تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ١

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ١

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

المنضم إلى إحدى الإشارتين المذكورتين ، كما يؤيده كثرة تكرر الأمر بالعبادة في الكتاب والسنة ، وكثرة طرو التقييدات عليه بعد مجلس الإطلاق .

ومن جملة الموانع المدعاة ما قد يقال : من أن العلم الإجمالي بأن المراد من الصلاة ، ونحوها من مطلقات الكتاب والسنة شيء معين عند المتكلِم يوجب إجمال المطلق ، فلم يبق مسرح للتمسك بإطلاقها .

ولك أن تجيب عنه أولاً : بالنقض بأن المراد من جميع الألفاظ الصّادرة عن المتكلم شيء معين عنده من المعاني الحقيقية والمجازية .

وثانياً : بالحل ، وهو أن إجمال الإرادة لا يوجب إجمال الدلالة بعد ثبوت ظهورها ولو بالأصل ، كما أن إجمال الدلالة لا يوجب إجمال الإرادة بعد ظهورها ، بل كل منهما يستتبع الآخر ، فيرتفع بذلك إجماله إلا في صورة تساويهما في الإجمال .

ومن جملة الموانع : دعوىٰ طرو التقييد على ألفاظ العبادات بالأجزاء والشروط الكثيرة ، الموجبة لوهن إطلاقها ، وسقوطه عن درجة الاعتبار ، ومقتضاه رجوع القول بالأعم بالأخرة إلى إجراء حكم الإجمال ، المستلزم للقول بالصحيح في مقام العمل ، فلم يبق بينه وبين القول بالصحيح فرق سوى الإجمال الذاتي والعرضي .

وللأعمي أن يجيب أولاً : بمنع الصغرى ، أعني منع طرو التقييدات الكثيرة على جميعها ، وان كان في بعض الألفاظ محتملا .

وثانيا : بمنع الكبرى ، أعني منع مانعية طرو التقييدات الكثيرة عن الإطلاق ، ووهنها فيه ، وإن بلغت في الكثرة إلى حد لم يبق تحت الإطلاق سوى فرد واحد ، بل الظاهر من أساتيدنا الأعلام دعوى الوفاق ، على أن ذلك من فروق المطلق عن العام وأن كثرة التخصيصات موجبة للوهن في العموم ، وكثرة التقييدات غير موجبة للوهن في الإطلاق ، سيما على القول بأن المطلق حقيقة في المقيد ، بل لو سلم الوهن فإنما هو في خصوص ما إذا بلغ التقييد في الكثرة إلى حد العجز عن إحصائه .

٣٦١
 &

ومن جملة الموانع المدعاة ما يقال : من أن اعتبار إطلاق ألفاظ العبادات على القول بالأعم إنما هو فرع معرفة العرف بمعانيها ، والمفروض عدم حصول معرفتهم بها حتى يجوز التمسك بإطلاقها .

وللأعمي أنْ يجيب بحصول معرفتهم بها بعد زمان الصادقين عليهم السلام ، بل وقبله أيضاً .

فإن قلت : إنّ حصول المعرفة بمعانيها في زمان الصادقين عليهم السلام لا يثمر جواز التمسك بإطلاقها في زمان الصدور .

قلت : حدوث حصول المعرفة بالمعنى الأعم بعد زمان الصدور بواسطة كثرة الاستعمال ، او بيان المعصومين عليهم السلام ، ليس موجباً لحدوث صدق اللفظ في الأعم وإطلاقه فيه ، بل إنما هو كاشف عن صدقه وإطلاقه فيه في زمان الصدور ، وان لم يعرفه العرف في ذلك الزمان ، مع أن التحقيق معرفتهم في زمان الصدور بمعنى الصلاة ، والصوم ، والزكاة ، والحج ، ونحوها من المعاني المشروعة في الأمم السابقة .

ومن جملة الموانع المدعاة دعوىٰ طرو التشكيك على مصاديق مطلقات ألفاظ العبادة بواسطة غلبة استعمالها الشارع في الصحيحة ، ومن المعلوم أن اعتبار الإطلاق فرع تواطؤ صدق المطلق على أفراده بالسوية وعدم طرو التشكيك عليه .

وللأعمي أن يجيب أولاً : بمنع بلوغ الاستعمال في الصحيح إلى حد يوجب تشكيك المطلق ، وانصرافه إلى الصحيح من غير قرينة ، كما عرفت منه هذا المنع عند الاستدلال على مذهبه .

وثانياً : بدعوى حدوث تشكيكه الحاصل من غلبة الاستعمال في الصحيح بعد زمان الصدور بكثير ، وهو لا يصلح للقدح في جواز التمسك بإطلاقها الثابت حين زمان الصدور .

ومن جملة الموانع دعوى طرو التقييد على إطلاقها بالأخبار البيانية

٣٦٢
 &

المجملة ، من حيث اشتمالها على الأمر بافعال لم يتميز الواجب عن المندوب فيها ، كقوله صلّى الله عليه وآله ( صلّوا كما رأيتموني أصلي ) (١) وقوله عليه السلام في صحيحة حماد ( هكذا صلىٰ ) (٢) مشيراً إلى فعله عليه السلام ، وقوله عليه السلام ( هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ) (٣) مشيراً إلى فعله عليه السلام ، وقوله صلى الله عليه وآله ( خذوا مناسككم عني ) (٤) .

وللأعمي أن يجيب أولاً : بمنع طرو التقييد على الإطلاقات بالأخبار البيانية المذكورة .

وتفصيل هذا الجواب : أما عن قوله صلى الله عليه وآله ( صلوا كما رأيتموني ) فبأنه .

أولاً : محتمل لمطلوبية مقدار ما يحصل معه التسمية مما رأوه ، دون مطلوبية ما يزيد على المسمى مما هو غير معين ، فيكون قوله ( كما رأيتموني ) بياناً لمسمى المطلق ، لا تقييداً له بما هو مجمل .

ولكن هذا الجواب مبني على أن يكون صدور قوله عليه السلام ( صلوا كما رأيتموني ) واقعاً في أوائل البعثة ، ليكون من جملة التكاليف المبينة شيئا فشيئا ، ولم يثبت وقوعه فيها ، بل الثابت في صحيحة حماد وبيان الوضوء عدم الوقوع فيها ، مع أنه لو ثبت وقوعه فيها ، لكن لم يثبت وقوع التشريع في العبادة الارتباطية شيئا فشيئاً ، فإن القدر المتيقن ثبوته في العبادات الاستقلالية .

وثانياً : محتمل لأن يكون المراد الإخبار عن أن الملائكة صلوا في ليلة المعراج كما رأيتموني أصلي ، فيكون صلوا فعل ماض لا أمر ، كما يرشد إليه كونه في ذيل حكايات ليلة المعراج ، ولكن لا مسرح لهذا الاحتمال في صحيحة حماد ، وخبر

___________________________

(١) عوالي اللاۤلى ١ : ١٩٨ الحديث ٨ ، سنن البيهقي ١ : ١٢٤ صحيح البخاري كتاب الأذان ، باب الأذان للمسافر اذا كانوا جماعة والإقامة . قطعة من الحديث .

(٢) الوسائل ٤ : ٦٧٤ باب ( ١ ) من ابواب افعال الوضوء الحديث ١ .

(٣) الوسائل ١ : ٣٠٨ باب ( ٣١ ) من ابواب الوضوء الحديث ١١ . الأبواب حديث ١١ .

(٤) رواه ابن ميثم البحراني ( قده ) في شرحه على نهج البلاغة ١ : ٢٢٥ من الطبعة الحديثة ، ورواه في المستدرك كتاب الحج باب ( ٥٤ ) من أبواب الطّواف حديث ٤ نقلاً عن العوالى .

٣٦٣
 &

بيان الوضوء .

وثالثاً : سلمنا ، لكن المطلوب من تلك الأحاديث إن كان تطبيق عمل المصلي على عمله عليه السلام في جميع خصوصيات الحركة والسكون ، والوقف والوصل ، وغير ذلك من الكيفيات الخاصة المتعذرة للمكلف ، فمن المعلوم امتناعه مطلقا سواء كان الطلب للوجوب ام للندب ، وإن كان المطلوب وجوب التطبيق عليه بحسب القدرة والإمكان ، فمن المعلوم منعه ، للعلم الإجمالي باشتمال فعله عليه السلام على كثير من المستحبات ، فلا وجه لوجوبها على المكلف ، وإن كان المطلوب استحباب التطبيق عليه بحسب القدرة والإمكان ، فمن المعلوم عدم لزوم الإتيان بمعلوم الاستحباب ، فضلاً عن مجهوله ومجمله .

ورابعاً : بأن المراد من قوله ( صلى الله عليه وآله ) كما رأيتموني او كما أصلي ليس التشبيه الحقيقي ، بل هو للترغيب والتهييج ، كقولك للمريض : إشرب الدواء كما أشرب أنا ، ويقرب من ذلك قولهم ( اللّهم صلّ على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم ) فإن الكاف فيه ليس للتشبيه في جميع الخصوصيات ، بل للتشبيه من جهة خاصة من الكيفية او الكمية ؛ ضرورة أفضلية المشبه من المشبه به .

وأما عن قوله صلى الله عليه وآله ( خذوا مناسككم عني ) :

فأولاً : بأن المقصود الأخذ بأحكام المناسك عنه ، لا الأخذ بموضوعاتها عنه ، سواء أريد من المنسك المذهب الذي يلزم العمل به ، او ما يختص بأفعال الحج وعباداته .

وثانياً : بأن المقصود من الأخذ عنه ردع الأخذ بالقياس ، والاستحسان ، وسائر المصالح المرسلة التي هي دأب المخالفين ، لا ردع الأخذ بالإطلاق والظهور فإن الأخذ بهما أخذ عنه ، لا عن غيره .

وثانيا : لو سلم الأعمي طرو التقييد بتلك الأخبار البيانية المجملة على الإطلاقات ، لكن له أن يجيب برفع إجمال تلك الأخبار الواردة في بيان العبادة فعلاً بالأخبار الأخرى الواردة في بيان العبادة تقريراً ، كقوله عليه السلام ( الوضوء

٣٦٤
 &

غسلتان ومسحتان ) (١) وقوله عليه السلام ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) (٢) ، و ( لا صلاة إلا بطهور ) (٣) ، و ( لا صلاة إلا إلى القبلة ) (٤) إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في بيان الشروط والأجزاء الظاهرة في الاقتصار المقتضي للانحصار .

ومن جملة الموانع أن ألفاظ العبادة وإن كان بالذات لها إطلاق من حيث الوضع للأعم من الصحيح والفاسد ، إلا أن وقوعها عقيب الأمر والطلب قرينة صارفة عن إطلاقها ، ومعينة لإرادة الصحيح منها ، ضرورة أن الشارع لا يأمر إلا بالصحيح .

وللأعمّي أن يجيب أولاً : بالنقض ، بألفاظ المعاملات ، بل بجميع المطلقات الواقعة عقيب الأمر والطلب ، كقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، و ( أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ) . و ( أعتق رقبة ) إلى غير ذلك ، حيث اتفق سيرة الفقهاء وديدن العلماء على الأخذ بإطلاقها مع وقوعها عقيب الأمر والطلب .

وثانياً : بالحل ، وهو أن معنى الصحة إما موافقة الأمر ، كما هو مصطلح المتكلمين ، او إسقاط القضاء ، كما هو مصطلح الفقهاء ، او مفهوم تام الأجزاء والشروط النفس الأمرية ، او مصداقه الحاصل من صدق اللفظ المقيد بالأجزاء والشروط المعلومة من الأدلة الخارجية ، لا الواقعية .

إذا عرفت ذلك فنقول : وقوع المطلق عقيب الأمر والطلب لا يصلح قرينة لتقييده بالصحة بأحد المعنيين الأوليين ، لما مر من تأخر الصحة بأحد المعنيين الأوليين عن الطلب بمرتبتين ، والمتأخر عن الشيء يمتنع عقلاً أخذه في عرض الشيء وقيداً للشيء ، ولا لتقييده بالصحة بالمعنى الثالث ، فإنّه وان لم يمتنع عقلاً إلّا أنه يقبح عرفاً ، ضرورة استلزام التقييد بالمعنى الثالث ، وهو مفهوم تام الأجزاء والشروط الواقعية لازدياد القيد ، وإجماله الموجب لإجمال المقيد ، وأصالة الإطلاق وعدم التقييد وغلبة البيان تدفعه ، فإن قرينة وقوع المطلق عقيب الطلب لا يقتضى

___________________________

(١) روى نحوه في السنن الكبرى ١ : ٧٢ ، عن ابن عباس .

(٢) انظر ص ٣٣٢ هامش ٧ وص ٣٥٩ هامش ٢ .

(٣) انظر ص ٣٣٢ هامش ٦ وص ٣٥٩ هامش ١ .

(٤) انظر ص ٣٣٢ هامش ٩ .

٣٦٥
 &

أزيد من تقييده بالمعنى الرابع وهو مصداق تام الأجزاء والشروط ، المعلومة من الأدلة الخارجية ومن الواضح أن مقتضى ذلك بيان القيد وإطلاق المقيد ، لا إجمال القيد وإجمال المقيد كما توهم .

وبالجملة فقرينة وقوع المطلق عقيب الطلب إنما تصلح لصرف الإطلاق بمقدار ما علم التقييد به من الأدلة الخارجية لا لصرف الإطلاق بالكلية (١) .

وأمّا ما اورد على الثمرة على قول الأعمي فامتنها أيضاً وجهان : حاصلهما دعوى إجمال الخطاب على هذا القول أيضاً فتنفى الثمرة .

أولهما : أنّ الألفاظ على هذا القول وان كانت مبيّنة ذاتاً لكنّها صارت مجملة لعارض ، وتقرير الإجمال بوجهين :

الأوّل : أنّ تلك الألفاظ على هذا القول ظاهرة بالذات في الطبايع المطلقة ، لكنا نقطع بخروج كثير من أفرادها عن تحت الأوامر الشرعية ، بل بخروج أكثرها إجمالاً فإنّ أكثرها فاسدة وهو لا يريد الفاسدة قطعا ، وليس في المقام ما دلّ على تعيين تلك الأفراد المخرجة فتشتبه بغيرها من أفراد الطبيعة ، فتكون الخطابات مجملة من باب العرض لإجمال مصاديق موضوعها .

الثاني : أنّ تلك الألفاظ على هذا القول وان كانت بانفسها ظاهرة في الطبيعة الأعم من الصحيحة ، لكن مراد الشارع في أوامره هي الصحيحة لا غير باتفاق الفريقين ، فعلى هذا يلزم إجمال مفهوم المامور على هذا القول أيضاً فانتفت الثمرة .

والجواب عن الوجه الأوّل : أنّ العلم الاجمالي بخروج بعض الأفراد عن تحت العام ، او المطلق إنّما يوجب إجمالهما وسقوطهما عن الاستدلال إذا لم يعلم بعد الفحص عن مظان هذا البعض بعدة أفراد خارجة عن تحتهما تكون بمقدار المعلوم الإجمالي ، وأمّا مع العلم التفصيلي بعد الفحص بتلك العدة الموافقة لعدد المعلوم

___________________________

(١) تمت التقريرات من مبحث الصحيح والأعم بقلم السيد عبد الحسين الموسوي الدزفولي اللاري رحمة الله عليه ، وما يليها بقلم الروزدري « ره » .

٣٦٦
 &

بالإجمال فلا وجه للتوقف عن الاستدلال بهما بالنسبة الى سائر الافراد المشكوك خروجها ، فإنّ الشك حينئذ بالنسبة إلى ما بقي من المحتملات بدويّ ، ومعه لا وجه للمنع من التمسك بهما على عدم ورود التخصيص او التقييد بالنسبة إليهما كما سيأتي بيانه .

فحينئذ فإن كان المراد أنّ ما نحن فيه ، أعني ألفاظ العبادات الواقعة في حيّز الأوامر الشّرعية من قبيل الأوّل إمّا بعدم العلم التفصيلي بشيء من الأفراد المخرجة أصلاً ، وإمّا معه ، لكن لا بما يطابق المعلوم الاجمالي فمنعه ظاهر .

ولو سلّمنا فهو إنّما في بعض الموارد ، وأمّا في أكثرها فالظّاهر أنّها من قبيل الشق الثاني أي العلم التفصيلي بالعدة الموافقة للمعلوم .

وإن كان مراده حينئذ تسليم أنّها من القسم الثّاني ، لكن يمنع من التمسّك به حينئذ فقد عرفت ما فيه .

وعن الوجه الثّاني : أنّ الأوصاف العارضة للفعل إمّا ممّا ينتزع من الحكم المتعلق به ، ككونه مأموراً به ، او منهيّاً عنه ، وإمّا من قبيل الأغراض والغايات الدّاعية إلى تعلّق الحكم به ، ككونه مقرِّباً ، او خضوعاً ، او مبعِّداً وموقِعاً للمفسدة ، وإمّا مما يعتبر في موضوعيته للحكم شطراً او شرطا ، ككونه مع الجزء الفلاني او الشرط كذلك ، سواء كان من الامور الوجودية كالطّهارة بالنسبة إلى الصّلاة ، او من العدمية كعدم وقوعها في المكان المغصوب مثلاً .

لا ريب في امتناع تقييده في هذا الخطاب (١) بما يكون من القسم الأوّل عقلاً ، لاستلزامه الدّور ضرورة توقّف حصوله على ورود الحكم ، فلا يعقل تعلقه بشيء لا يصير موضوعاً له إلّا بنفس ذلك الحكم .

واما القسم الثاني ، وإن أمكن تقييده به عقلاً إلّا أنّه ممتنع عرفاً ، لاستهجانه عندهم ، نظراً إلى أنّه إن كان سبباً تامّاً لحصول الغاية فيلغىٰ اعتبارها

___________________________

(١) وإنّما قيّدنا الامتناع بكونه في هذا الخطاب لإمكان ذلك بخطاب آخر متأخّرٍ عنه وكلامنا مع المعترض في الخطابات الابتدائيّة ، وأمّا تقييده بالقسم الثاني فهو ممتنع ، عرفا مطلقا لما عرفت من الوجه . لمحرّره عفا الله عنه .

٣٦٧
 &

معه ؛ إذ بدون ذلك أيضاً يحصل الغرض ، وإن لم يكن تامّاً في حصولها فلا ينفع ذلك الاعتبار ، لأنّ الغاية ليست من فعل المكلّف ، بل هي أثر فعله ، بل لا بد حينئذ من اعتبار شيء آخر يتم به سببيّته لحصولها فيلغى اعتبارها على هذا التقدير أيضاً .

وكيف كان فلا يعقل الشّك في أنّ الشارع مثلاً هل اعتبر احد هذين الوصفين في موضوع الخطاب أو لا ، بل ينبغي القطع بعدم اعتبارهما .

مثال الأوّل ، كأن يقول الشّارع : ( صَلِّ ) مريداً بها الصلاة المأمور بها او يقول ( لا تشرب الخمر ) مريدا بها الخمر المنهي عنها .

ومثال الثّاني : كأن يقول ( صلّ ) مريداً بها الصلاة المقرّبة إلى حضرته او النّاهية عن الفحشاء ، وكقول الطّبيب : ( كُلِ السّقمونيا ) الْمُسهِل للصّفراء ، و ( كُل الرَّمان ) المبرِّد .

واما القسم الثالث فهو مما يمكن فيه ذلك مطلقا فيمكن الشك في اعتباره في المامور شطراً او شرطاً .

فحينئذ إن كان منشأ الشك اكتناف الخطاب واتّصاله بشيء يمكن جعله قرينة على الاعتبار وإرادته من اللّفظ في هذا الخطاب فيكون الخطاب مجملاً ، لسقوط اللفظ حينئذ عن الظّهور العرفي الذي هو مناط الاعتبار في مطلق الظّواهر اللفظية على المختار .

وإن كان منشأ الشّك أمراً منفصلا عنه ، من عقل ، او خطاب آخر ، او إجماع فهذا على ضربين :

الأوّل : أن يكون الشّك بسبب هذا الأمر المنفصل من جهة الإجمال في مفهوم موضوع الحكم الذي دل عليه وهذا إنما يتصور في غير العقل .

الثاني : ان يكون الشك بسببه من جهة الأمر الخارجي .

فعلى الأوّل : لا ينبغي الشبهة في جواز الاستدلال باطلاق هذا الخطاب ، او عمومه على نفي اعتبار المشكوك في موضوعه لعدم ايجاب ذلك سقوطه عن الظهور العرفي وهو الحجة .

٣٦٨
 &

بل ربما يجعل هذا الخطاب بظهوره قرينة على تعيين المراد في هذا الامر المنفصل ورفع الاجمال عنه ، كما اذا ورد ( أكرم العلماء ) ثم ورد ( لا تكرم زيداً ) وفرضنا أنّ زيداً مشترك بين شخصين ، أحدهما من أفراد العالم والآخر من غيرها بأن يكون جاهلاً مع عدم القرينة على التعيين ، فإنّه لا ينبغي التوقّف عن التمسّك بعموم العام على اثبات الحكم لزيد العالم أيضاً بمجرد احتمال أنّ المراد من ذلك الخطاب المنفصل لعلّه زيد العالم ، فيكون المراد بالعام غيره ، فيكون موضوع الحكم مقيداً بكونه غير زيد .

وكذا الظّاهر من العرف جعله قرينة على المراد من هذا المجمل ، ولا بد من ذلك بعد اختيار أنّ الظواهر اللفظية انما اعتبرت من باب الكشف والطريقية ولو نوعا ، كما هو المختار فإنّ كلّ ما اعتبر من هذه الحيثية فهو معتبر في جميع ما دلّ عليه مطابقة أو تضمناً او التزاماً ، ولا ريب أنّ المفاد المطابقي للعام هو جميع الافراد التي منها زيد العالم ، ولازم ارادة ذلك منه ارادة غير زيد العالم من الخطاب الآخر ، وهو زيد الجاهل والّا لزم التناقض .

وكذلك الحال فيما اذا كان الخطاب مطلقا ؛ هذا اذا لم يعلم بتخصيص العام او تقييد المطلق أصلاً .

وأمّا اذا علم بأحدهما في الجملة وشك فيه بالنّسبة إلى أزيد من القدر المعلوم ، كما إذا علم بتقييد المطلق في قوله ( صلّ بالطهارة بالنسبة إلى حال تيسرها ، وشك فيه بالنسبة إلى حال التعسّر نظراً إلى إجمال ما دل على اعتبارها بالنسبة إلى تلك الحالة ، وكما إذا ورد ( أكرم العلماء ) وعلم بتخصيصه بالنسبة إلى مرتكبي الكبائر ، وشك فيه بالنسبة الى مرتكبي الصّغائر لإجمال المخصص بالنسبة اليهم بان يكون من الالفاظ المجملة ذاتاً او لاكتنافها بما أوجب إجمالها ، او إجماعاً (١) فالظّاهر جواز التمسك بالعام والمطلق على نفي التقييد والتخصيص بالنسبة الى مورد الشك ، إذ الشك بالنسبة إليه بدوي ، كما اذا لم يعلم بالتخصيص أصلاً وهو لا

___________________________

(١) هنا هامش للمقرر الا انه ناقص احتملنا كونه من المتن ولكنّ الظاهر أنّ مطلب المتن تام من دون احتياج الى الضميمة .

٣٦٩
 &

يُوجب ارتفاع مناط الاستدلال ، كما أشرنا إليه آنفاً ، فإنّ خروج بعض الأفراد عن أحدهما لا يوجب اجمالهما بالنسبة إلى أزيد ، بل هما حينئذ أيضاً ظاهران عرفاً في غير معلوم الخروج ، وهو الحجّة .

نعم يشكل التمسّك بناء على أنّ اعتبار الظّواهر اللّفظية من باب أصالة عدم القرينة ، بمعنى أنّ اهل العرف بنوا على حمل الالفاظ على ظواهرها عند عدم القرينة ، فيحملونها عليها عند الشك استصحابا لعدم القرينة ، وهذا الاستصحاب غير جار في المقام ، إذ خروج الأزيد من المعلوم لا يحتاج الى قرينة اُخرى غير ما قامت على إخراج الأقل ، بل القرينة متّحدة على التقديرين قطعاً ، فالقرينة الواحدة متيقنة الوجود والأزيد متيقنة العدم ، فلم يبق للأصل المذكور مورد أصلاً فلا وجه للتمسك بهما بالنسبة الى الأزيد من المعلوم .

لكنّا مستريحون عنه ، فإنّ الظّاهر أنّ اعتبار الظّواهر من جهة الكشف والطّريقية النّوعية ، كما أشرنا إليه لا للتعبّد بعدم القرينة ، وهذا المناط موجود فيما نحن فيه فعلا .

أقول : يمكن المناقشة على ما اخترنا أيضاً بمنع ظهور اللّفظ حينئذ في إرادة الأزيد ، ضرورة أنّ الظّهورات اللفظيّة إمّا أن تكون مستندة إلى الوضع ، او إلى القرينة المتّصلة وكلاهما مفقود في المقام .

أمّا الثّاني : فبالفرض ، فإنّ المفروض دعوى ظهور العام والمطلق بأنفسهما في إرادة المشكوك .

وأمّا الأوّل : فلأنّ العام إنّما كان موضوعا لجميع الأفراد ، والمفروض عدم إرادة الجميع وليس له وضع آخر بالنّسبة إلى ما بقي ، وكذا الكلام في المطلق حيث أنّه لم يوضع للأخص .

ويمكن دفعها عن العام ، بأنّ الظّاهر أنّه وإن كان موضوعاً لجميع الأفراد ، إلّا أنّه في قوة قضايا جزئية ومنحلّ إليها ، فأكرم العلماء في قوة أكرم زيداً واكرم عمراً أكرم خالداً وهكذا ، فدلالته على كلّ من الأفراد تكون بطريق الاستقلال ، فخروج بعضها لا يسقط أثر الوضع عن الباقية ، فيكون العام حينئذ

٣٧٠
 &

ظاهراً في إرادتها لأجل الوضع .

وأمّا المطلق ، فلا يجري فيه الجواب بناءً على أنّ الإطلاق ليس بسبب الوضع ومأخوذاً فيه ، بل بسبب حكم العقل ، نظراً إلى تجريد اللّفظ عن القيد مع تساوي أفراد الطّبيعة في إيجادها ، والمفروض ثبوت القيد في المقام وأنّ الطبيعة ليست مطلوبة بما هي .

ويمكن أن يجاب بأنّ المعلوم تقييدها ببعض الصّور لكنّ اللّفظ مجرّد عن القيد بالنّسبة إلى المشكوك ، فيحكم العقل بالإطلاق بالنّسبة إليه فتأمّل .

وكذا على أن يكون الإطلاق بسبب الوضع ومأخوذاً فيه ، بل وجود الإشكال حينئذ أظهر فإنّ المقيّد خارج عن الموضوع له ، فلم يكن اللّفظ دالاً عليه بسببه ، ولا بالقرينة ، كما هو المفروض .

والأولى أن يقال : الظّاهر أنّ المطلقات موضوعة في الأصل لنفس الطبائع اللّابشرط ، لكنّها ظاهرة عرفاً في جميع الأفراد بسبب تجريدها عن القيد ، بمعنىٰ أنّ التّجريد عندهم قرينة عامة على إرادة الجميع كسائر القرائن العامّة ، فكأنّها موضوعة عندهم بالوضع الثانوي لما ذكر ، إلّا أنّ دلالتها على جميع الأفراد بطريق التعيين إذا وقعت في حيّز النّفي ، وبطريق البدليّة إذا وقعت في حيّز الإثبات .

ثم إنّ دلالتها على كلّ واحد من الأفراد بطريق الاستقلال ، بمعنى أنّها في قوة القضايا الجزئيّة ، كالعمومات ، فيكون الفرق بينها وبين العمومات أنّ دلالة هذه على الجميع بواسطة القرينة ودلالة تلك عليها بسبب الوضع .

وأيضاً دلالة هذه تختلف باختلاف مواردها بالنّفي والإثبات من حيث العينية والبدلية ودلالة تلك من باب العينية مطلقا .

فنقول : حينئذ أنّ المقتضي للدّلالة على الإطلاق وهو التّجريد عن القيد ، موجود بالنسبة إلى ما لم يعلم خروجه من الأفراد ، فيقتضي أثره وهو ظهور اللفظ فيما لم يقيدها بالنسبة إليه ، وهذا الظّهور مستند إلى القرينة ، فاندفع الإشكال فتأمّل .

ومن هنا يظهر أنّ التخيير بين أفراد المطلقات الواقعة في حيّز الأوامر الشّرعية شرعي لا عقلي .

٣٧١
 &

هذا ، وأمّا على الضّرب الثاني : وهو ما كان الشّك بسبب الأمر المنفصل من جهة الاشتباه الخارجي ، كأن دلّ دليل شرعي عام او مطلق على حكم لموضوع عام او مطلق ، ثم دلّ دليل آخر منفصل من عقل او نقل او إجماع علىٰ ثبوت نقيض ذلك الحكم لموضوع آخر عام او مطلق ، فشك في ثبوت الحكم في الدّليل الشرعي لبعض أفراد موضوعه ، من جهة الشك واحتمال أن يكون بعض أفراد موضوع ذلك الدّليل المنفصل داخلاً في جملة أفراد العام او المطلق في الدّليل الشرعيّ المذكور ، ويكون بعض المذكور هو هذا الفرد .

فها هنا مقامات ثلاثة :

الأوّل : أن لا يحصل القطع بالدّخول أصلاً ، بل يكون مجرّد الاحتمال .

الثّاني : أن يعلم به إجمالاً مع ان يجد بعد الفحص عن مظانّه عدة من الأفراد الداخلة مطابقة لمقدار المعلوم بالإجمال .

الثالث : أن يعلم به لكن لم يجد بعد الفحص مقداراً مطابقا له ، إمّا بعدم وجدانه شيئا أصلاً ، وإمّا معه لكن لا بمقداره .

أمّا مثال كلّ منها في العرف :

فللأوّل : أن يقول المولى لعبده : أضف الجار او جيراني ، ثم علم العبد من عقله او من كلام آخر أنّه لا يريد إضافة عدوّه ، لكن شك في أنّ بعض الجيران من أعدائه او ليس أحد منهم عدواً له ، فلذا شك في وجوب إضافة بعضهم لاحتمال كونه عدوّاً لمولاه .

وللثاني : المثال المذكور مع علم العبد بعداوة البعض المعيّن من الجيران والشّك في عداوة غيره .

وللثالث : أيضا المثال المذكور مع علم العبد إجمالاً بعداوة بعضهم ، ولم يبيّن له ذلك البعض أصلاً ، او لم يجد بمقدار المعلوم الإجمالي .

لا إشكال في البناء على العموم او الإطلاق في هذا الخطاب في المقام الأوّل والثاني .

أمّا الأوّل : فلعدم معلوميّة أصل التخصيص ، فالأصل عدمه .

٣٧٢
 &

واما الثاني : فلما مرّ في مثله أنّ الشّك في الزائد عن القدر المعلوم إجمالاً بدوي ، فيدفع بالإطلاق او العموم ، فإنّ التخصيص كما أنّه خلاف الأصل كذلك زيادته خلاف أصل آخر كما عرفت مفصّلا .

وأمّا المقام الثالث : فلا بد من البناء على إجمال الخطاب جداً ، فإنّ العموم والاطلاق مثبتان للحكم للمشكوك بعد إحراز كونه فرداً من أحدهما ، وأمّا إذا كان الحكم معلوما ، فاشتبه بعض الأفراد ببعض ، فلا معنىٰ للتمسّك بهما في تعيين الفرد .

لا يقال : يجب البناء على الاجمال في المقامين الأوّلين أيضاً ؛ لأنّ الواجب على الشّارع كغيره من الموالى إنّما هو مجرّد بيان الحكم لموضوع يعلمه المكلف ، وأمّا بيان حال مصاديق ذلك الموضوع فلا ، والمفروض في المقامين أنّه حكم ـ مثلاً ـ بثبوت الحكم لموضوع مبيّن وهو الجيران ـ مثلا ـ ، والمفروض أيضاً العلم بحكمه بحكم آخر ، وهو حرمة الإضافة ـ مثلا ـ بالنسبة إلى موضوع آخر وهو العدوّ ، وانّما وقع الشك في التخصيص وعدمه بسبب الاشتباه الخارجي لا لإجمال أحد الخطابين ، ولا يجب عليه بيان المشتبه الخارجي ، فلا يجب عليه نصب القرينة والمخصِّص على تقدير دخول بعض أفراد ذلك الدليل المنفصل في ذلك العام ، وهو الجيران ، فيصير عدم القرينة قطعيا على تقدير التخصيص وعدمه ، فلا يجرى أصالة عدمها المعلق عليها اعتبار الظّواهر اللفظيّة ، فلا يجوز التمسك بالعام لفقد منشأ اعتباره وهو جريان اصالة عدم المخصص فتأمل .

لأنّا نقول : الإشكال بعد تماميته فهو إنّما يرد على من يعمل بالظواهر اللفظية من باب أصالة عدم القرينة .

واما على ما نراه من أنّ العمل بها إنّما هو من باب الكشف والظن النوعي ، فلا ريب في وجود هذا المناط بالنسبة إلى عموم العام في قوله : أضف جيراني ، او الجيران ، لظهوره في تعلّق الحكم بجميع الجيران وإرادتهم من الخطاب ، والمفروض أنّ المانع إنّما هو كون بعض أفراده من مصاديق الدّليل الآخر أيضاً ، فيجتمع الامر والنّهي فيرفع الامر عنه ، وهذا المعنى بالنظر الى الفرد المشكوك غير

٣٧٣
 &

معلوم ، فيتمسك بظهور العام ، نظراً إلى أنّ أصل التخصيص كزيادته خلاف الظاهر من العام ، فيطرح احتمالهما ويؤخذ بالحجة وهو ظهور العام ، فيتمسك به على إثبات حكمه للفرد الّذي فرض فرديته له ، وإنّما الشك في كونه فرداً لعنوان آخر أو لا .

فلا يرد أيضاً أنّ هذا إثبات وتعيين الموضوع بالعموم ، فإنّ كونه من أفراد موضوع العام معلوم ، وإنّما الشك في حكمه ، فيتمسك على إثبات ذلك الحكم له بالعموم ، وان كان منشأ الشك في ثبوت الحكم له الاشتباه الخارجيّ .

فإذا تمهّدت هذه كلّها فنقول : إنّ المراد بالصحيح ـ في قوله المعترض وهو أنّ المراد هو الصّحيح باتفاق الفريقين ـ ، إن كان الموافق للأمر ، كما فسّره به بعضهم ونسبه الى الاصطلاح ، فقد عرفت أنّ كون الشيء مأموراً به او موافقاً للأمر من الأوصاف المنتزعة من الأمر ، فلا يعقل إرادته مقيّداً بهذا الوصف للدّور ، فلا يعقل الشّك في عدم اعتباره .

وإن كان المراد به ما فسّره به بعضهم واخترناه أيضاً ، وهو المقرِّب او الخضوع وأمثال ذلك ، فقد عرفت أنّه يمتنع حينئذ تقييد المأمور به بهذا الوصف عرفاً ، فإنّه من الغايات والأغراض ، فلا يمكن إرادة هذا العنوان ايضاً .

وإن كان المراد ما فسّره به بعضهم ، من أنّه تام الأجزاء والشّرائط فسلّمنا أنّ مراد الشارع هذا ، إذ لا محذور حينئذ ، فإنّ التقييد بهذا الوصْف ، أعني تماميّة الأجزاء والشّرائط ـ ليس كالتّقييد بأحد الأوّلين ، فإنّه من الصنف الثالث الذي يصلح لكونه قيداً عقلاً وعرفاً ، فإنّ تقييد الصّلاة بذلك معناه إرادتها مع جميع أجزائها من الأركان وغيرها والأذكار والشّرائط ، كاستقبال إلى القبلة والطّهارة وهكذا .

لكن نقول : إنّه على قول الأعمّي لمّا كان اللّفظ موضوعا للأعم ، فعند وقوعه في حيّز الأوامر الشّرعية ظاهر في أنّ الشارع أراد نفس الطبيعة ، والمفروض أنّه إنما يريد تام الأجزاء والشرائط لا غير ، فيكون اللفظ دالّاً التزاما على كون الطبيعة تامة الاجزاء والشرائط ، ومجرّد احتمال اعتبار شيء آخر فيه شطراً او

٣٧٤
 &

شرطاً لا يوجب انتفاء هذا الظّهور ، او سقوطه عن الحجّية والاعتبار ، فعلى هذا القول تحرز الصّحة من ظاهر اللّفظ ، وعلىٰ القول الآخر فلا ، بل لا بد من الإجمال كما عرفت .

وإن ادّعى المعترض العلم الاجمالي في كافّة الأوامر الشرعية باعتبار اُمور شطراً او شرطاً في ماهيّات العبادات المأمور بها ، مع عدم العلم بخصوص تلك الامور من جهة إجمال ما دلّ على اعتبارها مفهوماً او مصداقاً ، ومع عدم إمكان تحصيل العلم التفصيلي بالفحص بعدة امور مطابقة للمعلوم الاجمالي ، فتكون الخطابات بأسرها مجملة لذلك ، حيث إنّ المعلوم حينئذ أنّ الشارع لم يرد تلك الماهيّات بما هي ، بل مع تقيّدها بتلك الامور المجملة الّتي لا نعرفها بعينها ، فتكون الألفاظ مجملة من جهة المراد .

ففيه : منع ظاهر ، بل أكثرها او كثير منها يمكن فيها العلم بعدة امور معتبرة فيها مطابقةً للمعلوم الاجمالي ، فبقى اعتبار الأزيد محلّاً للشّك البدوي كما عرفت سابقا ، فيمكن التمسّك بإطلاق المأمور به بالنّسبة إلى هذا المشكوك ، ونفيه به نظراً إلى أنّ زيادة التقييد كأصله مخالفة للأصل ، فلا تنتفي الثمرة على هذا القول .

وإنْ ادّعىٰ ذلك في بعضها ، فهو لا يوجب صيرورة الثمرة كالمعدومة ، لحصولها في غير هذا البعض مع كثرة مواردها .

وإن ادّعىٰ منع التمسك بالإطلاق او العموم ، ولو بعد العلم التفصيلي بعدة مخصّصات او مقيدات ، مطابقة للمعلوم الاجمالي بالنسبة إلى الأزيد المشكوك الثبوت .

ففيه : ما عرفته سابقاً ، من أنّه لا وجه للتوقّف عن الاستدلال بأحدهما حينئذ .

وإن ادّعىٰ أنّ مجرد الشك في اعتبار امور في المأمور به ، ولو مع عدم العلم الإجمالي يسقط إطلاقه ، او عمومه عن التمسك به .

ففساده أوضح من أن يذكر .

الثاني : من وجهي الإيراد على الثمرة على هذا القول ، أنّ غاية ما لهؤلاء ـ أي القائلين بوضع تلك الألفاظ للأعم ـ تبين مفاهيم تلك الالفاظ بمعنى العلم بما

٣٧٥
 &

وضعت لها تفصيلا ، لكن هذا المقدار لا يكفي في جواز التمسك بها على نفي محتمل الشرطية او الجزئية عند اطلاقها ؛ فإنّ من شرائط التمسك بالإطلاق ظهور الخطاب في بيان حكم المطلق ، فإنّ المعتبر في المطلق الذي يتمسك باطلاقه امور ثلاثة :

أحدها : تبيّن المفهوم .

والثاني : تجريد اللفظ عن القيد .

والثالث : ظهور الكلام بسياقه في أنّ المقام لبيان حكم المطلق ، لا لبيان حكم آخر ، او يظهر ذلك من قرينة اُخرى غير سياق الكلام بحيث توجب ظهوره في إرادة الإطلاق .

وكيف كان ، فلا بد مضافاً إلى الأمرين الأوّلين من إحراز أنّ الخطاب في بيان حكم نفس المطلق ، ونحن لم نظفر بعد على حصول الشّرط الأخير في واحد من ألفاظ العبادات المأمور بها في خطابات الشارع .

بل الظّاهر عدمه في جميع الموارد ؛ فإنّ خطابات الشّارع الواقعة فيها تلك الالفاظ كما يظهر للمتتبّع إمّا ممّا يكون في مقام مجرّد التشريع وجعل الحكم لتلك الماهيّات في الجملة ، بمعنى أنّ الغرض في قوله : ( صَلّ ) إسماع المكلّفين أنّ الوجوب ثابت للصّلاة في الجملة ، وليس في مقام تعيين أنّها واجبة مطلقا ، او باعتبار بعض أفرادها ، بل يكون غرضه هو مجرد التّشريع والإسماع ، ثم بيان موضوع هذا الحكم من أنّه الطّبيعة مطلقا ، او هي مع امور أُخرى فيما بعد .

وإمّا ممّا يكون للعهد ، بمعنىٰ أنّه بيّن الأجزاء والشرائط ، وعرّفها المكلفين المشافهين ، ثم قال : ( صلّوا ) مثلاً ، فأحال بيان مراده منه إلى ما عرّفه سابقاً وأحاله إليه ، فيكون قوله : ( صلّوا ) من قبيل قول الوعّاظ في حثِّهم على فعل الصّلاة والصّيام وغيرهما من العبادات ، فإنّ غرضهم ليس الحث على فعل مطلق تلك العبادات ، بل على فعل أفرادها الخاصّة المعهودة منها عند النّاس المعلومة لهم قبل ذلك ، فلا يجوز لأحد أن يحتمل ذلك في كلام الوعّاظ ، فكذلك فيما نحن فيه .

وكيف كان فليس لنا التمسّك باطلاق واحد من ألفاظ العبادات الواردة في خطابات الشّارع لذلك ، لاستلزامه إجمالها حينئذ من حيث المراد فلم يبق فرق

٣٧٦
 &

بين هذا القول وبين القول بوضعها للصّحيحة في جهة الإجمال .

فلا بدّ على القولين ، في مقام تشخيص أجزاء العبادات وشرائطها ، من الرّجوع إلى الآثار المأثورة من الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم خصوصاً او عموماً المحكيّة بألفاظ العبادات ، فإنّ الغالب في الآثار الواردة في بيان الأجزاء والشّرائط كونها ظاهرة في مقام تشخيص تمام الأجزاء والشّرائط ، فيصحّ التمسّك بإطلاقها او عمومها فيما يحتمل جزئيّة شيء او شرطيته .

هذا ، والإنصاف أنّه لا محيص عن هذا الإشكال ، لصدق ما تضمّنه من الدّعوى من وقوع ألفاظ العبادات واردة في مقام حكم آخر غير الاطلاق ، فتصير المسألة معه عديمة الثمرة .

ومما يشهد على صدق الدّعوى المذكورة ، امتناع حمل الألفاظ المذكورة إذا وردت في حيّز الأوامر الشرعيّة على الطبائع المطلقة اللابشرط ، لاستلزامه تخصيص الأكثر او تقييده ، ضرورة أنّ أكثر أفرادها فاسدة وخارجة عن الخطابات جدّاً ، فلا بد من حملها على المعهود ، او على كونها في مقام التّشريع مع سكوتها عن أنّ المراد مطلق الطبيعة ، او بعض الأفراد فراراً عن هذا المحذور ، فتدبر وأنصف .

ثم إنّه قد يجعل من ثمرات المسألة أمران :

الأول : جواز إجراء الأصل في نفي الجزئية والشرطية عند الشك فيهما على القول بوضعها للأعم ، والبناء على الاشتغال على القول بوضعها للصّحيحة ، بل ظاهر كلام بعضهم انحصار الثمرة في ذلك .

وكيف كان فعلّل ذلك بعضهم ، بأنّه على قول الأعمّي لمّا كان المُسمّىٰ معلوماً ، فيصدق الإطاعة بالاتيان به ما لم يعلم بفساده واعتبار أمر زائد على القدر المعلوم ، فله أن يرجع إلى الأصل بالنسبة إلى ما شكّ في اعتباره شرطاً أو شطراً .

هذا بخلاف القول الآخر أي وضعها للصّحيحة إذ عليه ليس في المقام مسمّىً معلوم حتّى يأتي به ويكون شكّه راجعاً إلى أمر زائد عن حقيقة المسمّىٰ ؛ لأنّ المطلوب والمسمّىٰ واحد على هذا القول ، فيكون الشّك في أحدهما شكّاً في الآخر ، فلا يصدق الامتثال على فعل ما يعلمها من الاجزاء والشرائط ، للشّك في

٣٧٧
 &

كونها العبادة الفلانيّة ؛ فإنّ الآتي بما يعلمها من أجزاء الصلاة وشرائطها على هذا القول يشكّ في أنّه أتىٰ بالصّلاة أوْ لا ، إذا شك في اعتبار أمر زائد ، وقد نشأ ذلك من بعض من تأخّر عن المولى البهبهاني ( قدس سره ) .

ولعلّه استنبطه من بعض كلمات المولى المذكور في حواشيه على المدارك (١) ، حيث أنّه ( قدس سره ) ذكر في طيها في موارد الشّك في جزئية شيء او شرطيته في العبادات أنّه لو قلنا بأنّ ألفاظ العبادات موضوعة للصّحيحة فالحكم الاشتغال ، ويجب الاحتياط بإتيان جميع المحتملات ، فزعم ذلك البعض من مفهوم هذا الكلام أنّه على القول بوضعها للأعم ، فالمرجع إلى اصالة العدم ونفى ما يحتمل مدخليته في العبادة بها ، أبي .

لكنّ الإنصاف : أنّه اشتباه صدر من قلّة التدبّر في سائر كلماته ( قدس سره ) فإنّه ( قدس سره ) لمّا كان مذهبه في مسألة إجمال النصّ ـ في مبحث البراءه والاحتياط ـ هو الاحتياط مطلقا (٢) ، وكان اللازم على القول بوضع تلك الألفاظ للصّحيحة الإجمال فقال : إنّه على هذا القول يجب الاحتياط لدخولها حينئذ فيما اختاره ثمة ، وأمّا على القول الآخر لمّا كانت الألفاظ تختلف حالها بالنسبة إلى الموارد في التبين والإجمال ـ كما عرفت ـ فتكشف عن ذلك بالنسبة إلى هذا القول ، وليس في مقام بيان أنّه على هذا القول ، فالمرجع هو أصالة العدم مطلقا .

ثم إنّ القول بالرّجوع إلىٰ أصالة العدم لا يتمّ على القول بوضعها للأعم مطلقا أيضاً ، فإنّ الظّاهر من أصالة العدم هي البراءة الأصليّة ، ولا ريب أنّها من الاُصول العملية ، ولا مِرية أنّه إذا كان للّفظ إطلاق ، فالمرجع هو أصالة الإطلاق التي هي من الاُصول الاجتهاديّة في نفي ما يحتمل الجزئية ـ او الشرطيّة ، لا أصل البراءة ، لأنّ الاُصول العمليّة لا مجرى لها إذا كان في المقام دليل اجتهاديّ او أصل

___________________________

(١) مدارك الأحكام : ١٦٦ انظر حاشيته عليه عند قوله : والأصل إنّما يجرى إذا كان إسما لمطلق الاركان لا خصوص الصحيحة منها . . . وعند قوله : إلا ان يتمسك بالاصل فلم يكن الرواية دالة ومع ذلك انما يتم التمسك به إذا كان الصلاة اسماً لمجرد الاركان لا خصوص الصحيحة وإلا لا شكل التمسّك فتأمّل .

(٢) قولنا مطلقا أي سواء كان الإجمال من جهة المفهوم المأمور به او من جهة إجمال مصداقه مقابل القول بالاحتياط في الصّورة الثانية أي الإجمال في المصداق لمحرّره عفا الله عنه .

٣٧٨
 &

كذلك ، مخالفة كانت أم موافقة .

ويمكن توجيه كلام هذا القائل بأحد وجهين على سبيل منع الخلو :

الأوّل : أن يكون هو ممّن يرد جريان الاُصول العملية مع وجود غيرها من الأدلّة والاصول الاجتهاديّتين في صورة الموافقة ، وتكونان أي الأدلّة والاصول الاجتهاديّتين عند المخالفة حاكمتين عليها [ لا واردتين (١) ] ـ كما هو المختار عندنا ـ فيصحّ الرجوع بالنّسبة إلى كلٍّ من هاتين ومن الاصول المذكورة .

الثّاني : أن يكون مراده بأصل العدم أعمّ من أصالة البراءة بحيث يشمل أصالة العموم والإطلاق أيضاً ، فإنّهما أيضاً راجعان إلى اصالة عدم المخصِّص والمقيِّد ، ولعلّ الثاني أوجه .

ثم إنّه يرد على الثّمرة (٢) أنّ الرّجوع إلى أصل العدم ـ على القول بالأعمّ ـ إنّما يتمّ فيما إذا كان في المقام إطلاق لفظيّ ، وأمّا إذا لم يكن ، بأنْ لم يكن لفظ أصلاً ، او كان ولم يظهر كونه في مقام بيان [ حكم ] المطلق ، واحتمل وروده في مقام بيان حكم آخر ، فصار مجملاً لذلك ، فحينئذ لا يقتضي القول بأعمّية الموضوع له جواز الرّجوع إلى الأصل في نفي المحتمل شرطيّته او جزئيته ، إذ غايته معرفة معنى اللّفظ ، ولا مِرية أنّها بنفسها غير كافية فيما ذكر ، بل لا بدّ معها من ظهور الكلام في إرادة هذا المعنى ، والمفروض إجماله .

وكيف كان ، فالأعمّية غير فارقة في هذا المقام ، بل الفارق حينئذ ما اختاره الشخص من المذهب في مسألة إجمال النصّ ، فعلى هذا فربما يكون الأعمّي اشتغاليّاً ، والصحيحي برائياً ، لعدم ابتناء تلك المسألة على هاتيك ، فتنفى الثمرة رأساً ، نظراً إلىٰ أنّ صورة وجود الإطلاق اللّفظي أيضاً غير محتاجة إلى التمسّك

___________________________

(١) الصحيح ما أثبتناه وفي الأصل : لا واردة .

(٢) قال دام ظلّه وهذا التوجيه على فرض تماميّته إشكال عظيم على المشهور لا يكاد يمكن دفعه ، فإنّهم قائلون بالصّحيح ومع ذلك ذهب أكثرهم إلى البراءة في مقام الشك في الجزئية والشرطيّة ، بل هذا إشكال على كافّة المتقدّمين حيث أنّ الظّاهر اتّفاقهم على هذا القول ، أي القول بالصحيح مع ذهاب أكثرهم الى البراءة فيما ذكر ، لكن سيجيء إن شاء الله تعالى دفع هذا التوجيه وابطاله منّا ، فيثبت به لنا حقّ عليهم جزانا الله عنهم خير الجزاء بمحمّد وآله الطاهرين لمحرّره عفا الله عنه .

٣٧٩
 &

بأصل البراءة على القول بالأعم ، لكفاية إطلاق اللّفظ حينئذ في المطلوب .

وربما يوجّه بأنّ المراد ليس جواز الرّجوع إلى أصالة البراءة مطلقا على قول الأعمّي ، بل المراد أنّه على هذا القول يمكن إجراء الأصل المذكور في الجملة ولو في بعض الموارد ، بخلاف القول بالصّحيحي ، فإنّ لازمه الحكم بالاشتغال والبناء على الاحتياط بإتيان جميع المحتملات ، من مشكوك الشّرطية او الجزئية .

وذلك : لأن مفهوم المأمور به على القول بوضع الألفاظ للصحيحة يكون مبيَّناً ، ويرجع الشّك في الجزئية والشرطية إلى الشّك فيما يتحقق به هذا المفهوم المبيَّن ، فيجب فيه الاحتياط اتفاقاً .

هذا بخلاف القول بوضعها للأعم ؛ فإنّ الشّك في الشرطية والجزئية على هذا القول ، قد يرجع إلى الشك فيما يتحقق به المأمور به مع تبين مفهومه ، وقد يرجع إلى الشك في مفهوم المأمور به ، وقد اختلفوا في البناء على الاحتياط او البراءة في الصورة الثانية ، فذهب إلى كلٍّ فريق ، فلا يلزم الاحتياط على هذا القول ، بل يمكن البناء على البراءة لوجود القول بها حينئذ .

أما تبين مفهوم المأمور به على القول بالصحيح ، فيفرض بوجهين :

الأوّل : أن يجعل المأمور به عبارة عن أمر مركب من الأجزاء الخارجية ، صادق على جميع أفراد العبادات ، فإن المركب منها وإن كان في نفسه مجملاً إلا أنه يمكن تأويله إلى المسمى أي مسمى اللفظ ، او المراد منه ، وكل منهما مفهوم مبين ومتّحد مع الموضوع له على هذا القول ، فيرجع الشك في اعتبار شيء فيهما إلى الشك فيما يتحققان به .

أما اتّحاد الأول معه فلأنّ المراد بالأمر حينئذ عين معنى اللفظ .

وأما اتحاد الثاني معه فواضح .

أقول : الظاهر أن فرض مفهوم المأمور به عبارة عن المركّب من الأجزاء الخارجية نظراً إلى جعل الصحيح عبارة عن تام الأجزاء والشرائط ، فإن المسمى هو الصحيح ، وإذا فرضنا كونه مركباً مما ذكر ، فلا بد أن يكون هو هذا المعنى ، وإنما لم يعبر بتام الأجزاء والشرائط ، لأنّه مفهوم مجمل باعتبار إجمال أجزائه

٣٨٠