تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ١

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ١

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

للظّاهر ، بل نسلم كونه مخالفاً له من الوجوه الاُخرى فإنّ فرض ذات واحدة اثنتين ، أو ادّعاء فرديّة ما ليس بفرد ، مخالف للظّاهر يقيناً ، وإن لم يكن مخالفاً لظاهر المشتقّ ، إلّا أنّ القرينة قائمة في الموارد المذكورة ، في بعضها غالباً ، كما في موارد النّداء ، وفي بعضها دائماً ، كما في الأخيرتين على ارتكاب نوع من وجوه خلاف الظّاهر ، موجب لحقيقة إطلاق المشتق بعده ، فافهم .

الثّاني : بعدما ثبت كون المشتق حقيقة في المتلبّس بالمبدأ حال تلبّسه به بالتّقريب الّذي تقدّم ، فلا بدّ من حمله عليه في كلّ مورد لم يقم قرينة لفظيّة أو عقليّة على خلافه ، كما في الحكم بوجوب قتل القاتل ، أو إقامة الحدّ على السّارق والزّاني ، ونحوهما ممّا لا يمكن ترتّب الحكم عليه حال قيام المبدأ بالذّات ، من جهة عدم استقرار المبدأ بها بقدر فعل القتل أو الحدّ قطعاً ، فإنّ القاتل قبل تحقّق القتل منه ولو كان مشتغِلاً بالجزء الأخير من مقدّماته لا يكون قاتلاً قطعاً ، وبعد تحقّق هذا الجزء الأخير ، فلا ريب في تحقّقه معه ، ولا ريب في انقضائه حينئذ بمجرّد تحقّقه ، فلا يبقى لموضوع الحدّ أو القتل ، لو علّقا على قيام المبدأ بالقاتل والسّارق وجود ، فلا يمكن امتثال هذا الحكم ، فحينئذ فالعقل حاكم بكون المراد خلاف الظاهر يقيناً ، وإلّا لغا الحكم ، فلذا يتمسّكون بآيتي الزّنا ، والسّرقة على وجوب الحدّ على من انقضى عنه الزّنا والسّرقة .

وكيف كان ، فهذا ممّا لا إشكال فيه وإنّما الكلام في كيفية الاستعمال ، وأنه هل وقع التّصرف في المادة في هذه الموارد ، أو الهيئة ، وهذا وإن لم يكن فيه فائدة مهمة ، إلّا أنّه لا بأس به والتّعرض له في الجملة :

فنقول : قد قيل أو يقال : إنّ التّصرف فيها في المادّة ، لا الهيئة ، بمعنى أنّها عارضة عليها بعد تقييدها بالزّمان الماضي ، فيقال : إنّ المراد بالقاتل مثلاً إذا أطلق على من انقضى عنه المبدأ ، كما في الآية هو المتلبّس الآن بالقتل الواقع أمس ، فلا يلزم مجاز في الهيئة .

لكن فيه ما لا يخفى من الرّكاكة كما أشير إليه آنفاً .

ويمكن أن يقال : إنّ إرادة المعنى من اللفظ شيء ، والحكم على هذا

٢٨١
 &

المعنى شيء آخر ، فيمكن أن يراد من الزّاني والقاتل ـ مثلاً ـ معناهما الحقيقي ، وهو الموصوف بهما ، ويحكم عليه بوجوب الحدّ ، أو القتل مع تقييد ظرف الامتثال بحال انقضاء المبدأ .

لكن فيه : أنّه مستلزم للتّكليف بغير المقدور ، وموجب لإعادة ما هو المحذور ، ضرورة عدم إمكان هذا المعنى بعد انقضاء المبدأ ، إذ المفروض قوامه بقيام المبدأ ، فكيف يعقل بقاؤه بعد انقضائه .

والّذي يقتضيه التحقيق : أن يوجّه إطلاق المشتق في المفروض ، بحيث لا يستلزم المحذور المذكور ، بأنّه مستعمل في المتلبّس بالمبدأ حال تلبّسه به ، لكن الحكم لم يتعلّق بالذّات المطلق هو عليها بهذا العنوان ، حتى يكون الموضوع حقيقة هو هذا العنوان ، فيعود المحذور ، بل علّق على الذّات بشرط حصول الاتّصاف لها بالعنوان المذكور ، مع عدم اعتبار بقاء الاتّصاف ، فيكون موضوع الحكم هو الذّات لا العنوان ، أو هي مقيدة به ، ويكون النّكتة في تعليق الحكم على العنوان المذكور في الظّاهر ، مع أنّ موضوعه هي الذّات واقعاً ، تعريف الذّات الّتي هي موضوع لهذا الحكم بهذا العنوان ، مع التّنبيه على مدخليّة هذا العنوان في ثبوت الحكم المذكور ولو بنحو السّببيّة في الوجود ، فإنّ تعليق الحكم على الوصف مشعر بسببيّة هذا الوصف وجوداً لا محالة (١) . وإنّما الخلاف في أنّه يفيد السببيّة في جانب العدم ، بأن

___________________________

(١) ومن هنا ظهر جواب آخر عن القائلين بكون المشتق حقيقة في الأعم من حال التلبّس الشامل للماضي في احتجاجهم ، بأنّه لولا ذلك لما صحّ التمسّك بآيتي الزنا والسرقة على وجوب الحدّ على من انقضى عنه المبدأ .

وملخّص الجواب أن هذا يرد على تقدير كون العنوان قيداً لموضوع الحكم وواسطة في العروض ، والأمر ليس كذلك ، فانّ العنوان علة الثبوت والمفروض إنما هو الذّات باقية بعد زوال العنوان .

وقد يقرّر هذا الاستدلال بنحو آخر ، وهو أنّه لولا ذلك لما صحّ الاستدلال بالآيتين على وجوب حدّ الزاني والسارق مطلقا ، لانصرافهما إذن بمقتضى الوضع إلى من تلبّس بالزنى والسرقة حال نزول الآية ، فلا يندرج غيرهم فيها ، والتالي باطل ، وهذا التقريب مبنيّ على حمل المشتق في الآيتين على حال النطق .

والجواب عنه اوّلاً : أنّ المراد بالمشتق إذا وقع محكوماً عليه كما في الآيتين المتلبّس بالمبدأ مع قطع النظر عن حصوله في أحد الأزمنة ، فيعم الأفراد المتحققة في الماضي والحال والمقدَّرة .

وثانياً : أنّ ذلك لو تمّ لدلّ على بطلان الوضع باعتبار حال النطق ، ولا يلزم منه الوضع للأعم ، لثبوت الواسطة ، وهي ما اخترنا من وضعه باعتبار حال التلبّس .

=

٢٨٢
 &

يفيد انتفاء هذا الحكم بانتفاء الوصف أولا .

وإيراد ما هو شرط للحكم واقعاً بصورة موضوع الحكم وعنوانه شائع كشيوع عكسه ، وهو إيراد ما هو موضوع وعنوان للحكم واقعاً بصورة الشرط ، وهذا هو الشّرط الذي يقال : إنّه لتحقيق الموضوع ، فيحكمون بعدم المفهوم له لذلك ، فعلى هذا ، يصير معنىٰ قوله تعالى ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا . . . ) (١) ـ والله أعلم ـ أنّه إن زنت امرأة أو زنىٰ رجل فاجلدوهما ، ولا ريب أنّ هذين الموضوعين ، أعني الرّجل والمرأة باقيان بعد انقضاء المبدأ عنهما .

لكن لا يخفى أنّ هذا التّوجيه كسابقَيه إنّما يوجب إطلاق المشتق على الحقيقة ، وعدم خلاف ظاهر في هيئته ، لكن لا بدّ من التزام خلاف الظّاهر بوجه آخر ، فإنّ ظاهر تعليق الحكم على شيء ، كون ذلك الشيء هو الموضوع لهذا الحكم على ما هما عليه من الإطلاق والتقييد ، فإرادة تعليقه على غيره واقعاً ـ كما في التّوجيه الأخير ـ أو تقييده واقعاً ، مع أنّه مطلق في الظّاهر ـ كما في الأول ـ أو تقييد الحكم في الواقع مع أنّه مطلق في الظّاهر ، كلّها خلاف الظّاهر ، فلذا نفينا الفائدة من التعرّض له .

ثم إنّه ربما يتصرّف في الموارد المذكورة في الهيئة ، كما في مجاز المشارفة ، فيقال : ( زيد غريق ) مع أنّه بعد لم يغرق ، فيستعمل اللّفظ ويراد به غير المتلبّس لإشرافه على التلبّس ، وكما في صورة استعماله فيمن لم يتلبّس بعد بالمبدأ بعلاقة الأَوْل إلى التلبّس .

والفرق بينهما أنّ العلاقة في الثاني إنما هي بحسب قرب الزّمان ، وفي الأوّل بملاحظة الذّات نفسها ، بمعنى أنّه يلاحظ الذّات اثنتين باعتبار حالتين ، فيستعمل

___________________________

= وثالثاً : أنّ الاستدلال بالآيتين على ثبوت الحكم لمطلق الزّاني والسارق [ يتوقف ] على وضع اللفظ للأعم ، لجواز أن يكون نظرهم في ذلك إلى اثبات الحكم لمن تلبّس بالمبدأ حال نزول الآيتين بهما ولغيرهم بأصالة الاشتراك في الحكم الجمع عليه ، كما هو الشأن في استدلالهم بمطلق الخطابات الشفاهيّة على ثبوت الحكم لعامّة المكلّفين .

ورابعاً : أنّ هذا على فرض تماميّته يدلّ على إرادة الأعم من الآيتين ، وهي تستلزم وضع اللّفظ له ، لكونها أعمّ من الحقيقة . لمحرّره عفا الله عنه .

(١) النّور : ٢ .

٢٨٣
 &

اللفظ في إحداهما لمشابهتها بالاخرىٰ ، كما في قوله تعالى ( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ) (١) وكما إذا استعمل في غير المتلبّس بعلاقة ما كان ، والعلاقة فيه أيضاً إنما هي بملاحظة الذّات على نحو ما عرفت .

هذا كلّه إذا لم يكن على وجه الادّعاء والتّنزيل ، وإلّا فلا يكون مجازاً في الكلمة ، كما لا يخفى .

والظّاهر أنّ أكثر الاستعمالات العرفيّة الغير المنطبقة على المشتقّات من حيث أوضاعها النّوعية في الظّاهر ، إمّا لانقضاء المبدأ عما أطلقت عليه ، أو عدم تلبّسه به بعد بالنّسبة إلى حال النّسبة مبنيّة :

إمّا على وجه جُعِلَ المشتق معرِّفا لهذه الذّات المجردة عن المبدأ باعتبار ثبوته لها من قبل ، أو بعد ذلك ، مع تيقّن ثبوته لها ، مع إطلاقه على الذّات المتلبّسة به حال النسبة ، وجعله لاتّحادها مع هذه الذّات معرِّفاً لتلك .

وهذا على قسمين بحسب الموارد :

أحدهما : أن يراد به تعريف الذّات من حيث هي ، من غير اعتبار كونها محكوماً عليها بحكم ، كما مرّ أمثلته في التّنبيه السّابق كقولك ( هذا ضارب زيد ، أو هو قاتل عمرو ) .

وثانيهما : أن يراد به تعريف الذّات باعتبار كونها محكوماً عليها بحكم ، كما تقول : ( جاءني ضارب زيد ) مريداً به المتلبّس بالضّرب قبل ، المتّحد لهذا الجائي من حيث الذّات ، فتجعله بذلك الاعتبار معرِّفاً لهذه الذّات المحكوم عليها بالمجيء ، أو تقول : ( إضرب قاتل عمرو ) قاصداً ضرب الذّات الموجودة الآن المنقضي عنها القتل ، لكن علّقت الحكم على هذا العنوان في الظّاهر مريداً به المتلبّس به حال تلبّسه به لنكتة التّعريف ، أي تعريف الذّات المحكوم عليها الآن بالضّرب ، أو لنكتة الإشعار بمدخليّة هذا العنوان لوجوب الضّرب أيضاً ، إذا كان سبب أمرك بضربه كونه قاتلاً لعمرو ، كما وجّهنا الآية المتقدمة به ، كما عرفت .

ومثل ذلك يجري في المنادى أيضاً ، سيّما في موارد النّدب كقولك ( يا

___________________________

(١) يوسف : ٣٦ .

٢٨٤
 &

معطي الفقراء ) مريداً بالنّداء حقيقة هذا الشّخص المنقضي عنه الإعطاء حال النّداء ، وإنّما ناديته بهذا العنوان تنبيهاً على أنّه هو الّذي كان يعطي الفقراء ، والآن صار فقيراً مثلاً ، مع إرادة الذات المتلبّسة بالإعطاء في ذلك الزّمان من هذا الوصف ، وجعله بهذا الاعتبار معرِّفاً لمن تدعوه ، لاتّحاده مع تلك الذّات المتلبّسة بما ذكر في ذلك الزّمان .

وإمّا علىٰ التّنزيل والادّعاء .

وإمّا علىٰ تصرّفٍ في المادّة ، كما في موارد استعمالها في ملكات مبادئها ، كالكاتب ، والشّاعر والفقيه ، وأمثالها ممّا يراد بها التّلبّس بملكة المبدأ ، لا بنفسه ، أو فيمن أخذ مبادِئَها حرفة ، وصنعة ، كالبنّاء والنسّاج والكاتب ، وأمثالها ، إذا أطلقت على هذا الوجه ، وكما في استعمال البقّال والتّمار ، وأمثالهما من المشتقات المأخوذة من أسماء الذّوات في مزاولة مع البقل والتّمر ، إلىٰ غير ذلك مما يعرف وجوه التّصرف فيها حسب موارد استعمالها ، فإنّ أسماء الآلة إذا أطلقت ولم يرد بها المتلبّس بالآليّة حال النسبة ، كالمقراض لغير المتلبس بآليّة القرض حال النسبة ، فلا بدّ أن يكون التّصرف فيها بنحو آخر ، كأن يقال : إنّها مستعملة فيما له شأنيّة الآلية مع إعداده لذلك أو بدونه .

وقد جعل بعض المتأخرين المدار في صدق أسماء الآلة حقيقة على شأنية الآليّة مع الإعداد لها ، بمعنى أنّه جعل معناها المتلبّس بشأنيّة كونه آلة لإيجاد المبدأ مع كونه مُعَدّاً للآليّة ، فيعتبر في صدقها حقيقة على ما أطلقت عليه من تحقّق هذين الشّأنيّة ، والإعداد فيه حال النسبة ، وعلى هذا فإطلاقها على هذا الوجه ليس من وجوه التّصرف فيها ، وإنّما يكون من ذلك ـ بناء على ما اخترنا ـ من أنّ المعتبر فيها التلبّس بالآليّة فعلاً (١) .

لكن هذا القول ليس بجيّد ، كما لا يخفى ؛ إذ ليس المتبادر من نفس تلك

___________________________

(١) وعلى ما اخترنا من اعتبار التلبّس في أسماء الآلة بالآليّة حال النسبة ، فلا يصدق على ماله شأنية ذلك مع عدم تلبّسه به حينئذٍ ، ويصدق عليه على القول الآخر ، وأمّا بالنسبة إلى ما لا يكون له الصّلاحيّة لذلك حال النسبة ، كاطلاق الميزان مثلاً على قطع منتشرة من الخشب والحديد مع كونها ميزاناً قبل ، او سيصير ميزاناً ، فالاطلاق مجازيّ على القولين ، لمحرّره عفا الله عنه .

٢٨٥
 &

الهيئات عرفاً ، مع قطع النّظر عن خصوص بعض الموارد ، إلّا المتلبّس بآليّة إيجاد المبدأ حال النّسبة ، فيكشف ذلك أنّ المعتبر في وضعها لغة ذلك ، فحينئذ لو كان مفاد تلك الهيئات في بعض الموارد غير منطبق على ذلك ، فهو إمّا لأجل قرينة متحقّقة في خصوص المورد ، وإمّا لأجل حدوث نقل ووضع طارٍ بسبب غلبة استعمال العرف لها في المورد الخاصّ في المعنى المخالف لما ذكرنا ، كما هو ليس ببعيد فيها بالنسبة إلى مادّة الوزن ، والثقل ، والثّقب والنّشر ، كالميزان والمثقال والمثقب والمنشار ، فإنّ المتبادر منها عرفاً هو ما يصلح لآليّة إيجاد هذه المبادئ مع كونه مُعَدّاً لذلك وإن لم يتلبّس بالآليّة فعلاً .

والكاشف عن كون هذا التّبادر من نفس اللّفظ عدم صحّة سلب تلك الألفاظ عما له شأنيّة الآلية مع إعداده لها ، وان لم يكن متلبّساً بها حال النسبة ، وصحة سلبها عما له شأنية ذلك مع عدم إعداده له ، بل الظّاهر منها كما يظهر للمتأمّل هي الذّوات المعدّة لما ذكر ، من دون التفات إلى عنوان كونها آلٰات ، فإنّ المتبادر منها ، ما يعبّر عنه بالفارسية ، بـ ( ترازو ، ومَتّه ، وأرّه ) فهي على هذا كأسماء الجوامد الموضوعة للذّوات ، فيخرج عن كونها أوصافاً بالمرّة ، فإنّ الدّال حينئذ هو أمر واحد ، وهو المركّب من الهيئة والمادّة المخصوصة ، فيكون وضعها حينئذ شخصيّاً .

ولعلّ منشأ تخيّل البعض ملاحظة بعض الأمثلة الخاصة المقرونة بالقرائن المفيدة لما زعم ، أو المنقولة إليه .

وكيف كان ، فقد عرفت وجه التّصرف في أسماء الآلة بناءً على المذهب المختار فيها .

ويقرب منه وجه التّصرف في أسماء المكان ، فإنّه أيضاً إطلاقها على غير المتلبّس بظرفيّة المبدأ حال النسبة باعتبار صلاحية الظّرفية لذلك .

وكيف ما كان ، فإن شئت توضيح الكلام فيما ذكرنا فنقول :

إنّه لا ريب أنّ مبادئ المشتقّات مختلفة ، فقد يكون المبدأ فيها وصفاً ، كالأبيض والأسود ونحوهما ، وقد يكون قولاً كالمتكلِّم والمخبِر ، وقد يكون فعلاً

٢٨٦
 &

صدوريّاً متعدّياً إلى الغير ، كالضّارب والنّاصر والقاتل ونحوها ، وقد يكون ثبوتياً غير متعدٍّ إلى الغير ، كالقائم والقاعد والمضطجع ، والمستلقي ونحوها ، ويعبّر عن الجميع بالحال ، وقد يكون ملكة ، كالعادل والمجتهد ونحوهما ، إذا أريد التلبّس بملكة الاقتدار على مبادئها ، وقد يكون حرفة وصنعة على أنحاء خاصّة ، كالبنّاء والكاتب والنسّاج ، ونحوها من المشتقّات المأخوذة من المصادر من أسماء الفاعلين ، وصيغ المبالغة ، إذا أريد بالاُولىٰ التلبّس بمبادئها بعنوان أخذها حرفة ، وبالثّانية التلبّس بمبادئها بعنوان كثرة أخذها حرفة ، لا مجرد التلبّس بأخذها حرفة لا بشرط ، وإلّا فيلزم التّصرف في الهيئة المفيدة لكثرة التلبس ، لكونها حينئذ لمجرّد الوصف ، كما هو الغالب في استعمال أسماء الحرف الّتي على هذا الوزن عرفاً ، سواء كانت مأخوذة من المصادر كالنّسّاج والبنّاء ، حيث إنّ الغالب استعمالها فيمن تلبّس بأخذ مبادئها حرفة من دون اعتبار الكثرة ، أو من اسماء الذّوات كالبقّال والعطّار والترّاب والزبّال ، حيث إنّ الغالب عرفاً في استعمالها أيضاً إرادة التّلبّس بأخذ بيع تلك الذّوات ، أو نقلها حرفة ، بل الظّاهر هجر تلك الهيئة ، أعني زنة فعّال عرفاً عن معناها الأصلي ، ونقلها إلىٰ مجرّد المعنىٰ الوصفيّ المجرد عن الكثرة ، فيما إذا أريد بالمبدأ الحرفة ، مصدراً كان ، أو اسم ذات ، كما لا يبعد دعوىٰ طروء الوضع عليها عرفاً بواسطة غلبة الاستعمال للتّلبّس بأخذ المبدأ حرفة فيما إذا كان المبدأ من أسماء الذّوات ، بحيث يكون استعمالها حينئذ في التلبس على وجه الحال ، بأن يراد التلبس ببيع هذه الذّوات مجازاً محتاجاً في الانفهام إلى القرينة الصارفة .

ولا يبعد دعوى ذلك أيضاً في بعض أمثلتها المأخوذة من المصادر ، كالنسّاج والبنّاء والخرّاط والغسّال ونحوها .

وكيف كان ، فكلامنا الآن مع الغضّ عن ذلك كلّه ، فتامّل (١) أو من

___________________________

(١) وجه التأمّل أنّه يمكن نقل المادة في الصورتين في ضمن تلك الهيئة إلى الحرفة ، لغلبة استعمالها فيها في ضمن الهيئة ، فالهيئة على ما استظهرنا إنما هي منقولة إلى مجرد التلبّس بالمبدأ الى التلبّس بمعنى خاص .

هذا مع إمكان نقل المجموع من الهيئة والمادّة الى التلبّس بمعنى خاصّ ، فتأمل لمحرّره عفا الله عنه .

٢٨٧
 &

أسماء الذّوات (١) ، كاللّابن والتّامر ، ونحوهما من أسماء الفاعلين المأخوذة منها ، وكالبقّال والعطّار ، ونحوهما ممّا مرّ من صيغ المبالغة المأخوذة منها إذا أريد بها كلّها ، التّلبّس بأخذ بيع تلك الأعيان حرفة ، وقد عرفت ما في الثانية .

وأمّا الاُولى ، أعني أسماء الفاعلين المأخوذة من أسماء الذّوات ، فلا تصرّف من العرف في هيئتها أصلاً ، والغالب استعمالها في التلبّس الحالي ، أعني إرادة مجرّد التلبّس مع تلك الأعيان ، وهذا هو الظّاهر المتبادر منها عرفاً ، فيكون أخذ مبادئها حرفة خلاف الظاهر المحتاج إلى القرينة الصّارفة عما ذكر ، لكنّه لا يوجب التّصرف في الهيئة ، فإنّها لمجرّد التلبّس بالمبدأ بمعناه ولو مجازاً ، وهذا باق على جميع التّقادير .

وقد يجتمع في المبدأ الواحد الوجوه الثلاثة ، أعني الحال والملكة والحرفة ، بمعنى أنّه يصلح لإرادة التلبّس بكل واحد من تلك الوجوه ، كما في الكاتب والقارئ والمدرِّس وأمثالها ، أو الاثنان منها ، كما في العالم والفقيه والمجتهد ونحوها ، لصلاحيّتها لإرادة التلبّس الحالي ، والتلبّس بملكة الاقتدار على مبادئها ، ومن المعلوم عدم التّصرف في الهيئة من جهة أحد الوجوه الثّلاثة (٢) في جميع الصّور .

أمّا في صورة إرادة التلبّس الحالي فواضح ، إذا كان المبدأ من المصادر ، وأمّا إذا كان المبدأ من أسماء الذّوات فالتّصرف أنّما وقع في المبدأ من حيث إخراجه عن معناه الأصلى وهو الذّات إلى غيره ، وهو الفعل المتعلّق بالذّات المناسب لتعلّقه بها ، كالبيع ، بل يمكن عدم التزام التّصرف في المادّة أيضاً ، بتقريب ما يقال : في مثل قوله تعالى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ) (٣) فإنّ الأمّ فيه في معناه الأصلي ، وكذا الحرمة ، إلّا أنّه تجوّز في أمر عقلي ، وهو نسبة

___________________________

(١) قولنا ( او من اسماء الذوات ) عطف على قولنا المذكور سابقا ، اعنى من المصادر في قولنا : ( من المشتقّات المأخوذة من المصادر من اسماء الفاعلين او صيغ المبالغة ) ، لمحرّره عفا الله عنه .

(٢) بمعنى أن شيئا منها لا يستلزم التصرّف في الهيئة ، بان يكون التصرّف مسبّباً عنه وإن أمكن التصرّف فيها بواسطة امر خارجيّ ، كنقلها الى غير معناها الاصلي بواسطة غلبة الاستعمال في هذا الغير ، كما مرت الاشارة اليه في بعض الأمثلة ، لمحرّره عفا الله عنه .

(٣) النساء : ٢٣ .

٢٨٨
 &

الحرمة إلى الأمّ الّتي هي من الذّوات ، فلا مجاز في الكلمة ، أصلاً ، وأمّا تفهيم المقصود الواقعي ، وهو حرمة وطء الامّهات ، فالتعويل فيه على القرينة العقلية الدّالة على امتناع إرادة حرمة الذّوات نفسها ، بضميمة ظهور الوطء من بين الأفعال المتعلّقة بها ، وتكون الاُولىٰ صارفة ، والثّانية معيّنة ، فأريد من كلّ واحد من الطّرفين معناه الأصليّ ، وأريد الدّلالة على المقصود بالقرينة .

فعلى هذا يقال فيما نحن فيه أيضاً : إنّ الهيئة لإفادة التلبّس بمعروضها ، وأريد بها هذا المعنى ، والمبدأ للذّات ، وأريد به هذه ، لكنّ التعويل في تفهيم المقصود ـ وهو التلبّس بالفعل المتعلِّق بالذّات ـ على العقل ، حيث إنّه لا يصحّ الاتّصاف بنفس الذّات ، بمعنىٰ أنّه مستحيل عقلاً ، فيكشف ذلك عن التّجوز في النسبة الضّمنية بين الهيئة ـ والمادة ، وأنّ المراد غير إرادة التلبس بنفس [ المادة ] (١) فيكون هذا بضميمة ظهور البيع ، لكونه متعلّقاً لمفاد الهيئة بالنسبة إلى سائر الأفعال دالّاً على المراد ، فلا مجاز لغة في شيء من المادّة والهيئة أصلاً ، بل هو عقليّ فحسب ، كما في الآية ، إلّا أنّ الفرق بينهما أنّ التّجوز ثمة وقع في النسبة التّامة بين الموضوع والمحمول ، وهنا وقع في النّسبة الناقصة الضمنيّة الحاصلة بين الهيئة والمادّة .

هذا كلّه إذا أريد بالمشتق التلبّس الحالي .

وأمّا إذا أريد به التّلبّس بالمبدأ باعتبار الملكة أو الحرفة ، فلا يلزم أيضاً في الهيئة تصرّف أصلاً ، وإن كان ، فهو في المادّة ، فإنّه إن أريد بها الملكة فالهيئة لإفادة التلبّس بها ، أو الحرفة فكذلك ، فلم يخرج عما يقتضيه وضعها الأصليّ .

ثم إنّ المبدأ إذا اُريد به الحال ، فقد عرفت أنّه لا مجازيّة فيه حينئذ مطلقاً ، من حيث اللّغة ، وإنّما كان يلزم التّجوز العقلي في بعض الموارد ، وهو ما إذا كان من أسماء الذّوات .

وأمّا إذا كان للملكة أو الحرفة ، فلا إشكال في مجازيته لغة بالنّظر إلى معناه الأصلي .

___________________________

(١) زيادة يقتضيها السياق .

٢٨٩
 &

لكنّه قد يُدّعىٰ طروء الوضع من العرف عليه بواسطة غلبة الاستعمالات بالنسبة إلى الحرفة أيضاً ، مع بقاء معناه الأصلي ، فيكون في العرف مشتركاً لفظاً بينهما ، بل قد يُدّعىٰ هجره عن المعنىٰ الأصليّ إلى خصوص الحرفة في أسماء الحِرَف الّتي على وزن فعّال ، كنسّاج وتمّار وبقّال ، وغيرها .

والحقّ عدم عروض الوضع الجديد له مطلقاً (١) ، فيما إذا كان المبدأ في ضمن غير فعّال من هيئات المشتق .

نعم قد يتعدّىٰ في بعض الأمثلة دعوىٰ إجماله حينئذ عرفاً ، لغلبة استعماله في غير الحال ، الموجبة للتّوقف والإجمال ، فيكون مجازاً مشهوراً .

وأمّا إذا كان في ضمن هيئة فعّال ، فالظّاهر هجره عرفاً عن المعنىٰ الأصليّ ، إلى الحرفة ، بحيث يظهر منه هذه عند الإطلاق ، ويحتاج انفهام معناه الأصليّ ، وهو الحال ، إلى القرينة الصّارفة عن ذلك مطلقاً ، بالنسبة إلى المصادر وأسماء الذّوات ، لكن لا مطلقاً ، بل فيما يطلق على الحرفة غالباً ، كالنسّاج والبنّاء والبقّال والعطّار ، لا مثل القتّال والأكّال والسيّار ونحوها ، لعدم غلبة استعمالها فيما ذكر ، بل الغالب إرادة المعنى الحالي ، ومن المعلوم أيضاً عدم التصرّف في هيئة فعّال ، الموضوعة للمبالغة في تلك الأمثلة .

وكما في صِيغ المبالغة (٢) ، المأخوذة من أسماء الذّوات مطلقاً ، فإنّ الغالب إرادة الحرفة منها مع ما عرفت بالنسبة إلى الهيئة فيها أيضاً .

والدليل على ذلك التّبادر من تلك المواد عند الإطلاق ، وصحّة سلب تلك الصّيغ حينئذ عمّن تلبّس بالمبدأ بمعناه الحالي ، فإنّه يصحّ أنْ يقال لمن تلبّس بفعل النّسجِ مثلاً . أو بيع التّمر ، من دون أخذهما حرفة : إنّه ليس بنسّاج ، أو تمّار ، ولا يصحّ أنْ يقال : إنّه ليس بناسج ، وتامر .

___________________________

(١) اي سواء كان بطريق الاشتراك او النقل ، وسواء كان المبدأ من أسماء الذوات او المصادر ، لمحرّره عفا الله عنه .

(٢) وكيفيّة نقل تلك الألفاظ إلى ما ذكر : أنّ العرف أطلقوها على من تكرّر منه صدور المبدأ وتلبّس به في أغلب الأحوال ، فمن اتخذ الفعل حرفة وصنعة إلى حدٍّ استغنى ذلك عن القرينة ، صارت حقائق عرفيّة فيما قلنا . لمحرّره عفا الله عنه .

٢٩٠
 &

وأما عدم ثبوت طروء الوضع عرفاً لغير ما ذكر بالنسبة إلى غير الحال من الملكة والحرفة ، فلأنّه لو ثبت ، فهو إما بطريق الهجر والنقل ، وإما بطريق الاشتراك اللفظي ، كما قيل .

والأول مفقود في المقام ، فإنّ لازمه تبادر غير الحال ، بحيث يتوقف انفهام الحال على القرينة ، وليس كذلك في المقام ، فإنّه إما مجمل بالنّسبة إلى الحال وغيره ، كما هو كذلك في كثير من الأمثلة ، وإمّا ظاهر في الحال ، كما في بعض أمثلته الاُخرى ، فانتفاء اللازم يكشف عن انتفاء الملزوم .

والثاني باطل في نفسه لما حققنا في محله ـ في مسألة المجاز المشهور ـ أنه لا يمكن الاشتراك بواسطة غلبة الاستعمال ، فإنّ اللّفظ ، ما لم يهجر عن معناه الأصلي ـ بغلبة الاستعمال ـ لا يعقل اختصاصه بالمعنىٰ الثاني أيضاً ، فراجع .

هذا مضافاً إلى تبادر الحال في بعض الأمثلة .

نعم لا يبعد دعوى النقل في مثل : العادل والمجتهد ـ في عرف المتشرعة ـ الى الملكة ، لكنّ الكلام في ثبوته بالنّظر إلى العرف العام .

احتجّ مدّعي الاشتراك (١) (٢) ، بأنّه إذا قيل : ( رأيت كاتباً ، ولقيت قارئاً ) ، يتوقّف العرف في المراد ، وينتظرون القرينة لتعيين المراد من الحال والحرفة ، فيكشف ذلك عن اشتراك المبدأ فيهما ، وفي أمثالهما عرفاً بين الحال والحرفة .

وفيه ـ مضافاً إلى ما عرفت ـ ان التّوقف والاجمال لا يصلح لأن يكون علامة للاشتراك ، لكونه أعمّ منه ، لوجوده في المجاز المشهور ايضاً ، والعلامة لا بد أن تكون مساوية للمدلول ، أو الأخص ، فلذا لم يعدّه أحد من علائم الاشتراك .

___________________________

(١) مدعي الاشتراك حسبما نسبه المحرّر هو الآخوند المولى أحمد الخوانسارى ( ره ) ، وقال في طبقات أعلام الشيعة ١ : ٧٠ رقم ١٤٠ ( الشيخ المولى احمد الخوانسارى ) ما ملخصه : بأنه كان من أعلام الشيعة في القرن الثالث بعد العشرة ، ومن فحول علماء عصره الجامعين المتفنّنين ، أخذ العلم عن جماعة من الأعاظم كالمولى أسد الله البروجردي الملقّب بحجة الإسلام وشريف العلماء المازندراني . . . وله آثار منها [ مصابيح الاصول ] كتب المجلّد الأوّل منه تلميذ المصنّف الشيخ عبد الحسين البرسي عن خطّ أستاذه ، وكتب عليه ما سمعه من الدروس في [ ١٢٧٣ ] وله أيضاً الادعية المتفرّقة . . .

(٢) مصابيح الاصول .

٢٩١
 &

نعم لو استدل بتبادر كلّ من المعنيين من اللفظ ، بمعنى تصوّرهما من نفس اللفظ عند الاطلاق مع التوقّف في أنّ أيّهما المراد ، حيث إنه يجوز إرادة أكثر من معنى ، لاتّجه الاستدلال ، لكنّ الواقع ليس كذلك .

هذا ، ثم إنّ الظاهر أنّه لم يقع الخلاف من أحد في مجازيّة المبدأ الصّالح لإرادة الملكة فيها في العرف أيضاً ، وانّما اختلفوا في ثبوت الوضع بالنّسبة إلى الحرفة فيما يصلح لإرادتها وعدمه اشتراكاً أو نقلاً ، فيكون إطلاق المبدأ على الملكة في نحو كاتب وقارئ مجازاً قطعاً ، إذا أريدت الملكة من نفس اللّفظ ، لعدم ثبوت الوضع لها بوجه ، مضافاً إلى تبادر الغير .

لكنّ الظّاهر بناء الإطلاق في صورة حصول الملكة ، دون الحال على تنزيل من له ملكة التلبّس بالمبدأ منزلة المتلبس به فعلاً ، وإرادة الحال من المبدأ بهذا الاعتبار ، فيلزم التجوّز بحسب العقل دون اللغة .

وكيف كان ، فالنسبة بين الحال وبين كل من الملكة والحرفة ، كالنّسبة بين الأخيرتين ، هي العموم من وجه .

والأمر واضح بالنّسبة إلى الحال وغيرها .

وأما الأخيرتان ، فمحلّ الافتراق فيهما من جانب الملكة ، الاجتهاد والعدالة ، ومن جانب الحرفة ما لا يحتاج في حصوله إلى تحصيل ملكة ، مثل بيع التّمر والخبز ونحوهما . ومورد الاجتماع فيهما الحرفة التي يحتاج تحصيلها إلى صرف العمر في مدة طويلة لتحصيل قوّة يقتدر بها على الفعل ، كالخياطة والحياكة والصّباغة ونحوها .

ثم إنّ مورد الخلاف في المسألة (١) يعمّ جميع الأقسام ، كما أشرنا إليه في تحرير النّزاع ، كما صرّح به غير واحد منهم ، لاطلاق العنوانات ، وعموم الادلة وتمثيلهم بالألفاظ الموضوعة بأزاء الملكات والحِرَف ، وبيان الثّمرة على حسب اختلاف المبادئ ، كما ستعرف ، فما ذكره بعض الأعلام من اختصاص النّزاع بما يكون المبدأ فيه حالاً ، استناداً الى حصرهم الخلاف فيما تلبّس بالمبدأ وانقضى عنه

___________________________

(١) تحقيق مقال متضمّن لدفع بعض ما ربما يتخيّل من اختصاص محلّ النزاع في المسألة ببعض الوجوه . لمحرّره عفا الله عنه .

٢٩٢
 &

ذلك ، نظراً إلى عدم تحقّق الزّوال إلّا في الحال لعدم زوال الملكة والحرفة ، ليس بجيد .

ويردّ مستنده ، بأنّه لا ريب في إمكان زوال كلّ من الملكة والحرفة بعد حصولهما ، إذ الاُولىٰ : قد تزول بالنّسيان الحاصل من ترك الاشتغال بالفعل في مدة طويلة ، كما تزول الثانية أيضاً بالإعراض وترك الاشتغال ، مع عدم قصد العود والاشتغال بما يضادّها من الحرف والصّنائع ، بل بدونه أيضاً ، مع قصد الإعراض وترك الاشتغال ، فإنّ زوال كلّ شيء بحسبه ، فالنّزاع يعمّ الجميع ، إلّا أنّ التّلبّس بالمبدأ يختلف باختلاف المبادئ ، ولا كلام لنا باعتبار ذلك . فافهم واغتنم .

الثالث : (١) الذّوات الخارجيّة أعني الجزئيات الحقيقية التي تكون معروضة للمبادئ في الخارج ، غير داخلة في مفهوم المشتق ، بلا خلاف أجده ، ولا بد من خروجها وإلّا لزم أن تكون المشتقات موضوعة للخصوصيات على سبيل عموم الوضع ، وخصوص الموضوع له ، ولا قائل به ، بل الظاهر اتفاقهم على كون المفهوم فيها كليّاً ، ولذا وقعت موضوعات للقضايا المعتبرة في المحاورات الدّالة على ثبوت المحمولات لكل فرد من أفراد الموضوع ، ولولاه للزم استعمالها في أكثر من معنى واحد ، حيث يراد بها جميع الخصوصيات ، وهذا باطل .

وأيضاً لو ثبت ذلك لزم حمل الذات على الذات وتوصيفها بها في قولك : ( زيد ضارب ) و ( زيد القائم ) ولا ريب في فساده .

وحمل المشتق في المثالين على المجرّد عن الذات ـ بقرينة الحمل والتوصيف ـ مستلزم للتجوّز في الاستعمالات الغير المتناهية الثابتة في المحاورات ، ولا يلتزم به أحد جدّاً .

هذا مضافاً إلى كفاية الأدلّة الآتية في مورد الخلاف عن التكلم هنا .

وكيف كان ، فكما لا ينبغي الرّيب في عدم أخذ الذوات الخارجية في مفاهيم المشتقات ، كذلك لا ينبغي [ الرّيب ] في عدم دلالتها على شيء من

___________________________

(١) أي التنبيه الثالث .

٢٩٣
 &

خصوصيّات الذّوات ، مثل كون المعروض جسماً في نحو الأبيض والأسود ، وإنساناً في نحو الضاحك والكاتب ، وهكذا ، لعدم حصول الانتقال إلى نحو ذلك من خصوص الألفاظ المشتقة قطعاً ، وإلّا لزم أن لا يصح قولك : الجسم الأسود والأبيض ، لكونه حينئذ من باب توصيف الأعم بالاخص ، كقولك : الحيوان الانسان ، ولا ريب في بطلان التالي ، ضرورة صحة التوصيف في المثال ونحوه .

مع أنّ المعتبر في المفهوم إن كان هو العنوان الخاص ، من حيث وجوده في الخارج ، فيلزم حمل الذّات على الذّات وتوصيفها بها ، على حسب ما مرّ بيانه في ردّ دخول الجزئيّات الحقيقية في مفهوم المشتق . وإن اعتبر لا بشرط ، فلا يصح ، لأنّ المبادئ غير جارية على تلك العنوانات في الذهن ، بل من عوارض الماهيّات الخارجية ، فكيف يعتبر في المشتق تلبسها بالمبادئ إذ على هذا يصير قولك :

الأسود ، معناه مفهوم الجسم المتصور في الذهن المتلبس بالسواد ، وهذا مما يُضحِك الثكلىٰ ، ضرورة عدم إمكان عروض المبدأ الذي هو السّواد بالمفهوم الذهني ، وإنما هو عارض لجزئياته الحقيقية المتحققة في الخارج ، وهكذا في سائر أمثلة المشتقات .

وكيف كان ، فهذا بديهيّ لا حاجة فيه إلى تجشّم الاستدلال ، فلنأخذ بالكلام فيما هو محل للخلاف في المقام .

فنقول : إنّهم بعد اتفاقهم ظاهراً على خروج الذّوات الخارجية عن مفهوم المشتقات ـ كما عرفت ـ اختلفوا في اعتبار الذّات المبهمة المفسرة بالشيء في بعض العبارات في مفهوم المشتقات على أقوال :

أحدها : الدّخول مطلقاً ، وهو المحكيّ عن العلامة ( قدس سره ) في التهذيب (١) وابن الحاجب في المختصر (٢) والعضدي في شرحه (٣) .

___________________________

(١) تهذيب الاُصول : ١٠ ، الفصل الرابع في الأسماء المشتقّة عند قوله : ومفهوم المشتق شيء ما له المشتق منه من غير دلالة على خصوصيّة الشيء .

(٢) مختصر الاصول لابن الحاجب وشرحه للعضدي وسماه بـ ( حواشي بر شرح مختصر ) الجزء الاوّل : ١٧١ ، ١٧٢ ، واليك نصّهما : امّا نصّ المختصر لابن الحاجب فهذا لفظه : المشتق ما وافق أصلاً بحروفه الاصول ومعناه وقد يزاد بتغييرٍ مّا وقد يطّرد كاسم الفاعل . . . الى اخره . وامّا نصّ العضدي في شرحه فهذا لفظه : أقول : اشترط في المشتق امور ( إلى أن قال : ) ثالثها الموافقة في المعنى ، بأن يكون فيه معنى الأصل ، إمّا مع زيادة كالضّرب والضّارب ، فإنّ الضارب ذات ثبت له الضّرب .

٢٩٤
 &

ثانيهما : الخروج مطلقاً ، وهو المحكي عن جماعة من المحققين ، وعن المحقق السّيد الشريف (١) والعلامة الدواني ، واختاره بعض المحققين من المتأخرين ـ أيضاً ـ في تعليقاته على المعالم (٢) .

ثالثها : التفصيل بين أسماء الآلات وغيرها فقيل بالأوّل في الاولىٰ ، وبالثاني في الثانية ، وخير الثلاثة أوسطها ، وفاقاً لشيخنا الاستاذ وسيدنا الاستاذ دام ظلهما أيضاً .

لنا على ذلك وجوه أوّلها : التبادر ، فإنّ المتبادر من نفس الألفاظ المشتقة هي العنوانات العرضيّة الجارية على الذّوات على أنحاء الجريان ، بحسب اختلاف المشتقات ، لا ذات ما مع تلك العنوانات ، فإنّا لا نفهم من الضّارب ، والقاتل والرّاكب والكاتب مثلاً ـ إلّا ما يعبّر عنه بالفارسية بـ ( زننده وكشنده وسواره ونويسنده ) كما مرّ ، ولا ريب أنّ هذه المعاني مفاهيم عرضية تجري على الذّوات على سبيل الحمل والتوصيف ، لكونها من وجوه الذّوات الصّادقة عليها ومن مزاياها الحاكية عنها ، فإنّ لكلّ شيء عنوانات ووجوهاً صادقة عليه ، يعبر عنه بكلّ واحد من تلك الوجوه ، لاتحاده معه في الوجود ، كما يعبّر عن زيد ، تارة بكاتب واخرى بقارئ وثالثة بضاحك ، ورابعة بعالم ، وخامسة بأنه ابن فلان ، أو أبوه أو صاحبه ، أو عدوه ، وسادسة بإنسان أو حيوان أو ضاحك ، إلى غير ذلك من الوجوه الصادقة عليه من الوجوه العرضيّة ، كما هو مفاد المشتقات ، ومفاد بعض الجوامد ، كالابن والأب والزوج والزوجة وأمثالها ، أو الذّاتية كما هو مفاد الغالب منها ، كما في الحيوان والانسان والحجر والشجر والماء والتّراب ، وغير ذلك مما لا يكون الموضوع له فيها هو نفس الذّات بما هي ، بحيث لا تختلف باختلاف بعض الوجوه الصادقة عليها المتحققة لها في حال ، وتبدّلها الى وجه آخر ، بل باعتبار وجه خاص من تلك الوجوه ، بمعنىٰ أنّ الموضوع له في هذا القسم أيضاً هو نفس الوجه الخاص الصادق

___________________________

(١) شرح المطالع : ١١ انظر عبارة السيّد في الهامش فإنه قال عند قول الشارح ( والمشتق وان كان في اللفظ مفرداً إلّا أنّ معناه شيء له المشتق منه ) بما هذا لفظه : يرد عليه ان مفهوم الشيء لا يعتبر في مفهوم الناطق مثلاً . . . الى اخره .

(٢) هداية المسترشدين : ٧٦ انظر مبحث المشتق .

٢٩٥
 &

على الذّات ، لا هي معه أو بشرطه ، فيكون الحال فيها من هذه الجهة هو ما اخترنا في المشتقات من خروج نفس الذّوات عن حقيقة اللفظ ، وانّما الموضوع له اللفظ هو الوجه لا غير .

إلا أنّ الوجه المعتبر في المشتقات من الامور العرضية ، نظير بعض الجوامد ـ كما مرّ ـ وفي هذه من الامور الذّاتية ـ فإنّها هي الصّور النوعية التي يختلف الشيء باختلافها ، فيتبعه الاختلاف في صدق الاسم ، ولذا لا يصدق الكلب على المستحيل منه ملحاً ، أو تراباً ، وكذا في أمثالها .

وبالجملة ، فالحال في الجوامد ، ـ بكلا قسميها ـ إذا لم يكن من الأعلام الشخصية هو ما حققنا في المشتق ، من جهة كون الموضوع له هو الوجه .

وأما الأعلام ، فالظّاهر أنّ الغالب اعتبار عنوان خاص فيها أيضاً ، ووضع الاسم لذلك العنوان المتحد مع ذات الشخص .

نعم يمكن أن يضع أحد لفظ زيد ـ مثلاً ـ لذات ابنه الذي سيولد من غير ملاحظة عنوان شطراً أو شرطاً ، أو وضع اللفظ لنفس هذا العنوان ، فيدلّ اللفظ حينئذ على الذّات أصالة ، كما أنه دال عليها في المشتقات وأمثالها من الجوامد ممّا يكون الموضوع فيها هو نفس الوجه تبعاً ـ من باب الالتزام ـ نظراً إلى عدم إمكان انفكاك تلك الوجوه عن ذاتٍ ما ، واتحادها معها ، كما عرفت .

وكيف كان ، فلما كانت الذات معروضة لتلك الوجوه العرضية المستفادة من المشتقات ، ككونها معروضة لغير تلك الوجوه في غير المشتقات ، والارتباط التام حاصل بين العارض والمعروض ، فيحصل الانتقال إلى ذاتٍ ما ، من الانتقال إلى المفهوم العرضي ـ على سبيل الالتزام ـ كما في غيره من لوازم المعاني ، وهذا هو المنشأ لتوهم الدخول .

وتعبير بعضهم عن معنى اسم الفاعل بمن قام به المبدأ ، وعن معنى اسم المفعول بمن وقع عليه ، إنما هو لتسهيل البيان وتفهيم المعنى ، وتعريفه على الوجه الأوضح لضيق مجال البيان بالنسبة إلى نفس المعنى ، لا أنه تفسير لمعنىٰ اللفظ ، ويكفي في مقام التعريف انطبقا المعرِّف ـ بالكسر ـ على المعرَّف ، وصدقه عليه ،

٢٩٦
 &

وإن كانا متغايرين في الحقيقة ، فانّ الصّدق يحصل بمجرد اتّحاد كلا الأمرين في الوجود ، وان كانا في الواقع موجودين بوجود واحد . فلذا يجوز تعريف الضّاحك بأنه الانسان ، أو حيوان ناطق ـ مثلاً ـ ويجوز العكس أيضاً ، فيقال : الانسان هو الضّاحك .

فنقول فيما نحن فيه إنه لما كان تحقق الوجوه المذكورة مستلزماً لتحقق الذات معها ، لكونها من عوارضها ، والمفروض أنهما موجودان بوجود واحد ، فكلما صدقت هي صدقت الذّات ، فيصحّ تعريف المصداق الخارجي بكل منهما ، لكونه متحداً مع كل منهما فعلىٰ هذا ، لا يكشف تعريف شيء بأمر عن اعتبار جميع ما ينحل إليه هذا الأمر في المعرّف ، بل هو أعمّ .

هذا ، مع أنّ انحلال معنىً إلى أجزاء ـ بالدقائق الحكمية ـ لا يوجب اعتبار تركّب المعنى المذكور من تلك الأجزاء عند الوضع ، ليكون كلّ جزء جزء من الموضوع له من حيث إنه الموضوع له ، بل ربما يضع الواضع لفظاً لمعنىً لا يدري أن حقيقته ماذا ، وإنما يلاحظ هذا المعنى بوجه من وجوهه ، ككونه معنىٰ اللفظ الفلاني في اللغة الفلانية ، كأن يضع لفظ الذئب ـ مثلاً ـ لما يعبّر عنه بالفارسية بـ ( گرگ ) مع ملاحظته بهذا الوجه ، أي ما يعبّر عنه بـ ( گرگ ) بل الغالب في الأوضاع البشرية ذلك ، فإنّهم كثيراً ما يضعون لفظاً لمعنىً لا يعرفون حقيقته ، وإنما يعرفها الحكيم ، والعرف أيضاً لا يفهمون تلك المعاني ، إلّا على وجه لاحظه الواضع .

وكيف كان ، فالمدار في بساطة معنىٰ اللفظ وتركبه على ملاحظة الواضع ، لا على انحلال المعنى ـ في نظر العقل ـ فلذا لم يقل أحد بكون دلالة الإنسان على الحيوان أو على الناطق تضمّناً ، مع أن معناه ـ في نظر العقل ـ ينحل إليهما .

وعلى فرض تسليم أنّ المدار ـ فيما ذكر ـ على التّركب والبساطة ـ في نظر العقل (١) ـ مع أنه لم يقل به أحد ، فلا يرد علينا في المقام شيء ، لما قد عرفت من خروج الذّات عن حقيقة معاني تلك الألفاظ ، وانما هي معروضة لها لا تنفك عنها .

___________________________

(١) في نسخة الاصل ذكر بدل العقل النقل ولكن الظاهر انه سهو .

٢٩٧
 &

الثاني : أن الذات لو دخلت في مفهوم المشتقات ، فالدّال عليها إمّا المادة أو الهيئة أو هما معاً والكلّ باطل .

أما الأول ، فلأنّ المادة لو دلّت عليها بالوضع ، للزم أن تكون داخلة في مفهوم المصادر أيضاً ، لأنّ معاني المواد ـ في ضمن المشتقات ـ عين معاني المصادر بالاتّفاق ، كيف ؟ وقد ذهب جماعة إلى أن المواد ـ في ضمنها ـ غير موضوعة بوضع على حدة ، بل وضعها وضع المصادر ، ولا يعقل معه المغايرة في المفهوم باعتبار اختلاف الهيئة ، واللازم باطل بالاتّفاق على عدم دخول الذات في مفهوم المصادر ، وبأنّها لو دلّت عليها لدلّت على النسبة أيضاً ، فلم يبق فرق بينها وبين المشتقات .

وأما الثاني : فللاتفاق على أنّ الهيئة في المشتقات لا تفيد أزيد من الرّبط بين الحدث والذات ، مضافاً إلى قضاء التتبّع في سائر الهيئات الموضوعة بعدم وضع هيئة بإزاء معنى مستقل ، وقد صرّحوا بأن معاني الهيئات معان حرفية ، فتأمل (١) .

أما الثالث : فلأنّ مدلول المشتقّات موزّع على الهيئة والمادة فمدلول المادة هو الحدث ، ومدلول الهيئة الرّبط والنسبة ، والتفكيك بهذا النحو ثابت بضرورة اللّغة ، سواء قلنا : بأنّ وضع المواد في ضمن المشتقات وضع المصادر ، أو أنّها موضوعة بوضع آخر .

الثالث : انّ مفهوم المشتق على هذا التقدير إمّا الذّات المبهمة من حيث اتّصافها بالمبدأ ، بأن يكون التقيّد بالاتّصاف داخلاً والقيد خارجاً ، أو مجموع ذات مّا والمبدأ والنسبة ، فيكون مركّباً من الامور الثلاثة ، وكلاهما باطل .

أما الاول : فلاستلزام خروج المبدأ عن مفهوم المشتق ، وهو باطل بالضّرورة والاتّفاق .

وأما الثاني : فلأنّ قضيّته في مقام الحمل في نحو قولك : زيد ضارب ، أن يلاحظ إطلاق كل من الأجزاء الثلاثة على أمر من الامور الخارجيّة ، فيطلق ذاتاً مّا في المثال على خصوص زيد والمبدأ الكلي على المبدأ الخاص اللاحق به ، والنسبة

___________________________

(١) سيجيء وجه التأمّل . لمحرّره قدس سره .

٢٩٨
 &

الكلية على الرّبط الحاصل بين المبدأ والذّات ، لأنّ قضية الحمل اتّحاد المحمول مع الموضوع في الوجود الخارجي ، ومن البيّن أنّ هذا المفهوم المركّب غير متّحد مع ذات زيد الّتي هي موضوع القضيّة ، بل كل جزء منه متّحد مع شيء في الخارج على حسب ما ذكر .

لا يقال : إنّ هذا لازم على القول بعدم الدّخول مطلقاً أيضاً بالنّسبة إلى المبدأ والرّبط ، فإنّ المفهوم حينئذ أمر بسيط منتزع من الأمر الخارجي بملاحظة اتّصافه بالمبدأ ، واتّحاده مع الموضوع بالاعتبار ، لعدم وجود متأصِّل لهذا المعنى العرضي ـ في الخارج ـ على حسب الذّاتيات ، حتى يعتبر اتّحاده على سبيل الحقيقة .

ولا يندفع بذلك ما يلزم من المحذور على فرض تركيب المفهوم ، لأنه لازم للاطلاق الدّال على الاتّحاد في الجملة ، ومع فرض بساطة المفهوم لا يكون إلا باعتبار واحد ، بخلاف صورة التركيب ، فإنّ الاطلاق حينئذ بالاعتبارات الثلاثة (١) .

الرابع : ما استفدناه من المحقق السيّد الشريف ـ في حاشيته على شرح المطالع ـ على قول الشارح في شرح كلام المصنف في تعريف النّظر ، بأنّه ترتيب اُمور حاصلة في الذهن يتوصّل بها إلى تحصيل غير الحاصل .

قال الشارح : وإنّما قال : اُمور ؛ لأنّ التّرتيب لا يتصور في أمر واحد ، والمراد بها ما فوق الواحد ، ثم قال : والاشكال الذي استصعبه قوم بأنّه لا يتناول التعريف بالفصل وحده ، ولا بالخاصة وحدها ، مع أنّه يصحّ التعريف بأحدهما على رأي المتأخرين ، حتى غيّروا التعريف إلى تحصيل أمر ، أو ترتيب اُمور ، فليس من تلك الصّعوبة في شيء .

أمّا أوّلاً : فلأنّ التعريف بالمفردات إنما يكون بالمشتقات ، كالنّاطق

___________________________

(١) وحاصل الفرق بين القولين أن النسبة بين المحمول والموضوع في قولك ( زيد ضارب ) هي النسبة بين الكلّ والجزء على القول بدخول الذات في مفهوم المشتق ، فلا يصحّ الحمل ، لأن قضيّته اتحاد المحمول مع الموضوع ، والكل والجزء ليسا كذلك ، بل جزء منه متّحد مع الموضوع ومِن نسبة الكلّي إلى الجزئي على ما اخترنا ، لبساطة المعنى حينئذٍ وصدقه على زيد الذي هو الموضوع ، فيصّح الحمل لاتّحاد الموضوع والمحمول في الوجود حينئذ ، لمحرّره عفا الله عنه .

٢٩٩
 &

والضّاحك والمشتق ، وإن كان في اللفظ مفرداً ، إلّا أن معناه شيء له المشتق منه ، فيكون من حيث المعنى مركباً (١) .

فأورد السيّد على هذا الجواب ، بأنّ مفهوم الشيء لا يعتبر في مفهوم النّاطق مثلاً ، وإلّا لكان العرض العام داخلاً في الفصل ، ولو اعتبر في المشتق ما صدق عليه الشيء انقلب مادة الامكان الخاص ضرورية ، فإنّ الشيء الذي له الضّحك هو الانسان ، وثبوت الشيء لنفسه ضروري ، انتهى (٢) .

وحاصل الوجه المستفاد ـ من كلام السّيد ـ أنّه لو اعتبر الشّيء أو الذّات في مفهوم المشتق ، فهو إمّا مفهوم أحدهما أو مصداقه الخارجي ، وكلاهما باطل .

أما الأول : فلأنّ من المشتقات الناطق ، ولازمه أخذ مفهوم أحد الأمرين في مفهوم النّاطق ، ولا ريب أنّ مفهوم الشّيء ، أو الذات من الاعراض العامة ، فيلزم دخول العَرض العام في الفصل ، وهو النّاطق ، للاتفاق على كونه فصلاً للانسان ، واللازم باطل بالاتّفاق ، وبديهة العقل ؛ إذ فصل كلّ شيء هو المقوِّم لذلك الشيء ، ويستحيل كون الأمر العرضي مقوماً لمحلّه .

وما يقال : من أنّ المراد بالنّاطق ـ الذي يعدّ ذاتياً ـ هو النّطق ، ليس بشيء ؛ فإنّ الذّاتي يحمل على ما تحته من غير تأويل ، ولا يصحّ حمل النّطق كذلك .

وربما قيل : بأنّ المصطلح عند أهل الميزان في نحو النّاطق ما تجرد عن الذّات ، وهذا هو الذي حكموا بكونه ذاتياً لما تحته .

وفيه ما لا يخفى ، ضرورة بقاء النّاطق على المعنى الأصلي في ألسنتهم ، وعدم ثبوت اصطلاح جديد منهم فيه بوجه ، وإنّما يقولون بكونه فصلاً بمعناه اللغوي .

وأمّا الثاني : فلأنّه مستلزمٌ لانقلاب كلّ قضية ممكنة بالإمكان الخاصّ إلى الضّرورة ، كما في قولك : ( زيد ضارب أو كاتب أو ضاحك ) ، فان الشّيء أو الذّات الذي له الضحك ـ على هذا ـ عين زيد ونفسه ، وثبوت الشّيء لنفسه ضروريّ ، واللازم باطل بالاتّفاقِ على أنّ ثبوت تلك المحمولات لتلك الموضوعات

___________________________

(١ و ٢) شرح المطالع : ١١ ، انظر المتن والهامش .

٣٠٠