تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ١

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ١

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

تقريرات آية الله المجدد الشيرازي الجزء الأوّل للمولى علي الروزدري

١
 &

تقريرات آية الله المجدد الشيرازي الجزء الأوّل للمولى علي الروزدري

٢
 &



بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وبه ثقتي

أصل قد ينقسم اللفظ ـ الموضوع باعتبار المعنى الموضوع له ـ إلى متحد المعنى ، ومتكثره .

والمتكثر إلى المشترك ، والمبهمات ، والمنقول ، والمرتجل لأنّ الموضوع له فيهما متعدد ، وإن كان المنقول مهجوراً عن المعنى الأول على المختار ، لأن النظر في التقسيم على الموضوع له ، مع قطع النظر عن بقاء استعمال اللفظ فيه وعدمه .

وأما الحقيقة والمجاز ، فهما صفتان عارضتان للّفظ ، بملاحظة الاستعمال ، لا بملاحظة الموضوع له ، ومن جعله من أقسام متكثر المعنى ، كصاحب المعالم ، فاراد بالمعنى المستعمل فيه .

ويشكل ما صار اليه ـ رحمه الله ـ من حيث انحصار الألفاظ ـ على ما ذهب إليه ـ في متكثر المعنى ، إذ ما من لفظ متحد الموضوع له إلا ويصحّ استعماله في معنى مجازاً ، حتى قيل بذلك ـ أعني بجواز استعمال كل لفظ في معنى آخر مجازاً ـ في الأعلام الشخصية إلّا في لفظ الجلالة ؛ للنهي الشرعي عنه ، مع أن الأعلام ليست من اللغات ، ولا تنسب إلى لغة دون أخرى على المختار .

ثم المشترك ـ أي المشترك اللفظي ـ له تعريفات ، أجودها ما في غاية المرام ، من أنه هو اللفظ الموضوع لمعنيين ابتداء ، والأولى زيادة قيد ( تفصيلاً ) لإخراج

٣
 &

المبهمات ، فانّ الموضوع له فيها متكثّر ، إلا أنّ اللّفظ لم يوضع لكل واحد تفصيلا بل وضع للجزئيات إجمالاً ، وزاد بعضهم قيد عدم المناسبة ، فان أراد عدم وجود المناسبة رأساً ، فهو سهو ، إذ لا يجب ذلك في المشتركات ، بل توجد المناسبة بين كثير من معاني المشتركات ، وإن أراد عدم ملاحظتها فهو جيّد ، إلّا أنه لا حاجة إليه لأنّ قيد ( ابتداء ) يغني عنه .

وأما المنقول والمرتجل فيشاركانه في التعريف عدا القيد الأخير ، أعني قيد ابتداء لأن الوضع فيهما على الترتيب ، والتراخي عن الوضع الأول للمعنى الأوّل ، وهما يتفارقان في اعتبار الهجر عن المعنى الأول ، بحيث يحتاج إلى نصب قرينة إذا أريد استعمال اللفظ في المعنى الأول ، أي المنقول على المختار ، دون الثاني ، وهو المرتجل وأيضاً ملاحظة المناسبة بين المعنى الأوّل والثاني معتبرة في المنقول دون المرتجل .

ثم إن غرضنا من الترتيب حصول الوضع في المعنى الثاني ، في آن مغاير لآن وضع اللفظ للمعنى الأول ، بحيث يعد العرف هذين الآنين زمانين متغايرين . ومن الابتداء حصول الوضع لكلا المعنيين في آن واحد عرفاً ، فإنه لا يمكن حصوله لهما في آن واحد حقيقي ، وبعبارة أخرى بحيث يعد العرف آنيهما آنا وزماناً واحداً .

ثم إنّ جعل المنقول والمرتجل قسيمين للمشترك ، وللحقيقة والمجاز ، بناء على المختار عندنا ، وإلّا فظاهر الأكثر ، وصريح التفتازاني ـ في شرح الشرح ـ والقوانين دخول المرتجل في المشترك ، وظاهر المعالم دخولهما في المجاز ، حيث إنّه ـ رحمه الله ـ جعلهما ، والحقيقة والمجاز ممّا يختص فيه الوضع بواحد .

والتقسيم الذي ذكرنا لا ينطبق على ما صار إليه صاحب المعالم ، إلّا بملاحظة المستعمل فيه ، كما أشرنا إلَيه سابقاً ، وأما على ما صار اليه الأكثر فهو وإن كان منطبقاً إلّا أنَّه لا بد من تعميم تعريف المشترك بحيث يشمل المرتجل .

ويمكن انطباق ما ذكرنا من تعريفه عليه على ما صاروا إليه بزيادة قيد ( من غير مناسبة ) وإسقاط قيد الابتداء ، بأن يقال المشترك : هو اللفظ الموضوع لمعنيين تفصيلا من غير مناسبة ، فقيد ( تفصيلا ) لإخراج المبهمات كما عرفت ، وقيد ( من غير مناسبة ) لإخراج المنقول ، والمراد بعدم المناسبة عدم ملاحظتها لا عدمها رأساً .

ويمكن انطباق التعريف المذكور عليه من دون زيادة ، ونقصان فيه ، بأن يراد بالابتداء عدم ملاحظة المناسبة فلا حاجة إلى زيادة لفظ ( من غير مناسبة ) وهذا أجود .

٤
 &

ثم إنه أورد سلطان المحققين على صاحب المعالم ـ حيث جعل المرتجل والمنقول من أقسام المجاز (١) ـ بوجهين :

الأول : إنّ ذلك خلاف تصريح القوم ، بأنهما من المعاني الحقيقيّة الموضوع لها الألفاظ .

الثاني : إنّ استعمال المرتجل حينئذ ـ غير صحيح ، لأن الاستعمال الصحيح ناشئ : إمَا عن الوضع ، فالمفروض اختصاصه بالمعنى الأوّل الموضوع له اللفظ أولاً ، ولا وضع للفظ في ذلك المعنى المرتجل له بالفرض ، حتى يجوز الاستعمال لأجله . وإمّا عن ملاحظة المناسبة فالمسلم المعروف اعتبار عدمها في المرتجل ، حتى أن بعضهم اعتبروا عدم وجود المناسبة رأساً ، فيكون الاستعمال حينئذ غلطاً (٢) .

ويمكن الجواب عن الوجهين ، بأنّ مراد صاحب المعالم من اختصاص الوضع بواحدٍ ، هو الوضع التخصيصي الذي هو فعل الواضع ، كما هو الظاهر من الوضع عند الإطلاق لا مطلقاً ، حتى التخصص ، بل استعماله فيه مجاز باعتبار بعض العلائق بينه وبين التخصيصي ، فإن الوضع التخصصي إنّما هو مجرد العلقة الحاصلة من كثرة الاستعمالات المجازية بغير قرينة متصلة ، والظاهر من الوضع هو فعل الواضع الذي يصير سببا للعلقة بين هذا اللفظ وذلك المعنى ، فكأن العلاقة في التعييني هي السببية والمسبّبية ، والوضع التخصيصي وإن كان يوجد في بعض أفراد المنقول ، إلا أنّ الغالب فيه هو التخصص ، فجمعه ـ رحمه الله ـ المنقول والمرتجل ، والحقيقة والمجاز ، في حقيقة واحدة لاشتراكهما معه في اختصاص الوضع التخصيصي بواحد منهما أيضاً نظراً إلى الغالب فيهما ، لا لعدّه إياهما مجازاً ، ولا ريب أن الحقيقة لا تستلزم الوضع التعييني بل ظاهر قوله ـ رحمه الله ـ أو صريحه وَإن غلب كون المنقول حقيقة ، لأنّ المراد بالغلبة باعترافه ـ رحمه الله ـ هو هجر المعنى الأوّل ، ومن الواضح أنّ هجر الأوّل يستلزم اختصاص اللفظ بالثاني .

هذا ، لكن الانصاف أن هذا الجواب لا يدفع السؤال عنه ـ رحمه الله ـ بالنسبة إلى

___________________________

(١) المعالم : ٦ .

(٢) حاشية سلطان المحققين منضمةً الى حاشية ملا صالح المازندراني : في مبحث الالفاظ ، وانظر المعالم : ٢٦ عند قول المصنّف : وان غلب وكان الاستعمال بالمناسبة فهو المنقول : أقول الظاهر من كلامه انّه لا وضع في المعني المنقول اليه والمرتجل الخ .

٥
 &

المرتجل إذا الظاهر أنّ وضعه لا يكون إلّا على سبيل التخصيص ، لأن الوضع التخصصي ـ كما عرفت ـ حاصل بالاستعمالات المجازية المبنية على ملاحظة المناسبة ، وهي متعذرة في المرتجل ، لأن المعروف من تعريفه أخذ قيد اعتبار عدم المناسبة ، أو عدم اعتبارها فيه ، وعلى التقديرين يجب أن لا تلاحظ فيه المناسبة مطلقاً ، حتى ملاحظة علاقة التضاد ، فلا يجدي ما يتوهم من جعل عدم المناسبة علاقة للتجوز ، فيجب أن يكون وضعه تخصيصاً ، فاختصاص الوضع بواحد في المرتجل يدل علىٰ نفي الوضع بالنسبة إلى المعنى الثاني ، لأنّ الواحد الذي يختص به الوضع ، لو كان هو المعنى المرتجل إليه يلزم نفي الوضع من المعنى الاوّل ، وهو خلف ، فحينئذ يتّجه الوجه الثاني من الإيراد .

هذا ، ثم إنّ جعل المرتجل من أقسام المشترك مبني على عدم اعتبار هجر المعنى الأول في المرتجل لوضوح عدم مساعدة الاصطلاح على صدق المشترك على ما هجر أحد معنييه ، وإلّا لدخل المنقول أيضاً ، وهو خلاف ظاهر الأكثر ، وإن أدرجه التفتازاني في تعريف الحاجبي للمشترك ، وحينئذ فلا يبقى فرق بين المشتركات ، حتى يسمى بعضها بالمرتجل دون بعض .

نعم لو قيل باعتبار عدم المناسبة بين المعنيين ـ في المرتجل ـ صح تقسيم المشترك إلى مرتجل وغيره ، وأما إذا قيل بكفاية عدم اعتبار المناسبة فلا .

وكيف كان فادخاله في المشترك بعيد عن كلمات القوم .

أما أولاً : فلأن المرتجل في كثير من الكلمات قسيم للمشترك .

وأما ثانياً : فلانهم يفرقون بين المنقول والمرتجل باعتبار المناسبة في الأول ، دون الثاني ، كما اعترف به المحقق القمي ـ رحمه الله ـ حيث جعل أخذ عدم المناسبة في تعريف المرتجل تعسفاً .

وقد يقال في الفرق بين المرتجل ، وسائر أقسام المشترك التي هي المشترك بالمعنى الأخص : إن المرتجل ما كان أحد وضعيه من الواضع ، والآخر من العرف ، مع بقاء المعنى اللغوي ، بأن كان اللفظ في اللغة موضوعا لمعنى ، ثم طرأ له في العرف وضع آخر لمعنى آخر ابتداء ، من دون ملاحظة مناسبة للمعنى اللغوي ، فالمشترك على قسمين :

أحدهما : ما كان جميع أوضاعه من الواضع .

والثاني : ما كان أحد الاوضاع من أهل العرف . فالأوّل هو المشترك بالمعنى الاخص ، والثاني هو المرتجل وهذا ظاهر التفتازاني وهو حسن .

٦
 &

ويرد على تعريف المنقول دخول المشترك المشهور في بعض معانيه ، لأن غير المشهور يحتاج في إرادته الى نصب قرينة .

ويدفع أوّلاً : بمنع صلاحية الشهرة لهجر بعض المعاني ، إلا على القول بالتوقف في المجاز المشهور ، أو الحمل على المعنى المجازي .

وثانياً : بأن المراد بالهجر ما يحوج (١) إلى نصب القرينة الصارفة ، لا مطلق القرينة .

وكيف كان فالمنقول ينقسم إلى تخصيصي وتخصصي ، وقد سبق في تقسيم الوضع أن منشأ التخصص هو الاستعمالات المجردة عن القرائن ، خلافاً لبعض المحققين .

ثم إنه قال في القوانين (٢) : والثاني ـ أعني التخصص ـ يثمر مع معلومية تاريخ التخصص . وفيه نظر .

أمّا أولاً : فلأن ثمرة النقل إنما هي حمل اللفظ على المنقول إليه ، وهذه تترتب على النقل التخصصي مطلقاً ، أما مع معلومية التاريخ فواضح .

وأما مع عدمها فلأن أصالة تأخر استعمال المعصوم ـ عليه السلام ـ ذلك عن زمان حصول التخصص تقتضي حمل اللفظ على المعنى الثاني ، ولا تعارضها اصالة تأخّر التخصص عن زمان الإستعمال ، كما هو الوجه في حكمه ـ رحمه الله ـ بالإجمال حينئذ على الظاهر ، فان التخصص ليس من الامور الأصلية والحوادث المستقلة في عرض الاستعمال ، حتى يكون بنفسه مورداً للاستصحاب ، فيعارض استصحابه أصالة تأخر الاستعمال ، بل هو من الامور التبعية ، ومن قبيل لوازم المهيات التي جريان الأصل فيها يتبع جريانه في ملزوماتها ، والمفروض عدم جريانه في ملزوم التخصص الذي هو الاستعمال ، لأن بلوغه إلى درجه النقل مقطوع به .

اللّهم إلا أن يقال إن مقطوعية الاستعمال تمنع من جريان الاصل في نفس الاستعمال بالنسبة إلى زمان القطع . لكن نقول إن ملزوم التخصص ، وسببه ليس إلا الاستعمال الأخير من سائر الاستعمالات المجازية ، الذي بلغ اللفظ عنده إلى درجة التخصص ، والاستغناء عن القرينة ، وهو مشكوك فيه بالنسبة إلى زمان صدور هذا

___________________________

(١) أحوج إليه احواجاً إفتقر . ( اقرب الموارد ) مادة حوج .

(٢) القوانين : ١٠ ، عند قوله في السطر الاخير : والثاني يثمر بعد تاريخ التخصّص .

٧
 &

اللفظ من المعصوم عليه السلام ، فيجري فيه أصالة تأخره عن زمان صدور . . هذا اللفظ واستعمال الإمام ـ عليه السلام ـ إيّاه ، فيقع التّعارض بينها وبين أصالة تأخر استعمال المعصوم ـ عليه السلام ـ عن زمان حصول التخصص .

وأيضاً إن الأصل في اللوازم والامور التبعية إنما لا يجدي إذا جرى في ملزوماتها ، فاذا فرضنا عدم جريانه فيما نحن فيه في الملزوم الذي هو الاستعمال ، فيجري في اللازم الذي هو التخصص ، فيقع التعارض أيضاً لذلك .

هذا ، لكنّه مدفوع بأن تعارض الأصلين فيما نحن فيه ، قد ينتج التوقف بل يقتضي التقارن ، لما ثبت ـ في مبحث تعارض العرف واللغة ـ من أن الأصل في مجهول التاريخ التقارن ، وعليه عمل الأكثر ، فإذا ثبت التقارن بالأصل ، فهو يقتضي أن يكون آخر استعمال يتحقق به التخصص ، هو ورود هذا اللفظ من المعصوم عليه السلام واستعماله له ، لأنّ الاستعمال المقارن لحصول النقل لا يتصور في النقل التخصصي ، إلا في المعنى المنقول ، فيحمل على المعنى المنقول اليه .

هب أن يكون ذلك الاستعمال مجازاً ، لعدم تحققه بعد حصول التخصص ، لأنّ الغرض حمل اللفظ على المعنى الثاني ، سواء أريد منه مجازاً أو حقيقة ، وليس هذا الاصل من الاصول المثبتة ، لانها في الأحكام الشرعية ، وإثباتها باللوازم العقلية والعادية ، والغرض هنا ترتيب الآثار الشرعيّة عليه فإنّ كون استعمال المعصوم ـ عليه السلام ـ ذلك ـ هو الاستعمال الذي يتحقق به التخصص ـ ليس من الأحكام الشرعية ، كيف وجميع الاصول اللفظيّة كأصالة الحقيقة ، وأصالة عدم القرينة وغيرها من الاصول مثبتة لأمر آخر .

وكيف كان فالاصول المثبتة لأمر معتبرة في مقام الألفاظ مطلقاً .

والسر فيه أنها معتبرة هنا من باب الظن ، وأما الاصول الجارية في إثبات الاحكام ، فعدم اعتبار المثبت منها ـ أيضاً ـ على القول بالتعبد وأما على اعتبارها من باب الظن فهي كالاصول اللفظية .

وأما ثانياً : فلأن ورود الإشكال في النقل التخصيصي ـ عند الجهل بالتاريخ ـ أوضح منه في التخصصي ، الذي خصه به ، إذ مع ثبوت التقارن فيه أيضاً لا يثبت استعمال هذا اللفظ في المعنى المنقول إليه ، لامكان اتحاد وضع أحد من العرف ذلك اللفظ للمعنى المنقول إليه ، حين استعمال هذا اللفظ في هذا الاستعمال الخاص في

٨
 &

المعنى المنقول منه ، الذي هو المعنى الاول .

هذا ، ويمكن توجيه كلام المحقق المذكور من وجهين :

الأوّل : أن يقال بتغليط النسخة بأن يكون عبارته ـ رحمه الله ـ التخصيصي مكان التخصصي ، ويكون مراده إيراد الإشكال في التخصيصي ، فيكون إشكاله في محله .

الثاني : أن يقال : إنه ـ رحمه الله ـ لم يعتن بأصالة التعارض ، بل الإشكال كان عنده وارداً في كلا القسمين من قسمي المنقول أوّلاً وبالذات ، إلّا أنه لمّا كان الغالب والعادة والطريقة على ضبط تاريخ المنقول التخصيصي ، فلم يتعرض للاشكال فيه لدفعه لذلك ، وتخصيصه الإشكال بالقسم الثاني ، الذي هو النقل التخصصي ، لعدم الضبط في تاريخه ، فيكون التقييد بهذا القسم من باب تحقيق مورد الإشكال فعلاً ، لا للتحرز عن القسم الآخر ، وهذا من قبيل سائر القيود التي يذكرونها لتحقيق موضوع الحكم ، ولا يقصدون به الاحتراز عن شيء ، مثل قولهم : إن رزقت ولداً فاختنه ، وإن قدم زيد من السفر فزره .

وهكذا ينقسم اللفظ باعتبار الاستعمال إلى الحقيقة والمجاز . والكلام هنا يقع في مقامات ثلاثة : الأوّل في تعريفهما ، والثاني في بيان أقسامهما إيماء ، والثالث في ذكر أحكامهما .

أمّا المقام الأول ، فقبل الشروع فيه نقول : إنّ الحقيقة فعيلة من حقّ يحقّ حقّاً إذا ثبت ، والتاء فيها ناقلة ، إن كانت بمعنى المفعولة ، لِعدم مراعاة علامة التأنيث في الفعيل ، إذا كان بمعناها . وإن كانت بمعنى فاعلة فالظاهر أَنها ايضا ناقلة ، إذ معنى الحقيقة الآن إنما هو نفس اللفظ المستعمل وجوهره ، بحيث سلبت منها جهة الوصفية التي كانت فيها في الأصل .

هذا ، مع إمكان أن يكون مراعاة أحكام تأنيثها على أن اصلها بمعنى فاعلة .

وأمّا المجاز فهو مصدر ميمي من جاز يجوز جوازاً ، ونقل في الاصطلاح إلى الكلمة الجائزة عن معناها الحقيقي إلى غيره بواسطة او بواسطتين . أما الاوّل فواضح ، وأمّا الثاني فبنقله عن معناه المصدري إِلى مطلق الجائز من حمل إلى آخر ، ثم بنقله منه إلى الكلمة الجائزة . وكيف كان فهذا معناهما في الأصل .

وأما في الاصطلاح فقد عرّفوهما بتعاريف :

٩
 &

منها : ما عن الحاجبي (١) من أنّ الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في وضع أول .

ومنها : ما عن جماعة منهم المحقق (٢) القمي ـ رحمة الله عليه ـ من أنها هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح يقع به التخاطب (٣) .

ومنها : ما عن آخرين منهم الشيخ (٤) محمّد تقي من أنّها هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له من حيث إنه ما وضعت له .

ويعرف تعريف المجاز على كل منها بقرينة المقابلة .

ثم إنّ في المقام كلمات من هؤلاء الأقوام من النقض والإبرام ، إلّا أنّ غرضنا لمّا كان الاقتصار بما يقضى به المرام فلم نطل الكلام في ذكرها ، وتفصيلها ، ثم جرحها ، وتعديلها .

وكيف كان فلا بأس بكل واحد من تلك التعاريف الثلاثة عندنا ، وإن أورد على الأول بايراداتٍ كثيرة .

لكنها مدفوعة بأسرها : بحمل كلمة ( في ) في قوله ( في وضع أوّل ) على السببية كما لا يخفى على المتأمّل في تلك الإيرادات ، والشّاهد على هذا الاستعمال تتبّع استعمالات العرب ، ومنه قوله : إمرأة دخلت النار في هرة حبستها أي بسببها . .

لكن الانصاف عدم سلامته من السؤال ، حيث أنّ كلمة ( في ) وإن كانت تستعمل في السببية ، لكن الظّاهر أن هذا الاستعمال مجاز ، لأنّ الظاهر منها عند الاطلاق هي الظرفية ، ولا ريب في عدم جواز الاستعمالات المجازية في الحدود سيما مع عدم القرينة الصّارفة للألفاظ المعينة له في المراد ، لأن اهتمامهم في الحدود كاهتمام الشّرع في البيوع

___________________________

(١) المختصر لابن الحاجب المخطوط : واليك نصّه : الحقيقة اللّفظ المستعمل في وضع أوّل وهي لغويّة وعرفيّة وشرعية كالأسد ، والدابّة ، والصّلوة ، والمجاز المستعمل في غير وضع اوّل على وجهٍ يصح .

(٢) قد ورد في القوانين في مقام التعريف : ١٣ ، هكذا : اللفظ إن استعمل فيما وضع له من حيث هو كذلك فحقيقة . انتهى . فمن ملاحظة هذا التعريف لا يستفاد الاسناد المذكور بل المستفاد من القوانين بضمّ ما افاده في علامة التبادر وعدم صحة السلب اعتبار الامرين معاً احدهما : اعتبار حيثيّة الاستعمال فيما وضع له من حيث ما وضع له وهو من تعريف القوانين وثانيهما : اعتبار قيد اصطلاح يقع به التخاطب وهو من بيان العلامتين المذكورتين فراجع .

(٣) كما عرّفه العلامة بهذا التعريف في مبادى الوصول الى علم الاصول وهو منقول عن ابي الحسين البَصْري .

(٤) قد ورد في هداية المسترشدين : ٢١ هكذا : ولذا اعتبرت الحيثيّة في حدّي كلّ من الحقيقة والمجاز .

١٠
 &

وسائر العقود ، فكما أنّ العقود مبنيّة على المغابنة فيجب منها الاتيان بالألفاظ الصريحة في المقصود ، الرافعة للجهالة عمّا تعلقت به العقود ، فكذلك الحدود مبنية على المماكسة في حفظ القيود ، الدخيلة في توضيح المحدود ، حيث ان كل ذي علم واضعه إنما كان غرضه من التعريف تحديد مسائل هذا العلم ، بجامع بينها لفائدة السهولة في التعبير عنها بسبب التعبير عن هذا الجامع ، فلا بد من الإتيان بألفاظ صريحة في الكشف عن هذا الجامع بما هو عليه من كونه حاوياً لأفراده ، ومانعاً من غيرها . ولأجل ما ذكرنا من فائدة سهولة التعبير تراهم يعتبرون قلة مباني ألفاظ المعرف بها ، وخفتها على اللسان أيضاً .

فإن قيل : لا يصح استعمال كلمة ( في ) في السببية مجازاً ، بعد فرض كونها حقيقة في الظرفية ، لعدم العلاقة الظاهرة بينهما .

قلنا : سلمنا ، فتكون مشتركة مستعملة في أحد معنييها بلا قرينة معيّنة ، فيعود المحذور .

وأما التعريف الثاني ، فهو وإن كان مساوياً للثالث ، من حيث وضوح الدلالة ، لكنّه لمّا كانت كلماته أخف على اللسان فهو الأولى والأرجح فتأمل .

نعم قد استشكل فيه السيد بحر العلوم ـ رحمه الله ـ في شرحه للمبادئ العراقية من وجهين :

أحدهما : أنه يختل التعريف ، لصدق كل من تعريفي الحقيقة والمجاز على ما يصدق عليه الآخر ، لأنه إذا استعمل اللفظ في معناه الحقيقي ، ثم استعمل في معناه المجازي يصدق على هذا اللفظ أنه كلمة مستعملة فيما وضعت له في اصطلاح يقع به التخاطب ، ويصدق عليه أيضاً أنه كلمة مستعملة في خلاف ما وضعت له كذلك . ثم قال اللهم إلّا أن يقال : إن نظر القوم في التعريفين إلى الخصوصيات المتشخصة بالأزمان ، فيدفع عنهم هذا الايراد ، لأن هذا اللفظ باعتبار خصوصية استعماله في الأمس غير هذا اللفظ باعتبار خصوصية استعماله في الغد .

وكأنه ـ قدس سره ـ استظهر ـ من كلمات القوم ـ أن نظرهم الى نوع الالفاظ من حيث الزمان ، كما أن نظرهم إلى نوعها ـ من حيث خصوصيات المستعملين ـ وأنت ترى ما فيه ، من بعد نسبة ما استظهره ، بل عدم امكانها على القوم ،

١١
 &

إذ لا ريب أن اتصاف اللفظ بوصفي الحقيقة والمجاز إنما هو باعتبار استعمال اللفظ فيما وضع له ، أو في غيره ، فما لم يتحقق الاستعمال لا يتصف بشيء منهما ، ولا ريب أن الاستعمال لا يتحقق اِلّا في ضمن الخصوصيات ، فالمتّصِف بهذين الوصفين هي ، لا الكليّ الذي لا يمكن استعماله إلّا باستعمالها ، بل نسبة الاستعمال اليه ـ حينئذ ـ مجاز جداً .

وبعبارة اخرى أحسن : إنّ نظرهم في التعريفين للحقيقة والمجاز إنما هو إلى الكلمة المستعملة ، وهي لا تكون إلّا جزئيّاً من الجزئيات المتشخصة الخارجية ، وهي لا يمكن صدق بعضها على بعض فيختلّ التعريف .

الثاني من وجهي الإشكال أنّه يختلّ التعريف أيضاً ، وينتقض بما إذا كان اللّفظ مشتركاً بين معنيين بينهما علاقة ، فاستعمل في أحدهما لعلاقة بينه وبين الآخر ، لا لكونه أحد معنييه ، إذ لا ريب أنّ ذلك الاستعمال مجاز ، مع أنه لا يصدق عليه تعريفه ، لانه لم يستعمل في غير ما وضع له في اصطلاح يقع به التخاطب ، ويصدق عليه تعريف الحقيقة ، مع أنه ليس من أفرادها ، فلا بد من الإتيان بقيد الحيثية كما في التعريف الثالث ، فيندفع الاشكال .

ثم إنه ـ قدس سرّه ـ أورد على نفسه ، بأنّه ما فائدة هذا الاستعمال والتعويل فيه على العلاقة مع وجود السبب المجوز له ، وهو الوضع ، فأجاب بأن فائدته حصول الفرق بين كلام هذا المستعمِل الملتفت الى المناسبات والعلائق بين المعاني ، وبين كلام العامي المبتذل الذي لا يعرف شيئاً من تلك الوجوه . انتهى .

وفيه منع جواز مثل هذا الاستعمال من وجهين :

أحدهما : كونه لغواً إذ بعدما كان غرض المتكلم إفهام هذا المعنى ، هو ينادي بإرادته من اللفظ بإطلاقه مع القرينة المعيّنة ، فلا حاجة إلى العدول عنه إلى ما ذكره ، فالفائدة التي ذكرها من حصول الفرق ، ففيها : أنّ استعمال اللفظ فيما يمكن فيه للعلاقة بين المعنيين ، وداعيها مما لا يمكن اطلاع المخاطب عليه حين الخطاب ، بل الذي يفهمه حينئذ إنما هو إرادة هذا المعنى ، فإن أراد المتكلم إفهامه أيضاً أني قصدت بالكلام إفهام هذا المعنى بملاحظة المناسبة لحصول الفرق المذكور ، فهو من أقبح الامور التي لا يرتكبها إلّا السفهاء ، بل إلّا المجانين .

وثانيهما : إن الاستعمال المجازي لا بد أن يترتب عليه ما ذكروا له من الفوائد

١٢
 &

البديعية ، التي منها انتقال السامع من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي ، فإنه إذا قيل رأيت أسداً يرمي ، فعند إطلاق الأسد ينتقل السامع إلى الحيوان المفترس ، فإذا ذكر لفظ يرمى ينتقل إلى الرجل الشجاع ، ولا ريب أن هذه الفائدة ممتنعة الوجود فيما فرضه ـ قدس سره ـ إذ لا شبهة أن اللفظ المشترك إذا اطلق بلا قرينة فهو مجمل ، لا ينتقل السامع منه إلى معنى ، فإذا اقترن بالقرينة المعينة فيظهر للسامع أن المراد منه ذلك المعنى ، لا أنه ينتقل من شيئين إلى هذا المعنى . ويدل على ما ذكرنا أيضاً أنّهم اعتبروا في المجاز اقترانه بالقرينة الصارفة ، ولا ريب أنه لا يمكن الاتيان بها فيما نحن فيه ، إذ لا يتحقّق وصف الصارفية إلّا بعد ظهور اللفظ في معناه الحقيقي .

المقام الثاني في أقسامهما ، فنقول : إنهما ينقسمان بملاحظة الواضع إلى الحقيقة اللغوية ، والمجاز كذلك ، وإلى العرفية كذلك ، عامّاً ، وخاصّاً ، وبملاحظة كثرة استعمال اللفظ في الموضوع له ، أو في غيره إلى الراجحين ، أو المرجوحين ، وهكذا إلى سائر التقسيمات الملحوظة على حسب الاعتبارات التي ليس التعرض لذكرها بمهم .

وإنّما المهم التعرض لحال الكناية ، وتحقيق أنها من أقسام الحقيقة ، والمجاز ، أو واسطة .

ويقع الكلام هنا في مقامات ثلاثة :

الأوّل في تعريفها ، إنها على القول بكونها من أقسام الحقيقة ، فهي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في وضع أوّلٍ ، أو في اصطلاح يقع به التخاطب ، أو من حيث إنّه ما وضعت له ـ على اختلاف التعاريف للحقيقة ـ للانتقال منه إلى لازمه ، وعلى القول بكونها من أقسام المجاز فهي مندرجة في تعريف المجاز ، حسب ما عرفوه على اختلاف تعاريفه قبال تعاريف الحقيقة .

وأمّا على القول بكونها واسطة ، كما يظهر من متن المطول ، فهي على ما عرفه الماتن : هي اللفظ المراد منه معناه وغير معناه معاً ، فإنّه قال : اللفظ إن أريد منه معناه وحده فهو الحقيقة ، وإن اريد منه غير معناه وحده فهو المجاز ، وإن أريد منه معناه وغير معناه فهو الكناية .

ثم إنّ خير الأقوال أوسطها ؛ لما سيظهر لك من ضعف طرفيها ، فنقول : إنه يرد على الماتن المذكور وجوه :

الأوّل ما ترىٰ فيه بين تعريفه للكناية وبين تقسيمه إيّاها إلى قسمين :

١٣
 &

أحدهما ما عرّفها به ، والآخر الكلمة المستعملة في اللازم وحده ، فإنّ تعريفه إنما هو للقسم الأوّل ، وهو الكلمة المستعملة في الموضوع له ولازمه معاً ، ولم يكن له شمول بالنسبة إلى القسم الآخر الذي زاده في التقسيم .

الثاني : عدم بقاء الفرق حينئذ بين المجاز والكناية إذا استعمل اللفظ في اللازم وحده لصدق تعريفهما عليه حينئذ .

فإن قيل : إن الفرق بينهما ما قالوا بأن المجاز ملزوم للقرينة المعاندة للمعنى الحقيقي بخلاف الكناية .

قلنا أوّلاً : إن هذا الفرق لفظي جئنا بفرق معنوي .

وثانياً : إنا نمنع هذا الفرق أيضاً ، لأنه لا يعقل استعمال الكناية أيضاً بلا قرينة بكلا قسميها ، إذ لا ريب أنّ اللفظ بوضعه لا يدل على اللازم ، ولا ينصرف إليه بوجه ، بل يفهم منه مجرداً عن القرينة الملزوم وحده ، ولا يصرف ذهن السامع إلى اللازم بوجه ، فإنه لولا القرينة لفهم من قوله : ( زيد كثير الرماد ) معناه الحقيقي ، فيحتمل كونه حمّاميّاً ، أو طباخاً ، أو غير ذلك من أرباب الحرف التي يحصل منها الرماد كثيراً ، وكذلك يفهم من قوله : ( زيد جبان الكلب ) معناه الحقيقي لا غير .

وكيف كان ، فالانصراف من اللفظ إلى لازم معناه لا يمكن إلّا بالقرينة .

ثم إذا ثبت الاحتياج إلى القرينة ، فنقول : إنها إمّا ملائمة للمعنى الحقيقي ، أو معاندة له ، ومانعة من إرادته من اللفظ ، فإن كانت ملائمة لا يجوز كونها صارفة لذهن المخاطب إلى غير الموضوع له ، مع أن الوضع يقتضي ظهور اللفظ في إرادة الموضوع له ، ولا يعقل ذلك ، فإذن وجب كونها معاندة لإرادة الحقيقة ، فلا نعني بالقرينة المعاندة إلّا هذه ، ولا بالمجاز إلّا ما كان ملزوماً لها ، فانتفى الفرق .

ومن هنا ظهر ضعف القول الأوّل أيضاً ، إذ لا يعقل الانتقال إلّا باستعمال اللفظ في اللازم مع القرينة المعاندة ، فيكون اللفظ مجازاً .

الثالث : منافاة ما ذكره في تعريف الكناية ـ من أنها الكلمة المستعملة في الموضوع له ولازمه معاً ـ لما أجمع العلماء ظاهراً عليه ، من عدم استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، حقيقة كان الزائد ، أو مجازاً ، والمخالف في المسألة ضعيف جدا . بحيث يقطع بالاتفاق .

أقول يمكن دفع المنافاة بأن محل النزاع هناك في جواز استعمال اللفظ في

١٤
 &

المعنيين ، أو في المعنى الحقيقي والمجازي ، بحيث كان كل منهما مورداً للحكم ومتعلقاً للاثبات والنفي ، ولا ريب أنّ النظر في باب الكناية إلى إثبات الحكم للّازم ، وهو المقصود به ، ولو فرض استعمال اللفظ في المعنى ولازمه معاً من باب الكناية ، فهو خارج عن المتنازع فيه هناك ، إذ المقصود في باب الكناية إثبات الحكم أو نفيه بالنسبة إلى اللازم وحده . فافهم .

المقام الثاني ـ في أن الكناية هل يعامل معها معاملة الحقيقة ، أو معاملة المجاز من حيث اقترانها بالقرينة الصارفة وعدمه ، ونحن بعدما بينا آنفا في الإشكال على القول الثالث ، من وجوب الإتيان بالقرينة المعاندة ، فلا بد من الالتزام بالاحتمال الثاني لا غير .

المقام الثالث ـ في تعارض احتمال الكناية لاحتمال غيرها من الحقيقة والمجاز .

فنقول : إذا وقع التعارض بين احتمالها مع احتمال الحقيقة ، فالراجح هو إرادة الحقيقة ، أما على القول الثاني فواضح ، وعلى القول الأوّل فلأن الكناية لا بد فيها من ملاحظة خصوصية زائدة على ما يلاحظ في الحقيقة ، فالأصل عدمها فيتعيّن الحقيقة .

وأما إذا وقع التعارض بين احتمالها واحتمال المجاز ، فعلى القول الأول يرجح احتمالها على المجاز ، وهكذا على القول الثالث ، بناء على ما قيل من الفرق بينها وبين المجاز من لزوم القرينة المعاندة فيه دونها ، إذ المجاز حينئذ خصوصية زائدة نشك في حصولها ، فالأصل عدمها فيتعين الكناية .

وأما على ما اخترنا من القول الثالث ، فسنفصِّل الكلام فيه في باب تعارض الأحوال إن شاء الله ، وإن لم يذكره احد هناك .

ثم إن القول بكون الكناية من أقسام المجاز لا نعرف له قائلاً ، وإنما ألجئنا إلى اختياره للاشكالات الواردة على غيره .

ويزيد الإشكال الوارد على الماتن إشكال آخر ، وهو أن الحصر ـ في الحقيقة والمجاز ـ عقلي لا يمكن فيه الواسطة ، وإنما هو فيما إذا كان الحصر حاصلاً من الاستقراء ، إذ لا ريب أن الحقيقة والمجاز قد عرف كل منهما بنقيض الآخر ، فلا يمكن فيهما الواسطة ، فينحصر المقسم فيهما عقلا ، فلا بد من دخول الكناية في أحدهما .

هذا ، ولكن الإنصاف عدم ورود شيء من الاشكالات على هذا القائل ، أعني

١٥
 &

ماتن المطول ، إذ الظاهر أن غرضه ليس إثبات الواسطة بين الحقيقة والمجاز .

وتوضيح ذلك أن اللفظ قد يلاحظ فيه قصد المعنى منه عند إطلاقه ، بمعنى إخطار ذلك المعنى بالبال عند إيجاده ، فهو من هذه الحيثية منحصر في الحقيقة والمجاز عقلاً ، ولا يمكن الواسطة بينهما لأن ما يخطر بالبال عند إيجاده إمّا معناه الموضوع له ، أو غيره ، فعلى الأوّل حقيقة ، وعلى الثاني مجاز ، سواء كان ذلك الغير ، المعنى المباين للموضوع له ، او المركب منهما ، فحينئذ لو كان مراد الماتن من قوله : اللّفظ إن اريد منه معناه وحده الخ ، هذا المعنى ، فيرد عليه الاشكالات المتقدمة ، مضافاً إلى أن قصد المعنى الموضوع له مع غيره من اللّفظ من حيث المجموع بهذا المعنى مجاز اتفاقاً أو على سبيل الاستقلال ، فلا يجوز جداً ، لما عرفت من عدم جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى . وقد يلاحظ باعتبار الإرادة بمعنى الغرض المطوي في نظر المتكلم الداعي له لايجاد الكلام ، فهو بهذا الاعتبار لا ينحصر في القسمين ، فانه لا يكون حينئذ أحدهما نقيض الآخر حتى لا يتعقل لهما الواسطة فإن غرضه ، إمّا إفادة المعنى الموضوع له مع غيره وحده ، بمعنى كون ذلك الغير مقصوداً من اللفظ بالمعنى المذكور وتعلق غرضه بإفادته وحده أيضاً ، وإما إفادة المعنى الموضوع له مع غيره بأن يكون المعنى الموضوع له مقصوداً من اللفظ بالمعنى المذكور ، لكن الغرض لم يتعلق بإفادته وحده ، بل بإفادته وإفادة غيره معاً ، وإمّا إفادة غير الموضوع له وحده بمعنى أن يقصد من اللفظ المعنى الموضوع له ، لكن الغرض تعلق بإفادة غيره وحده ، وإمّا إفادة غير الموضوع له ، بأن استعمل اللّفظ ، وقصد منه غير الموضوع له ، وتعلق الغرض بإفادة غير ذلك الغير المناسب له ، إما وحده أو معاً ، وهذا الأخير بناء على جواز كون الكناية من المجاز .

وكيف كان ، فعلى الأول : اللّفظ حقيقة بالمعنى الأخص ، يعني قبال الكناية ، وكذلك مجاز على الثاني .

وعلى الثالث : فهو ، وإن كان حقيقة بالمعنى الأعم ، لكنّه بالاعتبار الثاني ليس حقيقة ، ولا مجازاً على الاعتبارين ، بل كناية .

وكذلك الرابع (١) وعلى الخامس بكلا قسميه مجاز بالمعنى الأعم ، وكناية بالمعنى الأخص الذي لوحظ بالإعتبار الثاني ، لكن إطلاق الكناية على ما إذا تعلق الغرض بغير المقصود من اللفظ حقيقة أو مجازاً فيما إذا وقع اللّفظ في سياق الاخبار ، وكان ذلك الغير

___________________________

(١) حسب الظاهر ان تقرير الوجه الرابع سقط من نسخة الناسخ وما كانت عندنا النسخة الاصلية .

١٦
 &

من لوازم المخبر به ، لا الخبر فإن اللّفظ إذا أريد منه غير المقصود منه ، بمعنى تعلّق غرض المتكلم بغيره ، فذلك اللّفظ : إما في مقام الانشاء ، أو في مقام الإخبار ، فعلى الأوّل يسمى اكراهاً ، وعلى الثاني إمّا أن يكون ذلك الغير من لوازم الخبر ، فيسمى تورية أو من لوازم المخبر به فيسمّى كناية .

ثم إنا إن قلنا بجواز الكناية من المجاز أيضاً ، فتكون نسبة الكناية مع كل من الحقيقة والمجاز بالاعتبار الأول عموماً من وجه .

وان قلنا بعدمه واختصاصها بالحقيقة فيكون نسبتها معها العموم المطلق لأنه كلما صدقت عليه الكناية تصدق عليه الحقيقة بالمعنى الأعم ولا عكس كلياً .

وكيف كان فالحقيقة والمجاز بهذا الاعتبار قد عرفت ما بينهما من الواسطة ، فحينئذ قول الماتن : إنّ اللفظ إن أريد منه معناه وحده الخ ، ناظر إلى هذا الاعتبار فإنّه أراد بالإرادة الغرض ، كما ذكرنا ، ولا ينبغي الاستيحاش في استعمال الإرادة في هذا المعنى لاستعماله فيه في كلام الفقهاء ـ رضوان الله عليهم ـ في بيع المكره حيث إنهم حكموا بصحة بيعه إذا لحقه الإجازة بعد الإكراه ، مع تصريحهم بأنّ المكره لم يرد من العقد التمليك ، فإنها لو لم تحمل على ما ذكرنا لا وجه لصحة بيعه حينئذ أصلاً ، إذ الاجازة بنفسها ليست ناقلة ، بل هي شرط الصّحة ، فلو كان المكره لم يقصد شيئاً أصلاً من اللّفظ لم يترتّب على الاجازة شيء ، فيكون غرضهم أنه قصد مدلول اللّفظ ، لكنه لم يرد ترتب أثره عليه ، ولم يكن غرضه الرضا بذلك .

وكيف كان ، فإذا عرفت ذلك كله تقدر على دفع الإشكالات الواردة عليه . ولا بأس بالتعرض لدفع كل منها مفصلاً .

فنقول : أما الجواب عن الإشكال الأوّل ، فبأن تعريفه للكناية بما ذكره في المتن ، إنما هو نظراً إلى الغالب منها ، فلا منافاة بينه وبين تقسيمهم إياها إلى القسمين ، على أن القسم الثاني منها وهو اللفظ المراد به لازم المعنى وحده قد أنكره بعضهم .

وأما الجواب عن الإشكال في الفرق المذكور ، فبأنه لا وجه لمنع الفرق ، فإن الكناية وإن كانت لا بد فيها من القرينة أيضاً ، كما في المجاز ، إلّا أنه فرق بين القرينتين ، بأن قرينة المجاز معاندة لقصد المعنى الموضوع له ، بالمعنى الذي ذكرنا ، بخلاف قرينة الكناية ، فإنها ليس معاندة لذلك بوجه ، بل هي معاندة لتعلق الغرض بغير اللازم ، وهو المعنى الموضوع له في الصورة المفروضة .

١٧
 &

وأما في الصورة الاولى ، وهي ما إذا اريد من اللفظ معناه وغير معناه ، بمعنى تعلق الغرض بإفادة كليهما ، فلا معاندة لها لتعلق الغرض بالمعنى الموضوع له أصلاً ، بل فائدتها حينئذ إفادة أن الغرض تعلق بإفادة غير المعنى أيضاً .

وكيف كان فقرينة الكناية يؤتى بها بحسب الأغراض المطوية في نفس المتكلم ، وبمقدار رفع الحاجة من إفادة هذه الأغراض ، وقرينة المجاز يؤتى بها بحسب عدم قصد المعنى الموضوع له بالمعنى الذي ذكرنا .

ومن هنا ظهر ما في كلام سلطان المحققين في الفرق بينهما بأن قرينة المجاز ، هي التي تعاند إرادة المعنى الموضوع له على وجه الاطلاق ، وقرينة الكناية إنّما هي تعاند إرادته وحده .

وأما الجواب عن الإشكال الثاني ، فبأنه إذا استعمل اللفظ في اللازم وحده بمعنى أنه قصد منه ذلك كذلك ، فلا تصدق عليه الكناية ، لما عرفت من اعتبار التغاير بين المستعمل فيه اللفظ وبين الغرض .

وأما الجواب عن الإشكال الثالث فبما عرفت ، من أن غرضه من الارادة هو تعلق الغرض ، ولا ريب أن تعلق الغرض بالمعنى وبغيره غير استعماله فيهما . هذا ، مع أنك علمت أن المستعمل فيه في تلك الصورة هو المعنى الموضوع له لا غير .

وأما الجواب عن الإشكال الرابع الذي زدناه أخيراً ، فبأن تقسيم اللفظ بهذا الاعتبار ليس دائراً بين النفي والإثبات بالنسبة إلى الحقيقة والمجاز كما عرفت .

هذا ، ثم إنه قد يستشكل في أنه إذا كان الغرض إفادة اللازم ، فَلِمَ لا يستعمل اللفظ فيه ويقصد منه ؟ فما فائدة قصد المعنى الموضوع له اللفظ منه ، مع أن الغرض إفادة غيره ؟

لكنه يندفع لما سيجيء في محله ـ إن شاء الله ـ من أنه شبهة في مقابل البديهة .

المقام الثالث من المقامات المرسومة للحقيقة والمجاز في أحكامهما . ويقع الكلام هنا في جهتين :

إحداهما : نظير الشبهة الحكمية لرجوعها إلى الشك في فعل الواضع .

والاخرى : نظير الشبهة الموضوعية لرجوعها إلى الشك في مراد المتكلم بعد إحراز الجهة الاولى .

فلنقدم الكلام في الجهة الاولى ، فنقول : إنه إذا شك في وضع لفظ لمعنى فطريق معرفته امور :

١٨
 &

منها : ما يفيد القطع كتنصيص الواضع ، والنقل المتواتر ، أو نقل الواحد المحفوف بقرائن قطعية .

ومنها : ما يفيد الظن كنقل الآحاد الغير المحفوف بالقرائن ، والعلائم المعروفة التي سيجيء ، تفصيلها من التبادر ، وعدم صحة السلب ، وغيرهما من العلائم .

أمّا الطائفة الاولى فالنزاع فيها صغروي ، إذ بعد إحراز صغرياتها لا يعقل المنع من العمل بها .

وأمّا الطائفة الاخرى فالنزاع فيها كبروي راجع إلى حجيتها وعدمها بعد إحرازها ، ولمّا كان بيان حال الصغريات في الطائفة الاولى موكولاً إلى ملاحظة الخصوصيات اللاحقة للموارد الشخصية ، ولم تكن لمعرفتها ضابطة كلية يرجع إلَيها ، لاختلافها باختلاف الموارد والأشخاص ، إذ ربما يطلع أحد على التواتر ، أو تنصيص الواضع ، أو القرائن القطعية ، ولم يطلع عليها غيره ، فلم يكن للتعرض لها مجال فيما نحن فيه من المقام المعدّ لبيان كلية يعول عليها في الموارد الشخصية ، ولذلك فلنعرض عنها فنوجّه الكلام ونسوقه إلى الطائفة الثانية .

ولنقدّم الكلام في القسم الأوّل منها ، وهو نقل الآحاد ، وقبل الشروع في الاستدلال ، وذكر الأقوال لا بد من تحرير محل النزاع .

فنقول : إن اللفظ الذي ينقل وضعه الآحاد ، إمّا من موضوعات الأحكام الشرعية الكلية كألفاظ الكتاب والسنة ، وإما من موضوعات الامور الخارجية المتضمنة للأحكام الشرعية الجزئية ، كالألفاظ الواردة في مقام الأقارير والدعاوي وأمثالهما ، كما إذا أقر أحد لآخر بشيء ، ولم نعلم مراده من جهة الاشتباه والشك في وضع اللفظ الدال على المقرّ به ، كأن أقرّ بأن لزيدٍ عندي ديناراً مثلاً ، ثم عبّر عنه بمقدارٍ من الدرهم لا ندري أن الدينار موضوع لهذا المقدار ، أو لأزيد منه ، فترجمه أحد بمقدار ناقلاً أن الدينار موضوع في لغة العرب لكذا .

وعلى التقديرين ، الناقل للوضع ، إمّا أن يكون جامعاً لشرائط حجية الخبر ، المقررة في بحث خبر الواحد ، أو لا يكون فيكون الصور أربعاً .

إحداها وهي ـ ما إذا كان الناقل جامعاً لشرائط الحجية وكان اللفظ الذي ينقل وضعه من موضوعات الأحكام الشرعية الكلية ـ خارجة عن محل النزاع فيما نحن فيه هنا ، لأن البحث عن خبر الواحد يغني عن البحث فيها بخصوصها هنا ، لأن أدلة حجية

١٩
 &

خبر الواحد الدالة على قبول قول العادل مثلاً ، وترتيب الأحكام الشرعية عليه ، لا تفرق بين الأحكام المترتبة على قوله مطابقة ، أو التزاما والبواقي داخلة فيه ، وأيضاً النزاع فيها فيما إذا كان الناقل ناقلاً عن حسه ، لا عن حدسه ورأيه ، إذ لا عبرة برأيه إجماعا ، فلذا قدحوا في نقل أبي عبيدة حيث إنه كان ينقل بعض الأوضاع عن رأيه ، مع أنه من الأجلّاء ، وأهل الخبرة وكان خبيراً غاية الخبرة .

فإذا عرفت محل النزاع ، فالمشهور حجية الظن بالوضع الحاصل من خبر الواحد في الجملة ، قبالاً لما ادعى بعض من السلب الكلي وللأوّل وجوه :

الأوّل الاجماع محصلاً قولاً ، وفعلاً .

وطريق تحصيل الأوّل الرجوع إلى أقوال العلماء ، وإلى الاجماعات المنقولة من أصحابنا ، ومن المخالفين أيضاً ، بحيث يحصل بملاحظة كثرتها القطع باتفاق كلمة جميع العلماء على حجية قول الناقل للّغة ، ولو كان واحداً لا يحصل من خبره القطع .

فمن الناقلين للإجماع من أصحابنا السيد المرتضى قدس سرّه على ما حكي عنه في بعض كلماته ، بل ظاهر كلامه المحكي اتفاق جميع المسلمين ، ومنهم الفاضل السبزواري ، ومنهم السيد البغدادي (١) رحمه الله في المحصول ، ومنهم العلامة (٢) قدس سره في النهاية ، ومنهم المدقق الشيرواني (٣) ، ومن المخالفين الذي ببالنا الآن العضدي ، قال : إنّا نقطع أن العلماء في الأعصار ، والأمصار كانوا يكتفون في فهم معاني الألفاظ بالآحاد ، كنقلهم عن الأصمعي ، والخليل ، وأبي عبيدة .

وطريق تحصيل الثاني التتبع في أحوال السالفين إلى زماننا هذا ، فإن المتتبع يراهم عاملين وآخذين بخبر الواحد الغير المفيد للعلم من دون نكير من أحدهم على الآخر ، حتى أنه لو اتفق التشاجر ، والجدال في لفظ ، وأخذ أحد المتخاصمين بكلام

___________________________

(١) المحصول في علم الاصول مخطوط : ١١ ـ ١٢ .

واليك نصّه : ومنها : نقل الأئمّة الثقات الضابطين المعتمدين كابن الاثير ، والجوهري ، والأزهري ، وصاحب القاموس ، والفيومي ، وأضراب هؤلاء من المتقدّمين والمتأخّرين ، وان كان آحادا لغلبة الظنّ واطمئنان النفس بعدم ردّ المتأخّر ، فإنّ الناس رقباء بعضهم على بعض وخاصّة ما اتفق عليه اثنان منهم او جماعة ، بل ربما أفاد القطع ، كيف لا وما كان ليحكم أحدهم الّا بما تواتر لديه ، او تكثّر النقل عليه . إلى أن قال : ولذلك استمرّت طرائق العلماء الدّيانين على الأخذ منهم والاعتماد عليهم .

(٢) نهاية الوصول الى علم الاصول : مخطوط مبحث الوضع منه .

(٣) حاشية الشيرواني على المعالم : مخطوط .

٢٠