أصول الفقه - المقدمة

أصول الفقه - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٩

دستورية ديمقراطية ، نشأت في النجف بحوث ودراسات عميقة في الديمقراطية والدستور ، وتناولها رجال الدين الأكابر من مختلف وجهات النظر الإسلامية ، وألّفوا في تأييد الديمقراطية الدستورية مختلف التأليف. وربما كان حجة الإسلام الميرزا حسين النائيني في مقدمة من وضعوا الكتب في هذا الباب. وبنتيجة هذه الحركة الفكرية الصاخبة انشطرت النجف كل النجف بعد صدور الدستور العثماني عام ( ١٩٠٨ م ـ ١٣٢٦ ه‍ ) إلى شطرين متناحرين بلغ الخصام بينهما أقصى حدوده.

شطر يتزعمه آية الله الملا كاظم الخراساني ، وتلتف حوله الأكثرية الساحقة من العلماء ، والطبقة الخاصة المثقفة من النجفيين ، جميع آل الجواهري ـ عدا الشيخ علي الشيخ باقر الجواهري ، والشيخ حسن بن الشيخ محمد حسن ـ ، وآل الشبيبي ، وآل كمال الدين ـ عدا السيد حسين كمال الدين ، الذي كان يعمل مع اليزدي إلى عام ١٩١٨ عند ما اختلف مع اليزدي في كيفية تعامله مع الإنكليز بشأن ثورة النجف فترك صحبته ـ ، وآل مرزة خليل الذين كانوا لواء الدعوة الدستورية قبل الخراساني ، ومن الأفراد : الشيخ علي الشرقي ، والسيد هاشم الهندي ، والشيخ حسن دخيل ، والشيخ علي مانع ، والسيد مسلم زوين ، والشيخ محمد جواد الجزائري ، والشيخ محمد حسين شليلة ، وغيرهم. وهؤلاء سواء منهم الاسر أو الأشخاص عراقيون ، ولهم مكانتهم الدينية والاجتماعية في النجف وخارجه.

أما الشطر الثاني فيتزعمه السيد محمد كاظم اليزدي ، ومعه جميع أسرة آل كاشف الغطاء وبخاصة الشيخ أحمد والشيخ محمد حسين ـ عدا آل الشيخ عباس الشيخ علي ـ. و ( مع اليزدي ) أيضا معظم المعممين العرب ، أمثال : آل سميسم ، وآل مطوك ، وآل محي الدين ، وآل الدجيلي ،

١٠١

وآل محبوبة ، وغيرهم من المعممين. وكان معه من الأفراد صالح حجي ، وجواد حجي ، والشيخ حسن الحلي ، والشيخ حسين الحلي ، وأبوهما الشيخ على الحلي المعروف بالزهد ... والشيخ عبد الحسين الحلي ...

وكان يطلق على جماعة الخراساني اسم المشروطة ، لأنهم يؤيدون الحكم المشروط بالدستور. أما جماعة اليزدي الذين كانوا يعتبرون « المشروطة » كفرا وإلحادا ، فكان يطلق عليهم اسم « المستبدة » (١).

ولكن المصدر المتقدم يشير إلى أن وفاة الشيخ الخراساني عام ١٣٣٠ ه‍ وضع حدا لمظهر العنف بين التيارين ، وأن جميع رجال الدين ـ المرشحين للزعامة الدينية بعد السيد اليزدي ـ أيدوا رأي الشيخ الخراساني ، وشاركوه نفس الفكرة الدستورية المتحررة ، وعملوا على تحقيقها (٢).

وكان من نتاج هذا الصراع الفكري أن كتب آية الله العظمى الميرزا محمد حسين النائيني كتابه القيّم « تنبيه الامة وتنزيه الملة ».

من خلال هذا النص توضح لنا بأن اسرة شيخنا الحلي بما فيها هو كانت تعيش جوا سياسيا قبل ثورة الجهاد على الإنكليز إلى جانب العثمانيين ، وكانت تتبنى رأي السيد محمد كاظم اليزدي الذي كان يقر الاستبداد السياسي ، ـ كما جاء في النص المشار إليه ـ ولكن بعد وفاة السيد كانت الحركة التثقيفية نشطة بالنسبة لتأييد المشروطة ، بجهود النخبة من المؤمنين بفكرة الدستورية التي نادى بها المرحوم الخراساني والتي أثرت على التوجه العام بعد وفاة المرحوم اليزدي (٣).

__________________

(١) حسن الأسدي ـ ثورة النجف : ٩ ـ ١١ طبع بغداد دار الحرية للطباعة ١٩٧٥.

(٢) الأسدي ـ المصدر السابق : ١١.

(٣) انظر الأسدي ـ المصدر المتقدم : ١١ ـ ١٢.

١٠٢

والمهم الذي يتصل ببحثنا المتمحور حول الشيخ حسين الحلي يهمنا أن نعرف ، هل بقي على رأيه السابق بأن لا شأن لعلماء الدين في شئون السلطة زمن الغيبة ، أم تغير مع التطور المشار إليه؟

الإجابة على هذا التساؤل ليس بالأمر البسيط ، خاصة وأن المصادر التي تتحدث عن حياته لا تشير لهذه الخصوصيات ، ولا تتحدث عن الموضوع من قريب أو بعيد ، غير أننا نستطيع أن نتصيده من ثنايا أحاديثه الشخصية مع المقربين له ، حيث يرى عدم جواز التصدي للسلطة الحكومية في زمن الغيبة ، ولعل اتصاله بالميرزا النائيني في أيام مرجعيته العامة أثر على أستاذه في تبديل رأيه بالمشروطة الذي ضمّنه في كتابه « تنبيه الامة وتنزيه الملة » ، خاصة إذا عرفنا أن الميرزا النائيني ـ كما نقلت المصادر ـ في آخر الأيام أخذ يجمع نسخ الكتاب سواء المطبوع باللغة الفارسية أو المترجم للعربية. ونقل أنه بذل على تحصيل كل نسخة منه مالا يصل إلى ليرة ذهبية ، وقيل خمسة ليرات ذهبية. وتصفه أنه كان ذا ثراء ، ومال غزير (١).

ويعزز هذا الرأي أن الشيخ النائيني كان يهتم بالشيخ الحلي لعلاقته الوثيقة به ، وأنه من حضّار مجلسه العلمي أكثر من ١٨ عاما مما زاده وثوقا به ، وقد نقل أن سئل الميرزا النائيني عن سر اعتنائه البالغ واهتمامه الكبير بالشيخ الحلي ، فردّ بكل اعتزاز « إنه ما من مسألة تطرح حتى يكتب عنها رسالة مشتملة على التحقيق والتدقيق ونقل كافة الأقوال فيها ».

ولعل هناك سببا آخر دفع الميرزا النائيني تغيير رأيه بالنسبة

__________________

(١) حرز الدين ـ المصدر المتقدم ١ / ٢٨٦ ، وراجع : الأمين ـ أعيان الشيعة ٦ / ٥٤ وخيون ـ المصدر المشار إليه : ٢١٢.

١٠٣

للمشروطة وجمع كتابه « تنبيه الامة » هو ما حصل في إيران من استغلال أصحاب المشروطة الاعتداءات على الناس باسم مخالفة التوجه للمشروطة ، والإعدامات التي حصلت باسم مخالفة خط المشروطة ، كما حصل مع الشيخ فضل الله النوري (١) ، والشيخ باقر الاصطهباناتي (٢) لانهما ضدها ، وغيرهما ممن نالهما الاضطهاد والقمع ، وهذه من الامور التي ترفضها الشريعة الإسلامية. كل هذا دعا الميرزا النائيني لتغيير رأيه في موضوع المشروطة.

الشيخ الحلي وأحداث العراق المعاصرة

لقد تفجرت بالعراق في القرن الماضي أحداث كثيرة من انقلابات إلى ثورات ومؤامرات نجحت بعضها ، وفشلت بعضها ، وأدى كل ذلك إلى تعاقب حكومات تختلف في توجهاتها وايديولوجياتها. ومن أبرزها تغيير الحكم من الملكي إلى الجمهوري ، ومدى المآسي التي عاناها الشعب

__________________

(١) الشيخ فضل الله بن عباس النوري المولود في إيران عام ١٢٥٨ ه‍ هاجر إلى العراق ، وسكن في النجف ، ودرس فيها ، وعاد إلى إيران ١٣٠٠ ه‍ ، وأقام في طهران ، وكان علما من أعلام الإسلام ، واستنكر أعمال رجال المشروطة وعارضهم ، فالقي القبض عليه وحاكموه فحكم بالإعدام ونفذ فيه الحكم سنة ١٣٢٧ ه‍ ودفن في قم. انظر ترجمة : حرز الدين ـ المصدر السابق ٢ / ١٥٨.

(٢) الشيخ باقر بن عبد المحسن الاصطهباناتي الشيرازي ، وصفته المصادر بأنه فقيه عالم ، حكيم محقق في العلوم العقلية والنقلية ، هاجر إلى النجف عام ١٣٠٣ ه‍ ثم انتقل إلى سامراء للالتحاق بالسيد ميرزا محمد حسن الشيرازي ، وكان من المقربين له ، وبعد وفاة السيد عاد إلى النجف ، وانشغل بالدرس والتدريس ، وعاد إلى موطنه شيراز ، وصادف فيها أحداث المشروطة وقتل فيها عام ١٣٢٦ ه‍. انظر ترجمة حرز الدين ـ المصدر السابق ١ / ١٢٩ ـ ١٣٠.

١٠٤

العراقي من هذه الأحداث ، كان أشدها وأضيقها وأمرّها عهد صدام حسين الأسود ، ولمّا كانت المرجعية الدينية الشيعية في العراق تمثل الثقل الأكبر في المعادلة السياسية العراقية ، كان من الطبيعي أن يكون لها رأيها في التطورات السياسية العامة والخاصة التي تخص البلاد.

ولو تابعنا مسيرة المرجعية الدينية في القرن الماضي ، وما بعد سقوط النظام الشمولي لاحظنا أن المرجعية الدينية المتصدية في العراق بالأمس :

١ ـ تمثلت بالإمامين الراحلين السيد محسن الحكيم ، والسيد أبو القاسم الخوئي ـ قدس‌سرهما ولم يكن شيخنا الحلي بعيدا عن الجو السياسي العراقي أو الإيراني ، وحين عصف بالعراق الجمهوري الشأن السياسي الحزبي المتطرف فمثّل البعد الايديولوجي بينهما صراعا عنيفا انتهى بحرب طاحنة أكلت الأخضر واليابس في الدولتين ، وكان على مراجع الدين في الدرجة الاولى ـ بما يتحملوا من المسئولية الاجتماعية والسياسية ـ أن يحددوا الموقف الديني من القضية ، وهذا ما اصطدم به الشيخ الحلي وأمثاله ، وفي مقدمتهم المرجعان الدينيان السيد الحكيم والسيد أبو القاسم الخوئي ، وأن الموقف لا يختلف بينهم من حيث الرأي ، فلقد تصديا بصفتهما مركزي القيادة الدينية في العراق خاصة والعالم الإسلامي عامة ، وشيخنا الحلي يعيش الأمر نفسه ، ولكن درجة المسئولية الشرعية تختلف عما عاشها السيد الحكيم من قبل والسيد الخوئي بعده ، وكان الشيخ الحلي يقف إلى جانب المرجعية في مثل هذه الظروف ، ويساعدهم في الرأي ، وتحديد الموقف المقتضي ، على أساس تأييد المرجعية الدينية في أحلك ظروفها ضرورة دينية.

ومن هذا المنطلق المبدئي لم يترك الشيخ الحلي المرجعية الدينية

١٠٥

وحيدة تغوص في أعماق السياسة ما لم يشاركها الرأي الذي يقتضيه الشرع الشريف في الميدان الخطير. فالظروف القاسية التي مرّ بها العراق بصورة عامة والنجف الأشرف على الخصوص ، وما عانته المرجعية الدينية من نظام لم يحترم القيم الدينية ، ولا يبالي في اجتثاثها ليخلو له الجو بكل فعالياته ، ليقيم على أطلاله سلطته الدكتاتورية الدنيوية. ورغم هذا فان المرجعية الدينية الشريفة في النجف الأشرف التي كانت تعاني مداهمة الأخطار لكنها كانت تقف إلى صف الشعب لم يرهبها سيف الحاكم ، وشراسة الجلادين ، وسجلت موقفا رائعا في المحنة السوداء التي مرت على عراقنا مثل الصمود والتضحية والفداء من أجل عقيدتها وقيمها العليا ، وشرف الحوزة العلمية النجفية.

٢ ـ أما اليوم والمتمثلة بالإمام السيد علي السيستاني ( دامت بركاته ) وبقية المراجع ( أدام الله ظلهم ) التي تحتفي بهم مدينة النجف الأشرف اليوم دخلت بكلها في خضمّ السياسة العراقية العامة ، ولو على سبيل التوجيه والإرشاد ، نتيجة رجوع الجماهير إليها لتحديد الموقف المناسب والأصلح من الأحداث الجارية رغم عدم أخذها الكلي بمبدإ « ولاية الفقيه » كما هو رأي السيد الإمام الراحل السيد روح الله الخميني ( عطر الله مرقده ).

إن الشيخ الحلي مع كونه انضم مع السيد اليزدي في الشأن السياسي العام ، إلاّ أن من خلال أبحاثه نرى أنه توسع في صلاحيات الحاكم الشرعي ، ولا يحصرها بامور ضيّقة ، ويمكن أن نتعرف عليها من خلال هذين النصين.

الأول : صلاحيات الحاكم الشرعي على الطلاق جبرا على الزوج متى طلبت الزوجة منه ذلك من غير فرق بين :

١٠٦

١ ـ من لم ينفق على زوجته.

٢ ـ أو من اصيب بعنن بعد الوطء ولو مرة واحدة.

٣ ـ أو من ترك زوجته ولم يباشرها ولم يضاجعها مما ينطبق عليه عنوان الهجران بلا تقصير صادر منها ، أو غير ذلك من الموارد التي يعسر معها بقاء للزوجة بدون زوج ، فيرى الشيخ الحلي رحمه‌الله التوسعة في صلاحيات الحاكم الشرعي وشمولها لهذه السلطة ، وإجراء الطلاق جبرا على الزوج متى طلبت الزوجة ذلك منه (١).

وفي موضع آخر « إنه في هذا المورد الذي يتمادى الزوج في امتناعه من القيام بشئون الزوجية أن يجبر الزوج أوّلا بأن يوقع الطلاق بنفسه ، فإن امتنع أجرى الحاكم بنفسه الطلاق جبرا عليه ، لأن الحاكم الشرعي لا يقف مكتوف اليد في مثل هذه الموارد » (٢).

الثاني : ما جاء في بحثه الشوارع المفتوحة من قبل الدولة ـ أن ذكر طرقا خمسة لعدم جواز المرور عليها ، قال شيخنا الاستاذ الحلي : بعد انسداد تلك الطرق الخمسة يحتاج إلى إثبات ولاية الحاكم الشرعي وعمومها لما يتوقف عليه النظام ، وقد حققنا في محله عدم قصور أدلة ولاية الحاكم عن مثل ذلك ، وإن منعنا منها فيما لا يتوقف عليه الانتظام كالحدود مما هو من خصائص الإمام عليه‌السلام (٣).

ونلاحظ من ذلك أن شيخنا الحلي لم يطلق صلاحيات الحاكم الشرعي ، فاعتبر مثل إقامة الحدود وغيرها من مختصات الإمام ، فلا تكون

__________________

(١) عزّ الدين بحر العلوم ـ بحوث فقهية : ١٨٥ ـ ١٨٦.

(٢) عزّ الدين بحر العلوم ـ المصدر المتقدم : ١٩١.

(٣) عزّ الدين بحر العلوم ـ المصدر المتقدم : ٢٤٦.

١٠٧

له ولاية عامة وسلطة مطلقة ، لكنه لم يضيّقها في الموارد المنصوص عليها فقط ، بل سار في الجادة الوسطى حسب ما استفاده من الأدلة الشرعية.

إن شيخنا الحلي أحد الشخصيات العلمية الكبيرة في الوسط الإسلامي الشيعي لم يكن في العراق فحسب ، وإنما تعرفه المجتمعات الشيعية في أغلب مدن العالم الشيعي ، وعرف أكثر بقربه لكل المراجع العظمى التي حظيت بالرئاسة الكبرى في العالم الشيعي ، نظرا إلى أن الذين تسنموا هذه المكانة هم زملاؤه لدى دروسهم عند أعلام النجف السابقين ، وكان الغالب من المراجع لهم رأي في الأحداث السياسية التي حصلت في البلاد الإسلامية في مقدمتها العراق وإيران خلال تلك الحقبة ، بالإضافة إلى أن الشيخ لم يكن بعيدا عن هذه الأحداث الخطيرة التي عمّت المنطقة وتعامل معها العلماء إيجابا أو سلبا على اختلاف مواقفهم.

وبحكم صلتنا به ـ وهو بمنزلة الأب الروحي لنا ـ لم نر منه قولا أو كتابة بما يشير من قريب أو بعيد عن التأييد أو الرفض لتلكم الأحداث ، مع أنني شخصيا ـ وبحكم قربي منه ـ كنت أناقشه في كثير من الأحداث ، وخاصة في وجود المرحوم والدي الذي كان بحكم مركزه الاجتماعي والسياسي في العراق لا يتباطأ في إعلان رأيه ، ومن أجل تحديد الموقف الشرعي كان يتشاور مع الشيخ ، ويستنير برأيه في مثل تلكم الملمات الخطيرة ، وكان الشيخ رحمه‌الله لا يبخل عليه برأي ومشورة ، لكنه عند ما يطلب منه الادلاء برأيه الشخصي في الاعلام الخارجي كان يتوقف عن الإجابة ، بالخصوص إذا كان المقصود التصريحات الصحفية ، ولعله كان ملتزما برأيه بفصل الدين عن السياسة ، ومن هذا المنطق كان حذرا من التدخل في القضايا السياسة خاصة الساخنة منها.

١٠٨

إن الشيخ الحلي بحكم معايشته للأحداث السياسية العراقية ، وما حصل فيها من سفك دماء ، وإرعاب للناس ، وغمط لحقوق الجماهير ، واستغلال الأحزاب الظروف المواتية لصالح مراكزها ، ترك أثرا كبيرا في نفوس المتحمسين الوطنيين ودعاهم إلى الابتعاد من السياسة بل هجرها ، وهجر العراق إلى دول تتعاطف مع الديمقراطية ، وتؤمن بحقوق الجماهير في التعايش السلمي ، وحرية الرأي بدلا من الاستحواذ السياسي. هذه الصورة القاتمة التي عكستها أوضاع العراق الحديثة بالإضافة إلى رواسب أحداث المشروطة والمستبدة في ايران ، وما دعا الميرزا النائيني إلى الارتداد عن رأيه الخاص بالنسبة للحرية السياسية ، ونبذ الاستبداد في السلطة ، وتناوب المآسي الفضيعة في العراق منذ ما يسمى بالحكم الوطني في العشرينات من القرن الماضي ، تركت الشيخ للابتعاد عن الشأن السياسي ، وفك الارتباط معها كمتصد ورائد لتلكم التحركات التي عاشها الإنسان العراقي من بداية القرن الماضي إلى يوم وفاته بالثمانينات.

إن هذه النظرة الفاحصة على مجمل الوضع السياسي العراقي من خلال هذه الأزمنة التي تعبّر عن نظرة عميقة لقراءة السجل التاريخي للعراق ، وحينها قد يكون من حقه الشرعي أن يبتعد عن الانزلاق في هذا الخط المثير للشبهات الشرعية ، والمشاكل الوطنية.

نهاية الحديث

بعد هذا التطواف المختصر في حياة شيخنا الحلي قدس‌سره نستطيع أن نوجز أهم المراحل التي تؤرخ حياة شيخنا المعظم ، وتعكس للقارئ الكريم شخصيته الفذة ، إلى جانب ما تقدم نضيف الآتي :

١٠٩

أوّلا : العالم المؤمن.

الإنسان الذي يحمل في دخيلته عقيدة معمّقة بالله سبحانه وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام ويتكل عليهم في مهماته قطعا ينال التوفيق من الله عزّ وجل ، ويتبدل الضراء بالسراء من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب ، وينعكس ذلك على منظومة حياته في سلوكه وأخلاقه وأي جانب له علاقة بهذين المقوّمين : السلوك والأخلاق.

وشيخنا الحلي حين تنسجم معه في أقواله وأفعاله تراه مثلا للايمان العميق بتوجهه السلوكي والأخلاقي ، ولعلنا نفهم ذلك من خلال ما نقل عنه أحد طلابه ، وأنه كان الشيخ في حالة عسرة وتوجه لله سبحانه ، فأبدله من حال إلى أحسن حال.

فقد نقل الشيخ إلى طلابه ذات يوم وهو يحدّثهم عن أثر المعتقد في نفس الإنسان ، فقال :

« في أحد الأيام تحدث لنا الاستاذ في درسه قائلا : كان أخي حائكا ، وكنت أعمل في الخياطة ، وكان والدنا من العلماء العظام ، ويصلي في الصحن الشريف ، فدخلت يوما عليه وهو جالس في مكتبته مهموما مغموما ، فسألته عن سبب ذلك؟ فقال : جمعت كل هذه الكتب ، ولكن لا أجد من يستفيد منها من بعدي. فتأثرت بكلماته ، وأظهرت له استعدادي في تحصيل العلم ، فسرّ بذلك واستبشر كثيرا ، فقام بتهيئة كافة مستلزمات وحاجيات طالب العلم من لباس وعمة وعباءة وقباء وما إلى ذلك ، وقام بتوجيه الدعوة للأساتذة والأصدقاء لإجراء حفل ارتداء العمة وتاج الملائكة والانخراط بسلك الروحانيين ، وقد اختار يوم الحفل ذكرى ولادة أمير

١١٠

المؤمنين علي عليه‌السلام تبركا بالمناسبة ، وفي الحفل انتابني الفرح والسرور الشديدان حيث أصبحت موضع الاحترام والتقدير من قبل الأصدقاء والاساتذة الأفاضل.

وأخذت غرفة في مدرسة القوام ، واشتغلت بالدراسة عند أساتذة الصرف والنحو ، وفي يوم دعاني والدي وسألني عن المرفوعات والمنصوبات في باب النحو ، ولم أتمكن من الإجابة ، ووجدت الأمر عسيرا عليّ ، فتأثر والدي كثيرا لضياع الوقت والجهد من دون فائدة. وقال لي زاجرا : إن كنت غير قادر على الفهم فدع تحصيل العلم جانبا وارجع إلى الخياطة.

وكانت هذه بمثابة صدمة لي ، لأنني كنت مستأنسا باللباس الروحاني ، ومسرورا بما أجده من احترام وتقدير الآخرين لي ، وخرجت من والدي باكيا ، وتوجهت إلى غرفتي في مدرسة القوام ، وخطر ببالي أن أتوضأ وأصلي صلاة الحاجة ، فدخلت الحجرة وصليت ركعتين ، وبعد الصلاة بكيت ، وخاطبت ربي قائلا : إلهي أنت أعرف بحال والدي ، وأنا لا اريد إيذاءه ، وهو لا يتركني من دون أحد أمرين : إما تحصيل العلم ، أو نزع العمة ، وأنا كلما حضرت الدرس لا أفهم شيئا منه ، كما ليس بامكاني نزع العمة. فطلبت بدعائي : إما الفهم أو الموت ، ومكثت في الغرفة باكيا متضرعا لله حتى الصباح.

وكالعادة أخذت الكتاب في الصباح وذهبت إلى الدرس ، فوجدت نفسي أفهم كل ما يلقيه الاستاذ عليّ ، بل أصبحت فاهما لما سلف من الدروس ، فحمدت الله كثيرا على ما حباني من الفهم وتقبل الدرس ، وهي نعمة بالغة.

١١١

ثم ختم حديثه الاستاذ الحلي رحمه‌الله قائلا : تعجبت لسرعة استجابة الدعاء ».

والظاهر أن نشوة الانفراج أنسته الآية الكريمة : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب اجيب دعوة الداعي إذا دعان ) (١) وإذا انقطع الإنسان إلى خالقه فلا بدّ أن يجيب فهو الرحيم الودود ، وهكذا كانت تلك الساعة الفريدة التي انقطع فيها الشيخ إلى خالقه فألهمه الفهم والتوجه.

ثانيا : العالم المجدد.

ولعل الشيخ الحلي أول فقيه لجامعة النجف الأشرف يعيش المواضيع المستجدة المستحدثة ، والتي تتطلب رأي الشريعة الغراء فيها ، وحسب متطلبات العصر ، بمنهج رصين ، وأسلوب متميز ، ظهرت خاصة في تقريرات تلميذه الشهيد السيد عزّ الدين بحر العلوم في كتابه « بحوث فقهية ».

كما أبرز تصوراته الاصولية التي عبّرت عن آرائه الجديدة تلميذه المرحوم آية الله السيد محمد تقي الحكيم في انطباعاته في بعض محاضراته الاصولية ، خاصة في الوضع والعرف والمعنى الحرفي وغيرها.

ثالثا : العالم المحقق.

المطلع على مقتنيات مكتبته المتنوعة ، وما أجرى على أغلبها من ملاحظات وتعليقات وتصحيحات وهوامش ، يستطيع أن يحكم حينها على أن هذه الشخصية موسوعية ، ملمّة بالفقه والاصول والحديث والتاريخ

__________________

(١) سورة البقرة / آية ١٨٦.

١١٢

والأدب. وليت الأخ ولده الفاضل الشيخ محمد جواد أن يفسح المجال لرواد الفكر بطبع هذا التراث القيّم ليستفيد منها الكثير من طلاب المعرفة.

رابعا : الرجل العارف.

إن شيخنا الجليل من أولئك الأبدال الورعين الذين تركوا بهرجة الدنيا زادا للآخرة ، ورغم أنه قدس‌سره لم يتظاهر بما يثير فيه الحرص على طلب هذه المظاهر التي لا علاقة بها مع الناس ، وإنما لتقربه من خالقه الذي منّ عليه بلطف المعرفة والفضل ، وإذا كانت ثمة دلالة على ذلك فحياته البسيطة ، والعيش الكفاف ، وعدم قبوله للمظاهر الدنيوية خير دليل على المدعى.

خامسا : العالم الموسوعي.

ولا شك أن شيخنا كان من الذين تبحروا في اختصاصه الفقهي والاصولي نتيجة انتمائه إلى مدرسة الفرسان الثلاثة : النائيني ، والعراقي ، والاصفهاني أقطاب الحوزة العلمية الدينية في النجف الأشرف ، بالإضافة إلى الاطلاع الواسع على تراث العصر الذي خلفه أساتذة القرن من بناة المدرسة الفقهية والاصولية في جامعة النجف بداية من عهد الشيخ المفيد ، والسيد المرتضى ، والشيخ الطوسي ، إلى جيل أجداده الحليين ، إلى عصره ، وما طرأ عليه من تطور فكري عظيم ، مضافا إلى تضلعه في التاريخ والأدب ، وما يتصل بهما من علوم ، وكان ما يقرأه من الكتب المصدرية يفهرس لها فهرسا خاصا بما يتعلق بالمذهب أو القضايا المتعلقة بالدين أو بعض النكات التاريخية أو الأدبية التي يرى فيها فائدة تاريخية أو معرفية ، وقد أكد هذا الأمر أحد تلاميذه السيد محمد حسين الطهراني اللاله زاري ،

١١٣

حيث يقول :

هذا العالم متضلع وخبير ومنظم ، وكل كتبه سواء الشيعية أو العامة بعد مطالعتها يعمل لها فهرسا خاصا لما يتعلق بالمواضيع التي يرى فيها خصوصية للمذهب أو غيره ، وكانت هذه الفهارس موضع استفادة من يرغب للاستفادة بها (١).

بعد هذا فان كل هذه المؤهلات الضخمة تساعدنا بدون تردد أن نقبل اللقب الذي اطلق عليه بحق « شيخ فقهاء عصره » وإن كان يعتز هو باصوليته ـ كما أشار إليها ـ ونقل عنه « إني مشهور عند الناس بالفقه ، واصولي أقوى من فقهي ».

سادسا : العالم الوطني الرزين.

وأخيرا إلى جانب كل ذلك وطني شارك في الثورة ضد احتلال العراق في جهاد العلماء ضد الإنكليز ، وعاش أحداث العراق في تطوراتها التي مرت عليه من ثورة العلماء في العشرينات إلى يوم وفاته في أشق مأساة يشهدها العراق في قرنه المختم بالأحداث المؤلمة ، والسابحة في برك الدماء البريئة ، والقهر المبرمج ، والضيم القاتل ، والشعب هو الضحية بين تلكم الآلام التي تتمدد على حافة التاريخ لتربط الحاضر المقهور بالماضي المهزوز ، ولم يعلن رأيه ضدها ، وهو ـ حسب رأيي ـ من الذين يرون لا شأن لعلماء الدين في السلطة زمن الغيبة ، ورغم أن خلع نفسه من ممارسة مسئولية المرجعية المتصدية ، فان مشاعره المرهفة والحساسة لم

__________________

(١) آيت نور محمد حسين الطهراني اللاله زاري : ١ / ١٦١.

١١٤

تتخل عن معايشة الكارثة وتفاعلاتها الخطيرة على الوطن والمواطن.

سابعا : العالم المربي.

كان شيخنا الراحل الحلي يحرص كل الحرص على أن يولي غالب طلابه الاهتمام الكامل للاطلاع على ما يكتبه تلاميذه سواء أكانت من محاضراته التي يلقيها عليهم فقها واصولا ، أو غيرهما من المواضيع التي تثار معه فتألف بحثا قائما في ذاته ، كما حدث مع الشهيد السيد عزّ الدين بحر العلوم في كتابه « بحوث فقهية » فقسم من مواضيع كتابه المذكور لم يتطرق لها المرحوم الشيخ في بحثه « التعطيلي » ، وحين رغب السيد الشهيد أن تكون ضمن بحوث الشيخ بدأ يهيئ المواضيع ويعرضها على الشيخ حتى إذا تبناها ضمها إلى كتابه المشار إليه.

وقد لاحظت أنه كان يهتم كثيرا أن يجري على بعض تقريرات دروسه التصحيحات المقتضية لشرح رأيه ، ونجدها مثبتة بعضها في صفحات.

وأذكر أني جئته مستفسرا عن فقرة وردت في بعض خطب الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام حيث يقول فيها : « ثم يظهر صاحب القيروان الغض البض ذو النسب المحض من سلالة ذي البداء المسجى بالردى ... » (١) من هو هذا؟ فردّ رحمه‌الله بالامكان أن تبحث وتعرف من هو المقصود ، وعرفني بذلك!

راجعت كثيرا من المصادر حتى وقفت على أن المقصود بعبارة الإمام

__________________

(١) ابن أبي الحديد ـ شرح النهج.

١١٥

هو جدّ الفاطميين الذين أسسوا الدولة الفاطمية بالمغرب ومصر في نهاية القرن الثالث الهجري ، ولعله هو « عبيد الله المهدي » ، وطلب مني أن أبحث تاريخيا عنهم. وأن أتابع بحثي عن الدولة الفاطمية ، وهو يطلع على ما وصلت إليه ويقرأ ما أكتب ويصحح حين يرى استنتاجاتي مجافيات للواقع حتى وصل بي البحث إلى ثلاثة أجزاء ، ولا زالت مخطوطة.

هكذا كان مربيا ويحرص كل الحرص على من يهتم لأمره أن يشجّعه على البحث والكتابة ، ويرشده في كثير من الأحيان إلى المصادر المقتضية للبحث.

١١٦

نهاية البحث

في نهاية الحديث ، يقول الاستاذ المرحوم محمد علي الحوماني الكاتب والأديب اللبناني الشهير عن الشيخ الحلي ، وكان يلتقي به في مجلس المرحوم السيد علي بحر العلوم اليومي :

« كنت أجلس أحيانا إلى العلاّمة المحقق الشيخ حسين الحلي فأجده منكمشا على نفسه يسامر « نارجيلته » وهو مطرق لا يرفع رأسه إلاّ لسائل أو قائل ، فإذا أجاب أو وعى رجع إلى إطراقه يساجل سميرته ، ويكاد الشاعر الحساس يشرف على قلبه وهو مضغوط بين يدى اليأس من هذا المجتمع ، والنقمة على هذا النفر من الناس ـ عنيت النفر الذي هو منهم ـ وفي الطليعة من مقدمة جمهورهم الصاخب في وجه الطغيان.

الحلي كان الساعد الأيمن للمجتهد الكبير الميرزا النائيني المتوفى قبل أعوام ، ولقد كانت تثنى له الوسادة بين يدي عميده ، وكان هو المرجع الثاني إذ يرجع الناس إلى استاذه ، وها هو اليوم معطل قابع يتلمس في ظلام هذا الأفق القاتم وجها يتذرع به إلى السلوى عما يرى ويسمع ، وهل هناك أشقى من عالم هجره قومه ، وفرغوا للالتفاف بمن هو دونه ، حتى انطوى على نفسه كما انطوى إمامه من قبل ، فحرم الناس من جوهر مرّ به ثلاثون عاما وهو يصقله ليشع الأنفس القاتمة بما ينبعث عنه من نور » (١).

لبى شيخنا الحلي نداء ربه في الرابع من شهر شوال عام ١٣٩٤ ه‍ ،

__________________

(١) محمد علي الحوماني ـ بين النهرين : ٩٤ ـ ٩٥ / طبع بيروت مطبعة الكشاف ١٩٦٤.

١١٧

ودفن في الصحن الحيدري الشريف في مقبرة استاذه الشيخ محمد حسين النائيني بالحجرة السادسة على يسار الداخل إلى الصحن الحيدري من الباب الكبير ( باب الساعة ).

وقد أرخ وفاته المرحوم السيد محمد الحلي قال :

فجع الغري وأصبحت

تبكي القداسة والعلوم

لما قضى شيخ الفضائل

من به العليا تريم

إن ( الحسين ) لآية

فيها الشريعة تستقيم

الحلة الفيحاء صارت

فيه تحسدها النجوم

وبه الغري سما مقاما

حين راح به يقيم

ساد الظلام بفقده

فوفاته خطب جسيم

فجع الوصي فأرخوا

( رزء الحسين به عظيم) (١)

١٣٩٤ هـ

رحمك الله يا سيدي ، وحباك من رضاه وغفرانه في آخرتك ما آنس وحشتك ، ووفقنا لنحفظ حقك علينا ما دمنا نشعر بالحياة ، ونستضيء بالنور.

__________________

(١) الحسيني ـ المصدر السابق : ٣٩.

١١٨

١١٩

[ نص إجازة آية الله العظمى الميرزا النائيني

لآية الله الشيخ الحلي قدس‌سرهما في الاجتهاد والرواية ]

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأفضل صلواته وأزكى تحياته وتسليماته على من اصطفاه من الأولين والآخرين وبعثه رحمة للعالمين محمد وآله الأئمّة الطيبين الطاهرين الكهف الحصين وغياث المضطر المستكين وعصمة المعتصمين وملجأ الهاربين ومنجى الخائفين واللعنة الدائمة على أعدائهم أبد الآبدين.

وبعد ؛ فإن شرف العلم لا يخفى وفضله لا يحصى ، قد ورثه أهله من الأنبياء ، وأدركوا به درجات الصديقين والشهداء. وممن جدّ في الطلب والعمل به هو قرّة عيني العالم العامل العلاّم والفاضل الكامل الهمام ، صفوة المجتهدين العظام وعماد الأعلام وركن الإسلام المؤيد المسدد التقي الزكي جناب الآغا الشيخ حسين النجفي الحلي كثّر الله تعالى في أهل العلم أمثاله ، وبلّغه من الدارين آماله. فلقد بذل في هذا السبيل برهة من عمره واشتغل به شطرا من دهره ، وقد حضر أبحاثي الفقهية والاصولية باحثا فاحصا مجتهدا باذلا جهده في كتابة ما استفاده وضبطه وتنقيحه ، فأصبح وهو بحمد الله تعالى من المجتهدين العظام والأفاضل الأعلام ، وحقّ له العمل بما يستنبطه من الأحكام على النهج الجاري بين المجتهدين الأعلام ، فليحمد الله تعالى على ما أولاه ، وليشكره على ما أنعمه به وحباه ، فلقد كثر الطالبون وقلّ الواصلون ، وعند الصباح يحمد القوم السرى وينجلي عنهم غلالات

١٢٠