تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ١

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ١

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

ومنها : الدوران بين التخصيص الابتدائي وبين المجاز ، في لفظين في خطاب واحد ، كما إذا ورد ( أكرم العلماء ) ، ثمّ قام الدليل القطعيّ من الخارج على عدم وجوب إكرام طائفة منهم ، فحينئذٍ يدور الأمر بين التجوّز في هيئة أكرم بحمله على الاستحباب مثلاً ، وبين التخصيص في العلماء بإخراج الطائفة المذكورين منه ، وإبقاء الهيئة على ظاهرها .

والأقوى في هذه الصورة أيضاً تقديم التخصيص للغلبة ، ولقاعدة التسبّب ، إذ الشك في التخصيص مسبّب عن الشك في المجاز في اللفظ الآخر ، فإذا جرى أصالة الحقيقة في السبب ، وهو اللفظ الآخر ، يتعيّن التخصيص ، فإنّ الأصل المذكور ـ حينئذ ـ مزيل لأصالة عدم التخصيص لكونه سبباً ، فتأمل .

مضافاً إلىٰ ما عرفت من كون العموم مع سائر الظواهر كالأصل والدليل .

ومنها : الدّوران بين التخصيص الابتدائي والمجاز في لفظين في خطابين ، وهذا هو مسألة بناء العام على الخاصّ ، في العامّ والخاصّ المتنافيي الظاهر ، كما إذا ورد جواز إكرام العلماء ، ثمّ ورد لا تكرم النحويين ، فدار الأمر بين التخصيص في العلماء ، وبين المجاز في لا تكرم بحمله على الكراهة ، وهذه الصّورة أظهر صور تعارض التخصيص والمجاز ، في رجحان التخصيص على المجاز .

ويرجّح التخصيص على المجاز ـ مضافاً إلى ما سبق في الصور السابقة من الغلبة عند العرف والعقلاء ، وقاعدة السبب ، مع تأمل في الثاني منهما هنا أيضاً ـ أنَّ الخاصّ حاكم على العام ، فإنّ العمل بعموم غلبة استعمال العام في الخاص ، وندرة استعماله في العموم معلّق على ورود المخصص . فإذا ورد المخصص ، فإن كان قطعيّاً من جميع الجهات ، فهو وارد على العام ، وإن كان ظنّياً في الجملة ، إمّا من جهة الصدور ، وإمّا من جهة الدلالة ، كما فيما نحن فيه ، فهو حاكم على العامّ بمعنى أنّه رافع لحكمه ، وهو وجوب العمل به عن مورده .

وكيف كان ، فهذه الصورة حكمها الظاهر أنّه اتفاقي ـ أعني ترجيح التخصيص ـ .

فإذا عرفت الحال في الدوران بين التخصيص الابتدائي وبين المجاز ، فقس عليها الحال في الدوران بين التخصيص الثانوي ، وبين المجاز في جميع الصور المذكورة .

وقد يناقش في الاستدلال بالغلبة المذكورة هنا بأنّ غاية ما يقتضي رجحان

٢٠١
 &

التخصيص على المجاز في العمومات التي لم تخصص بعد ، وأمّا فيما خصّصت ودار الأمر بين تخصيصها زائداً على ما علم وبين المجاز فلا .

ويمكن الذّب عنه بأنه إذا ثبت ترجيح التخصيص في العام الذي لم يخصّص ، ففي غيره بالأولى لوهن العموم بعد تطرّق التخصيص إليه ، حتى أنّه قيل بخروجه بذلك عن الحجية في الباقي .

وفيه نظر : فإنّ مرجع ذلك إلى التمسّك بالأولوية ، لا بالغلبة وتسليم عدم جريانها هنا ، فالأولى التمسك في المقام بغيرها ، من قاعدة التسبيب فيما يجري فيها من الصّور ، ومن قاعدة الحكومة مع إمكان التمسك بالأولوية أيضاً .

المسألة التاسعة : الدوران بين التخصيص والإضمار ، قيل المعروف تساوي احتماليهما ، والمحكي عن ظاهر كلام الأكثر بناء ترجيح التخصيص على الإضمار على مساواة الإضمار مع المجاز ، فعليه يقدّم على الإضمار ، لما عرفت من رجحانه على المجاز ، والراجح على شيء راجح على ما يساوي ذلك الشيء ، وإلّا ، فمع ترجيح الإضمار على المجاز ـ كما عن المنية (١) ـ فهما متساويان لا رجحان لأحدهما على الآخر ، مثاله : قوله صلى الله عليه وآله ( لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل ) فإنّ الإجماع قائم على عدم وجوب العزم من الليل في صوم التطوع ، فحينئذ لا بدّ ، إمّا من تخصيص الصيام بالواجب وإمّا مِنْ إضمار الكمال ، حتى يصلح لشموله للتطوّع أيضاً ، فإنّ التطوّع إذا لم يعزم به من الليل لا يكون كاملاً .

وتظهر الثمرة في الصيام الواجب ، حيث أنّه على تخصيص الصيام به النفي على حقيقته ، فالصوم الواجب الّذي لم ينو من الليل ليس بصوم ٍ شرعاً ، بمعنى أنّه ليس بصحيح ، وعلى إضمار الكمال ، فالحديث ساكت عن حكم الصّوم الّذي لم ينو من الليل ، من حيث الصحة والفساد ، إذ غاية ما يدلّ عليه الحديث حينئذٍ ، إنّما هو نفي الكمال ، وهو لا يدلّ على صحّته ، أو على فساده ، فإنّه أعم منهما ، يجوز اجتماعه مع كل

___________________________

(١) منية اللبيب المخطوط ، في تعارض الأحوال : وسابعها : معارضة التخصيص للاضمار كقوله ( ع ) « لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل » فيقول الخصم : إنه يتناول بعمومه الفرض والنفل وخصّ النفل بجواز عقد نيته إلى الزوال ، فيبقى حجّة في الفرض ، فيقول الآخر : بل يجوز التاخير في الفرض أيضاً إلى الزوال ، لأن في الخبر إضماراً ، وتقديره لا صيام كاملاً أو فاضلاً ، فالأوّل أولى بدليل إنّ التخصيص أولى من المجاز المساوي للإضمار . والأولى من المساوي لشيء يكون أولى من ذلك الشيء .

٢٠٢
 &

واحد منهما ، فلا يجوز الاستدلال به حينئذٍ ، لا على صحّته ، ولا على فساده ، بخلاف الأوّل ، إذ عليه يكون دليلاً على فساده .

هذا ، وفي التمسك به لما نحن فيه نظر ، لأنّ الشك في التخصيص مسبب عن الشك في الإضمار ، فبأصالة عدم الإضمار يتعين التخصيص ، فيخرج عن محل الكلام ، لما عرفت في أوّل عنوان تعارض الأحوال أنّ النزاع فيما لم يكن بين حالين من الأحوال المخالفة للأصل تسبيب .

ومن هنا يظهر ورود هذا الإشكال في بعض الصور المتقدمة التي عرفت قاعدة التسبيب فيها .

لكن الإنصاف منع التسبيب هنا ، بل الشك فيهما مسبب عن ثالث ، وهو مراد المتكلم مع أنّه يرد عليه عكس التسبب ، إذ كما يقال : إنّ الشك في التخصيص مسبب عن الشك في الإضمار ، كذلك يمكن أن يقال : بالعكس وليس الأصل أولى من العكس ، فتدبّر .

وكيف كان ، فالظاهر رجحان التخصيص على الإضمار من غير توقّف على رجحان المجاز عليه للغلبة ، ولحكومة أصالة عدم الإضمار على أصالة العموم .

لكن قد يستشكل في ترجيحه على الإضمار في الحديث المذكور ، نظراً إلى أنّه مع الاضمار إنّما ارتكب خلاف أصل واحد ، ومع التخصيص ، لا بدّ من التزام أمرين مخالفين للأصل لا محالة ، أحدهما نفس التخصيص : والثاني أحد الامور الثلاثة ـ على سبيل منع الخلو ـ : نقل الصيام إلى الصحيح شرعاً ، أو استعماله فيه مجازاً ، أو إضمار الصحة ، وذلك لعدم حمله على معناه لغة ، وهو مطلق الإمساك ، إذ عليه لا يقبل التخصيص ، للزوم الكذب ، للقطع بعدم انتفاء مطلق الإمساك في الصيام الواجب الغير المنويّ من الليل ، فلا بدّ من إرجاع النفي إلى الصحة ، إمّا باضمارها في الكلام ، وإمّا باستعمال الصيام في الصحيح مجازاً ، وإمّا باستعماله فيه من جهة كونه حقيقة شرعيّة ، فيكون هذا إشكالاً آخر على التمثيل بذلك الحديث ، وكيف كان ، فالقاعدة تقتضي رجحان الإضمار في الحديث .

ويمكن التفصّى عنه ، بأنّه لو لم يكن غلبة للتخصيص ، لكان الأمر كما ذكر ، إلّا أنّها لمّا كانت موجودة ، فتكون مرجّحة للتخصيص ، ولا يعارضها أصالة أحد الامور الثلاثة المتقدّمة ، لأنّها واردة عليها حيث إنّها أمارة ، وتلك من الاصول ، فتأمل .

٢٠٣
 &

ثم إنّه ظهر من تقرير الإشكال ، أنّ التمثيل بالحديث على مذهب الصحيحي في أسماء العبادات سالم عن هذا الإشكال ، إذ بعد البناء على ثبوت الحقيقة الشرعية في الصيام مثلاً ، فلا يجري أصالة عدم نقله ، لثبوته بالدليل فينحصر الدوران فيما بين التخصيص والإضمار .

المسألة العاشرة : الدوران بين المجاز والإضمار ، مثاله قوله تعالى : ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) لدوران الأمر فيه بين إرادة الأهل من القرية مجازاً ، وبين إضمار الأهل ، لعدم قابليّة القرية من حيث هي للسؤال .

وقد يناقش بأنّ لفظ القرية قيل إنّه نقل إلى الأهل ، كما قيل إنّ لفظ جماعة نقل إلى بيوتهم ، كما يقال أحرق الجماعة أي بيوتهم ، فعلى هذا يخرج عن كونه مثالاً لما نحن فيه ، بل يدور الأمر فيها أي القرية بين النقل والإضمار .

وفيه : منع احتمال نقل القرية ، بل هي باقية على معناها الأصلي .

نعم لا ثمرة في جعل مناط التمثيل لفظ القرية ، للقطع بعدم ثبوت الحكم لنفس القرية ، بل لسكّانها .

والأولى جعل مورد التمسك لفظ السؤال ، ويقال : إنّ الأمر دائر بين إضمار أهل ، وبقاء السؤال على حقيقته ، وبين التجوّز في السؤال ، بارادة السؤال الصوري منه ، وعدم الإضمار ، فتظهر الثمرة بينهما حينئذٍ ، إذ على الإضمار يكون المكلّف به السؤال الحقيقي ، فلا بدّ من سؤال أهل القرية ، وعلى المجاز يكون السؤال الصوري ، ويحصل الامتثال بمجرّد السؤال الصوري ، ومعنى السؤال الصوري أن يجعل ما لا يصلح للسؤال منزلة من يصلح له ، فيسأل منه ما يسأل ممّن يصلح له ، وهذا شائع في العرف .

وكيف كان ، فلا يخفى أنّ كلّاً من المجاز والإضمار خلاف الأصل ، ولا رجحان لأحدهما على الآخر ، فيتساويان ، فيجب التوقف ، لكن في كون الإضمار مخالفاً للأصل مطلقاً تأمّل ، إذ لو قام دليل على المحذوف ، فلا حاجة إلى ذكره ، فلا يكون تركه مخالفاً للظاهر ، بل قد يعدّ ذكره لغواً حينئذ بخلاف المجاز ، لخروجه عن مقتضى الظاهر على كل حال .

نعم لو قيل بثبوت الوضع النوعي في المركّبات ، وجعلت الهيئة الموضوعة هي ما كانت طارئة على الكلمات التي يراد بيان معانيها الافرادية ، للتوصّل إلى المعنى المركب بعد ملاحظة وضع الهيئة ، من دون إسقاط شيء منها ، كان في الحذف خروج عن ظاهر

٢٠٤
 &

الوضع ، إلّا أنّه أجاز الواضع ذلك مع قيام القرينة ، فتأمّل .

هذه حال الدورانات العشرة المعروفة ، وقد عرفت أنّ النسخ والتقييد ـ أيضاً ـ من الأحوال التي يحصل من ملاحظتها إحدى عشرة صورة اخرى ، خمسٌ منها تحصل من ملاحظة النسخ مع ملاحظة كلّ من الامور الخمسة المذكورة ، وخمس اخرى من ملاحظة التقييد معها ، والحادية عشرة من دوران الأمر بينهما .

الاولى : الدوران بين الاشتراك والنسخ ، وحكى تصريح المنية (١) بمرجوحية النسخ بالنسبة إلى الجميع ، ولعلّه لندرته بالنسبة إلى كلّ منها ، واستدل الفخر الرازي (٢) ، على ما حكي عنه على ترجيح الاشتراك ، بأن النسخ لا يثبت بخبر الواحد والقياس بخلاف التخصيص .

وردّه العلامة ( قدّس سرّه ) واعترض عليه : بأنّ هذا دليل على رجحان التخصيص عليه ، لا رجحان الاشتراك (٣) .

ويمكن توجيه كلامه بأنّه مسوق لدفع توهّم المساواة بين التخصيص والنسخ ، باعتبار كون النسخ ـ أيضاً ـ تخصيصاً ، ولو بحسب الأزمان ، لا أنّ مراده الاستدلال به على ترجيح الاشتراك ، بل كان الترجيح عنده مسلّماً ، وإنّما ينبّه بهذا الكلام إلى دفع التوهم المذكور .

ويمكن أن يوجّه كونه دليلاً على مدّعاه ، لكن بانضمام مقدمة اخرى ، وهي مساواة الاشتراك للتخصيص بأن يكون إحدى المقدمتين مصرّحة ، والاخرى مطويّة ، فعلى ملاحظة تلك المقدمة يتم المطلوب ، لأنّه إذا رجّح التخصيص على النسخ ، فيلزمه

___________________________

(١) منية اللبيب مخطوط في تعارض الأحوال واليك نصّه : واعلم أنّ المراد بالتخصيص في هذه المعارضات إنما هو التخصيص في الاشخاص ، أمّا التخصيص في الأزمان ـ وهو النسخ ـ فهو مرجوح ، وكلّ من الاحتمالات الخمسة أولى منه عند معارضته إيّاه . واحتجّ فخر الدّين على أنّ الاشتراك أولى من النسخ ، بأنّ النسخ يحتاج فيه ما لا يحتاج في تخصيص العام بدليل جواز تخصيص العام بخبر الواحد والقياس ، وعدم جواز النسخ بهما ، والعلّة في ذلك أنّ الخطاب بعد النسخ يصير كالباطل ، وبعد التخصيص لا يصير كالباطل ، واعترضه المصنّف طاب ثراه بأن ذلك إنما يدلّ على كون التخصيص أولى من النسخ وليس فيه دلالة على كون الاشتراك أولىٰ من النسخ الذي هو المطلوب .

(٢) نهاية الوصول : ٣٦ مخطوط ، في مبحث تعارض الاحوال واليك نصّه :

وفيه نظر ، فان هذا يقتضي ترجيح التخصيص على النسخ وأنّ التخصيص أولى من الاشتراك والنسخ ، وهذا لا يقتضي رجحان الاشتراك على النسخ ، ولا العكس ، بل الوجه توقف الاشتراك على الوضع ، و توقف النسخ عليه وعلى رفعه الحكم .

٢٠٥
 &

رجحان الاشتراك عليه أيضاً بمقتضى وجه المساواة ، لكن قد عرفت منع المساواة بينهما ، وترجيح التخصيص على الاشتراك .

وكيف كان ، فمثال ما نحن فيه ما لو قال النبي ( صلّى الله عليه وآله ) : صلّوا في الوقت الفلاني ، ثمّ قال بعد ذلك ، طوّفوا في ذلك الوقت ، إذا احتمل كون الطواف مشتركاً بين معناه المعروف ، وبين المعنى الآخر ، كالصلاة مثلاً ، فلو بنى على الاشتراك لم يلزم نسخ ، لإمكان حمله على الصلاة المأمور بها في الخطاب الأول ، وإلا تعيّن النسخ مع وجود شرائطه ، كحضور وقت العمل ، لمنافاة الأمر به في الوقت الخاص ، لبقاء الأمر بالصلاة في ذلك الوقت ، فيجب نسخ وجوب الصلاة في ذلك الوقت .

ومثاله أيضاً ما إذا قال المولى ( اجعل ثوبي جوناً ) وعلمنا بوضع الجون للأحمر ، ثمّ قال بعد ذلك ، إجعله أسود ، فشكّ حينئذ في وضع الجون للاسود أيضاً ، حتى يكون مشتركاً بين المعنيين ، فيكون قوله الثاني قرينة معينة لإرادة ذلك من أوّل الأمر ، أو أنّه نسخ الحكم الأوّل بذلك من غير أن يكون هناك اشتراك بين المعنيين ، وليفرض هناك انتفاء العلاقة المصحّحة للتجوز ، لئلا يقوم احتمال المجاز أيضاً .

والأولى تقرير المثال الأوّل ـ أيضاً ـ هكذا ، بأن يقال : إنّه صلى الله عليه وآله قال أوّلاً : صلّوا في الوقت الفلاني ، وعلمنا بوضع الصلاة للأركان المخصوصة ، ثمّ قال : طوّفوا في ذلك الوقت ، فشكّ ، في أنّ الصلاة مشتركة بين الأركان المخصوصة وبين الطواف ، وأريد منها الطواف من أوّل الأمر ، ويكون الأمر بالطواف قرينة معيّنة على إرادة الطواف منها ، أو أنّ وضعها مختصّ بالأركان المخصوصة ، فأريد منها تلك الأركان ، فيكون الأمر بالطواف نسخاً له ، وليفرض ـ هنا ـ عدم العلاقة بين الصلاة والطواف ، أو فرض القطع بعدم استعمالها في الطواف مجازاً ، بحيث دار الأمر فيها بين الاشتراك والنسخ .

ثمّ إنّه بقي ست صور اخرى من صور الدورانات الإحدى عشرة خمس منها بملاحظة دوران الأمر بين التقييد وغيره ، غير النسخ ، وواحدة بملاحظة دوران الأمر بينه وبين النسخ .

ومجمل الكلام في الخمس وتحقيقه ، أنّ التقييد أرجح من غيره ، من الامور الخمسة المخالفة للأصل ، لأن التخصيص أرجح من بين الأمور الخمسة ، والتقييد أرجح من التخصيص ، أمّا رجحان التخصيص على غيره فقد مرّ .

٢٠٦
 &

وأما رجحان التقييد على التخصيص ، فلأنّه إذا دار الأمر بينهما ، فهو إمّا أن يكون في خطابين أو في لفظين في خطاب ، وإمّا أن يكون في لفظ واحد ، مثاله في خطابين أن يقول ( أكرم العلماء ) ثمّ قال : ( إن ضربك رجل فلا تكرمه ) فدار الأمر بين تخصيص العام في الأوّل بغير الضارب بحمله على العلماء الغير الضاربين ، وبين تقييد الرجل في الثاني بغير العالم .

ومثاله في لفظين في خطاب ، أن يقول ( أعط كل واحد من العلماء عبداً ) ، وعلمنا من الخارج أنّه لا يجوز إعطاء عبد حبشي زيداً العالم ، فدار الأمر بين تقييد العبد بغير الحبشي وإدخال زيد في العموم وبين إطلاقه وإخراج زيد من العموم .

ومثاله في لفظ واحد قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) فإنه بعد قيام الإجماع والنص على عدم وجوب الوفاء بالبيع قبل التفرق من مجلسه ، يدور الأمر بين تخصيص العام بغير البيع ، وبين تقييد الحكم بما بعد التفرّق من مجلس العقد بالنسبة إلى كل عقد ، هكذا مثّلوا لذلك .

ولكن الإنصاف ، أنّه ليس من مثال ما نحن فيه في شيء ، أمّا أوّلاً فلأنه ليس الدوران فيه في لفظ ، بل في لفظين ، أحدهما : صيغة الأمر ، وهو ( أَوْفُوا ) وثانيهما : اللفظ العام وهو ( الْعُقُودِ ) .

اللّهم إلا أن يقال : إنه لا معنى لتقييد الأمر ، بل تقييد كل حكم باعتبار تقييد متعلقه ، وهو تابع له ، فيرجع التقييد فيه إلى تقييد متعلقه ، وهو في المثال مادة العقد ، فيدور الأمر بين تقييد مادة العقد بغير البيع ، وابقاء الهيئة المفيدة للعموم على عمومها ، وبين تخصيصها بغير البيع ، فافهم .

وأمّا ثانياً : فلأنّه ليس الدوران هنا بين التقييد والتخصيص ، فإنّ الذي يقتضيه العام ، إنما هو شموله لكل فرد من أفراد العقد حتى البيع ، وثبوت الحكم لكل فرد في الجملة ، وأما إنّ الحكم ثابت لكل فرد في جميع الأحوال ، فليس من مفاد العام ، بل هو مقتضى إطلاق الأمر ، وهو أوفوا ، وقيام الدليل الخارجي على عدم ثبوته في فرد من أفراد العام ، كالبيع في بعض حالاته إنما يوجب تقييد الامر بالنسبة إلى المادة المذكورة ، ولا دخل له بتخصيص العام ، لأنه لم يقتض ثبوت الحكم للبيع في خصوص المادة المذكورة حتى ينافيه الدليل الخارجي ، فأين الدوران بين التقييد والتخصيص

٢٠٧
 &

هذا ، وكيف كان ، فلا شبهة في رجحان التقييد على التخصيص في الصورتين الاُوليين ـ اعني صورة الدوران بينهما في خطابين أو في لفظين في خطاب ـ أما أولاً ، فلغلبة التقييد على التخصيص ، وأما ثانياً ، فلأن إطلاق المطلق على المختار إنما هو مقتضى الحكمة ، وعدم العثور ببيان بعض الأفراد ، وعموم العام بمقتضى الوضع ، فاذا كان العموم منهيّاً إلى الوضع ، فيكون بياناً لجميع الأفراد ، فحينئذ لا مورد ، ولا موضوع للاطلاق ، فالعموم وارد على الاطلاق ، فيجب التزام التقييد .

وهذا هو السر في تجويزهم التقييد حتى يبقى (١) فرد واحد ويؤيد ذلك كونه حقيقة في بعض الأفراد ، كما هو المختار ، وكونه موضوعاً للطبيعة المهملة دون التخصيص ، ومنعوا عن تخصيص الأكثر ، فيجب ـ على المثال الأول ـ تقييد الرجل بغير العالم ، وفي المثال الثاني تقييد العبد بغير الحبشي .

والحاصل : أنّ العام بالنسبة إلى المطلق من قبيل الدليل ، والأصل العملي ، كما أن إطلاق المطلق دليل في مقابل الاصول العملية ، نظراً إلى كون المقام مقام البيان ، فعدم التقييد دليل على عدمه .

وأما في الصورة الأخيرة ـ اعني فيما إذا كان الدوران في لفظ فالظاهر رجحان التخصيص ـ إذ بعد قيام الدليل على خروج بعض الأفراد من تحت العام بالنسبة إلى بعض الأحيان ، لا بد من الحكم بخروجه مطلقاً إذ المفروض عدم اعتبار الأزمنة قيداً للفرد بحيث يكون ذلك الفرد المخرج بالنسبة إلى هذا الجزء من الزمان فرداً من العام ، وبالنسبة إلى الزمان الآخر فرداً آخر ، بل الزمان مأخوذ بنحو الظرفية ، فالزمان ـ حينئذ ـ وإن طال ، فهو بطوله اعتبر أمراً واحداً ، ولم يلاحظ كونه مشخصاً للفرد بوجه بل اعتبر من باب اللابدية ، حيث إن الفعل لا بد له من زمان .

وكيف كان ، فالزمان غير منظور إليه بوجه في الفردية ، فلازم ذلك خروج الفرد المخرج عن تحت العام مطلقاً .

نعم لو ثبت اعتبار الزمان في الفردية يكون الفردية بالنسبة إلى كل زمان فرداً مغايراً له بالنسبة إلى الزمان الآخر ، إما بأن يكون اللفظ عامّاً بالوضع بالنسبة إلى الأزمان ، وأما بسبب القرينة ، فلا ريب أن خروج الفرد بالنسبة إلى بعض الأزمنة لا يستلزم خروجه بالنسبة إلى البعض الآخر ، فيحكم بدخوله في العام الافرادي بالنسبة

___________________________

(١) في الاصل ( حتّى بفرد واحد ) ولا محصّل له .

٢٠٨
 &

إلى الأزمان الاُخرى ، لكنه خارج عن عنوان المطلق ، بل هو أيضاً عام كالعام الافرادي ، وقيام الدليل الخارجي على رفع الحكم عن بعض الأزمنة تخصيص لا تقييد فيكون الأمر دائراً بين التخصيصين أفرادي وأزماني والثاني أولى .

ثم إن الدليل على كون المطلقات من قبيل الأول ـ أعني مما لم يعتره الزمان ، إلا بعنوان الظرفية ـ الاجماع على استصحاب عدم النسخ في المطلقات فلو كان الزمان بعنوان الفردية ، ويكون كل فرد منه فرداً وموضوعاً آخر لم يجر استصحاب عدم النسخ ، لكونه إسراء لحكم من موضوع إلى آخر .

ثم إنا قد أشرنا سابقاً إلى الاشكال في كون ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) من مثال الوجه الثالث .

ولكن يمكن دفعه بأنه لا شبهة في أنّه بعد قيام الاجماع والنص على عدم وجوب الوفاء بالبيع قبل التفرق ، يدور الأمر بين حمل القضية على السالبة بانتفاء الموضوع ، بإخراج البيع رأساً عن العقود ، أو حملها على السالبة بانتفاء المحمول ، بأن يحكم بنفي الحكم ، وهو وجوب الوفاء عن صورة الاجتماع أعني قبل التفرق ، بالنسبة إلى كل عقد ، والثاني ليس إلا التقييد .

فمن هنا ظهر ما ذكره بعض المحققين ، من أنّ الدوران ليس بين التقييد والتخصيص ، والمحكي عن السيّد الصّدر ـ الشارح للوافية (١) المنع ، ونسبه إلى الماتن على ما فهم منه ، حيث قال : إنّ تلك المزايا لا توجب رجحان أحد المعاني على الآخر في الاعتقاد ، والذي يوجبه إنما هي غلبة الإرادة ، ولا ملازمة بينها وبين المزايا المذكورة ، ولو سلمت الملازمة المذكورة ، فهي باطلاقها ممنوعة ، بل المسلم منها إنما هو بالنسبة إلى أقلّ قليل من العرب ، ولم يعلم كون الشارع منهم ، ولو سلم كونه منهم ، فلا دليل على اعتبار هذا الظن الحاصل من تلك الغلبة . انتهى كلامه ( قدس سره ) .

وفيه : أنّه إن أريد بالمزايا التي ذكرها القوم من المزايا الآتية ، فعدم إيجابها لرجحان معنى في الاعتقاد ـ فيما يختلف المعنى باختلاف الأحوال ـ مسلم ،

___________________________

(١) شرح وافية الاصول للسيّد صدر الدّين مخطوط ، ولا يخفى أن هذا المحكي ليس بنصّ كلامه ، بل هو نقل بالمعنى ، ونصّ العبارة آت عن قريب في متن كلام المقرّر : ٢٤١ عند قوله : وقال الشارح بعد شرح ما ذكر في المتن .

٢٠٩
 &

حيث إن غرض المتكلم اوّلاً وبالذات إفادة مطلبه ، فلا يرفع عنه باتيان شىء يعدّ أحسن من شيء آخر عند المحاورة ؛ وأمّا فيما لم يختلف المعنى باختلافها فممنوع ، إذ لا ريب أنّه لا يختل مراده على الوجهين ، فيدور الأمر بين إيراد مراده بأحسن الوجهين وأرجحهما ، أو بمرجوحهما ، ولا ريب أنّ الأرجحية حينئذ بنفسها مقتضية للعدم من ذاتها ، إذا كان عاقلاً غير عابث .

وإن أريد ما اخترناه من المزايا الآتية من الغلبة ، والاصول ، فعدم ايجابها لما ذكر ممنوع ، كما اعترف به ، بل هي موجِبة لرجحان ذاتها إلى الاعتقاد مطلقاً .

وأمّا منعه الكبرى فالجواب عنه ما سيجىء من الأدلة الدالة عليها .

وكيف كان ، فلنا على الكبرى المذكورة وجوه أربعة ، منها ما ذكره القمي قدس سره في القوانين (١) :

أحدها : الاجماع العملي من العلماء .

الثاني : دليل الانسداد .

الثالث : الاستقراء في حال الشارع ، وتتبعه حيث إنه علم ـ بالاستقراء من حاله ـ اعتبار الغلبة ، ويؤيده الخبر المروي في الجلد المطروح ، حيث ذكر فيه : إنه إذا كان الغالب فيها المسلمون فهو طاهر .

وفي كل منها نظر :

أمّا الاجماع ، فلعدم تحققه لنا .

وأمّا دليل الانسداد ، فلأنه ـ بناء عليه ـ يلزم باتّباع الظن الفعلي ، ولا يؤخذ بالظنون النوعية ، فهو إن كان حاصلاً في أحد الطرفين يؤخذ به ، ويطرح الآخر ، وإلّا فيطرح الطّرفان .

وأمّا الاستقراء ، فقطعيته ممنوعة ، وغايته حصول الظن منه ، فيكون طرحاً .

المرحلة الثالثة في اعتبار المرجحات ، المزايا المشار اليها في المرحلة الثانية ، فنقول :

ظاهر المشهور اعتبارها ، حيث إنهم عقدوا مسألة تعارض الأحوال لتشخيص المزايا ، وسكتوا عن البحث في كبراها ، ولم يعقدوا لها باباً ، كما عقدوا لصغراها ، فذلك

___________________________

(١) راجع القوانين : ٣٥ من قوله ولم نقف على من منع اعتبار مثل هذا الظن . . . إلى قوله فلاحظ وتامّل .

٢١٠
 &

يكشف عن أن الكبرى مسلمة عندهم ، وإنما النزاع في تشخيص صغريات المزايا ، والمرجحات المذكورة .

والمحكي عن السيد الصدر ، الشارح للوافية ، وعن الماتن أيضاً ، المنع من صحة التعويل على تلك المرجحات .

قال الماتن (١) . الأولىٰ التوقف في صور التعارض ، إلّا مع أمارة خارجية ، أو داخلية توجب صرف اللفظ إلى أمر معين معللاً بأن ما ذكروه في ترجيح البعض على البعض ، من كثرة المؤن وقلتها ، وكثرة الوقوع وقلته ، ونحو ذلك لا يحصل منه الظن ، بأن المعنى الفلاني هو المراد من اللفظ في هذا الوضع .

وقال الشارح (٢) ـ بعد شرح ما ذكره الماتن :

إنّ حاصل الوجهين ، يعني الوجهين المذكورين لترجيح الاضمار على الاشتراك وبالعكس : إنّ المتكلم يختار الأفيد ، والأقلّ مفسدةً ، والأحسن ، إلّا عند الضّرورة ، فيكون في كلامه أكثر وأغلب ، وعند الاحتمال يحمل على الأغلب ، وعلى هذا فقس .

ونحن نقول : إن من ملاحظة هذه الوجوه يحصل لنا اعتقاد أن اللائق ـ والحريّ ، وما ينبغي أن يكون هو غلبة ما فيه الرّجحان ، وأمّا وقوع هذه الغلبة ، فلا يحصل لنا الظّن به ، لأنا كثيراً ما نرىٰ اموراً نعلم فيها مرجّحات على نحو خاصّ ، ثم نرىٰ الواقع على خلافه .

ألٰا ترىٰ أن كلّ عاقل يحصل له اعتقاد أن اللائق تقديم أبناء الدّين على أبناء الدنيا ، لمرجّحات كثيرة مع أنّ الواقع على خلافه ، ومثل هذا كثير ، فنمنع الوقوع هنا أيضاً ، فلو أعرضت عن هذا ، وتمسّكت بترجيح الغالب بحسب الواقع فنقول :

القدر المسلّم هو غلبة المجاز على غيره من الخمسة ، أمّا غلبة غيره على غيره فلا .

ثمّ غلبة المجاز إنما تكون في أكثر كلام أقلّ العرب (٣) ، فعلى المجتهد المعوّل

___________________________

(١) الوافية ضمن الشرح للسيد صدر الدين مخطوط .

(٢) شرح الوافية للسّيد صدر الدين مخطوط .

(٣) قال السيد صدر الدين في هامش كتابه ( وهو شرح الوافية ) في مقام بيان قوله ( أقل العرب ) ما هذا نصّه : قولنا ( إنّ غلبة المجاز إنما تكون في أكثر كلام أقل العرب الخ ) المراد من أقل العرب الخطباء ، وأهل الإنشاء من أرباب الرسائل والشعراء ، وهم الّذين أساس تكلمهم على إفادة المزايا التي تكفل ببيانها البيانيّون ، ولو لا الضرورة لأتوا بكلامِ يفيد أصل المعنى بغير مزية الخ .

٢١١
 &

على مثل هذا الظّن ، أن يثبت أنّ الشّارع من هذا الأقلّ ؛ إذ ليس أكثر العرب أكثَر كلامهم إلّا المعاني الحقيقية من اللغوية وغيرها ، فليس المتجوّز الأعم الأغلب من أفراد المتكلم ، حتى يحمل من لا يعلم حاله عليه ، ومن أين لنا إثبات هذا .

ثم ذكر أن الشارع ليس من هذا الأقل ـ لأن غرضه الأصلي تفهيم المعاني ، لا فوائد المجاز ، واستوضحه .

ثم قال : فظهر من مجموع هذا الكلام بطوله ، أنّ العِلَّة الّتي من أجلها يقدّم الحقيقة على غيرها ، ويظنّ أنّها المراد ، هي جعل المتكلّم الأصل والقاعدة في كلامه إرادتها ، وأنه لٰا يعدل عنها إلّا لضرورة وداع ليسا موجودين هنا ، ولهذا أشار المصنّف ( قدس سرّه ) إلى منع إفادة هذا المرجّحات الظنّ بالمراد ، وبعد التسليم إلى منع اعتباره إذ الاجماع الّذي هو الدّليل ـ في الحقيقة ـ لم يثبت في غيرها . إنتهى موضع الحاجة على ما حكي عنه .

وحاصل ما عن الماتن والشارح ( قدس سرهما ) : أولاً منع الصغرى ثم منع كبراها .

نقول : فيما ذكره الشّارح أنظار ، لا بأس بالإشارة إليها :

الاوّل تمثيله بتقديم أبناء الدنيا لما نحن فيه ، إذ لا ريب أنّ ذلك لدواعٍ نفسانية وأغراض دنيويّة ، بحيث لولاها ، لما ارتكبوا ذلك أبداً ، فحينئذ نقول :

إنّ تقديم المتكلّم ذا المزيّة على غيره في مقام التّكلم ، إمّا فيما لا يختلف المعنى المقصود تفهيمه بسبب التقديم ، أو فيما يختلف .

أمّا على الأوّل : كما في مثال ( اسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) فالذي ذكره ( قدس سره ) ممنوع ، بل يجب تقديم الرّاجح ؛ لأنّ المتكلم العاقل الفصيح لا يعدل عن طريق الأفصح إلىٰ غيره إلّا لضرورة ، فإذا فرضنا أنّ مراده لا يختل بايراد المراد بأفصح الطريقين ، فلا يعقل منه اختيار المرجوح ، ولا يعقل هنا دواعٍ نفسانية ، توجب اختياره ، كما فيما ذكره من المثال .

وأمّا على الثاني ، فهو مسلّم فإنّ الغرض الأصلي من إيراد الكلام تفهيم المعنى المراد ، فلا يجوز اختيار الرّاجح ، إذا كان اختياره مفوتاً لغرض التفهيم ، لكن هذا وارد على القوم ، حيث اعتمدوا على الوجوه الآتية لعدم صلوحها ، لكنها مرجّحة لذيها على غيره ، كما ذكرنا في المرحلة السابقة .

٢١٢
 &

لكنّا في هذا المقام نعتمد على الغلبة إن كانت ـ أعني غلبة الإرادة ـ ولا نستعمل ما ذكروه من الوجوه الآتية في استكشاف المراد ، وأمّا اعتبار تلك الغلبة فسيجيء الكلام فيه .

الثاني : قوله القدر المسلّم هو غلبة المجاز على غيره من الخمسة ، إذ لا يخفى أنّ التخصيص والتقييد أغلب من غيرهما ، حتّى المجاز ، وإنْ أراد بالمجاز ما يشملهما لم يبق لقوله من الخمسة معنى ، كمٰا لا يخفى .

الثالث : قوله ( وأمّا غلبة غيره على غيره فلا . ) إذ لا يخفى أنّ غلبة بعضها على بعضها الآخر ممّا لا ينكره ذو نصفة ، كالتقييد بالنسبة إلى غيره ، بل التخصيص بالنّسبة إلىٰ غير التقييد .

الرّابع : قوله ( وأغلبية المجاز إنّما تكون في أكثر كلام أقل العرب ، فإنّ أغلبيّة المجاز على الإضمار ، أو النقل لا يختصّ بكلام متكلّم ، وأيّ عربي ظهر أنّ الاضمار مثلاً في كلامه بقدر المجاز ، وعلى هذا فقس .

الخامس : قوله ( إذ ليس أكثر العرب أكثر كلامهم إلّا المعاني الحقيقيّة ، من اللّغوية وغيرها . . . الخ ) إذ لا يخفىٰ ما فيه من الخلط والاشتباه ، إذ الكلام ليس في أغلبيّة المجاز من الحقيقة ، ولم يقل أحد بترجيحه عليها ، كما سبق ، بل الكلام في أغلبية المجاز ـ مثلاً ـ بالنسبة إلى سائر الوجوه المخالفة للأصل ، ولا يقدح في هذه الغلبة ، كون الحقائق أغلب .

السّادس : ( قوله ومن أين إثبات هذا ) فإنّه إن أراد إثبات أنّ الشارع من الأقل الذي يغلب مجازات كلامه على حقائقه ، فقد عرفت خروجه عن محلّ الكلام ، وإن أراد إثبات كونه من الأقل الّذي يغلب مجازات كلامه على سائر الوجوه المخالف للأصل ، فقد ظهر أنّ أغلبية المجاز من الاضمار لا يختص بعربيّ دون عربيّ .

السّابع : قوله ( إذ الإجماع الّذي هو دليل الحقيقة لم يثبت في المجاز ) لأنّا قد أسلفنا الكلام في وجه التعويل على أصالة الحقيقة أنّه ليس دليلاً تعبّديّاً من الشارع من الإجماع ، وغيره ، بل هو من الاصول العدمية التي ثبت اعتبارها ببناء العقلاء .

وقد ظهر ممّا ذكرنا ـ في مسائل الدّوران ـ أنّ جملة من الترجيحات مستندة إلىٰ تلك الاصول أيضاً ، فلا يبقى مجال لمطالبته بالدّليل ، إلّا ما عدا تلك الجملة ، ممّا لا ينهض فيه أصل سالم عن مزاحمة المعارض ، وقد ظهر أنّ ما عدا تلك الجملة

٢١٣
 &

ـ أيضاً ـ بين ما يستند إلى بناء العقلاء والغلبة ، وبين ما يستند إلىٰ خصوص الغلبة ، مثلاً إذا ورد عام وخاص متنافيا الظاهر ، كقوله ( اكرم العلماء ) ( ولا تكرم زيداً ) فهذا مما استقرّ فيه بناء العرف والعقلاء إلى ترجيح التخصيص على ارتكاب التجوّز في المخصص ، فالتّرجيح في مثله أيضاً مستند إلى الدليل ، وهو بناء العرف والعقلاء .

بل يمكن الاستدلال فيه بالأصل أيضاً ، لأنّ الشك في التخصيص فيه مسبَّب عن الشك في التّجوز ، فأصالة الحقيقة في المخصص محكّمة على أصالة عدم التخصيص ، فكلّ ما هو من هذا القبيل من المرجّحات المذكورة يشارك مع أصالة الحقيقة في الدّليل ، سواء كان هو الاجماع ، أو غيره ، فلم يبق إلّا الموارد الّتي لا مدرك للتّرجيح فيها سوى الظن الحٰاصل من الغلبة الذي منع ( قدس سره ) من اعتباره ، مثل ترجيح النّقل على التخصيص ، وترجيح التخصيص علىٰ غيره في غير مسألة العام والخاص المتنافيي الظاهر ، وغيرهما من التّرجيحات المستندة إلىٰ صرف الغلبة ، فلا بدّ من إقامة الدّليل علىٰ اعتبار الغلبة في مقام ترجيح بعض الأحوال على بعض .

فالتّحقيق في جواب السّيد الشارح للوافية ، وعن الماتن ، لو كان مذهبه كما فهمه الشارح ـ أعني منع اعتبار المرجّحات ، وعدم صحة التعويل عليها ـ أنّ مرجع المرجّحات المذكورة إلىٰ أحد الامور الثلاثة على سبيل منع الخلو : الأصل السليم عن المعارض ، وبناء العقلاء ، والغلبة .

لا شبهة في وجوب التعويل عليها إذا كانت راجعة إلىٰ أحد الأوّلَين ـ اعني الأصل السّليم عن المعارض ، وبناءِ العقلاء ـ فإنّ العمل بالاصول اللّفظية ، والوضعيّة متفق عليه من الكلّ ، لا ينكره أحد ، حتّى السيد المذكور ، والغرض من الدّليل السّليم في المقام ، مع أنّ تعارض الأحوال يرجع إلى تعارض الاصول ، إنّما هو الأصل السّببي ، المزيل لصاحبه المعارض له ، كما في المثال المتقدم ، حيث عرفت أنّ أصالة الحقيقة في المخصّص مزيلة لأصالة العموم في العام ، فيجب اختيار التخصيص .

وأمّا المرجّحات الراجعة إلى الغلبة المجرّدة ، فالدّليل على صحّة التعويل عليها أنّها توجب ظهور اللّفظ في المعنى المطابق للغالب ، فيكون الظّن الحاصل منها من الظّنون اللّفظية ، التي قامت الضرورة على اعتبارها ، كما مر .

وإن أبىٰ وامتنع السيّد المذكور من ذلك ، فنقول : قد قام الإجماع علىٰ العمل

٢١٤
 &

بالغلبة في مقام التعيين ، كما يستفاد من المحقّق القمي (١) ( قدس سره ) وإن كان ظاهر كلامه عدم ظهور الخلاف ، لكن التامل يشهد بأنّ مراده الاجماع .

وإن أبى السيّد ذلك ـ أيضاً ـ نقول : قد قام الإجماع على العمل بأقوى الدّليلين ، ولا يخفىٰ أنّه إذا تعٰارض الاصول في الدّورانات فالغلبة موجبة لقوّة ذيها علىٰ غيره .

وإنْ أبىٰ عن ذلك ـ أيضاً ـ نقول : إنّه لا ريب أنّ تعارض الأحوال مرجعه إلىٰ تعارض الاصول ، ولا يخفىٰ أنّه إذا كان أحد الأصلين سببيّاً يجب الأخذ بمؤداه ، لكونه مزيلاً لصاحبه ، وفي الحقيقة هذه الصورة خارجة عن صور التعارض .

وإن لم يكن أحدهما سببيّاً ، وتحقّق التعارض بينهما ، فلا بدّ من التّمشّي بقاعدة التعارض ، فنقول : إنّ الأصل عند تكافؤ أصلين من هذه الاصول إمّا التخيير ، كما في صورة تكافؤ الأدلّة ، وإما التّوقف .

فعلى الأوّل : لا شبهة في وجوب الأخذ بذي المزيّة لأنّه الأصل حينئذ فإنّ التخيير إن كان شرعيّاً فلا يشمل أدلّته لصورة وجود المرجح ، وإن كان عقلياً لا يحكم العقل به ـ حينئذ ـ فيتعين الأخذ بالرّاجح .

وكيف كان ، فوجوب الأخذ بالمرجّح حينئذ موافق للأصل ـ أعني القاعدة العقلية ـ لا يحتاج ثبوته إلىٰ دليل ، وقولهم : إنّ المرجّح كالدّليل إنّما هو بالنّظر إلى الصّورة الثانية .

وأمّا على الثاني : فثبوت التّرجيح والتعويل عليه ، وإن كان محتاجاً إلىٰ الدّليل ـ كمٰا في تعارض الأدلّة ـ إلّا أنّ الأخذ بالأصل المطابق للغلبة حينئذ واجب ، لكن لا من حيث حجّية الغلبة ووجوب الأخذ بها ، بل لأنّ اعتبار الاصول العدميّة الجارية في باب الألفاظ ـ كما مرّ بيانه سابقاً في مبحث العلائم ـ إنّما هو بملاحظة الغلبة ، حيث إنّها اصول عقلائية ، ولا يعقل تعبّدهم بمجرّد الشك ، بل عملهم في أمورهم إلىٰ الغلبة ، فمناط عملهم بالاصول المذكورة إنّما هو وجود الغلبة في مجاريها ، فتعارض تلك الاصول يرجع إلى تعارض الغلبتين ، فإذا فرضنا وجود الغلبة الشخصيّة في مجرى أحدهما ـ أيْ أحد الأصلين المتعارضين ـ فالغلبة النّوعية الموجودة في مجرى الآخر مزاحمة بتلك الغلبة الشخصية ، فإذا زوحمت هذه بتلك ، فتسقط عن الاعتبار قطعاً ، فيبقى

___________________________

(١) القوانين : ٣٥ عند قوله : ولم نقف على من منع اعتبار هذا الظنّ من الفقهاء .

٢١٥
 &

الأصل المطابق لتلك الغلبة الشّخصية سليماً عن المعارض ، فيكون واجب العمل ، لوجود مناط الاعتبار فيه ، وهو الغلبة الغير المزاحمة بأقوى منها ، فحينئذ نحن نعكس الأمر ونقول : إن المتيقن حينئذ اعتبار الأصل المطابق لتلك الغلبة الشخصية لوجود مناط الاعتبار فيه ، فنطالب السيّد المذكور بدليل اعتبار الأصل الآخر حتى يصحّ معارضته لهذا الأصل .

والحاصل أنّا لا نقول بحجية تلك الغلبة الشخصية ، حتى يطالبنا أحد بالدليل ، بل نقول بحجية الأصل المطابق لها ، لوجود مناط اعتبارها ، فعلى السيّد إثبات اعتبار الأصل الآخر أو اثبات حجية الغلبة النّوعية في مجراه ، وأنّىٰ له بإثبات شيء منهما .

هذا ، ثم احتجّ المحقق القمّي (١) ( قدس سره ) علىٰ وجوب الأخذ بالغلبة المذكورة بالإجماع على ما يستفاد منه ، وبدليل الانسداد ، ويظهر ذلك من قوله : خصوصاً عند من يجعل الأصل العمل بالظّن ، وبالاستقراء الكاشف عن اعتبار الغلبة عند الشّارع مطلقاً .

أقول : الاجماع العملي من العلماء السّابقين لا يبعد دعواه .

وأمّا الاستدلال بدليل الانسداد ، فلا وجه له ، إذ عليه يدور العمل مدار الظن الفعلي فإن وجد في أحد الطّرفين ، فهو المتعيّن ، وإلّا ، فالحكم التساقط ، ولا معنى لملاحظة التّعارض حينئذ ، إلّا على مذهب بعض ، حيث أجرى الدّليل المذكور بالنسبة إلى الظنّ النّوعي أيضاً ، وتمسّك به على حجيّة الظنّ النّوعي ، وأمّا اعتبار الغلبة خصوصاً عند الشّارع ، وخصوصاً اعتباره عنده مطلقاً ، لا دليل عليه . والاستقراء الذي ادّعاه ( قدس سره ) لم نظفر عليه .

أقول : الإنصاف عدم جواز التعويل على الغلبة بمجرّدها ما لم يجعل اللّفظ من الظّواهر العرفيّة ـ ولو نوعاً ـ في المعنى المطابق لها ، أمّا عدم جواز التعويل في غير الصورة المذكورة ، فلعدم الدّليل عليه ، لعدم ثبوت ما ذكر من الإجماعين باطلاقهما ، بحيث يدخل فيهما محلّ النزاع ، وأمّا اعتبارها في الصورة المفروضة ، لا لكونها غلبة ، بل لأجل أنّ الظنّ الحاصل بسببها من اللّفظ ظنّ لفظيّ ، وقع الإجماع على العمل به .

تذنيب : ينبغي التنبيه علىٰ امور غير مذكورة في كلمات القوم :

الأوّل : إنّ مٰا ذكرنا من المرجّحات المذكورة في المرحلة السّابقة إنّما هي

___________________________

(١) القوانين : ٣٥ .

٢١٦
 &

مرجّحات بحسب النّوع ، فالأحوال الرّاجحة بسببها علىٰ غيرها إنّما يُؤخذ بمقتضاها ما لم يكن مرجّح شخصيّ للحٰالة المرجوحة في خصوص المورد ، وأمّا إذا كان لهٰا مرجّح شخصيّ يرجّحهٰا على الحالة الرّاجحة بحسب النّوع ، كما إذا دار الأمر بين التخصيص والمجاز ـ مع كون ذلك المجاز مجازاً مشهوراً ـ كما في قوله ( يجوز إكرام العلماء ، ولا تكرم زيداً العالم ) وفرضنا كون النّهي مجازاً مشهوراً في الكراهة ، فدار الأمر بين التجوّز في النّهي ، أو تخصيص العٰام بإخراج زيد منه ، وغير ذلك من المرجّحات الشخصيّة ، كما إذا دار الأمر بين تخصيص الأكثر ـ على القول بجوازه ـ وبين التجوز ، كما إذا قال ( يجوز إكرام العلماء ، ولا تكرم الفساق منهم ) وفرضنا كون الفسّاق أكثر أفراد العام فإنّ التخصيص ، وإن كان بحسب النّوع راجحاً على المجٰاز ، إلّا أنّ هذا القسم منه مرجوح بالنسبة إليه ، وكمٰا إذا دار الأمر بين التخصيص ـ بإخراج فرد هو أليق لثبوت الحكم له ـ وبين التّجوز ، كمٰا إذا قال ( أكرم العلماء ) فقام الدليل على عدم وجوب إكرام زيد العالم الّذي هو أعلم وأتقى من غيره من العلماء ، فدار الأمر بين التّجوز في الأمر بحَمْله على الاستحباب ، فلا تخصيص ، أو تخصيص العام بإخراج زيد منه ، وإبقاء الأمر على ظاهره ، وغير ذلك من الخصوصيّات اللاحقة لخصوص المورد ، الموهنة للمرجّحات النّوعية .

فالأقوىٰ حينئذ التّفصيل ، بأنّه إن كٰان ذلك المرجّح الشخصي بحيث يوجب ظهور اللّفظ في مقتضى الحالة المرجوحة ، بحيث يعدّ اللّفظ بسببه من الظّواهر العرفيّة في ذلك المعنىٰ ، فلا شبهة في وجوب الأخذ به ، لدخوله في مطلق الظّهور اللّفظي الّذي قام الأدلة القطعيّة على اعتباره ، كما في تعارض المجاز المشهور مع التخصيص ـ على غير مذهب أبي حنيفة ـ إذ حينئذ لا بدّ من الأخذ بالعموم وارتكاب التجوّز .

أمّا علىٰ مذهب أبي يونس ، فواضح ، حيث إنّه مع قطع النّظر عن الدّوران يحمله على المعنى المجازيّ ، فكيف بصورة التّعارض .

وأمّا علىٰ مذهب المشهور ـ القائلين بالتّوقّف فيه عند عدم الدّوران ـ فلأنّ أصالة الحقيقة في اللّفظ الّذي صٰار مجازاً مشهوراً ـ بسبب مزاحمة الشّهرة ـ قد زالت عن القوّة ، فلا يمكن معارضتها لأصالة الحقيقة في العام ، فأصالة العموم سليمة عن المعٰارض ، فحينئذ يجب الأخذ بهٰا ، ولازم كونها معتبرة كونها بياناً للّفظ الّذي صٰار مجملاً بسبب مزاحمة الشّهرة لأصالة الحقيقة فيه حيث أنّ الاصول اللّفظية أمارات ، فهي

٢١٧
 &

علىٰ فرض اعتبارها تكشف عن مداليلها المطابقية والتضمنيّة والالتزامية ، ويجب الأخذ بتلك المداليل بأسرها ، ولا ريب أنّ حمل اللّفظ المذكور على المعنى المجازيّ من المداليل الالتزامية لأصالة العموم عند التّعارض ، فيكون العام بيانا لذلك اللّفظ .

وكيف كان ، فهذا داخل فيما ذكر شيخنا دام ظله في آخر مسألة حجيّة الظّواهر ، وحاصل ما ذكره ( دام ظلّه ) أنّه إذا ورد خطاب وله ظهور ، ثم ورد خطاب آخر منفصل عن الخطاب المذكور ، ويكون ذلك الخطاب مجملاً يحتمل كونه قرينة لصرف هذا الخطاب عن هذا الظّهور ، لا التوقف في ذلك الظّهور ، بل ربما ينعكس الأمر ، ويكون هذا الظّهور بياناً لذلك الخطاب المجمل .

وكيف كان ، فالضّابط ـ لهذا القسم من المرجّح الشخصي ـ هو أنْ يكون بحيث يوجب إجمال اللّفظ ، ويوهن أصالة الحقيقة فيه ، بحيث يصير احتمال إرادة الحقيقة به مع احتمال المعنى المخالف للأصل سواء ، فحينئذ يبقى الأصل الآخر في جانب الآخر سليماً عن المعارض ، فيكون اللّفظ الآخر ظاهراً في معناه الحقيقي ، فيجب ارتكاب خلاف الظّاهر في اللّفظ الذي صار أصالة الحقيقة فيه مزاحمة بالموهن ، وحمله على المعنى المخالف للظّاهر بكون اللّفظ الآخر حينئذ بياناً له لما مرّ .

والظّاهر أنّ هذا القسم ـ من الشّخصي ـ إنّما مورده في دوران الأمر بين الأحوال في لفظين في خطابين ، وأمّا في لفظ واحد ، أو في لفظين في خطاب واحد ، فالظّاهر عدم تحقّقه فتدبر .

وأما إذا لم يكن المرجّح الشخصيّ بهذه المثابة ، فيكون هذا على قسمين :

أحدهما : ما يوجب أقربيّة مفاد الحالة المرجوحة بالنسبة إلى الواقع ، ولا يوجب ظهور اللّفظ فيه ، ولا الظّن بكون الحالة المرجوحة ملحوظة في نظر المتكلّم ، كما إذا دار الأمر بين التخصيص والمجاز ، وقامت شهرة الفتوى من العلماء على طبق المجاز ، بمعنىٰ أنّ المشهور أفتوا بما يوافق المجاز .

وثانيهما : ما لا يوجب أقربية المضمون إلى الواقع ، لكنّه موجب للظّن بأنّ المتكلّم أراد المجاز ـ مثلاً ـ لا التخصيص ، وليس بحيث يعدّ اللّفظ معه من الظّواهر العرفيّة في المعنى المجازي .

أما القسم الأوّل منهما ، فلا ريب في عدم الاعتداد به وعدم كونه من الظّنون المخصوصة من الظّنون اللّفظية ، بل هو ظنّ خارجيّ ، متعلِّق بالحكم الشرعي يدور

٢١٨
 &

حجيّته مدار حجيّة الظّن بالأحكام الشّرعيّة ، بل هو في الحقيقة ليس مرجّحاً للحٰالة المرجوحة أيضا ، إذ المفروض عدم إفادة الظّن بها .

وأمّا القسم الثاني : ففيه وجهان ، بل وجوه :

الأوّل : تقديم الحالة المرجوحة ، والبناء على ما يقتضيه إلحاقاً لمٰا نحن فيه بصورة التّعارض بين وجوه التّرجيح في الاخبار ، حيث إنّ العمل هناك على المرجِّح الشخصيّ عند التعارض بينه وبين المرجّح النّوعي ، ولقيام الاجماع على العمل بأقوى الدليلين .

الثاني : التّوقّف ، وهذا مبني على القول باعتبار الظواهر اللفظية في صورة الظن بالخلاف .

الثالث : عدم الاعتداد به ، وفرضه كأن لم يكن ، والأخذ بالحٰالة الرّاجحة ، نظراً إلىٰ أنّ العمل بالظّواهر اللّفظيّة ، سواء كانت من جهة الوضع ، أو من جهة المرجّحات النّوعية ، انما هو باعتبار كونها ظنّاً نوعيّاً بالمعنى الأعمّ ، بحيث يؤخذ بها عرفاً ما لم يقترن اللّفظ بما يصلح أن يكون صٰارفاً عن هذا الظّهور .

ولا يخفىٰ أنّ مِثْل هذا المرجّح الشخصي ، لا يصلح لكونه قرينة صارفة للّفظ حتّىٰ يوجب إجماله ؛ لأنَّ اللّفظ أيضاً بسبب المرجِّح النّوعي من الظّواهر العرفية في المعنى المطابق له ، ولم يقم دليل على اعتبار الظّن الحاصل منه ، بملاحظة المتكلّم الحالة المرجوحة حتى يُقدّم على المرجّح النّوعي .

أولى الوجوه أخيرها لضعف الوجهين الأولين .

أمّا الأوّل منهما ، فلأنّ قياس ما نحن فيه بالأخبار قياس محض ، وأمّا الاجماع المذكور ، فلأنّ معقده إنّما هو الاقوائية من حيث الدليلية ، والمفروض أن المرجح الشخصي لا يوجب ظهور اللّفظ في المعنى المطابق له حتّى يصير اللّفظ بسببه أقوى دلالة على المعنى المذكور من دلالته ، أو دلالة اللّفظ الآخر على المعنى الآخر على المعنى المطابق للترجيح النّوعي ، فيكون داخلاً في معقد الإجماع ، أمّا الثاني فلفساد مبناه .

الأمر الثاني : أنّه قد يقع التّعارض والدّوران بين حالات لم يتعرّض القوم لبيانها ، ولعلّه لوضوح حكمها بملاحظة ما ذكروا في الأحوال السبعة المعروفة المتقدّمة من وجه التّرجيح ، والتوقّف ، وهي أي الحالات المشار اليها الكناية ، والتعريض ، والسخرية ، والاستهزاء والتلويح وغيرها من الوجوه البديعية ، التي ليست من المداليل المطابقية للّفظ ، والظّاهر أنّ التّقية والإرشاد ، والامتحان ، وغيرها ، من جهات صدور

٢١٩
 &

الكلام الخارجة عن المدلول المطابق له من هذا القبيل .

وكيف كان ، فهذه الوجوه ليست مباينةً للحقيقة والمجاز ، بل النّسبة بينها وبين كل منهما ، هي العموم من وجه ، فإنّها قد تؤدي بإيراد الكلام على وجه الحقيقة ، وقد تؤدّي بإيراده على وجه المجاز ، فمحلّ افتراق الحقيقة عنها ، ما إذا استعمل اللّفظ في معناه الحقيقي ، وتعلّق غرض المتكلم بتفهيم المعنى الحقيقي نفسه .

ومحلّ افتراق تلك الوجوه عن الحقيقة ، ما إذا تؤدي تلك إلى المجاز مع استعمال اللّفظ في معناه المجازيّ ، ومحلّ اجتماعهما ، ما إذا تؤدي إلى الحقيقة مع استعماله في معناه الحقيقي ، كما إذا قال : ( أكرم جبان الكلب أو كثير الرّماد ) مريداً به الكناية ، بمعنى أنّ غرضه إكرام السّخيّ ، وكذا لو قال : ( أكرم طويل النجاد ) متعلِّقاً غرضه بالشّجاع ، فإنّ الظّاهر وفاقاً للسّكاكي ، وجمع من المحقّقين أنّ الكناية ليست مجازاً في الكلمة ، بمعنى أنها من حيث هي لا توجب المجازيّة في الكلمة كغيرها من الوجوه المذكورة ، بل المجازيّة منها لا بدّ لها من سبب آخر ، فلذا تجامع مع كلّ منهما كسائر أخواتها .

نعم هي كأخواتها مجاز بمعنى آخر فإنّ الحقيقة لها إطلاقان :

أحدهما : انّه يراد بها الكلمة المستعملة فيما وضعت له .

وثانيهما : انّه يُراد بها الكلام المسوق لبيان صرف المدلول المطابقيّ له ، ويعبّر عنه أيضاً ببيان الواقع .

والمجاز أيضاً له إطلاقان مقابلان لاطلاقي الحقيقة والكناية ، وسائر أخواتها ، مجازات بالمعنى الثاني ، المقابل للحقيقة باطلاقها الثاني .

فإذا عرفت افتراق الوجوه المذكورة عن الحقيقة ، واجتماعها معها ، فقس عليه معرفة افتراقها عن المجاز واجتماعها معه .

وكيف كان ، فافتراق تلك الوجوه عن كلّ واحد من الحقيقة والمجاز ، واجتماعها مع واحد منهما ، إنّما هو باعتبار تعلق غرض المتكلم بتفهيم المدلول المطابقيّ للّفظ حقيقة أو مجازاً ، وبشيء خارج عن مدلوله المطابقي ، فعلى هذا ، فالمقسم بينها ، وبين الحقيقة والمجاز إنّما هو غرض المتكلم لا المستعمل فيه ، فإنه مقسم فيما بين الحقيقة والمجاز ، لا بينهما وبين الوجوه المذكورة ، لكونها تابعة لغرض المتكلم ، لا المستعمل فيه .

ثم إنّ النسبة بينهما وبين سائر الوجوه المعروفة المذكورة سابقاً ، المخالفة للأصل ، غير المجاز ، كالتخصيص ، والتقييد ، والاضمار ، وغيرها هي أيضاً عموم من وجه ، لجواز

٢٢٠