تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ١

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ١

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

ممكن بالإمكان الخاصّ ، بمعنىٰ أنّ شيئاً من وجوده وعدمه ليس بضروري ، فتأمل .

الخامس : أنّ الذّات المبهمة لو كانت داخلة في مفهوم المشتقات للزم توصيف الأعم بالأخص في نحو قولك : ذاتٌ أسود ، أو شيء أبيض ، فيلزم أن لا يصحّ ؛ لعدم صحّة التوصيف على الوجه المذكور ، كما في قولك : الحيوان الانسان ، واللازم باطل ، لصحّة التوصيف في نحو المثالين بالاتفاق ، بل الضرورة .

لا يقال : إنّ توصيف الأعم بالأخص شائع في المحاورات ، كما في قولك : حيوان ناطق ، فكيف يقال بعدم جوازه ؟ !

لأنا نقول : الممنوع منه هو الأعم والأخص بحسب المفهوم ، لا المصداق كما في قولك : الحيوان الانسان ، حيث أنّ مفهوم الحيوان جزء لمفهوم الانسان ، بخلاف حيوان ناطق ، فإنّ مفهوم ناطق يباين مفهوم الحيوان ، بمعنىٰ أنّه ليس أحدهما جزء للآخر ، وإنما يتصادقان في أمر واحد ، وهو الانسان فلا نقض .

السادس : انّه لو كانت الذات داخلة في مفهوم المشتق ، لزم تكرار الذّات في حمل المشتق ، في قولك : زيد ضارب ـ مثلاً ـ ولازمه حمل الذّات على الذّات ، مع أن القائم بزيد ليس إلا الوصف ، لاستحالة قيام الذّات به ، كما هو واضح ، أو تجريد المشتق عن الذات ، فيكون مجازاً ، وهو ضروري البطلان ، وهذا بخلاف ما لو قلنا : بخروج الذّات وعدم اعتبارها شطرا ، حتى يكون دلالة اللفظ عليها بالتّضمن ، أو شرطاً فيدل عليها بالالتزام البيّن ، وهذا واضح .

هذه جملة وجوه القول المختار ، متلقّىً بعضها من الأعلام الأخيار ، لكن المعتمد على الأوّل ، وكفى به حجة ودليلاً ، وينبغي الاعتماد على الثالث أيضاً ، وبعده على الخامس ، ثم السادس (١) .

وأما الثّاني والرّابع ، وان كانا لا بأس بهما في مقام المخاصمة والإلزام على الخصم ، إلّا أنّ الإنصاف يأباهما .

أما الأوّل منهما ، فلأنّ المتبادر من هيئات المشتقّات ليس إلّا المفاهيم

___________________________

(١) الترتيب بين تلك الوجوه بالنظر إلى كون بعضها أجلى من بعضٍ . لمحرّره عفا الله عنه .

٣٠١
 &

المنتزعة من قيام المبدأ بالذّات على أنحاء القيام باختلاف الهيئات والمبادئ لا ربط المبادئ إلى الذّوات ، ليكون معانيها حرفيّة ، فإنّ المتبادر من هيئة اسم الفاعل ـ مطلقاً من المجرّد والمزيد فيه ، وكذا هيئات الصفات المشبّهة ـ هو كليّ المفهوم المنتزع من قيام المبدأ نفسه بالذّات ، على نحو الصّدور في الاُولى ، وعلى نحو الثبوت في الثانية ، وهو المتلبّس على أحد الوجهين بالمبدأ المطلق الشّامل لجميع المبادئ ، ويكون كلّ واحد من المبادئ قرينة معيّنة للفرد الذي أطلقت عليه تلك الهيئات ، من باب إطلاق الكليّ على الفرد ، وتعيين الفرد بدال آخر ، وهو المبدأ الخاص ، فيكون استفادة الفرد من خصوص الأمثلة من دالين ، فالهيئة في الضّارب مطلقة على المفهوم الكليّ وتحيّث الخصوصية وهو ( زننده ) من مادّة الضرب ، وهكذا في سائر الأمثلة .

والمتبادر من هيئة اسم المفعول من المجرّد والمزيد فيه أيضاً ، إنما هو المفهوم الكلّي المنتزع من قيام المبدأ بالذّات على نحو الوقوع ، وهو المتلبّس بالمبدأ المطلق على هذا النحو ، وتفهم خصوصيّة الأفراد من خصوص المواد ، كما ذكر .

والمتبادر من صيغة المبالغة هو كليّ المفهوم المنتزع من قيام بالمبدأ الذات على نحو الكثرة ، وهكذا إلى آخر الهيئات .

وبعبارة أوضح : إنّ الذّوات الخارجيّة قد تتلبس بمبدأ الضرب على نحو الصّدور ، وقد تتّصف بمبدأ القتل كذلك ، وقد تتّصف بمبدأ الأكل كذلك ، وهكذا إلى آخر المبادئ ، وأنت إذا لاحظت تلبّسها بواحد من تلك المبادئ الخاصة على الوجه المذكور ، تنتزع من قيام هذا المبدأ الخاص بها ـ على النّحو المذكور ـ عنواناً بسيطاً عامّاً صادقا على ذاتٍ اُخرى غير هذه إذا تلبست بهذا المبدأ ـ على هذا النّحو ـ وهو ما يعبّر عنه بالفارسية بـ ( زننده ) إذا تلبّست الذات بالضّرب على النّحو المذكور وبـ ( كشنده ) إذا تلبّست بالقتل على النحو المذكور ، وهكذا ، فتنتزع بملاحظة تلك التلبّسات عناوين خاصة .

ثم إذا لاحظت تلك العناوين ترىٰ بينها قدراً جامعاً جدّاً ، ولو طالبتنا بالتعبير عنه ، فالعذر ضيق مجال التعبير ، والحوالة على الوجدان .

٣٠٢
 &

فنقول : إنّ هيئات اسماء الفاعلين والصّفات المشبهة موضوعة لهذا القدر الجامع بين العنوانات المذكورة المنتزعة من قيام المبادئ الخاصة بالذّوات ، وقس عليها الحال في مفهوم الصفات المشبهة ، فإنّه أيضاً أمر منتزع من قيام المبدأ بالذّات على نحو الثّبوت فيجري فيها الكلام إلى آخره .

ثم إنّ الذّوات قد تتلبس بمبدأ الضّرب على نحو الوقوع ، وقد تتلبس بمبدأ القتل على نحو الوقوع ، وقد تتلبس بمبدأ الجرح على هذا النحو ، وهكذا إلى آخر المبادئ المجرّدة .

وأنت بعدما لاحظت قيام الضّرب بها ـ على النّحو المذكور ـ تنتزع منه عنواناً بسيطاً صادقاً على غير تلك الذّات إذا تلبّست به ـ على هذا النحو ـ وهو ما يعبّر عنه بالفارسية بـ ( زده شده ) أو قيام القتل بها ـ على النحو المذكور ـ فتنتزع منه عنواناً كذلك ، يعبّر عنه بالفارسية بـ ( كشته شده ) أو قيام الجرح فتنتزع عنواناً يعبّر عنه بالفارسية بـ ( زخم خورده ) وهكذا إلى آخر المبادئ المجردة ، وأنت ترى عنواناً جامعاً بين تلك العناوين بالوجدان .

فنقول : إنّ هيئة مفعول موضوعة لهذا العنوان الجامع ، وقس عليه الحال في هيئة اسم المفعول من المزيد فيه .

وأنت بعد هذا البيان تعرف الحال بمقايسة ما ذكرنا في صيغ المبالغة ، وأسماء المكان والآلة والتفضيل ، فلا نطيل الكلام .

فخلاصة الكلام : أنّ كلّ واحد من هيئات المشتقات موضوعة للقدر الجامع بين تلك العنوانات المنتزعة ، الخاصّة بالنّسبة إلى هذا القدر الجامع ، والعامّة بالنسبة إلى ما تحتها قطعاً ؛ لقضاء التبادر ، ومعه لا يصغىٰ إلى دعوى عدم وضع الهيئات مطلقاً لمعنى مستقل ، وتصريح جماعة بذلك إمّا محمول على هيئات الأفعال فقط ، أو على خلاف التحقيق .

هذا ، وأما الوجه الثاني من الوجهين الذي هو رابع الوجوه المتقدمة ، فوجه الضّعف فيه : أن الضّروري إنما هو ثبوت نفس الذات لنفسها ، وأما ثبوتها مقيدة بوصف ، فهو ممكن بالإمكان الخاص .

٣٠٣
 &

هذا ، مع أنّه على تسليمه يرد على من اعتبر خصوصية ذات من الذّوات الخارجية ، والمدّعي للاعتبار لا يدّعيها ، بل الذي يدّعيه إنما هو اعتبار ذات مبهمة متردّدة بين الذوات الخارجية ، نظير النكرة ، لا مفهوم الذّات ، ليرد الشق الأوّل من الدّليل ، ولا خصوصية من خصوصية الذوات ، ليرد الشّق الأخير ؛ إذ لا ريب أنّ الذات المبهمة على هذا القول في ( ضارب ) في قولك : زيد ضارب ، ليست ضرورية الثبوت لزيد ـ بمعنى أن يكون اتحادها معه ضرورياً ـ بل يمكن الاتّحاد وعدمه بالامكان الخاص ، فكيف بوصف هذه الذات المبهمة ، فافهم .

وكيف كان ، فالتّبادر يغنينا عن تكلف بعض الوجوه .

مضافاً إلى كفاية غيره من الوجوه المتقدمة ، غير ذينك الوجهين ، فحينئذ لا ينبغي الارتياب في خروج الذات عن مفهوم المشتقات .

لا يقال : فعلى هذا ما الفرق بين المصادر والمشتقات ؟ إذ المتصور في المقام إنّما هو الحدث والذّات ، فإذا خرجت الثانية عن مفهومها ، فلا يبقى فرق بينها وبين المصادر ، فما الفارق حينئذ في صحة إطلاقها على الذوات الخارجية ، وحملها عليها دون المصادر ؟ فان كان مناط صحّة الاطلاق والحمل فيها هو عدم انفكاكها عن الذّات ، فهو موجود في المصادر أيضاً ، وإن كان غيره فبيّنه .

لأنّا نقول : الفارق أنّ مفاهيمها ـ كما عرفت ـ هي الأوصاف الجارية على الذوات القائمة بها قيام الحال بالمحل ، بخلاف المصادر فإنّها موضوعة لنفس الحدث المتغاير في الوجود مع الذّات ، وان كان له قيام بالذات ، إلا أنّه لم يلاحظ في وضعها .

مضافاً إلى أنّ هذا القيام يغاير قيام الحال بالمحل ، الذي هو المعتبر في المشتق ، فإنّه من قيام الأثر بذي الأثر (١) .

ومن هنا لا يصح حمل المصادر على الذات ، إلا بطريق المبالغة ، فيكون حمل هو هو ، ويصح حمل المشتقات عليها بالحمل المتعارفي دائماً .

___________________________

(١) قيام الحال بالمحلّ إنما هو بصحّة حمل الحال عليه بالحمل المتعارفيّ المصداقي ، ولا ريب أنّه لا يصحّ حمل الأثر على ذيه ، فيقال لزيد الضارب أنّه ضرب لمحرّره عفا الله عنه .

٣٠٤
 &

والحاصل أنّ مفهوم المشتقات عبارة عن الوصف على مصطلح النحويين ، ومفهوم المصادر هو الوصف المقابل للذات ، والأول لمّا كان من وجوه الذات وعناوينه فالمصحّح لحمل المشتقات على الذّوات هذا ، بخلاف المصادر ، حيث إنّ معناها الحدث المغاير للذّات في الوجود والخارج عنها ، غير المنطبق عليها بوجه ، ولذا لا يصحّ حمله عليها ، ضرورة أنّ قضية الحمل الاتّحاد في الوجود ، وقيام المحمول بالموضوع بنحو من القيام ، وإن اعتبر التغاير بينهما ـ حقيقة أو اعتباراً ـ بحسب المفهوم ، حتى يصحّ الحمل .

وكيف كان ، فالمراد بصحّة الحمل في المقام إنّما هو صحّته بالحمل المتعارفي ، المعبّر عنه بحمل ذو هو ، المقابل لحمل هو هو ، لا ما سبق إلى بعض الأوهام من أنّ حمل ذو هو ، هو أن يقدّر ذو في طرف المحمول ، بأن يكون مأخوذاً في مفهومه ، حتّى يكون معنىٰ ( ضارب ) ذو ضرب ، والّا لعاد المحذور ، من أخذ الذّات في مفهوم المشتق المانع من الحمل .

فبهذا كلّه اتّضح الفرق والفارق ، ومناط صحة الحمل في المشتقات دون المصادر (١) .

وهذا الذي ذكرنا يجري في الأفعال أيضاً ، فإنّ الذّات خارجة عنها ، ولذا يصحّ حملها على الذّوات ، بل يجري في غير الأسماء الموضوعة للذوات الخارجية ، ـ وهي الأعلام الشخصيّة ـ أيضاً ، كما مرّت الاشارة إليه آنفاً ، كالحيوان والانسان ، والرّجل والمرأة ونحوها ، فإنّ الموضوع في جميعها نفس عنوانات الذّوات الخارجية ووجوهها ، لا هي من حيث هي ، ولا باعتبار العنوان شرطاً أو شطراً ، ومن هنا يكون حملها على الذّوات من الحمل المتعارف .

وتوضيح ذلك : أنّ الأمر في وضع غير المصادر من الأسماء لا يخلو عن

___________________________

(١) وقد يدفع الاشكال المذكور بأنّ المأخوذ في مفهوم المصادر المجرّدة هي الأحداث بشرط ( لا ) ، وفي مفهوم المصادر الّتي في ضمن المشتقّات هي الأحداث لا بشرط ، فلذا يصحّ حملها على الذّوات .

وفيه ما لا يخفى على المتأمّل ، وسيجئ توضيح ضعفه في المبحث الآتي في المشتق فانتظر . لمحرّره عفا الله عنه .

٣٠٥
 &

أمرين :

أحدهما : أن يلاحظ الواضع نفس الذّات ويضع اللّفظ لها ، من حيث هي هي مجردة عن جميع العنوانات ، وهذا لا يكون إلّا في الأعلام الشخصية ، كزيد وعمرو ـ مثلاً ـ وأما الزّيديّة والعمرية ، فليستا مما تقبلان اعتبارهما في الوضع ؛ فإنّهما وصفان منتزعان بعد التسمية والوضع .

ثانيهما : أن يلاحظ وجهاً من وجوه الذّات ، وعنواناً من عناوينها المتكثرة الصادقة عليها ، ويضع اللفظ له لرفع الحاجة عند إرادة تعريف الذّات والاشارة إليها بوجهها ، كما في غير الأعلام من أسماء المشتقات وغيرها ، وإن كان بينهما فرق من جهة اُخرى ، وهي أنّ المبدأ في المشتقات أمر متأصّل متقدّم على المشتق ، ويعتبر المشتق بعد ملاحظة انتسابه إلى الذات ، ولذا سميت المشتقات بها ، وفي الجوامد أمر منتزع من نفس العنوان ، الذي وضع له اللفظ كالانسانية في الانسان ، والحيوانية في الحيوان ، وهكذا ، فالأمر فيها بعكس المشتقات ، فلا يكون لها مبدأ حقيقة ، ولذا سمّيت جوامد ، وحكم بكون الاشتقاق في مثل الرّجولية والانسانية ونحوه جعليّاً .

هذا بالنسبة إلى غير أوصاف الله تعالى .

وأمّا حملها ، فيكون من حمل هو هو ، وإن كان المحمول بصورة المشتق ، فيقال : الله تعالى قادر أو عالم ، ونحو ذلك من أوصاف الذات ، وإنّما لم يعبّروا بقول : ( الله تعالى عِلم أو قدرة ) حفظاً على القاعدة النحوية بحسب الصورة ، من حيث إنّ بناءهم على عدم صحة حمل زنة المصدر على الذات .

ثم إنّه مما حقّقنا ظهر مزيد توضيح لاندفاع ما يقال : من أنّ المشتق مشتمل على نسبة ناقصة تقيدية ، كما ظهر ضعف ما قيل : من أنّ المشتق ، وإن كان بسيطاً إلّا أنّه في ظرف التحليل مركّب من الذّات والصّفة ، ضرورة عدم قضاء تحليل المعنىٰ بخروجه عما عليه ، مع ما عرفت من خروجها حقيقة في ظرف التحليل ، وأنها معروضة لتلك العنوانات متحدة معها ، لا مأخوذة في مفهوم

٣٠٦
 &

المشتقات أو في حقائقها ، فافهم واغتنم .

احتج القائلون بالدّخول أيضاً بوجوه :

الأول : التبادر ، فان المتبادر من لفظ المشتق عند الاطلاق هو ذات ثبت لها المبدأ .

وجوابه : أنّ ذاتاً ما تفهم من نفس مفهوم المشتق من جهة كونها معروضة له ، لا من حاقّ اللّفظ ، فالدّلالة التزامية لا تضمّنية .

الثاني : إجماع النحاة حيث فسّروا اسم الفاعل بمن قام به المبدأ واسم المفعول بمن وقع عليه .

وجوابه : علم سابقاً ، وتوضيحه : أنّ التعبير بذلك لتسهيل البيان ، وإلّا فظاهر قولهم المذكور كون المدلول في الاسمين هو ذات ما ، من حيث قيام المبدأ بها ، أو وقوعه عليه على وجه يكون التقيّد داخلاً والقيد خارجاً ، ولا يقول به أحد من الفريقين .

هذا مع أنّ إجماعهم لا يعبأ به بعد قيام الأدلة القاطعة على خلافه .

الثالث : أنّه لو لم يكن الذّات داخلة في مفهوم المشتق ، للزم كونه مجازاً في نحو قولك : جاءني العالم ، أو الابيض ، أو الاسود ، ونحو ذلك مما يراد به الذات قطعاً ، التّالي باطل اتفاقاً ، فكذا المقدّم .

وفيه : أنّ المشتق ـ في الأمثلة المذكورة وأمثالها ـ إنما يراد به المفهوم المجرّد عن الذّات ، ويطلق على الذّات الخارجية من باب إطلاق الكليّ على الفرد ، كما عرفت .

الرابع : أنّه لو كان مفهوم المشتق هو المفهوم العرضيّ المجرّد عن الذّات ، لما صحّ تعلّق الأحكام به لعدم مقدوريته .

وفيه : أنّه إذا أريد بالمشتق الحكم عليه بشيء يطلق على الذوات الخارجية ، ـ من باب إطلاق الكلي على الفرد ـ يكون المتعلق للحكم هي تلك الذوات ، لا المفهوم ، كما في الجوامد الموضوعة للمعاني الكلية .

مع أنّ عدم صحة الحكم بنفس تلك المفاهيم مسلّم إذا كان بشرط عدم

٣٠٧
 &

الذّوات الخارجية . وأمّا لا بشرط ، فلا شبهة في مقدوريته باعتبار ذات من الذّوات ، التي هي من أفرادها ، وإلّا يجري ذلك في غير المشتقات من الأسماء الموضوعة للمفاهيم الكلية .

الخامس : أنّه لو لم يؤخذ ذات ما في مفهومها ، لزم أن لا يصح استعمالها بدون ذكر المتعلقات من الذّوات ، إذ مفهوم المشتق ـ حينئذ ـ هو مجرد المبدأ والرّبط ، ومن البيّن أن الرّبط بين الشّيئين أمر إضافي ، لا يمكن تعقّله بدون تعقّل المنتسبين ، فكٰان بمثابة المعاني الحرفية ، والتّالي باطل قطعاً ، إذ كثيراً ما يستعمل المشتق في المحاورات بدون ذكر الذّات ، كما في قولك : جائني العالم ، ورأيت الأبيض ، ومررت بالأسود ونحو ذلك .

وجوابه : قد مرّ في طي أدلّة المختار ، من أنّ مفهوم المشتق أمر بسيط عرضي ينتزع من قيام المبدأ بالذات ـ في الخارج ـ يعبّر عنه بالفارسية في لفظ ضارب ، مثلا بـ ( زننده ) وهذا المعنى أمر مستقل بالمفهوميّة ، كسائر معاني الأسماء ، ولا يتوقف تعقله على تعقل الغير ، حتى يكون من المعاني الحرفية ، بل إنّما يتوقّف تحقّقه في الخارج على وجود غيره ، كما في مطلق الأعراض ، فعدم الاستقلال باعتبار الوجود الخارجي ، لا باعتبار المفهوميّة ، وليس ما شأنه ذلك من المعاني الحرفية ، وإلّا لدخل كل اسم لا يتحصّل معناه في الخارج إلّا بتحصل الغير ، كالاضافيات والأسماء الموضوعة للأعراض في الحروف ، وهو باطل .

نعم يلزم ذلك لو كان مفهوم المشتق مجرّد النسبة والرّبط ، كما لو كان هو المبدأ من حيث قيامه بالذّات ، يلزم تضمّنه للمعاني الحرفيّة كالمبهمات ، ولا نقول نحن بشيء منهما ، لظهور المغايرة بين هذين وبين ما اخترنا ، فإنّ مرجع المفهوم ـ على ما ذكرنا ـ إلى المبدأ بملاحظة قيام المبدأ بالذات ، لا من حيث كونه كذلك ، وبينهما فرق بيِّن ؛ لاعتبار الحيثية في الوضع على الوجه الثاني ، دون الأول ، نظير الحضور الذّهني بالنسبة إلى الجنس المنكر والمعرف ، فافهم .

حجة التفصيل على الدّلالة بالنسبة إلى أسماء الآلات تبادر الذات المبهمة منها ، وعلى عدمها في غيرها بعض ما مرّ من أدلة المختار .

٣٠٨
 &

وفيه : ما مرّ من أنّ تبادر الذّات ، إنّما هو لشدّة الارتباط بين العارض والمعروض ، لا من نفس اللفظ .

مضافاً إلى كثرة الاطلاق على الذّات ، وندرة إرادة المفهوم العرضيّ اللا بشرط فيها ـ أي أسماء الآلات ـ فإنّه أيضاً قد يوجب التّبادر ، ويحتمل القول بحصول النقل عرفاً من جهة شيوع الاطلاق في خصوص أسماء الآلات .

تذنيبان :

الأوّل : قد فرّع على المسألة ، أعني اشتراط بقاء المبدأ فيما أطلق عليه المشتق حقيقة وعدمه ، كراهة الوضوء بالماء المسخّن بالشمس بعد زوال السّخونة عنه ، على القول بعدم اشتراط البقاء ، وزوالها (١) على القول بالاشتراط .

وكذا كراهة التخلّي تحت الأشجار المثمرة بعد ارتفاع الثمرة ، وكراهة سؤر آكل الجيف بعد ترك الأكل ، وكذا الحال في الوقوف والوصايا والنذور المتعلقة بالعناوين المشتقّة ـ على ما ذكره بعض المتأخرين (٢) من مقاربي عصرنا ـ كالطّلبة والمشتغل والعالم والمدرّس وغير ذلك من المشتقّات .

لكنّ التأمّل التّام يقضي بظهور الثمرة على بعض الوجوه لا مطلقاً .

وتحقيقه : أنّ الوصف العنواني الذي هو مدلول المشتقات ، ويجري على الذوات ، ويعبّر عنها بها ، ويعلّق الحكم عليه ، إما أن يعلم بعدم مدخليّته للحكم ، بل يكون عنواناً وقع لمجرّد تعريف الذات التي هي الموضوع حقيقة ، كما في قول القائل : اقتل الجالس في الدّار ، إذا كان الجالس فيها من أعدائه ، وإما أن يعلم بمدخليته في الجملة .

وعلى الثّاني : إما أن يكون العنوان علة لثبوت الحكم حدوثاً أو بقاء أيضاً ، فيكون واسطة في الثبوت ، كما في السّارق والزّاني في الآيتين ونحوهما ، أو لم يكن علة ، بل إنما هو أخذ قيداً لموضوع الحكم ، فيكون واسطة للعروض ، كما في قولنا : العادل مقبول الشهادة ، والمجتهد ينفذ حكمه .

___________________________

(١) أي زوال الكراهة .

(٢) هداية المسترشدين : ٩٠ .

٣٠٩
 &

وإما أن يشتبه الحال ، بحيث لا يعلم بمدخليته في الحكم على أحد الوجهين وعدمها ، فيقع فيه الإشكال .

أما الصورة الاولىٰ ، فالحكم فيها باق بعد زوال العنوان على جميع الأقوال ؛ إذ متعلّقه هي الذات ، وهي لا تختلف ببقاء العنوان وزواله ، فلا تظهر فيها فائدة الخلاف .

وأما الثانية ، وهي أن يعلم بكونه علة لثبوت الحكم ، وأنّ الموضوع نفس الذات ، فان علم فيها بكونه علة للثبوت (١) فقط دون البقاء ، فالحكم ما ذكر في الصورة الاولى .

وإن علم أنه علة للحدوث والبقاء كليهما ، كالتغير الموجب لنجاسة الماء الراكد الكرّ ، حيث إنّ بقاء النجاسة يدور مدار بقائه على الأظهر ، فلا إشكال في زوال الحكم بعد زواله على جميع الأقوال أيضاً .

وإن اشتبه الحال في كونه علة للبقاء أيضاً ، فالحكم ببقاء الحكم حينئذ يدور مدار ما اختاره الفقيه في مسألة الاستصحاب ، فان ثبت اعتباره في مثل المقام يحكم بالبقاء ، وإلا فلا ، سواء كان من القائلين باشتراط بقاء المبدأ أو من غيرهم ، فلا ثمرة هنا أيضاً بين القولين .

وأما الثالثة : وهي أن يعلم بكونه قيداً للموضوع فقط ، فهذه هي مورد ظهور الثمرة ، فعلىٰ القول بوضع المشتق لخصوص حال النطق يلزم اختصاص الحكم بمن كان متلبّساً بالمبدأ في هذا الحال ، وعلى القول المختار من وضعه لحال التلبّس يعمّ الخطاب لمن يتلبّس به في الماضي أو الحال أو الاستقبال مع اختصاص الحكم بحال التلبّس ، لا مطلقاً .

ويتفرع على هذين القولين زوال الحكم بزوال المبدأ ، لانتفاء موضوعه حينئذ ، وعلى القول بوضعه للقدر المشترك بين الماضي والحال يلزم بقاء الحكم بصدق العنوان حقيقة بعد زوال المبدأ ، فالموضوع باق .

وأما الرّابعة : وهي أن لا يعلم بمدخلية العنوان في الحكم ، ولا في

___________________________

(١) كذا والأولى ( علّةً للحدوث ) .

٣١٠
 &

الموضوع ، فيظهر الفائدة فيها أيضاً ؛ إذ اللازم على القول باشتراط بقاء المبدأ حينئذ زوال الحكم بعد زوال العنوان للشّك في بقاء الموضوع ، ولا يمكن استصحابه ، لاشتراط بقاء الموضوع فيه على الأقوى : وهو غير معلوم ، لتردده بين الذات المطلقة والمقيدة ، فافهم .

اللهم إلا أن يكون لا يعتبر ذلك ، لكنّ الكلام في الثمرة بين القولين مع قطع النظر عن الأدلة الخارجية ، ولا ريب في ظهوره ـ كما عرفت ـ مع قطع النظر عن الاستصحاب ، وعلى القول بعدم اشتراط البقاء ، كان الحكم باقياً لبقاء الموضوع على التقديرين على حسب ما مرّ .

فبهذا كلّه عرفت أنّ تفريع الحكم بتلك العناوين على المسألة بقول مطلق ليس بجيّد .

ثم إنّه لا يخفى عليك تطرّق الإشكال ـ فيما فرّعوا على المسألة ـ من بقاء كراهة الوضوء بالماء المسخن بالشمس بعد زوال سخونته ، وبقاء كراهة البول تحت الشجرة المثمرة المرتفعة عنها الثمرة .

أما الأول ، فلأنّ المبدأ في المشتق المذكور ليس قابلاً للبقاء قطعاً ، بل هو نظير القتل قبل وجوده لا وجود له ، وبمجرد وجوده ينعدم .

نعم الأثر الحاصل من التسخين والتسخّن قابل للبقاء ، لكنّه ليس من محلّ النّزاع في شيء . نعم لو دلّ دليل على كراهة الوضوء بالماء السّخين جرىٰ النّزاع فيه ويظهر الثمرة فيه .

وبالجملة التسخين والتسخن والسخونة نظير التمليك والتملك والملكية ، فهل ترى أحداً يقول : بقابلية بقاء الأوّلين ، والمفروض أن المسخّن من التسخين ، الذي هو فعل الشمس في محلّ الكلام ، المنعدم بمجرد وجوده ، فلو دلّ دليل على كراهة الوضوء بالماء المسخّن علم أنّ المراد ما انقضىٰ عنه المبدأ بحكم العقل ، فلا يمكن جعله من ثمرات النّزاع في المسألة .

مع أنّه لم يرد في شيء من الاخبار كراهة الوضوء بالماء المسخّن ، وأما اختلاف العلماء ، فهو مبني على اختلافهم في فهم الأخبار ، ولا يستلزم ذلك كونه من هذه

٣١١
 &

الجهة .

وأما الثاني : فلأنّ الظّاهر من تعلّق الكراهة بالبول تحت الشجرة المثمرة هي التي تكون مثمرة حال البول .

توضيح ذلك : أنّ الشجرة المثمرة قد تطلق على ما يكون مثمرة بحسب جنسها ، أي ما يكون لها شأنية الإثمار في مقابل ما لا يقبل جنسها لذلك ، كالنّاجو (١) مثلاً ، وقد تطلق على ما تكون مثمرة بحسب نوعها ، في مقابل ما لا يقبل نوعه لذلك ، كالنخل الفحل مثلاً ، وقد تطلق على ما تكون مثمرة بحسب صنفها على حسب اختلاف الأصناف في القرب والبعد ، وقد تطلق على ما تكون مثمرة فعلاً .

والأخبار الواردة في كراهة البول تحت الشجرة المثمرة على ضربين :

احدهما : ما يمنع من البول تحت الشجرة المثمرة .

وثانيهما ما دلّ على كراهة البول تحت الشجرة التي عليها ثمرة . وحمل المطلق على المقيد وإن لم يكن ثابتاً في المكروهات والمندوبات والمباحات ، إلا أن الظّاهر بعد التأمل في الأخبار كون النّهي عن البول تحت الشجرة المثمرة من جهة تنفّر الطّباع عن أخذ الثمرة .

فعلى القولين في المشتق لا كراهة إذا لم يكن عليها ثمرة ، فلا معنى لجعل الفرع المذكور من ثمرات الخلاف في المسألة ، والله العالم .

الثاني : حكىٰ بعض الأعلام (٢) عن بعض جريان الخلاف المتقدم في المشتقات في الجوامد أيضاً ، ولعلّ نظره في ذلك إلى الذّوات التي تتصف ببعض الأوصاف في بعض الأحوال ، ويختلف التسمية باعتباره ، مثل كون هند زوجة زيد ، باعتبار حصول علقة النكاح بينهما ، وكون المائع خمراً باعتبار إسكاره ، ونحو ذلك . وأما غير ذلك من الذّوات ، فلا يتصور فيها زوال الوصف مع بقاء الذّات بوجه .

___________________________

(١) ناجو : درخت كاج . صنوبر ( لغت نامه دهخدا ) .

(٢) هداية المسترشدين : ٨٨ .

٣١٢
 &

اللهم إلّا أن يريد بذلك تغير صورها النوعية ، كما إذا وقع الكلب في المملحة فصار ملحاً ، أو صارت العذرة تراباً أو دوداً ، ونحو ذلك .

ولكنه حينئذ في غاية السقوط ، ضرورة عدم صدق الكلب والعذرة مع انتفاء الصورة النوعية ، إذ التسمية تدور مدارها وجوداً وعدماً .

نعم ربما يتوهّم ذلك في نحو الزوجة والخمر ، مما يكون التسمية فيه دائراً مدار ثبوت حالة ، أو وصف ، لكنه ليس بشيء أيضاً ؛ إذ الظاهر عدم الخلاف في كون الجوامد حقيقة في حال التلبس ، لا حال النطق ، وإلّا لزم كون الاطلاق في نحو قولك : ( هذا كان خمراً في الأمس ، ويكون خلّاً في الحال ) و ( هند كانت زوجة زيد أمس ، والآن مطلّقة ) مجازاً ، وهو باطل بضرورة اللغة والعرف .

وأما احتمال كونها حقيقة باعتبار التلبس في الماضي بالنسبة إلى حال النسبة فبعيد جدّاً غاية البعد ، مضافاً إلى قضاء التبادر عرفاً بخلافه ، ولذا خصوا النزاع في كلماتهم بالمشتقات .

وما قد يُرى من نحو قولهم : ( هند زوجة زيد ) ، بعد طلاقها بائناً ، بل بعد تزويجها بغير زيد ، ونحو ذلك مبنيّ على ما ذكرنا في طيّ التنبيه الأول والثاني ، من أنّ المراد تعريف هذه الذّات الموجودة الآن باعتبار اتحادها لما كانت معروضة للوصف العنواني قبل ذلك ، فلفظ ( زوجة زيد ) قد أطلق على تلك الذّات التي كانت لها هذه الصفة في ذلك الزمان ، فجعلت تلك باعتبار اتّحادها لهذه الذات معرّفة لها ، كما في قولك : ( هذا ضارب عمرو ) ، في المشتق ، وفي الجوامد نحو قولك : ( هذه حديقة عمرو ، أو دار زيد ، أو كتابه ) ، بعد خروجها عن ملكها إلى ملك الغير ، فليس لهذا الإطلاق دلالة على كون الجوامد حقيقية باعتبار التلبّس في الماضي بالنسبة إلى حال النسبة .

والحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين .

*  *  *

٣١٣
 &

بسم الله الرحمن الرحيم

« في الصحيح والأعم » (١)

أصل : اختلفوا في أنّ الألفاظ التي تصرف الشارع فيها ظاهرة في الصحيح أو الأعم على أقوال ، وتتم البصيرة بتقديم مقدمات :

الاُولى : في تفسير الألفاظ المأخوذة في العنوان .

فنقول : أمّا المراد من تصرّف الشارع في اللّفظ فأعمّ من اختراعه وضعاً جديداً لأحد المعاني العرفية ، كألفاظ العبادات بناء على مشروعية معانيها في الاُمم السّابقة ، ومن اختراعه معنىً جديدا لأحد الألفاظ العرفية ، كألفاظ العبادات بناء على حدوث مشروعية معانيها في شرعنا .

ومعنى الاختراع ـ وإن كان هو الخلق والإيجاد الخاصّ ـ يصدق على الأحكام التكليفية ولا يطلق على وضع اللفظ وتغيير المعنى ؛ ضرورة عدم تعلّق شيء باللفظ والمعنى بواسطة الوضع والتغيير وراء التّصور والملاحظة ، إلّا أنّا اقتفينا بآثار القوم في إطلاق الاختراع عليها مجازاً .

وكيف كان فوجه تقييد الألفاظ بتصرّف الشارع هو إخراج ألفاظ المعاملات وبعض ألفاظ العبادات الّتي مثل الزّيارة والدّعاء وتلاوة القرآن ، ونحوها ممّا استعمله الشارع في معانيها اللغوية ، واعتبر في صحّته شرعاً شروطا خارجية ، كما هو مذهب القاضي (٢) في مطلق ألفاظ العبادات .

ووجه خروجها عن محلّ النّزاع أنّه لا مسرح لتوهم ظهورها في الصحة الشرعية بعد فرض خروج الصحة الشرعية عن مدلولها ، واما ظهورها في الصحة اللغوية وعدمه فالمتكفل له مسألة كون الوضع للمعاني الواقعية أم لا .

وممّا يشهد على خروج ألفاظ المعاملات عن النزاع ، أنّه لم يقل أحد

___________________________

(١) سقط هذا البحث من النسخة ، فنقلناه من تقريرات السيد عبد الحسين الموسوي الدزفولي اللاري رحمة الله عليه .

(٢) قد ذكرنا نصّ عبارته في هامش مبحث الحقيقة الشرعية .

٣١٤
 &

بإجمال ألفاظ المعاملات ممن قال بإجمال ألفاظ العبادات بناء على الصحيحي ، وسيأتي تمام الكلام على ما يوهم دخولها في آخر المسألة .

وأمّا المراد من الظهور ، وفاقاً لما يظهر من الهداية (١) والضوابط (٢) والإشارات (٣) والموائد (٤) ، فأعمّ من الوضع ، كما هو المناسب لقول المثبتين للحقيقة الشرعية ، ومن الانصراف إلى أقرب المجازات ، كما هو المناسب لقول نفاته ، فالعدول عن تعبيرهم بالتسمية إلى التّعبير بالظّهور مراعاةً للمذهبين ، وتصحيحاً لهذا النزاع على كلا المذهبين .

وأمّا عدول بعض آخر عن التّسمية إلى التعبير بالاستعمال ، فمنظور فيه ؛ إذ لا مجال لانكار أصل استعمال الشّارع هذه الألفاظ كلّاً أو بعضاً في غير الصحيحة ، وإنما النزاع في تعيين أن الموضوع له أيٍ من الصحيح والأعم عند المثبتين للحقيقة الشرعية ، وفي تعيين أنّ أقرب المجازات وأشيعها أيٍ من الصحيح والأعمّ عند نفاتها ، حتى يحمل إطلاق كلمات الشّارع على المتعين منهما ، مع أنّ التعبير بالتسمية واستدلال كلّ من الفريقين بالتّبادر ، وعدم صحة السّلب لا يقتضى ابتناء هذا النزاع على ثبوت الحقيقة الشرعية ، كما زعمه الفصول (٥) وغيره ، بل أقصى ما يقتضي هو ابتناؤه على ثبوت الحقيقة المتشرعية .

ثم ليعلم أنّ المراد من أقرب المجازات المتصور فيه النزاع إنما هو الأقربية الحاصلة من غلبة الاستعمال ، دون الأقربية الاعتبارية حتى تندفع بعدم اعتبارها في ثبوت الأوضاع ، ولا الأقربية الحاصلة من انحصار علاقة المعنىٰ اللغوي في أحد المجازين ، وكون إطلاقه على الآخر من باب المسامحة ومشابهته للمجاز الأوّل ، حتى تندفع بابتنائه على القول بجواز سبك المجاز من المجاز ، والمشهور عدمه ، وعلى ثبوت

___________________________

(١) هداية المسترشدين : ١٠٢ .

(٢) انظر ضوابط الاصول : ١ مبحث الصحيح والأعم .

(٣) اشارات الاُصول ١ : ١٧ .

(٤) موائد العوائد في بيان القواعد والفوائد في علم الاصول للمولى محمد جعفر الشريعتمدار الاسترابادي الطهرانى من أجلّاء تلاميذ الوحيد البهبهاني ( ره ) انظر الذّريعة ٢٣ : ٢١٤ ، وطبقات اعلام الشيعة / الكرام البررة في القرن الثالث بعد العشرة ١ : ٢٥٣ .

(٥) الفصول : ٤٦ .

٣١٥
 &

مسامحة العرف في الشروط ، كما في الأجزاء ولم يثبت إلّا في بعض الشّروط التي يعد المشروط الفاقد لها متحدا مع الواجد لها ، والمفروض أنّ ذا الشّروط من العبادات أكثر من ذي الأجزاء منها .

ثم ليعلم أن نزاع الصحيحي والأَعمي إنما هو في خصوص الألفاظ الصالحة للاتصاف بالصحة والفساد ، دون ما لا يصلح ، كالكفر والفسق والعدالة ، بخلاف النزاع في ثبوت الحقيقة الشرعية فانه يعمها أيضاً .

وأمّا المراد من الصحيح ، فعن أكثر الاصوليين أنه ما ليس بمعيوب ، أعني تامَّ الأجزاء والشرائط ، وعن المحقق البهبهاني (١) أنّه ما ليس بناقص ، أعني التّام الأجزاء فقط .

وأمّا الصحّة المصطلحة عند الفقهاء والمتكلّمين في اسقاط القضاء وموافقة الأمر فليس معنىً حقيقياً للصحة ، بل هو من آثارها ومعلولاتها ، وعلى تقدير كونه معنىً حقيقيّاً للحصة لا يعقل أخذها بهذا المعنى جزءً ، أو شرطاً في موضوع الطلب ،

___________________________

(١) مع التتبع الشديد لمظانه لم نعثر على محل ما نسب اليه ، بل المستفاد من أربعة موارد خلافه :

المورد الأوّل : ما أفاده في حاشيته على المعالم في مبحث دلالة النهى على الفساد عند قول صاحب المعالم ( اختلفوا في دلالة ) حيث قال : لا يخفى أنّ الصحّة في العبادات عبارة عن كونها مطابقة لأمر الشارع وطلبه . . . الخ .

المورد الثاني : ما أفاده في حاشيته على المدارك : ٢٩٩ في صلاة العبيد حيث قال : مع أن كون الصلاة اسما لمجرد الأركان محل نظر ، بل ربما كان اسماً للمستجمع لشرائط الصّحة كما عليه بعض الفقهاء بل هو اظهر بالنظر الى الدليل كما حقق في محلّه .

المورد الثالث : ما أفاده في شرح المفاتيح في موارد عديدة مثل ما أفاده في كتاب الصلاة في صلاة الجماعة : ٢٨٥ حيث قال : وفيه أنّ الأصحّ كون الصلاة اسماً للمستجمع لشرائط الصّحة ، ومثل ما أفاده في نواقض الصلاة : ٣٠٣ حيث قال : وهي بأن ثبت كونها اسما لخصوص الصحيحة المستجمعة لشرائط الصحّة كما هو الأقوى بالنظر الى الأدلّة مثل التبادر وصحة السلب وغيرهما .

المورد الرابع : ما أفاده في كتابه في علم الاصول الموسوم بـ ( الفوائد الحائريّة ) : ١٢٥ من مجموعة رسائله .

في الفائدة الثالثة : حيث قال : لكن الفقهاء من المتشرعة وقع بينهم نزاع في أن الفاظ العبادات هل هي أسام للصحيحة المستجمعة لشرائط الصّحة أم تكون أسامي للأعم منها ؟ فعلى هذا يشكل الثبوت من هذه الطريقة هذا إذا وقع النزاع في شرائط الصّحة ـ إلى أن قال بعد ذكره الحجة على مذهب الأعمّي والاشكال عليه ـ : وحجّة المذهب الأوّل التبادر عند الإطلاق وصحّة السلب عن العاري عن الشّرائط وكون الأصل في مثل : ( لا صلاة إلّا بطهور ) الاستعمال في نفي الحقيقة لأنّه المعنى الحقيقي . نعم يمكن ان يكون ذلك على وجه الحكاية عنه من بعض تلامذته كصاحب موائد العوائد .

٣١٦
 &

لكونها من آثار وجود المطلوب وآثار وجود المطلوب متأخرة عن المطلوب بمرتبتين :

أحدهما مرتبة اتصافه بالمطلوبية .

والآخر مرتبة اتصافه بالموجودية ، وأخذ الأثر المتأخر قيداً لمؤثّره المتقدم دور صريح ؛ ضرورة لزوم توقف الأثر على المؤثّر قضاءً لحق عليته له ، وتوقف المؤثر على الأثر قضاء لفرض جزئيته له ، فانحصر تصوير المراد من الصحة المأخوذة قيداً لموضوع الطلب في الصّحة اللغوية وهو ما ليس بمعيوب ، أعني تام الاجزاء والشرايط ، او ما ليس بناقص ، أعني تام الاجزاء فقط .

والأعم في قبال الصحيح بالمعنى الأوّل هو الصحيح بالمعنى الثاني ، وفي قبال الصحيح بالمعنى الثاني هو ما يحصل معه التسمية في عرف المتشرعة الأعم من حيث الاجزاء والشروط الزائدة على المسمىٰ ، ويسمى بالأعمّ بالمعنى الأعم .

*  *  *

٣١٧
 &

المقدمة الثانية : في تصويرات كلّ من قولي الصّحيح والأعم ، وتشخيص المراد منها في محلّ النزاع .

فنقول : أما القول بالصّحيح بالمعنى الأخص فيتصور على وجوه :

أحدها : إرادة الماهية المستجمعة لجميع الأجزاء المعتبرة فيها من غير اعتبار للشرائط .

ثانيها : إرادة الصحة الواقعية المستجمعة لجميع الأجزاء والشّرائط العلمية والواقعية المعتبرة في حق المختار القادر العالم به .

ثالثها : إرادة كل فرد من أفراد الصحة الواقعية المستجمعة لجميع الأجزاء والشروط الواقعية المختلفة بحسب اختلاف حال المكلفين في الصحة والمرض ، والحضور والمسافرة ، والعلم والجهل ، والتمكن وعدمه .

رابعها : إرادة القدر الجامع بين أفراد تلك الصّحة المختلفة بحسب اختلاف حال المكلفين .

أمّا الوجه الأوّل : فقد زعم المحقق البهبهاني (١) انحصار مراد الصحيحيين فيه على ما حكي عن ظاهر كلامه .

ولكنّه مدفوع بوجوه :

الأوّل : استدلال الصحيحيين طرّاً بحديث ( لا صلاة إلّا بطهور ، ولا صلاة إلا إلى القبلة ) ونحوهما ، ولو لم يكن المراد من الصّحة تام الأجزاء والشرائط لما صح استدلالهم على التسمية لها بنفي الاسم عند انتفاء الشرط في الحديث .

الثاني : تصريحهم في بحث المجمل والمبين على أن حديث ( لا صلاة إلا بطهور ) عرفية خاصة في نفي الصحة على قول الصحيحي ، ومجاز لغوي فيه على قول الأعمي ، ولولا أنّ المراد من الصحة هو تامّ الأجزاء والشرائط لما صحّ نفي الصحة حقيقة بواسطة انتفاء الشرط .

___________________________

(١) اُنظر ص ٣١٦ هامش رقم ١ .

٣١٨
 &

الثالث : تصريح صاحب الهداية (١) والفصول (٢) والضوابط (٣) والاشارات (٤) وغيرهم على كون المراد من الصحة المعنى الأخص ، بل لم ينسب تصوير النزاع في المعنى الأعم إلّا إلى ظاهر البهبهاني ( قدس سره ) .

واما الوجه الثاني : فقد زعم اُستاذنا العلامة ( دام ظله ) انحصار مراد الصحيحيين فيه دافعاً لاستلزام عدم صحة عبادات اُولي الأعذار المعلوم صحتها نقلاً وفتوى واتّفاقا ، بمنع الملازمة إن اريد من صحتها الصحة الواقعية الثانوية المستلزمة لترتب آثار الصحة الواقعية الأوّلية ، لكونها بدلاً عنها ، ومنع بطلان التالي إن أريد من صحتها الصحة الواقعية الأولية مؤيداً بإطلاقهم البدلية والإسقاط والإجزاء على عبادات اُولى الأعذار .

ولكن لا يخفى ما في الالتزام بأن مرادهم من الصحة ، الصحة الواقعية المستجمعة لجميع الأجزاء والشرايط الواقعية والعلمية المعتبرة في حق المختار القادر العالم بها ، وأنّ ما عداه من عبادات أولي الأعذار أبدال عنه من التكلف والتمحّل ، بل لم يطرق أسماعنا اعتراف أحد من الصحيحيين به .

واما الوجه الثالث : وإن أمكن إرادته إلا أنه لم يلتزم به أحد من الصحيحيين ، حذراً عن استلزامه على القول بثبوت الحقيقة الشرعية تعدد وضع الصلاة مثلاً إلى ما لا يحصىٰ ، وعلى القول بالعدم استعمال لفظ الصلاة مثلاً في أكثر من معنى مجازي في إطلاق واحد .

واما الوجه الرابع : فمقتضى ما في الموائد من تعيين الطريق في إرادته ، ومن تصريح اُستاذ أساتيذنا الأعلام به ، ومن إرساله إرسال المسلّمات بين الصحيحيين ، كونه هو مراد الصحيحيين ، لا غير ، وبعد ذلك لا مجال للإشكال في

___________________________

(١) هداية المسترشدين : ١٠٠ .

(٢) الفصول : ٤٦ .

(٣) انظر ضوابط الاصول : . . . . . . في مبحث الصّحيح والأعم في تحرير محلّ النزاع عند قوله : « ثم الظاهر أنّ المراد بالصحيح هو الصحيح بالمعنى الأخص لا الأعم . » . وقد فسّر الصحيح بالمعنى الأخص بالصّحيح بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط معاً وبالمعنى الأعم بالصّحيح بالنسبة إلى الأجزاء فقط .

(٤) إشارات الأصول ١ : ١٧ .

٣١٩
 &

تعيين مراد الصحيحيين فيه ، وإنّما الإشكال فيه من جهتين ، وهما الموجبان لتفصي بعضهم عن تعيين مراد الصحيحيين فيه .

الجهة الاُولىٰ من الاشكال : عدم تعقل الجامع بين أفراد الصّلوات الصحيحة من ذوي الأعذار وغيرهم ، لأن الجامع لا يمكن ان يكون ماهية الطلب ، ولا الأمر ؛ إذ يلزم تقدم الأمر على صدق الاسم ، ولا القابلية لتعلق الأمر ، فكلّ ما رآه الشّارع قابلاً لأن يكون متعلقا للأمر أطلق عليه اسم الصلاة ، فإنه إن كان المراد بها القابلية التي تحتاج في فعليتها إلى ما عدا التسمية ، فهي الجامعة بينها وبين الفاسدة ، وإن كان المراد ما لا تحتاج في الفعلية إلى ما عدا التسمية ، ففيه أن التسمية غير محتاج إليها في الطلب الواقعي .

والتزام أن الطلب الواقعي لا يتعلق على (١) الصحيح بخلاف الظّاهري ، كما ذكر في الفصول (٢) لا معنى له ؛ لأن الطلب الظاهري المطابق للواقع يتعلق بما تعلق به الطلب الواقعي والتفكيك غلط .

ويندفع هذا الإشكال بأن الجامع غير منحصر في ذوي المحاذير المذكورة ، بل هو أمر ملزوم للأمر والطلب مساوٍ له ، وهو الحسن والمصلحة وامثالهما .

الجهة الثانية للإشكال : هو أن فرض الجامع أمرا ملزوماً للأمر والطلب مساوياً له ، وهو الحسن والمصلحة ، مستلزم لذهاب الصحيحيين طراً إلى الاحتياط عند الشك في الجزئية والشرطية ، من حيث أن الموضوع حينئذ يكون من قبيل المبين مفهوماً ، المجمل مصداقاً ، كالطهور المأمور به لأجل الصّلاة ، فلا محالة يكون الحكم في مثله الاشتغال ، والحال أن اكثر الصحيحيين ذاهبون إلى البراءة وآبون عن الاحتياط .

ويندفع هذا الإشكال أيضاً بمنع الملازمة ، بأن المراد من كون الصحيح موضوعا لذلك الأمر الملزوم للأمر والطلب ، وهو الحسن والمصلحة المساوية له ، ليس اندراج وصف الصّحة او الحسن في المعنى ، بل تفصيله أن الشارع قد استعمل

___________________________

(١) كذا والصحيح ( بالصحيح ) .

(٢) الفصول : ٤٨ .

٣٢٠