أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٩

١
٢

٣
٤

اصول الفقه (١)

[ مرتبة علم الاصول وموضوع كل علم ]

قوله : الفصل الأول في تعريف العلم وموضوعه وفائدته ورتبته ـ إلى قوله : ـ وأما تعريفه فقد علم مما سبق إجمالا ، وتفصيله : هو العلم بالقواعد التي إذا انضمت إليها صغرياتها أنتجت نتيجة فقهية ... إلخ (٢).

لا ينبغي التردد في كون الاصول ليس فنّا مستقلا ، بل هو من المبادئ التصديقية لعلم الفقه ، فانّ هذه اللفظة وهي اصول الفقه كافية في الدلالة على ذلك ، وأنّه من المبادئ.

وتوضيح ذلك : هو أنّ المبادئ التصديقية عبارة عن الامور التي تبتني عليها قياسات العلم ، وتوجب الاذعان بالنسبة الحكمية في قضاياه ، وهي ثبوت محمولات المسائل لموضوعاتها ، ولو لا تلك المقدّمات لما أمكن التصديق بتلك النسب. فكان حقها أن تكون من المقدمات التمهيدية لذلك العلم المتوقف عليها ، باعتبار أنّ الكبريات لا بد أن تكون في مقام الاستدلال مسلّمة لتكون حين الدخول في ذلك الفن مفروغا عنها ، ومن الواضح أنّ الاصول من المبادئ.

__________________

(١) كان شروعنا في هذه الدورة في شوال سنة ١٣٧٥ ، وكان شروعنا في التي قبلها سنة ١٣٦٦ ، وقد تمت هذه الدورة وشرعنا في دورة جديدة شوال سنة ١٣٨١ [ منه قدس‌سره ].

(٢) أجود التقريرات ١ : ٥ [ لم يرد في نسخة الأصل هنا ذكر لهذا المتن من الأجود ـ كما هو دأب المصنف قدس‌سره في هذا الكتاب ـ وإنما هو اضافة منا رعاية للتناسب ].

٥

وإن شئت فقل : إنه من المقدمات التمهيدية لعلم الفقه ، فانا قد ذكرنا في بحث الاجتهاد والتقليد أنّ عمل الفقيه عند إرادته معرفة الحكم في واقعة من الوقائع يدور على امور أربعة مترتبة : فالأول هو الدليل الاجتهادي. الثاني : الاصل الشرعي الاحرازي. الثالث : الأصل الشرعي غير الاحرازي. الرابع : ما ينتهي إليه حكم العقل من براءة أو احتياط أو تخيير ، وهذه الامور هي روح اصول الفقه ، وهي متشتتة متفرقة محمولا وموضوعا ، ولأجل ذلك سميت اصول الفقه ولم تسم بأصل الفقه.

ولهذه الامور امور أخر تكون كالمدخل الى هذه الامور ، خصوصا للأوّل منها أعني الدليل الاجتهادي ، فانه يتوقف على الكثير من مباحث الألفاظ ، وأهم مباحث الجزء الثاني الذي يصطلحون عليه بالأدلة العقلية.

فالنحو ونحوه من الصرف واللغة وبقية العلوم إن توقف عليها الاستنباط ، فلا مانع من عدّ ذلك الذي يتوقف عليه الاستنباط منها من الاصول ، وإدخاله فيه كما صنعه العلامة في كتابه المختصر أعني التهذيب في الاصول حيث أدرج جملة من مسائل علم النحو واللغة فيه.

ولأجل ما ذكرناه من كون الاصول من مبادئ الفقه ترى الكثير من فقهائنا يذكرون مسائله في مقدمات كتبهم الفقهية ، فلاحظ كشف الغطاء ، والحدائق ، والمعالم الذي هو مقدمة لفقه المعالم المطبوع بعضه ، ولأجل ذلك صدّر كتابه بتعريف الفقه ، فقال : الفقه هو العلم ... إلخ (١).

قوله : أما المقدمة الاولى : فتشتمل على تعريف كلي موضوع العلم ، وتمييز العوارض الذاتية من الغريبة ـ إلى قوله : ـ بيان ذلك : أن

__________________

(١) معالم الدين : ٢٦.

٦

العارض تارة يعرض بلا وساطة شيء أصلا ، كادراك الكليات ... إلخ (١).

ولا يخفى (٢) أنّهم قسّموا الواسطة الى الواسطة في العروض والواسطة في الثبوت والواسطة في الاثبات.

وعرّفوا الاولى : بأنّها الواسطة في الحمل ، بمعنى أن العارض يحمل على الواسطة ، وبواسطة حمل الواسطة على الموضوع يكون ذلك العارض محمولا على ذلك الموضوع.

ونقلوا عن الشيخ الرئيس (٣) تعريفها بأنها ما يقترن بقولنا « لأنّه » حين يقال « لأنّه كذا » كما يقال إنّ هذا الشخص متحرك الاصابع لأنه كاتب ، أو إن العالم حادث لأنّه متغيّر.

وعرّفوا الثانية : بأنها العلة في عروض العارض على المعروض.

والثالثة : بأنها ما أوجبت العلم بثبوت العارض للمعروض.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٦ ـ ٧ [ هذا الكلام من متن الأجود لم يرد في نسخة الأصل وإنّما ذكرناه هنا للتناسب مع سائر الموارد ].

(٢) [ جاء في الأصل ورقة مرفقة تضمنت نقل عبارة المحقّق الاصفهاني لم يحدّد لها قدس‌سره موضعا ، فرأينا إيرادها هاهنا ( أول البحث ) لأنها تنبّه على المشكلة التي أدت إلى طرح هذه الأبحاث وهي ] :

قال العلاّمة الاصفهاني قدس‌سره في حاشيته على الكفاية [ نهاية الدراية ١ : ١٩ ـ ٢٠ ] : مع أنّهم صرحوا أيضا بأن العارض للشيء بواسطة أمر أخص أو أعم داخليّا كان أو خارجيا عرض غريب ، والأخص والأعم واسطة في العروض ، فيشكل حينئذ بأن أغلب محمولات العلوم عارضة لانواع موضوعاتها ، فتكون أعراضا غريبة لها ، كما أن جل مباحث هذا العلم يبحث فيها عما يعرض لأمر أعم من موضوع هذا العلم كما لا يخفى. وقد ذهب القوم في التفصي عن هذه العويصة يمينا وشمالا ولم يأت أحد منهم بما يشفي العليل ويروي الغليل ، إلخ.

(٣) الاشارات والتنبيهات ١ : ١٦٢ ، نقل ذلك في شرح المطالع : ١٨.

٧

ولازمه سقوط هذا التقسيم ، لأنّ كلا من هذه الوسائط التي عدّوها واسطة في الحمل لا تكون إلا علة في عروض محمولها على الذات ، فانّ الناطق علة في عروض الادراك على الانسان ، وهكذا الحال في الحيوان والماشي ، وهكذا الحال في الأعراض ، إذ لا يخفى أنّ العرضين لمعروضين أو لمعروض واحد ، مع فرض كون انتساب كل منهما الى معروضه نسبة حقيقية ، إن لم يكن بينهما ارتباط العلية والمعلولية مثل بياض الجسم وحرارته ، فلا يكون أحدهما واسطة في الآخر بأي معنى أخذنا الواسطة من هذه المعاني الثلاثة ، وإن كان أحدهما علة لعروض الآخر على معروضه مثل الكتابة التي هي علة في عروض حركة الاصابع على الذات ، كانت العلة واسطة في الثبوت.

قال في البدائع : وما يعرض الشيء باعتبار وسائط الثبوت كلها عرض ذاتي بالمعنى المشار إليه (١).

وقال في الحاشية : إذ لو كان الخارج واسطة في الثبوت وكانت الصفة عارضة للذات أوّلا وبالذات من دون اعتبار عروضها أوّلا لغيرها ، كانت من الاعراض الذاتية (٢). وسيأتي إن شاء الله تعالى (٣) نقل عبارة الفصول.

ثم لا يخفى أنّه مع كون الواسطة واسطة في الثبوت يتولد من ذلك الانتقال اللّمي ، ولو كان الانتقال بالعكس كان إنّيا. وان كان العرضان معا معلولين لعلة ثالثة لم يكن أحدهما واسطة في العروض بالنسبة إلى الآخر ، ولا واسطة في الثبوت. نعم يكون أحدهما واسطة في الاثبات بالنسبة إلى

__________________

(١) بدائع الأفكار للمحقق الرشتي قدس‌سره : ٣٠.

(٢) هداية المسترشدين ١ : ١١٠.

(٣) في صفحة : ٢٠.

٨

الآخر ، ويتألف من ذلك الانتقال من هذا المعلول إلى علته وهو إنّي ، ثم بعد ذلك الانتقال من العلة إلى المعلول الآخر وهو لمّي ، وليس لنا عرضان منسوبان إلى معروضهما نسبة حقيقية خارجان عن هذه الأقسام الثلاثة أعني عدم الربط بينهما ، أو كون أحدهما معلولا للآخر ، أو كونهما معلولين لعلة ثالثة ، وحينئذ فما هي الواسطة في العروض مع فرض كون نسبة العرض إلى معروضه بتلك الواسطة نسبة حقيقية ، وسيأتي (١) تحقيق ذلك عند نقل كلام صاحب الحاشية إن شاء الله تعالى.

أما العارض الذي يعرض عارضا آخر مثل الشدّة العارضة للبياض العارض للجسم ، والسرعة العارضة للحركة العارضة للجسم ، فليس ذلك من قبيل الواسطة في العروض ، لأنّ الشدّة ليست من عوارض الجسم وكذلك السرعة ، وإنما هي من عوارض عارضه وهو البياض في الأول والحركة في الثاني ، ولا يتصف الجسم بالشدة ولا السرعة إلاّ باعتبار التجوّز من قبيل نسبة العرض إلى الذات باعتبار ملابسها نظير نسبة الطول إلى زيد باعتبار كونه طويل الأب ونحو ذلك من النسب المجازية مثل قولهم : جرى النهر وسال الميزاب ، هذا بالنظر إلى النظر العرفي.

وأما بحسب الدقة ومحالية قيام العرض بالعرض فليس هناك عرضان يكون الثاني منهما وهو السرعة قائما بالحركة ، ويكون الأول منهما وهو الحركة قائما بالجسم ، لما عرفت من استحالة قيام العرض بالعرض ، وقد تخلّصوا من ذلك بما يفيدونه من قولهم : إن ما به الامتياز في البسائط عين ما به الاشتراك (٢) ومفاد ذلك أن صفات العرض عين ذاته ، وحينئذ فلا

__________________

(١) في صفحة : ٣٠ ـ ٣٢.

(٢) وهذه العبارة كسائر عبائرهم المعقّدة ، والظاهر أنّ المراد هو أنّ البسائط لمّا لم

٩

يكون في البين إلاّ عرض واحد ، فتخرج المسألة أيضا عن الوسائط الثلاثة ، فلاحظ وتأمّل.

أما البياض والسطح ، وجعل الثاني واسطة في عروض البياض على الجسم وأن المعروض الحقيقي هو السطح ، فلا يخفى ما فيه ، حيث إن نفس السطح الذي هو نفس الطول والعرض المفروض كونه من عوارض الجسم لا واقعية لاتصافه بالبياض ، وإنّما المتصف بالبياض هو نفس الجسم ، وليس السطح واسطة عروضية في ذلك ولا ثبوتية.

ولعلّ الأولى هو أخذ الواسطة بمعنى العلة ، فيقال واسطة في العروض بمعنى أنها علة في عروض العارض على معروضه ، فتنطبق على الواسطة في الثبوت. ويكون معنى الواسطة في الاثبات ما يكون علة في الاثبات. فليس لنا إلا واسطتان : واسطة في العروض وهي الواسطة في الثبوت ، وواسطة في الاثبات ، وهي شاملة للعلة التي هي الواسطة في الثبوت أعني العروض ، وللمعلول ، ولأحد المعلولين بالنسبة الى الآخر ، وهذا هو المستفاد من عبارة شرح المطالع وحاشية الشريف عليها (١).

__________________

يكن لها جنس ولا فصل ، لم يكن بينها اشتراك بحسب الذات ، بل كان كل منها مباينا للآخر بالذات ، فهذا البياض الشديد وذلك البياض الضعيف متباينان بالذات. ولا يخفى أنّ هذا جار في الفصول مثل الناطق والصاهل ، وهكذا الحال في مقابلة الجنس والفصل بمعنى المادة والصورة.

والحاصل : أنه لا اشتراك في أمثال ذلك إلاّ بعناوين انتزاعية ، بخلاف المركبات من جنس وفصل فانّ ما به الاشتراك فيها وهو الجنس مغاير لما به الامتياز وهو الفصل ، ولكن من لا يؤمن بالجنس والفصل يمكنه القول بأنّه لا مائز بين هذا النوع وهو الإنسان مثلا وذلك النوع الذي هو الفرس إلاّ بعوارض زائدة على الذات. [ منه قدس‌سره ].

(١) شرح المطالع : ١٩ ، وسيأتي ما يرتبط بالمقام في صفحة : ٢٢.

١٠

ثم إنّهم قد ذكروا العوارض الغريبة ووسائطها العروضية ، فقال بعضهم (١) : والغريب ما يعرضه بواسطة عروضية خارجة أعم منه كالحاجة للانسان لأنّه ممكن ، والمشي للناطق لأنه حيوان ، أو أخص كالتعقل للحيوان بواسطة الناطق ، من غير فرق في جميع ذلك بين أن يفرض للعرض واسطة ثبوتية وبين عدمه ... إلخ.

ولا يخفى أن الامكان علة لعروض الحاجة على الانسان ، ولو جعلنا الحاجة والامكان من قبيل الحركة والسرعة جرى فيهما الاشكال المتقدم فيهما. وأما المشي للناطق ، فان أخذنا الناطق فصلا أعني نفس الصورة فليس المشي من عوارضه ، وإن أخذناه حاكيا عن النوع أعني نفس الانسان ، فالمشي من عوارض جزئه الأعم ، وهو في نظره من العوارض الذاتية.

ولنا أن نقول : إن الحيوانية علة في عروض المشي على النوع الخاص أعني الانسان المركب من الحيوان الناطق ، ولنا أن نقول : إن المشي لم يعرض على الانسان وإنما معروضه هو الحيوان الموجود في ضمن الانسان كعروضه للحيوان الموجود في ضمن الفرس.

وأما ذكره التعقل للحيوان بواسطة الناطق فهو عجيب ، حيث إن التعقّل لا ينسب حتى ولو مجازا إلى الحيوان ، وليس هو من عوارضه لا دقة ولا عرفا. ولو سلّمنا كونه من عوارض الحيوان فجعل الناطق واسطة في عروض التعقل على الحيوان عجيب ، لأنه يعتبر الحمل في الواسطة العروضية ، فانه قال : المراد بالواسطة في العروض ما يقترن بقولنا « لأنه »

__________________

(١) وهو المرحوم الشيخ عبد الهادي شليلة في شرح منظومته في المنطق [ منه قدس‌سره ] راجع منتقى الجمان في شرح لؤلؤة الميزان : ٢٠.

١١

حين يقال : « لأنه كذا » كما نص عليه الرئيس ، فهي المحمول الذي يلحقه العرض أوّلا ويحمل عليه ، ثم من جهة كونه محمولا على آخر ومتحدا به يحمل العرض على ذلك الأمر الآخر (١).

ومن الواضح أن الناطق لا يحمل على الحيوان ، ولو اريد حمله على بعض أفراد الحيوان وهو الناطق لم يكن ثمة واسطة عروضية ، إذ ليس إلاّ التعقل وهو محمول على ذلك البعض وعارض عليه بلا واسطة عروضية.

واما الوسائط العروضية في الأعراض الذاتية ، فهي ما أفاده بقوله : فالذاتي يعني العرض الذاتي ما يعرض الشيء بلا واسطة في العروض كالامكان وقسميه ، فانّ لحوقها لمعروضاتها بلا واسطة عروضية أو بواسطة فيه داخلة في المعروض مساوية له كادراك المجرد العارض على الانسان بواسطة الناطق ، أو أعم منه كالمشي اللاحق له بواسطة الحيوان ، أو خارجة مساوية كالأطراف العارضة للجسم بتوسط عنوان المتناهي (٢).

ولا يخفى جريان الاشكال السابق في السرعة والحركة في الأطراف والتناهي ، وأما المشي للانسان بواسطة الحيوان فقد عرفت أن معروض المشي إنّما هو الحيوان لا نفس الانسان ، ولو سلّمنا أنه عارض على نفس الانسان لقلنا إنه بعلة جزئه الذي هو الحيوان ، فتكون الحيوانية واسطة في ثبوت المشي للانسان لا واسطة في العروض ، وهكذا الحال في إدراك المجرّدات العارض على الانسان بواسطة الناطقية.

ومن ذلك كله يظهر لك أن العوارض للشيء ليس فيها غريب ، فانّ الفارق بين الذاتي والغريب هو الواسطة في العروض ، فان كانت داخلة في

__________________

(١) منتقى الجمان في شرح لؤلؤة الميزان : ٢١ ـ ٢٢ وفيه : ويحمل عليه من جهة ...

(٢) منتقى الجمان في شرح لؤلؤة الميزان : ٢٠.

١٢

المعروض أو كانت خارجة مساوية له ، كان العرض بواسطتها ذاتيا ، وإلاّ كان العرض غريبا ، وحيث قد أنكرنا الواسطة في العروض يكون التقسيم المذكور ساقطا من أصله ، ولا يكون في عوارض الشيء ما هو غريب ، نعم بعضها يكون العلة فيه نفس الذات ، وبعضها يكون العلة فيه شيء آخر كجزء مساو أو أعم أو خارج كذلك. نعم إن العارض على الشيء تارة يكون مختصا به واخرى يكون أعم بأن يعرض غيره كما يعرضه.

والذي تلخص : أنّ الواسطة بالعروض بمعنى ما تكون هي وذوها عارضين على الذات ، ويكون ذو الواسطة عارضا على نفس الواسطة ، وهما معا عارضان على نفس الذات ، لا واقعية لها ، وأنّ حركة الأصابع وإن كانت هي والكتابة عارضين على الذات ، إلاّ أنّ حركة الأصابع لا تكون عارضة على الكتابة ، نعم إن الكتابة علة في عروض الحركة على الذات فتكون علة في ثبوت الحركة (١) فلا تكون إلاّ واسطة في الثبوت ، وبسبب ذلك تكون واسطة في الاثبات.

بل قد يقال : إنّه لا تعدّد في البين ، وأنّ حركة الأصابع عين الكتابة ، وأمّا شدة البياض فهو وإن كان عارضا على نفس البياض إلاّ أنّه لا يكون الشدة المذكورة عارضة على الذات إلاّ بنحو من التجوّز كما شرحناه.

ويبقى الكلام في صحة كون الشدة على البياض ، فانها من قبيل قيام العرض بالعرض ، وحيث إنّ العرض بسيط تكون صفته عين ذاته ، ويكون الامتياز بين البياضين من قبيل أنّ ما به الامتياز عين ما به الاشتراك كما هو الشأن في جميع البسائط ، حتى في مثل فصل الانسان وهو الناطق وفصل

__________________

(١) [ في الأصل : الكتابة ، والصحيح ما أثبتناه ].

١٣

الفرس وهو الصاهل. ولو سوّغنا عروض العرض على العرض لم يكن ذلك موجبا لكون البياض واسطة في العروض بالنسبة إلى الشدة ، لما عرفت من أنّ الجسم لا يتصف بالشدة.

ولعلّ مرادهم هو أنّ العارض لا بد أن يكون عارضا للواسطة. نعم إنّ الواسطة تارة تكون جزء الذات واخرى تكون عارضة للذات ، وجزء الذات قسمان ، والعارض لها اثنان أيضا ، فيخرج الثالث وهو ما كانت الواسطة مباينة ، لكن إخراجه يكون بلا جهة ، فانّ ملاك التقسيم هو كون عروض العارض لذات الشيء أو لجزئه أو للخارج عنه ، وهذا عبارة اخرى عن كون المنشأ هو علة العروض ، فيرجع إلى ما في المطالع. وبالجملة لا معنى للتوسط في العروض في قبال علة العروض إلاّ ما ذكرناه من كون الواسطة وذيها عارضين على الذات مع كون ذي الواسطة عارضا على الواسطة وهو ما ذكرناه من كونه لا مصداق له.

والحاصل : أنّ المراد بالواسطة في العروض إن كان بمعنى أنّ العارض يعرض عليها ، وهي وذلك العارض عارضان على الذات عروضا حقيقيا ، ففيه : أنّ ذلك لا يتصور في كون الواسطة جزءا ذاتيا أعم أو أخص ، لأنّ الواسطة وهي الجزء ليست عارضة على الذات ، كما أنه لا يتصور في الواسطة الخارجة مثل توسط الكتابة في حركة الأصابع ومثل توسط البياض في الشدة ، فانّ الأول لا يكون العارض فيه وهو الحركة عارضا على الكتابة التي هي الواسطة ، والثاني لا يكون العارض فيه عارضا على الذات عروضا حقيقيا ، فانّ الشدة لا يتصف بها الجسم ، وهكذا في مثل سرعة الحركة ، ولا بد حينئذ من تفسير الواسطة في العروض بالواسطة

١٤

في الحمل ، وسيأتي (١) الكلام على إبطاله في جواب قولنا : لا يقال إنّ هذه الوسائط ... إلخ.

وأما ما نقلوه في تفسير الواسطة في العروض عن الشيخ الرئيس (٢) بأنها ما يقترن بقولنا « لأنه » حين يقال : لأنه [ كذا (٣)] فلعلّه تفسير للوسط في الشكل الأول كما ربما يظهر ممّا نقله عنه في شرح المطالع (٤) فلا يكون إلاّ تفسيرا للوسط في الاثبات ، وهو الأوسط المتكرر في الشكل الأول ، مثل التغير في قولنا : العالم متغير وكل متغير حادث فالعالم حادث ، ويكون الانتقال لميّا.

ولو قلت : إنّ العالم حادث وكل حادث متغير فالعالم متغير ، كان الانتقال إنيّا ، لكون الأول من الانتقال من العلة التي هي التغيّر الى المعلول وكون الانتقال في الثاني من المعلول الذي هو الحدوث الى العلة التي هي التغير ، ولعل ذلك هو مراد من قال : إنّ الواسطة في العروض هي الواسطة في الحمل ، فانّ المراد بذلك هو الوسط المتكرر في الشكل ، لكونه واسطة في حمل الاكبر الذي هو الحدوث في المثال الأول على الأصغر الذي هو العالم الموضوع في الصغرى.

ولا محصّل لتفسيرهم الواسطة في العروض بالواسطة في الحمل ، لما عرفت من أنّه لا وجه للتوسط في الحمل إلاّ العلية أو المعلولية ، وأمّا مجرّد تطبيق الكلي على بعض أنواعه مثل قولنا : الانسان حيوان والحيوان جسم

__________________

(١) في صفحة : ١٦ ـ ١٧.

(٢) الإشارات والتنبيهات ١ : ١٦٢.

(٣) [ لم يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

(٤) شرح المطالع : ١٨ ـ ١٩.

١٥

فالانسان جسم ، فقد حقق في محله أنّ مجرد التطبيق لا واقعية له ، وليس هو إلاّ لقلقة لسان ، فلا تدخل في البرهان ، ولا يصاغ منه الشكل الأول إلاّ صوريّا من مجرد التعبير اللفظي الذي لا أثر له ، فلا تدخل في المطالب الاستدلالية ولو لمثل إثبات ذاتية العرض أو غرابته.

ثم بعد ذلك ننقل الكلام إلى تقسيمهم العرض إلى الذاتي والغريب باعتبار كون العرض عارضا للذات ، وكونه عارضا بواسطة الجزء المساوي ، أو الجزء الأعم ، أو الخارج المساوي ، فيكون عرضا ذاتيا ، أو كونه عارضا بواسطة الخارج الأعم ، أو بواسطة الخارج الأخص ، أو بواسطة الخارج المباين ، فيكون غريبا.

ونقول : إن بعضهم قال : الواسطة في هذا التقسيم هي الواسطة في العروض. وهو ما يظهر من الفصول (١) والبدائع (٢) والمرحوم الشيخ عبد الهادي شليلة في شرح المنظومة المنطقية (٣).

لا يقال : إنّ هذه الوسائط أعني الجزء بقسميه ، والخارج بأقسامه الثلاثة أعني المساوي والأعم والأخص ، وإن كانت هي في الواقع عللا ووسائط في الثبوت ، إلاّ أنها مع ذلك وسائط في الحمل ، لأنك تقول : الانسان ناطق وكل ناطق مدرك فيكون الانسان مدركا ، وحينئذ تنطبق عليها الواسطة في العروض بناء على ما تقدم في تعريفها من أنّها الواسطة في الحمل.

لأنّا نقول : إنّ منشأ هذا الحمل هو العلّية ، وذلك هو الذي صحّح فيه

__________________

(١) الفصول الغروية : ١٠.

(٢) بدائع الأفكار للمحقق الرشتي قدس‌سره : ٢٧ وما بعدها.

(٣) منتقى الجمان في شرح لؤلؤة الميزان : ٢٠.

١٦

الشكل الأول ، إذ لو تجرّد الحمل من العلّية مثل قولك : الانسان حيوان وكل حيوان جسم ، لم يكن من الشكل الأول ، وكان من مجرّد لقلقة اللسان ولا يكون نافعا في البرهان حتى في إثبات كون الاكبر المحمول على الواسطة عرضا ذاتيا أو عرضا غريبا بالنسبة إلى الأصغر الذي حملت عليه الواسطة.

ولا يخفى أنّ صحة الحمل في مثل النطق على الانسان إنّما هي باعتبار المشتق منه وإلاّ كان مباينا للانسان ، وحينئذ يكون حاله حال النار في كونه من الواسطة المباينة.

نعم ، يمكن المناقشة في كون العلة في مثل حرارة الماء هي ذات النار بدعوى أنّ العلة في حرارته هي قربه إلى النار وهي من عوارض الماء القابلة للحمل عليه بالاشتقاق ، هذا بالنظر العرفي ، وان كان القرب بحسب الدقة من قبيل الشرط في تأثير العلة الحقيقية.

ويظهر من بعضهم وهو صاحب شرح المطالع (١) أنّ الواسطة هنا هي الواسطة في الثبوت ، قياسا على القسم الأول أعني ما يكون عارضا للذات ، فانّ الذات فيه تكون علة لعروضه عليها ، وحينئذ يكون كل من جزئها الأعم وجزئها المساوي والخارج المساوي والخارج الأعم والخارج الأخص والخارج المباين ، جميع هذه الوسائط تكون عللا في عروض العارض على معروضه.

لكن المنقول عن الملا صدرا في حاشيته على شرح حكمة الاشراق (٢) والسبزواري صاحب المنظومة في شرح منظومته في المنطق (٣) ،

__________________

(١) شرح المطالع : ١٨.

(٢) شرح حكمة الإشراق : ٤٧.

(٣) شرح المنظومة ١ : ١٧٩.

١٧

أنّ المراد من هذا التقسيم هو أنّ العرض إن كان عارضا للذات عروضا حقيقيا كان العرض ذاتيا ، وإن كان عروضه مجازيا بالعرض والمجاز نظير جرى النهر وسال الميزاب كان العرض عرضا غريبا ، وعلى ذلك جرى شيخنا قدس‌سره (١) ولعلّ ذلك هو المراد لصاحب الكفاية (٢) فيكون المراد من الواسطة في العروض التي جعل عدمها معتبرا في كون العرض ذاتيا هي الواسطة الموجبة للتجوّز في نسبة العرض إلى الذات ، هذا.

ولكن الذي يظهر ممّا حرّره المرحوم الشيخ محمد علي أنّ المراد بالواسطة بالعروض معنى آخر غير ما تقدم من الواسطة في الحمل ، فانّه قال : والمراد من الواسطة في العروض هو ما كان العرض أوّلا وبالذات يعرض نفس الواسطة ويحمل عليها ، وثانيا وبالعرض يعرض لذي الواسطة ويحمل عليه كحركة الجالس في السفينة ، فانّ الحركة أوّلا وبالذات تعرض السفينة وتستند إليها ، وثانيا وبالعرض تعرض الجالس وتستند إليه وتحمل عليه ، من قبيل الوصف بحال المتعلق ، إلخ (٣).

فجعل الواسطة في عروض الحركة على الراكب هو السفينة ، ومن الواضح أنّها مباينة له غير محمولة عليه ، غايته أنّه يمكن أن يقال إن حركة السفينة علة لحركة الراكب ، فلا تكون حركته من العوارض الغريبة. بل يمكن أن يقال : إن حركة الراكب عين حركة السفينة ، إذ ليس الراكب في السفينة إلاّ من قبيل أجزائها ، ومن الواضح أنّ حركة أحد أجزاء السفينة عين

__________________

(١) سيأتي لذلك مزيد توضيح في صفحة : ٢٣ وما بعدها.

(٢) كفاية الاصول : ٧.

(٣) فوائد الاصول ١ ـ ٢ : ٢٠.

١٨

حركة أجزائها الآخر ، ولا يكون في البين إلاّ حركة واحدة منبسطة على الجميع. ولك أن تقول : إنّ حركة الراكب وحركة السفينة كلاهما معلولان لما هو علة حركة السفينة.

والأولى في التخلّص عن هذه المناقشات : أن يمثّل للواسطة في العروض بالمعنى المذكور بمثل جرى النهر وسال الميزاب ، ويكون الماء هو الواسطة في عروض الجريان على النهر وعلى الميزاب ، ولعلّه قدس‌سره يريد بذلك أنّ نسبة العرض إذا كانت غير حقيقية كما مر في شدة البياض وسرعة الحركة ، يصطلح عليه بأنه من قبيل الواسطة في العروض ، وأنّ ذلك العرض المنسوب إلى الذات نسبة مجازية لا حقيقة لها واقعا ، يكون من العوارض الغريبة ، ويكون العرض الذاتي ما عداه مما يكون نسبته إلى المعروض نسبة حقيقية ، وإن لم تكن بعليّة الذات واقتضائها بل كانت بعلة اخرى أو سبب آخر يعبّر عنه بالواسطة في الثبوت ، لم يكن ذلك العرض إلاّ عرضا ذاتيا ، وينحصر العرض الغريب بما عرفت ممّا لا تكون نسبته إلى الذات نسبة حقيقية ، بل كانت من قبيل النسبة بحال المتعلق ، وأحسن مثال لذلك حينئذ هو جرى النهر وسال الميزاب كما عرفت فيما تقدم.

وبذلك يتضح ما أفاده في الكفاية (١) من إخراج العارض بالواسطة العروضية بالمعنى المذكور عن العوارض الذاتية ، وجعل العرض الذاتي هو ما عدا العارض بالواسطة المذكورة ، فلاحظ وتأمّل.

والخلاصة : هي أنك قد عرفت أنّهم قسّموا العوارض إلى ما يكون عارضا لنفس الذات ، وما يكون عارضا لها بواسطة جزئها المساوي ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧.

١٩

وما يكون عارضا لها بواسطة الخارج المساوي لها ، وما يكون عارضا لها بواسطة جزئها الأعم ، وما يكون عارضا لها بواسطة الخارج الأعم ، وما يكون عارضا لها بواسطة الخارج الأخص ، وما يكون عارضا لها بواسطة الخارج المباين ، واتّفقوا ظاهرا على كون الأول والثاني من الأعراض الذاتية ، وعلى كون الخامس والسادس والسابع من الأعراض الغريبة ، ووقع الاختلاف بينهم في الثالث والرابع ، والمستفاد من ذلك كله أنّ المدار في كون العرض ذاتيا أو غريبا على حال تلك الواسطة ، وأنها مثلا إن كانت جزءا مساويا للذات كان العرض ذاتيا ، وان كانت خارجة أعم كان العرض غريبا ، وهكذا الحساب.

فلا بد من معرفة المراد بهذه الواسطة ، وهل المراد بها الواسطة في العروض ، أو أنّ المراد بها هو الواسطة في الثبوت ، أو أن المراد بها هو الواسطة في الاثبات ، والذي ينبغي القطع به هو عدم الاعتبار بالثالث كما صرح به الكثير منهم ، فيبقى الأمر مرددا بين الأول والثاني.

والظاهر من الكثير منهم كما صرح به شيخنا قدس‌سره في تحريرات المرحوم الشيخ محمد علي (١) هو عدم العبرة بالثاني ، فيكون المتعيّن هو الأول.

قال في الفصول : والمراد بالعرض الذاتي ما يعرض الشيء لذاته أي بلا واسطة في العروض ، سواء احتاج إلى واسطة في الثبوت ولو إلى مباين أعم أو لا (٢). وقال في البدائع : وما يعرض الشيء باعتبار وسائط الثبوت

__________________

(١) فوائد الاصول ١ ـ ٢ : ٢٠.

(٢) الفصول الغروية : ١٠.

٢٠