتناه ].

١١٣

عدم التجوز. نعم الشأن كل الشأن في :

الصورة الثانية : وهي الوضع بالاستعمال ، فقد أشكل عليها شيخنا قدس‌سره (١) بلزوم تعدد اللحاظ في اللفظ آليا من ناحية الاستعمال واستقلاليا من ناحية الوضع.

وقد أجاب عنه الاستاذ العراقي في مقالته [ في بحث حقيقة الوضع ](٢) ـ وأشار إليه [ في بحث الحقيقة الشرعية ](٣) ـ : وتوهّم أوله إلى اجتماع اللحاظين غلط ، إذ النظر المرآتي متوجه الى شخص اللفظ والمعنى حال الاستعمال وهما غير ملحوظين استقلالا حين الوضع ، وما هو ملحوظ كذلك فهو طبيعة اللفظ وطبيعة المعنى حين وضعه ، وأحدهما غير الآخر في مقام اللحاظ كما لا يخفى. والعجب من صدور هذا الإشكال من بعض أعاظم المعاصرين على ما في تقرير بعض تلامذته (٤).

قلت : وهذا الجواب عجيب ، لأنّ الملحوظ آلة في مرتبة الاستعمال وإن كان هو شخص اللفظ الملقى الى السامع و (٥) المقصود في مرتبة الوضع وإن كان هو طبيعة اللفظ ، إلاّ أنّ المنظور للمتكلّم في مقام الوضع ومرتبته هو هذا اللفظ ، لكن لا بشخصه بل بما أنّه مصداق لطبيعة من ذلك اللفظ ، فالنظر الى ذلك اللفظ في مرتبة الوضع بما أنّه مصداق لطبيعة اللفظ يكون استقلاليا من ناحيتين ، ناحية كونه مصداقا لطبيعة ذلك اللفظ ، وناحية كونه مقصودا وضعه ولو بما أنّه مصداق للطبيعة.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٤٩.

(٢ و ٣) [ لم توجد في الأصل ، وإنما أضفناها للمناسبة ].

(٤) مقالات الاصول ١ : ٦٧ ـ ٦٨ ، وأشار إليه في صفحة ١٣٣.

(٥) [ في الأصل : إلاّ أن المقصود ، والصحيح ما أثبتناه ].

١١٤

ولا يخفى أنّ اللفظ في حال الاستعمال لا يكون حاله إلاّ حاله حين الوضع ولو بالوضع الابتدائي (١) الجعلي ، فكما أنّ الموضوع ليس هو شخص لفظ الإنسان في قوله : وضعت لفظ الإنسان للحيوان الناطق ، وإنّما الكلّي المتحقّق في ذلك اللفظ المشتمل عليه هذا القول ، فكذلك اللفظ حين الاستعمال فإنّه إعمال اللفظ فيما وضع له ، والمفروض أنّ الموضوع هو الكلّي ، وأنّ إرادة المستعمل إنّما تتعلّق بإيجاد الكلّي الموضوع ، وإنما يوجد الكلّي ، غايته أنّه بعد وجوده يكون شخصيّا ، والنظر الآلي إنّما هو في مرتبة وجوده لا ما يكون بعد وجوده ، والمفروض أنّ تشخصه إنّما يكون بعد الوجود ، فلا فرق بين النظر في مقام الاستعمال والنظر في مقام الوضع في كون تعلقهما بالفرد بما أنّه كلّي فلاحظ. بل يمكن القول بأن العكس أقرب ، وإن كان كالأصل بعيدا من الصواب. نعم يزيدني إشكالا آخر وهو لزوم كون اللفظ منظورا إليه بشخصه وكونه منظورا إليه بما أنه مصداق للطبيعة ، والنظران متنافيان.

ولا يخفى أنّ إشكال تعدّد اللحاظ إنّما هو في استعمال اللفظ في المعنى بقصده وضعه له ليكون الوضع حاصلا بالاستعمال ، أمّا لو قلنا بأنّ الوضع هو التعهد ، أو أنّه من فعل النفس وأنّ مظهره هو الاستعمال ، فلا موقع حينئذ للإشكال بتعدد اللحاظ في اللفظ ، إذ لا يكون الوضع حاصلا بالاستعمال ، وإنّما هو حاصل بالتعهّد أو بفعل النفس وذلك سابق على الاستعمال ، ولا يكون ذلك الاستعمال إلاّ كاشفا عنه كشف المعلول عن علّته ، لكن ذلك إنّما هو لو أخذنا الوضع من مقولة التعهّد والبناء ، أمّا لو

__________________

(١) [ في الأصل : الابتداء ، والصحيح ما أثبتناه ].

١١٥

أخذناه من مقولة فعل النفس وأنّه يحتاج الى كاشف ومبرز وذلك الكاشف والمبرز هو الجعل ، فلا ريب أنّ ذلك الجعل الكاشف والمبرز يكون لازمه النظر الاستقلالي الى اللفظ ، فلو أبرزنا ذلك الفعل النفساني بالاستعمال توجّه فيه إشكال تعدّد اللحاظ.

نعم ، إنّ ذلك كلّه خلاف الفرض ، لأنّ الفرض هو حصول الوضع بالاستعمال ، وأنّه من مقولة القصد والإنشاء ، ليكون ما نحن فيه نظير التمليك فإنّه بناء عليه لا محيص من توجه الإشكال المزبور. نعم لو قلنا إنّ الوضع حاصل قهرا بذلك الاستعمال وإن لم يكن المستعمل قاصدا بذلك الاستعمال في المعنى وضع اللفظ لذلك المعنى ، لم يتوجّه الاشكال المزبور.

أمّا دعوى إمكان اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي بالنسبة إلى اللفظ المستعمل في المعنى ، ببرهان أنّه ربما انضم إلى قصد المستعمل الذي جعل اللفظ آلة في إحضار المعنى قصد آخر ، بأن كان غرضه من أمر عبده بإحضار الماء هو إسماع من في خارج الحجرة صوته أو إفهام السامع أنّه حيّ لا ميت أو مستيقظ لا نائم أو أنّه مفيق لا مغمى عليه ، إلى غير ذلك من الغايات المترتبة على صدور الكلام من المتكلّم ، ومنه إفهام الحاضر أو إفهام نفس المأمور بأنّه عارف بهذه اللغة التي تكلّم بها ، وحينئذ فيجتمع في ذلك اللفظ اللحاظان.

ففيها ما لا يخفى ؛ للفرق الواضح بين المقامين ، فإنّ هذه الغايات مترتبة على إعمال اللفظ في معناه ، فلا يكون ترتبها على ذلك الاعمال موجبا لكون اللفظ منظورا إليه مستقلا ، فإن فهم السامع أنّ المتكلّم مستيقظ ، أو أنّ المتكلّم عارف باللغة العربيّة لكونه قد أعمل اللفظ العربي

١١٦

في معناه ، إنّما يترتب على إعمال المتكلّم اللفظ آلة في معناه وقد أعمله فيه ، غايته أنّه أوجد اللفظ ليكون حاكيا عن المعنى ، وغرضه من هذه الحكاية أن يفهم السامع أنّه عارف باللغة ، فكان هناك نظران : نظر إلى اللفظ في حكايته عن المعنى وهو آلي ، ونظر إلى حكاية المعنى بهذا اللفظ وجعل هذه الحكاية تفهيمها للسامع أنّه عارف باللغة ، وهذا النظر الثاني وإن كان استقلاليا إلاّ أنّه متعلّق بحكاية المعنى باللفظ لا أنّه متعلّق باللفظ نفسه ، وهذا بخلاف مقام الوضع فإنّ إعمال اللفظ في المعنى يوجب فعلا آخر للمتكلّم وهو وضعه له وهو أعني المتكلّم في هذا الفعل ناظر إلى اللفظ استقلالا لا آلة.

وحاصل الفرق : أنّ المتكلّم في مقام تفهيم السامع أنّه عارف باللغة يكون قد قصد اللفظ ليحكي به المعنى ، وقصد من حكاية المعنى باللفظ إفهام السامع أنّه عارف باللغة ، فيكون هذا القصد الثاني مثل أن يقصد من حكاية المعنى باللفظ إفهام السامع إرادته المعنى في عدم تعلّق القصد الثاني باللفظ ، وإنّما هو أعني القصد متعلّق بنفس الحكاية ، بخلاف المتكلّم في مقام الوضع فإنه يقصد من اللفظ حكاية المعنى ويقصد من حكايته به وضعه له ، وهو أعني وضعه له فعل من أفعال المتكلّم يحتاج فيه إلى النظر إلى اللفظ نظرا ثانيا استقلاليا.

نعم ، في المقام تحقيق آخر ينبغي أن يلتفت إليه : وهو أنّ اللفظ وإن كان آلة في حكاية المعنى وإن شئت فقل : إنّه آلة في تفهيم السامع إرادة المعنى ، والآلة لا تكون منظورا إليها استقلالا ، إلاّ أنّ ذلك إذا لم تكن تلك الآلة من الأفعال الاختيارية كما في إعمال المنشار في القطع ، أمّا إذا كانت الآلة بنفسها فعلا اختياريا مثل القيام الذي آلة في التعظيم ، فهي لا بد أن

١١٧

تكون منظورا إليها بنفسها وإلاّ لم تكن فعلا اختياريا. نعم إنّ النظر إليها بما أنّها فعل اختياري يكون استقلاليا ، وبما أنّها موجدة للتعظيم يكون النظر إليها آليا ، وهما وإن اتحدا في الزمان إلاّ أنّهما مختلفان في الرتبة ، فالنظر إليه بما أنّه فعل من أفعاله سابق في الرتبة على النظر إليه بما أنّه آلة في تحقق التعظيم ، ومن ذلك إلباسك الثوب لزيد بقصد تمليكك إيّاه.

وهكذا الحال في اللفظ الحاكي للمعنى ، فإنّه بما أنّه فعل اختياري يكون النظر إليه استقلاليا ، وبما أنّه حاك عن المعنى يكون النظر إليه آليا ، فهو في مرتبة حكاية المعنى باللفظ لا يكون ناظرا إلى اللفظ إلاّ آليا ، لكن في مرتبة صدور ذلك اللفظ عنه الذي هو فعل اختياري له يكون ذلك اللفظ منظورا إليه استقلاليا وهما مختلفان في الرتبة ، فاللفظ بما أنّه فعل اختياري سابق في الرتبة على حكاية المعنى به ، ولكن هذا لا دخل له بقصد الوضع ، فإنّه في مرتبة حكايته عن المعنى يقصد وضعه ذلك اللفظ لذلك المعنى ، وهو قاض بالنظر الاستقلالي إلى اللفظ ، فقد اجتمع النظران في رتبة واحدة وهي مرتبة حكاية المعنى باللفظ فلاحظ وتأمّل.

وأنت بالباسك الثوب لزيد بعنوان التمليك وإن كنت ناظرا إلى الثوب استقلالا لأنّك ملّكته لزيد ، إلاّ أنّه ليس في البين ما يوجب كون نظرك إلى الثوب آليا حتى في مرتبة إلباسك ايّاه ، بخلاف اللفظ فانّك في مرتبة حكايتك المعنى به تكون ناظرا إليه آليا ، فلا يصحّ منك في هذه المرتبة قصد وضعه له ، لأنّه يوجب كون نظرك إليه استقلاليا ، فيجتمع النظر الآلي والاستقلالي في مرتبة واحدة وهي مرتبة الحكاية التي تجعل تلك الحكاية وضعا ، فلاحظ وتأمّل. هذا كلّه في الإشكال الذي وجّهه شيخنا قدس‌سره وهو لزوم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي.

١١٨

وأمّا الإشكال الثاني الذي ذكره في الكفاية (١) والتزم به ، وهو لزوم كون هذا الاستعمال خارجا عن الحقيقة والمجاز ، فهو أيضا لا يتوجّه على القول بكون الوضع تعهّدا أو كونه من أفعال النفس ، وإنّما يتوجّه على القول بكونه حاصلا بنفس الاستعمال قصدا أو قهرا ، لأنّ الوضع على كلّ من هذين الوجهين يكون متأخّرا عن الاستعمال ، ويكون حال الاستعمال المقصود به الوضع أو الذي يتحقّق به الوضع قهرا حال الفسخ من ذي الخيار بوطء الجارية المنتقلة عنه.

ولا مدفع له إلاّ بأن يقال : إنّ الفسخ من أفعال النفس وهو سابق على الوطء ، وحينئذ لا يحتاج إلى أن يقصد به الفسخ ، أو القول بأنّ الشارع قد سوّغ له الوطء الذي يقصد به إنشاء الفسخ ، والأوّل ممنوع والثاني محتاج إلى الدليل القوي الدال على جواز الوطء لغير المالك إذا كان بقصد الفسخ ، وأمّا وطء المطلقة الرجعية بعنوان الرجوع أو لا بعنوان الرجوع ، فهو خارج عن ذلك ، بناء على كون المطلقة الرجعية زوجة ، وأنّها لا تبين إلاّ بانقضاء العدّة ، وعدم الأخذ فيها بآثار الزوجية ، وحينئذ لا يكون الفسخ رجوعا ورفعا للطلاق ، بل هو دفع للبينونة التي ترتب على ذلك الطلاق بعد انقضاء العدّة وعدم الأخذ بأذيال الزوجية ، وما قصده عدم الرجوع بذلك الوطء الاّ من قبيل قصد الزنا بوطء الزوجة غير المطلقة في أنّه لا أثر له إلاّ ما هو من سنخ التجري وإن لم يكن منه حقيقة. نعم لو لم نقل بكون المطلقة الرجعية زوجة ، بل قلنا إنّها بحكم الزوجة ، كان جواز وطئها بعنوان الرجوع محتاجا إلى الدليل على جوازه وعلى تحقق الرجوع به ، وأما وطؤها لا بعنوان

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢١.

١١٩

الرجوع فهو وإن كان محرما إلاّ أنه محتاج إلى الدليل في تحقق الرجوع به ، فراجع ذلك البحث وما حررناه فيه (١).

المقدمة الثالثة : في ثمرة النزاع. قال شيخنا قدس‌سره في التحرير في بيان ثمرة النزاع ـ وهو حمل الألفاظ المستعملة بلا قرينة على المعنى اللغوي بناء على عدمها ، وعلى المعنى الشرعي بناء على ثبوتها ـ إلاّ أنّ التحقيق أنّه ليس لنا مورد نشك فيه في المراد الاستعمالي اصلا (٢).

والكلام في هذه الثمرة في مقامين :

المقام الأوّل : ما تضمنته الجملة الاولى وهي الحمل على المعاني اللغوية بناء على عدم الثبوت ، وقد عرفت إشكال شيخنا قدس‌سره في هذا المقام بقوله : إلاّ أنّ التحقيق ، إلخ.

قال في المقالة : ولكن قد يدعى بأنّه ما من مورد من موارد استعمال هذه الألفاظ الاّ وهي مستعملة في المعاني المستحدثة ولو بالقرينة ، وحينئذ يلغو في البين نتيجة البحث ، والعهدة على المدعي ، كيف ونرى استعمال لفظ الصلاة في معناه العرفي كثيرا ، فلم لا ينتج مثل هذا البحث في مثله (٣).

قلت : لعل مراده بذلك استعمالها في الصلاة على الميت فإنّها دعاء محض ، فتأمّل.

وعلى كل حال أنّ شيخنا قدس‌سره لم يدّع انحصار الاستعمال بالقرينة الدالة على إرادة خصوص المعاني المستحدثة ، وإنّما ادّعى أنّ المراد الاستعمالي لا شك فيه لكونه معلوما بالقرينة في جميع الاستعمالات

__________________

(١) [ مخطوط لم يطبع بعد ].

(٢) أجود التقريرات ١ : ٤٨.

(٣) مقالات الاصول ١ : ١٣٤.

١٢٠