تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ١

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ١

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

له البداء عن إفادته بعد ذكر اللفظ .

وبعبارة أوضح : إنّه كان قبل تكلمه بهذا اللفظ مريداً لتفهيم المعنى المجازي ، فأطلق اللفظ ، وكان حين إطلاقه [ مريداً لـ ] ذكر القرينة أيضاً ، لكن بعد اطلاقه حصل له البداء عن إفادته ، وصرف افادته عنه .

فإذا عرفت تلك الاحتمالات الموجبة للشك في إرادة الحقيقة .

فنقول : لا شك ولا ريب أنّه إذا كان المتكلم عاقلاً شاعراً ، كما هو مفروض البحث ، فكل تلك الاحتمالات منفية في حقه ببناء العقلاء ، والسيرة القطعية من كافّة أهل اللسان في محاوراتهم ، بحيث لا يلتفتون إلى شيء منها ، ولا يتوقفون في حمل اللفظ على حقيقته ـ حينئذ ـ بواسطة واحد منها ، بل الأصل المسلم المقرّر عندهم ، حمل كل كلام صادر من كل متكلم عاقل شاعر على كونه لأجل التفهيم ، وأيضاً كون غرضه متعلقاً بافادة المعنى لا بمجرد اللفظ ، وأيضاً الأصل المقرر ـ عندهم ـ البناء على عدم سهوه ، أو غفلته بوجه من الوجوه ، وكذا الأصل المسلم عندهم البناء على استمرار إرادته ، وعدم الالتفات إلى احتمال البداء ، وكذا الأصل المقرر عندهم ، البناء على عدم تعمّده لترك القرينة ، المخل بتفهيم المراد ، بل هذا الأصل قام البرهان العقلي القطعي الفطري على اعتباره ، بحيث يحصل بملاحظته القطع بعدم تعمده لترك القرينة ، وتقرير هذا البرهان من وجهين :

الأوّل : أنّه مع كون المتكلم مريداً للمعنى المجازي ، فلا ريب أنّ تركه القرينة عمداً نقض لغرضه الداعي إلى إطلاق نفس اللفظ ، ولا ريب أنّ نقض الغرض من العاقل قبيح عقلاً .

الثاني : أنّه لا ريب أنّ إرادة كل فعل ـ مع عدم المانع منه ـ علة تامة لإيجاده ، فإذا فرضنا أنّ المتكلم في مقام تفهيم المعنى المجازي ، وأنّه تعلق إرادته بذلك ، والمفروض في المقام عدم المانع له من ذكر القرينة ، فلا يمكن وإرادته هذه على حالها أنْ يترك القرينة تعمّداً ، لأنّه موجب لتخلف المعلول عن علته ، وهو مستحيل ذاتاً عند العقل ، فإنّ التفهيم الذي هو المعلول لا يتمّ ، ولا يوجد إلّا بذكر القرينة ، فتركها مستلزم للمحذور المذكور ، فالوجه الأوّل راجع إلى الاستحالة العرضية الناشئة من القبح ، والثاني راجع إلى الاستحالة الذاتية الناشئة عن استلزام تخلف المعلول عن علّته .

فبهذين الوجهين ظهر أنّه لو انحصر منشأ الشك في إرادة الحقيقة في احتمال تعمد المتكلم بترك القرينة ، يحصل القطع بارادة الحقيقة ، وأنّ الشك يكون بدوياً ، وإذا

١٤١
 &

التفت إلى أحد الوجهين المذكورين يحصل القطع بإرادة الحقيقة .

وكيف كان : فإذا عرفت أنّ الأصل المقرر ـ المسلم عند العقلاء ، وأهل اللسان ـ البناء على عدم كل من الاحتمالات المذكورة ، مع قيامها ـ أي قيام تلك الاحتمالات ـ في محاوراتهم في مثل المقام ، أي فيما إذا اُطلق اللفظ مجرداً عن القرينة ، مع تمكنهم من السؤال والفحص عنها ، فثبت أنّ أصالة الحقيقة من الظنون المعتبرة التي لا يتوقف الركون إليها على ثبوت الانسداد في الأحكام .

نعم بعض تلك الاحتمالات ، وإن كان بدوياً ، لكن كلها ليست كذلك ، بل أكثرها مستمرة ، غاية الأمر أنّ العقلاء لا يعتنون بها ، لٰا أنّهم لا يحتملونها ، حتى يقال : إنّه خارج عن محل البحث ، ولا ريب أنّ النتيجة تابعة في الظنية والقطعية لأخس مقدماتها ، فإذا صار بعض مقدمات حمل اللفظ على حقيقته الذي هو النتيجة في المقام ظنية ، فهو تابع لها ، فيصير ظنياً بالظن المعتبر ، لحصول الظن به ـ من الظنون المعتبرة خاصة .

والحاصل : أنّه بعدما ثبت أنّ مقدمات أصالة الحقيقة من الظنون الخاصة ، الغير المتوقفة على الانسداد ، فتكون هي أيضاً من الظنون الخاصة فثبت المطلوب .

هذا ، ولكن للنفس فيه تأملاً وتزلزلاً ، فإن العقلاء ، وأهل اللسان ، وإن كانوا لا يتوقفون في حمل اللفظ على حقيقته في مقام الشفاه عند تجرّده عن القرينة ، بل استقرت طريقتهم على حمله عليها ـ حينئذ ـ بحيث لا يوجب أحد من الاحتمالات المذكورة توقفهم في فهم المراد ، لكن لا ريب أنّ تلك الاحتمالات لبعدها غاية البعد ، كانت بحيث يحصل القطع بعدمها غالباً ، بحيث يكون احتمالها لمجرد الإمكان العقلي ، مضافاً إلى قيام البرهان العقلي على استحالة بعضها ، كما عرفت ، فحينئذ فالخطب في إثبات سيرتهم على حمل اللفظ على حقيقته مجرداً عن القرينة ، مع قيام تلك الاحتمالات ، أو بعضها بحسب الواقع وبحسب اعتقادهم .

وبعبارة اُخرى ، إثبات أنّهم يكتفون بظاهر اللفظ ، مع عدم القطع بكونه مراداً ، بسبب بقاء واحد من الاحتمالات ، مع تمكنهم من تحصيل القطع بالسؤال ، وإن كانت إرادته مظنونة ، فإنّ هذه الصورة أقوى صور كون الظاهر غير معلوم المراد ، ولا يبعد دعوى ثبوت ذلك في تلك الصورة المذكورة ، وأمّا في غيرها من صورتي الشك بارادة الحقيقة ، أو الظن بعدم إرادتها ، فدون إثباته فيهما خرط القتاد ، إذ من المعلوم أنّ الأصل المذكور ـ أي أصالة الحقيقة ـ ليس من الأحكام التعبدية المأمور بها من

١٤٢
 &

الشارع ، بل هي من القواعد العرفية في محاوراتهم ، ولا مرية أنّه لا يعقل تعبّد العقلاء بمجرّد الشك من دون آمر لهم ، كما هو المفروض ، فكيف بما إذا كان الظن على الخلاف ، وكيف كان فيمكن دعوى ما ذكر في الصورة الاُولى ، فإنّ بناء العقلاء على العمل بالظن في اُمورهم . وأمّا في الأخيرين فلا .

وإن شئت توضيح الحال ، فارجع إلى العرف فيما إذا أمر المولى عبده بقتل ولده ، أو تخريب داره ، وغير ذلك من الاُمور العظيمة ، وشك العبد في كون المراد ظاهر هذا الخطاب ، ولم يستفد من المولى ، مع تمكنه منه ، ففعل بمقتضى ظاهر اللفظ الذي كان مشكوك الإرادة عنده ، ثم انكشف أنّ مراد المولى كان غير ذلك الظاهر ، فلا ريب أنّه بعد اطلاع العقلاء على كون العبد شاكاً في ذلك عند سماع الخطاب ، وامتثل شاكاً ، فهم لا يرتابون في استحقاقه الذم واستحقاقه العقاب من مولاه . ولو كان ظاهر اللفظ حجة ، من دون تقييده بالقطع ، أو الظن بإرادته ، لما كان للمولى عقابه وذمّه ، ولو عاقبه يقبحه العقلاء ، وقد عرفت خلافهما .

ومن هنا ظهر ضعف القول باعتبار الأصل المذكور من باب الظن النوعي ، فإنّ الظن النوعي شك فعلاً في بعض صوره ، مضافاً إلى اجتماعه مع الظن بالخلاف ، بل ملاحظة تلك الأمثلة توقفنا عن دعوى ما ذكر في الصورة الاُولى أيضاً .

وكيف كان ، فإثبات ذلك ، ولو في الصورة الاُولى ، فيما إذا لم يحصل العلم بكون الحقيقة مرادة ، ولو مع الظن بإرادتها ، مع التمكن من السؤال ـ كما هو المفروض ـ مشكل غاية الإشكال ، فيشكل التمسك ببناء أهل اللسان ، واستقرار سيرتهم على حمل الألفاظ على حقائقها مجردة عن القرينة في محاوراتهم الشفاهية ، لما عرفت من أنّ الغالب حصول القطع لهم بالمراد حينئذ ، بحيث يشذّ الشك فيه غاية الشذوذ ، ولم يعلم من حالهم البناء على ما ذكر في صورة الشك في كون الحقيقة مرادة ، ولو مع الظن بإرادتها مع تمكنهم من السؤال ، ومع ذلك لا يثبت كون أصالة الحقيقة في مقام الشفاه من الظنون الخاصة المعتبرة .

فإن قيل : إنّا نجد في العرف أنّه لو أمر المولى عبده بشيء ، فترك العبد الاتيان بذلك الشيء معتذراً ، بأنّي لم أتيقن بكون الظاهر مراداً ، لم يعذر ويستحق الذم والعقاب عند العقلاء قطعاً ، فلو كان اعتبار الظهور اللفظي وأصالة الحقيقة متوقفاً على العلم ، لما كان وجه لذمّه وعقابه .

قلنا : إنّ ذمّه واستحقاقه العقاب ـ حينئذ ـ لأجل ظهور كذبه في ـ دعواه

١٤٣
 &

عدم العلم ، فإنّ منشأ احتمال خلاف إرادة الحقيقة ـ كما عرفت ـ يكون بمثابة من الضعف ، لندرته وشذوذه ، بحيث يحصل القطع بعدمه .

فإن قلت : إنّا نرى أنّه لو علم صدق العبد في مقالته ، بحيث صدقه المولى أيضاً لَصَحَّ ذمّه وعقابه أيضاً .

قلنا : إنَّ صحتهما حينئذ ؛ لأجل تقصير العبد في فهم مراد المولى مع تمكنه من السؤال بسهولة ، فلما لم يحتط ، مع تمكّنه منه ، فصحّتهما لذلك ، لا لاجل كون الظاهر حجة عليه ، فظهر أنّ الظاهر حينئذ ليس حجة لا للمتكلم ولا عليه ، ولا للمخاطب ولا عليه .

فإن قيل : إنّ الذي ذكرته من وجوب الاحتياط والسؤال ـ عند طروء الإجمال ـ في كون الحقيقة مرادة تخريب لما بنى عليه المحققون ، من الرجوع إلى أصالة البراءة فيما إذا كانت الشبهة من جهة إجمال النص ، إذ مقتضى ما ذكرته وجوب الاحتياط ثمّة .

قلنا : أوّلاً : إنّ بناءهم على ما ذكرت في غير ما نحن فيه ، فإنّه مختص بالخطابات الغيبية ، والذي ذكرنا إنّما هو في الخطابات الشفاهيّة ، ولا تنافي ولا تخريب .

وثانياً : إنّ العمل بأصالة البراءة مطلقاً موقوف على الفحص عن المعارض ، ثمّ بعد اليأس منه يرجع إليها ، وذلك إنّما يتصور في الخطابات الغيبية ، وأمّا في الشفاهية التي هي محلّ الكلام ، فلا ريب أنّه بعد الفحص يتبين الحال ، ويحصل القطع بالواقعة ، فلا مجرى بعده لأصالة البراءة ، هذا بخلاف الخطابات الغيبية ، فإنه لا يحصل القطع غالباً ، فيبقى لها المجال فيها .

وكيف كان ، فحال المخاطب ـ في الخطابات الشفاهية ـ في وجوب السؤال عليه عن الواقعة من المتكلم ، نظير حال أهل الجاهلية الذين كانوا في أوّل بعث الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في وجوب رجوعهم إلى النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في أخذ معالم دينهم منه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فيما إذا احتملوا حكماً جديداً ، فإنهم مع أنّ الشبهة في حقهم بدوية لم يجز لهم التقاعد عن السؤال ، والرجوع إلى البراءة الأصليّة إجماعاً ، وضرورة من الدين ، بل كان يجب عليهم الرجوع ، والسؤال عن حقيقة الحال عند قيام الاحتمال .

١٤٤
 &

والنكتة في ذلك كله ما ذكرنا من توقف العمل على البراءة الأصلية على الفحص عن المعارض ، وعن حقيقة الحال ، ولما كان الحال يتبين بالسؤال للمخاطب فيما نحن فيه ، وللمكلفين في ذلك الزمان ، فلم يبق بعده مجرى لها حتى يرجع إليها .

هذا تمام الكلام في اعتبار أصالة الحقيقة بالنسبة إلى حال التخاطب في حق المشافه الذي هو المخاطب .

وأمّا غيره ، فمع قطعه بعدم القرينة المكتنف بها الكلام حال الخطاب ، فهي معتبرة ، في حقه أيضاً ، سواء كان ذلك الغير حاضراً في مجلس الخطاب أو غائباً عنه ، فإنّ الاُصول المتقدمة ـ كما عرفت ـ تفيد كون الحقيقة مرادة للمتكلم عند تجرد اللفظ عن القرينة ، فإذا قطع الغير بتجرده عنها حال التخاطب ، تفيد تلك الاصول المعتبرة ما أفاده للمخاطب ، من كون الحقيقة مرادةً ، فيرتّب الغير ـ حينئذ ـ ما يترتب على إرادة الحقيقة من الأحكام ، هذا كله فيما إذا قطع بعدم القرينة .

وأمّا إذا احتملت ، فاعتبار أصالة الحقيقة حينئذ مبنيّ على اعتبار أصالة عدم القرينة ، فإنّ الاُصول المتقدمة لا تقتضي كون الحقيقة مرادة حينئذ ، فإنّها إنّما تقتضي ذلك في صورة القطع بعدم القرينة ، وأمّا مع احتمالها فلا ، لأنها لا تمنع عن إرادة غيرها مع نصب القرينة ، فمعه كيف يجوز اقتضاؤها لنفي هذا الاحتمال ؟ فإنّ كون المتكلم ـ في مقام التفهيم ، أو عدم غفلته ، أو عدم تعمّده على ترك القرينة أو عدم بداء له ـ لا يقتضي شيء منها عدم إرادة المجاز مع القرينة .

والحاصل : إنّ احتمال عدم إرادة الحقيقة ناشئ من وجوه :

الأوّل : أن لا يكون المتكلم في مقام التفهيم وإرادة المعنى من اللفظ .

الثاني : كونه مريداً للمجاز مع سهوه أو غفلته عن نصب القرينة .

الثالث : كونه مريداً له ، مع تعمّده على عدم نصبها ، إمّا سفهاً أو لبداء حدث له .

الرابع : كونه مريداً له ، مع نصبه للقرينة ، مع اختفائها على غير المتكلم .

ولا ريب أنَّ الاُصول المتقدمة إنّما تفيد نفي احتمال الوجوه الثلاثة الاُولى .

وأمّا الأخير فلا بدّ من نفي احتماله : إمّا بالقطع ، أو بالأصل ، فلمّا كان مفروض الكلام عدم القطع ، فيتوقف نفي الأصل المذكور على اعتبار أصالة عدم القرينة ، وستعرف الكلام فيها مفصَّلاً إنْ شاء الله .

ومن الظّنون اللّفظية التي قام القاطع على حجيتها ـ في الجملة ـ أصالة عدم

١٤٥
 &

القرينة ، ويراد بها البناء على عدم القرينة عند احتمالها ، وإنّما خصّصناها بالبحث ، مع أنّها كسائر الاصول المتوقف عليها أصالة الحقيقة ، لأنّه لا خلاف ـ ظاهراً ـ في اعتبار غيرها من الاصول المتقدمة ، وإنّما الخلاف فيها .

فنقول : الأكثرون ، ومنهم شيخنا الاُستاذ دام ظله على اعتبارها مطلقاً (١) .

ويظهر من المحقق القمي (٢) ( قدس سره ) ومن المعالم (٣) أيضاً على أظهر الاحتمالين فيه التفصيل بين من قصد إفهامه ، وبين من لم يقصد ، باعتبارها للأوّل وبعدمه للثاني .

والمحكي عن ظاهر بعض ، والمحتمل من كلام صاحب المعالم (٤) التفصيل بين المشافه ، وبين الغائب ، باعتبارها للأوّل ، دون الثاني .

حجة القول الأوّل : الاتّفاق من العلماء ، وأهل اللسان في كل زمان على اعتبارها مطلقاً ، غاية الأمر أنّ بناءهم على الفحص في الخطابات الغيبية ، لكنهم بعده لا يتوقفون في حمل اللفظ على حقيقته لأجل احتمال القرينة ، بل يبنون على عدمها حينئذ ، ويحملون اللفظ على حقيقته .

والّذي يمكن أن يوجّه به التفصيل الأوّل ، ما ذكره شيخنا الاُستاذ ( دام ظله ) من تسليم الاتّفاق فيما إذا كان احتمال القرينة من جهة احتمال الغفلة عنها ، فحينئذ يبنى على عدمها ، لأصالة عدم الغفلة ، فإنّها ، كما كانت معتبرة بالنسبة إلى المتكلم ، فكذلك معتبرة بالنسبة إلى غيره ، وأمّا إذا كان الاحتمال المذكور ناشئاً من احتمال اختفاء القرينة ، لعروض مانع غير الغفلة ، فلا اتّفاق حينئذ ، فيتوقف اعتبارها ـ حينئذ ـ على إثبات الانسداد في الأحكام ، فيخرج عن محلّ الكلام ، فإنّه في إثبات كونها من الظنون المخصوصة الغير المتوقف اعتبارها على المقدمة المذكورة .

وأمّا التفصيل الثاني ، فهذا التوجيه أنسب له منه بالنسبة إلى التفصيل

___________________________

(١) فرائد الاُصول ٤٢ ، ٤٣ في الجواب عن تفصيل المحقق القمّي في حجيّة ظواهر الكتاب .

(٢) القوانين ج ١ : في آخر مسألة حجيّة الكتاب : ٣٩٨ ، ٤٠٣ عند قوله ومن جميع ذلك ظهر أنّ حجيّة ظواهر القرآن الخ وكذا في أوّل مسألة الاجتهاد والتقليد ج ٢ : ٣٠٦ ، ٣٠٧ عند قوله : فإن قلت الدّليل عليه انه ظاهر الكتاب مثلاً وهو حجة اجماعاً الخ فراجع فان ما أفاده في هذا المبحث الاخير دال على التفصيل المنسوب اليه بنحو أوضح .

(٣) معالم الاصول : ١١٢ أصل ما وضع لخطاب المشافهة الخ ، بضمّ ما أفاده في مبحث خبر الواحد : ١٩٣ حيث قال : لانا نقول احكام الكتاب كلّها من قبيل خطاب المشافهة وقد مرّ انه مخصوص بالموجودين في زمان الخطاب الخ .

١٤٦
 &

السّابق ، فحينئذ ينبغي توجيهه بهذا الوجه أيضاً .

ووجه الأنسبيّة سلامته ـ حينئذ ـ عمّا أورد شيخنا الاُستاذ عليه ـ عند توجيه ـ التفصيل الأوّل من عدم جريانه في حق غير المشافه وإن قصد إفهامه .

وكيف كان ، ففي كلّ من الوجهين نظر :

أمّا الأوّل : أعني حجة المشهور ، فلأنّه لم يتحقق لنا الاتفاق المذكور في صورة المشافهة ، بأن يكتفي أهل اللسان في مقام الشفاه بظاهر اللفظ ، مع احتمال إرادة خلافه ، واختفاء القرينة لأجل الغفلة عنها من دون سؤال ، مع التمكن منه بلا مشقة ، مع أنّه لا يتعقل التّعبد بالشك من العقلاء من دون آمر لهم عليه ، كما هو المفروض .

وكيف كان ، فنحن نسلّم أنّ عمل أهل اللسان ـ في محاوراتهم الخارجية ـ على حمل اللّفظ على حقيقته من دون توقّف ، لكنه لم يعلم من حالهم أنّ ذلك لأجل حصول العلم لهم ، نظراً إلى بعد احتمال الغفلة ، بحيث يحصل القطع بعدمها عادة ، ويكون احتمالها مجرد الإمكان العقلي ، أو أنّه مع قيام احتمال الغفلة .

وتمام الخطب إنّما هو بإثبات الاحتمال الثاني ، ولو في بعض الموارد .

ومن هنا ظهر اندفاع ما لو قيل بعدم قبول الاعتذار من العبد في تركه العمل بظاهر الخطاب الصادر من مولاه باحتمال إرادة خلافه ، وغفلته عن فهم القرينة ، لما قد عرفت من الجواب عن ذلك في أصالة الحقيقة .

وحاصله كما ـ هنا ـ إجمال جهة البناء ، بأنّه هل هو من جهة حصول العلم عادة ، فلا يسمع دعوى العبد واعتذاره ، أو من جهة قيام الظاهر حجة عليه مع احتمال إرادة خلافه ، واختفاء القرينة ، فإذا لم يثبت ذلك في بعض الموارد ، فلا يمكن القول باعتبار الأصل المذكور مطلقاً .

نعم الإنصاف ثبوت ذلك في الخطابات الغيبية ، كما سيجيء بيانه ، لكنّه لا يكفي في دعوى الإطلاق .

وأمّا الوجه الثاني : فظهر الجواب عنه ممّا قرّرنا في الجواب عن الأوّل ، من عدم ثبوت سيرة أهل اللسان ـ مع التّمكن من تحصيل العلم بالسؤال بلا مشقة ـ على العلم بأصالة عدم القرينة ، والبناء على عدم الغفلة مع احتمالها ، فظهر بطلان التفصيلين كليهما .

أمّا الأوّل منهما : فلأن المدعى فيه إثبات اعتبار أصالة الحقيقة عند الشك بالنسبة إلى من قصد إفهامه ، سواء كان مشافهاً أو غائباً .

١٤٧
 &

وأمّا الثاني : فلاختصاص دعوى اعتبارها بخصوص المشافه ، وقد عرفت عدم اعتبارها في حق المشافه ، وركونه إليها عند الشك مع التمكن من تحصيل العلم ، كما هو مفروض البحث .

هذا مضافاً إلى ما يرد على الأوّل ، من عدم ارتباط إجماع العلماء بما نحن فيه ، إذ ليس الغرض إثبات اعتبارها تعبداً .

اللّهم إلّا أن يقال : إنّه مع ثبوت اتفاقهم ، فهو يكشف عن جبلتهم على العمل بها ، واستقرار طريقتهم العرفية عليه ، نظراً إلى أنّ اختلاف أمذقتهم وآرائهم ـ غاية الاختلاف ـ يمنع من الاتفاق عادة ، لولا اقتضاء جبلتهم ذلك .

مضافاً إلى ما يرد على الوجه الثاني في الاستدلال به على التفصيل الأوّل ، من اقتضائه عدم اعتبار الأصل المذكور بالنسبة إلى الغائب مطلقاً ، وإن قصد إفهامه ، نظراً إلى أنّ مبنى التفصيل على استناد الأصل إلى أصالة عدم الغفلة فيعتبر ، وعلى استناده إلى استصحاب عدم القرينة ، فلا .

وكيف كان ، فالتحقيق ـ في المقام ـ التفصيل بين المشافه والغائب ، باعتباره للثاني ، دون الأوّل ، عكس التفصيل الثاني ، والدليل على ذلك :

أمّا على عدم اعتباره للأوّل ، فيما عرفت من عدم ثبوت بناء أهل اللسان على العمل به في حال الشفاه ، مع التمكن من تحصيل العلم بلا مشقة .

وأمّا على اعتباره للثاني فإجماع العلماء على العمل به في الخطابات الغيبية ، مع التّمكن من تحصيل العلم بعد الظن بعدم القرينة ، بحيث لا يتوقفون عن العمل ، وحمل الخطاب على حقيقته باحتمال القرينة بعد الفحص عن مظانها ، فإنّ اتفاقهم ـ مع اختلاف أمذقتهم ـ يكشف عن استقرار طريقتهم العرفية على ذلك ، وإجماع أهل اللسان ، وبناء العقلاء في كل زمان على ذلك .

ولا يرد عليه ما أوردنا على اعتبار الأصل في الخطابات الشفاهية ، من أنّ عملهم لعلّه لحصول العلم بعدم القرينة ؛ لأنَّ القطع حاصل بأنّ الغالب في الخطابات الغيبية التي يعملون بظواهرها عدم حصول العلم ، وقيام احتمال القرينة ، ولو بعد الفحص .

لا يقال : إنّ حاصل ما ذكرت دعوى اعتبار الأصل المذكور من جهة الانسداد ، فلا يكون من الظنون الخاصة .

لأنّا نقول : نحن نسلّم الانسداد ، لكن ليس كل ظن يكون اعتباره من جهة الانسداد ظنّاً مطلقاً ، فإنّ المراد بالظن المطلق في المقام ما ثبت اعتباره لأجل انسداد باب

١٤٨
 &

العلم بكل (١) الأحكام الشرعية ، وإن كان مفتوحاً في نفس الألفاظ ، والانسداد الذي نحن نسلّمه إنّما هو في نفس الألفاظ ، مع قطع النظر عن الأحكام الشرعية ، وهذا لا يوجب كونه ظناً مطلقاً ، فإنّ الحكمة في اعتبار جميع الاصول العقلائية هو الانسداد الغالبي ، لفظية كانت ، كما في الاصول المعروفة في المقام ، من أصالة عدم الغفلة ، وعدم السهو ، وعدم السفه ، وغيرها ، أو عملية كالاستصحاب ، وأصالة البراءة ـ بناء على اعتبارهما ـ من باب الظن ، وكالظن بالاُمور المستقبلة ، كالظن بالسلامة فإنّه أيضاً من الظنون المعتبرة العقلائية ، والحكمة في اعتباره إنّما هو انسداد باب العلم بالاُمور المستقبلة غالباً ، فذلك دعاهم على البناء عليه في جميع اُمورهم .

ثم إنّه لا يرد علينا ـ حينئذ ـ أنّه كيف يمكن تعبّد العقلاء بغير العلم في مورد يتمكّنون منه ، كما في بعض الموارد ، فإنّ المدعىٰ ثبوت الانسداد في الغالب ، فهو اعتراف بانتقاضه في بعض الموارد فيرد المحذور .

وتوضيح دفعه : إنّه لا ريب أنّه ليس لحصول العلم أسباب منضبطة ، في مقام استكشاف المرادات ، بل أسبابه ـ في المقام ـ هي الخصوصيات اللاحقة لخصوص المقامات .

هذا بخلاف مقام استكشاف الأوضاع ، فإنّه ـ كما عرفت ـ له أسباب منضبطة ، كالتّبادر ، وعدم صحة السلب ، وغيرهما من الأسباب ، بحيث لا يختص إفادتها العلم لشخص ، دون شخص ، أو حال دون حال ، فلذا تعرّضنا للبحث عن صغرياتها ثمّة ، وتركنا البحث عنها فيما نحن فيه ، لعدم دخولها في المقام تحت ضابط قانوني ، فإذا ثبت أنّها ليس لها ضابط في المقام ، فلا يختص صوره بإمكان تحصيل العلم ، حتى يجب تحصيله فيها ، إذ ربما يحصل العلم في بعض الصّور لأحد ولا يحصل لغيره ذلك في ذلك البعض ، وربما يحصل لشخص واحد في حال دون اُخرى .

وكيف كان ، فحصول العلم في بعض صور المقام اتفاقي ، لا يدخل تحت قانون حتى يجب تحصيله ، والتكلف وتحمل المشقة في جميع الموارد ، لأجل احتمال خصوصية مفيدة للعلم في بعضها ، موجب لاختلال النظام .

والحاصل : أنَّه إذا كان الدّاعي ـ الى البناء على العمل بغير العلم ـ رفع الحرج والمشقة ، وتسهيل الاُمور فذلك أمر حسن عند العقل ، بل واجب ، فلا يرد السؤال

___________________________

(١) كان في الأصل ( بعمل ) وهو خطأ والصحيح ما أثبتناه .

١٤٩
 &

المذكور أصلاً ، لابتنائه على التعبد بغير العلم ، من دون داع إليه ، وغرض صحيح يقتضيه ، وقد عرفت وجودهما في المقام .

هذا ، ثم إنّه بقي الكلام في أنّ اعتبار أصالة الحقيقة من جهة أصالة عدم الغفلة ، أو أصالة عدم القرينة ، على القول بها مطلقاً ، أو بأحد من التفاصيل المتقدمة ، هل هو على الإطلاق ، ومن باب الظن النوعي بالمعنى الأعم الشامل لصورة الظن بالخلاف إلى أن يعلم بالقرينة على المجاز ، أو من باب الظن النوعي بالمعنى الأخص المختص بغير صورة الظن بالخلاف الشامل لصورة الظن بالوفاق ، ولصورة الشك بالمعنى المتعارف ، أو من باب الظن الشخصي بالمعنى المعروف .

الأكثرون على الأوّل ، لكنّهم بين قولين ، فالأكثر منهم على ذلك فيما إذا [ لم ] (١) يكتنف الكلام بشيء يصلح لكونه قرينة اعتمد عليها المتكلم ، وأراد المجاز ، كما في المجاز المشهور ، فإنّ الشهرة ـ المكتنف بها اللفظ ـ تصلح لاعتماد المتكلم عليها ، وإرادة المجاز ، وكذلك الجمل المتعقبة بقيد يصلح لرجوعه إلى الجميع ، أو إلى الأخير خاصّة ، فإنّ المشهور في أمثال المقام عدم حمل اللفظ على حقيقته بناء على عدم القرينة .

ثمّ المشهور منهم التوقف ، وعدم حمله على المجاز أيضاً ، وبعضهم حمله على المجاز ، كأبى يونس ، والقول الآخر المقابل لقول الأكثر قول أبي حنيفة حيث إنّه حمل اللفظ على حقيقته حينئذ أيضاً .

وكيف كان ، فقد عرفت الكلام مفصّلاً في المجاز المشهور ، ومن الأكثرين الذاهبين إلى التوقف حينئذ الشيخ محمد تقي (٢) ( قدّس سرّه ) وشيخنا الاُستاذ (٣) دام ظلّه .

والمحكي عن أكثر المحققين كما في المفاتيح اختيار الثاني ، أي الظن النوعي بالمعنى الأخص ومنهم المحقق الثاني في جامع المقاصد ، والمقدس الأردبيلي في مجمع الفوائد ، وصاحب المعالم ، وصاحب الرياض على ما حكى عنهم في المفاتيح (٤) فإنّ صاحب المفاتيح ( قدّس سرّه ) نسب إليهم القول بالظن النوعي

___________________________

(١) زيادة يقتضيها السّياق .

(٢) أنظر هداية المسترشدين : ٤٠ ، ٤٦ ، ٧١ ، إلّا أنه قدس سره قائل بالتوقف في بعض الصّور من أقسام المجاز الراجح .

(٣) فرائد الأصول : ٤٥ .

(٤) مفاتيح الأصول ٣٣ ، ٣٤ .

١٥٠
 &

وجعل الثمرة بين هذا القول ، وبين القول الثالث ـ أي اعتبار الظن الشخصي ـ أنّه يحمل اللفظ في الأمثلة المذكورة ، وهي المجاز المشهور وأمثاله على المعنى الحقيقي على هذا القول ، ويتوقّف على القول الثالث .

أقول : في نسبته ( قدّس سرّه ) هذا القول إليهم نظر ، بل منع ، فإنّ منهم صاحب المعالم ، ولا يخفى أنّ كلامه في آخر مسألة الأمر في الفائدة التي ذكرها ، التوقف في المجاز المشهور ، فهو ظاهر في موافقته للقول الأوّل ، ولعلّ غيره من المحققين المذكورين كلماتهم أيضاً هكذا ، فاستظهر السيّد صاحب المفاتيح منها هذا القول ، وكيف كان فنسبة هذا القول إلى صاحب المعالم لا أعرف له وجهاً .

وأما غيره فلا بد من الرجوع إلى كلماتهم ، فلعله يظهر لنا غير ما ظهر للسيد المذكور ( قدس سره ) .

والمحكي عن المحقق الخوانساري (١) والد جمال الدين الخوانساري ( قدس سرهما ) اختيار الثالث .

حجة كل واحد من الأقوال ، إنّما هي طريقة أهل اللسان ، وسيرتهم ، فإن كل واحدة من الجماعات يدّعون سيرة أهل اللسان على طبق القول الذي اختاروه .

والذي يقوى في النظر هو القول الأول للأكثر ، من حمل اللفظ على حقيقته مطلقاً إلى أن يعلم بالقرينة فيما لم يكتنف اللفظ بشيء متصل من حال ، أو مقال يصلح لكونه قرينة ، فإن الذي نجده نحن من طريقة أهل اللسان ـ فيما يعتبرون أصالة الحقيقة ، ولا يوجبون تحصيل العلم بالمراد ـ البناء على حمل اللفظ على ظاهره العرفي ، و هو الظاهر الذي يفهمه العرف من اللفظ مجرداً عن القرينة ، وإن لم يحصل الظن لهذا الشخص ، أو حصل له الظن بالخلاف من الامور الخارجية الغير المكتنفة باللفظ ، فظهر ضعف القول الثالث .

ولعلّ المحقّق المذكور ( قدس سره ) نظر إلى الإشكال الذي أوردناه على اعتبار أصالة الحقيقة في حال التخاطب من عدم تعقل العقلاء التعبد بالشك . ولكن هذا الإشكال يناسب لاختيار التفصيل ـ ثمة ـ لا فيما نحن فيه ، إذ بعد البناء على اعتبار أصالة الحقيقة ، فلا ريب أنها لا تفيد القطع ، بل المراد معها مشكوك ، فلا وجه للتفصيل هنا لذلك .

___________________________

(١) لاحظنا نسختين ولكن كانتا ناقصتين وما عثرنا على نسخة كاملة .

١٥١
 &

وأمّا القول الثاني فظهر ضعفه من جهة اعتبار عدم الظن بالخلاف . ثم إنّه يرد عليه الإشكال أيضاً ، في حمل اللفظ على الحقيقة في الأمثلة المذكورة ، لما قد عرفت من أن بناء أهل اللسان على العمل بالظواهر العرفية ، ولا ريب أنه بعد اكتناف اللفظ بشيء متصل يحتمل كونه قرينة ، لا يبقى له ظهور عرفي حتى يعمل به .

ثم ـ ها هنا ـ تفصيل آخر للسيد المتقدم ـ أعني صاحب المفاتيح (١) ( قدس سره ) ، وهو انّ احتمال إرادة خلاف مقتضىٰ اللفظ ، إن حصل من امارة غير معتبرة ، فلا يصح رفع اليد عن الحقيقة ، وإن حصل من دليل معتبر ، فلا يعمل بأصالة الحقيقة ، ومثّل له : بما إذا ورد في السّنة المتواترة عام ، وورد فيها أيضاً خطاب مجمل يوجب الإجمال في ذلك العام ، ولا يوجب الظن بالواقع .

والجواب عنه : ما ذكره شيخنا ( دام ظله ) في رسالته في هذا المقام فراجع (٢) .

وكيف كان ، فقد عرفت المختار ـ في اعتبار أصالة الحقيقة ـ من اختصاصها بالخطابات الغيبية ، ولا ريب أنّ أهل اللسان لا يفرقون ـ حينئذ في العمل بالظاهر العرفي من اللّفظ ـ بين كونه مظنوناً او مشكوكاً أو موهوماً بغير الظن المعتبر على خلافه .

ويكشف عن ذلك الرجوع إلى الفحص عن أحوالهم في مثل المكاتيب ، والرسائل ، حيث أنّك تراهم يجعلون ظاهر اللفظ حجة ، ويرتبون عليه أحكامه من غير أنْ يتوقّفوا ، مع الظن الغير المعتبر على خلافه .

ألٰا ترى أنّه لو كتب أحد لآخر مكتوباً ، وكتب فيه الشتم والسبّ على ثالث ، فوقع المكتوب بيد ذلك الثالث ، فلا يتوقف في جعله حجّة على الكاتب ، بحيث لو اعتذر الكاتب بأنّي لم أقصد من الكتابة الشّتم ، وإنّما قصدت به المشق (٣) لم يسمع منه ذلك ، و يصحّ عقابه عند العقلاء .

هذا ، ومن الظواهر اللفظية المجازات المحفوفة بالقرائن وهذا ما هو المشهور من أن المجازات مع القرائن حقائق ثانوية ، أي في حكمها ، ويراد بها وجوب حمل اللفظ عليها ، عند الخلو عن الصارف للّفظ عن الظهور ، الذي حصل له بواسطة قرينة ، ولو مع عدم إفادة اللفظ العلم بكون الظاهر مع القرينة مراداً ، وهو أي ظهور اللفظ مع القرينة على قسمين :

___________________________

(١) مفاتيح الاصول للسيد محمّد : ٣٦ .

(٢) فرائد الأصول : ٤٥ .

(٣) للمشق معان عديدة والمعنى المناسب هنا : جذب الكلام وإطالة الرسالة والكتابة .

١٥٢
 &

أحدهما : ما يرجع إلى أصالة الحقيقة في نفس القرينة ، وهذا فيما إذا كانت القرينة لفظية .

وثانيهما : ما يرجع إلى غيرها ، وهذا فيما إذا كانت حالية ، ووجه رجوعه إلى أصالة الحقيقة ـ في القسم الأول ـ أنه إذا قيل : رأيت أسداً يرمي ، ودار الأمر بين كون أسد مجازاً في الإنسان الشجاع ، أو كون يرمي مجازاً في رمي التراب ، كما هو عادة الأسد الغضبان ، فظهور الأسد في الإنسان الشجاع مستند إلى أصالة الحقيقة في لفظ يرمي ، وهذا القسم من المجاز معتبر عند أهل اللسان بعين اعتبار الحقائق ، لأن السبب الداعي إليه ، إنما هو متابعة أصالة الحقيقة التي مرّ بيان اعتبارها .

اللّهم إلّا أن يقال : إن الأدلة المتقدمة في اعتبار أصالة الحقيقة ، لا تقتضي أزيد من وجوب حمل اللفظ على مدلوله المطابقي ، وأما ترتيب معناه الالتزامي ، وهو صرف لفظ آخر عن ظاهره ، وكون المراد منه غير الظاهر ، مع جريان أصالة الحقيقة فيه أيضاً ، فلا .

لكنه مدفوع بأن الاُصول العقلائية كلها معتبرة عند العقلاء ، وأهل العرف في جميع آثارها ـ سواء كانت مطابقية ، أو التزامية ـ وإنما يتصور التفكيك فيما إذا كان الأصل معتبراً من باب التعبد الشرعي ، وأما معارضة أصالة الحقيقة في لفظ آخر لنفسها في اللفظ الذي يكون قرينة ، فهو مدفوع بأن اللفظ لا يكون قرينة إلّا بعد كون دلالته نصاً ، أو أظهر بالنسبة إلى دلالة اللفظ الآخر ، ولا ريب أنه لا اعتبار لأصالة الحقيقة بعد تعارض دلالة اللفظ بأقوى منها ، بل يكون دلالة ذلك اللفظ واردة على أصالة الحقيقة في اللفظ ، إذا كانت نصاً ، مع قطعية سندها وحاكمة عليها إذا كانت ظنيّة في الجملة .

وكيف كان ، فلا كلام في تقديم دلالة أحد اللفظين على دلالة الآخر ، وجعله قرينة عليه عند التعارض ، إذا اُحرز كون ذلك اللفظ نصاً أو أظهر دلالة ، وإنما الإشكال في المقامات الخاصة في تشخيص تلك الصغرى ، إذ كما يقال : إن ( يرمي ) في ( أسد يرمي ) قرينة على الأسد ، فكذلك يمكن القول بالعكس .

وما ربما يتوهمه بعض : من جعل المتأخر قرينة ممنوع بعدم الأولوية .

وكيف كان ، فطريق إحراز الصغرى إنّما هو بالرجوع إلى العرف ، فكل ما كان من اللفظين أظهر دلالة من الآخر ، فهو القرينة .

ثم إنّ القرينة إذا كان لفظية ، فالظهور المجازي مستند إلى أصالة الحقيقة ، كما

١٥٣
 &

عرفت ، وإذا كانت حالية ، فهو مستند إلى تلك الحال ، وكما أنّه لا يجوز التأمل في الاعتماد على ظهور اللفظ في المعنى المجازي ، وحمله عليه فيما إذا كانت القرينة لفظية ، بعد إحراز كونها قرينة ، بمعنى كونها أظهر دلالة ، فكذلك لا يجوز التوقف في ذلك ، فيما إذا كانت القرينة حالية ، بعد إحراز كون تلك الحال بحيث توجب ظهور هذا اللفظ في المعنى المجازي عرفاً .

أمّا على الأول : فلما عرفت من أنّ مرجع الظهور المجازي ـ حينئذ ـ مستند إلى أصالة الحقيقة ، وقد عرفت اعتبارها .

وأمّا على الثاني : فلأنّ ما دل على اعتبار أصالة الحقيقة من بناء العقلاء من أهل اللسان ، واستقرار سيرتهم في كل زمان جار فيه أيضاً ، وثابت بلا كلام ، كما يظهر للمتتبع في محاوراتهم ، وأمّا كون بناء العقلاء دليلاً ، فهو أمر واضح لا يحتاج إلى الاحتجاج عليه ضرورةَ إمضاء الشارع لبنائهم مطلقاً .

ثم إنّ قرائن المجاز لا تدخل تحت ضابطة ، بل تختلف باختلاف المقامات ، أمّا إذا كانت لفظية فواضح ، إلّا أن يجعل الضابط كون اللفظ بحيث يصرف اللفظ الآخر عن ظاهره ، لكن كونه كذلك لا يدخل تحت ضابطة ، بل هو يتبع الموارد الجزئية .

وأمّا إذا كانت حالية ، فالأمر فيها أوضح ، لعدم دخولها تحت ضابطة أصلاً ، إلّا بالتوجيه المتقدم ، من كون الحال مثلاً بحيث توجب صرف اللفظ عن ظاهره عرفاً مثلاً ، أو تعيّنه في المعنى الآخر .

نعم قد يتصور الانضباط في بعض أفرادها ، كما في المجاز المشهور ، فإن الشهرة حالة للّفظ توجب تعيين اللفظ في المعنى المجازي بعد قيام قرينة صارفة له عن حقيقته على المشهور ، أو بدونها على قول أبي يونس .

وكيف كان ، فهي موجبة لظهور اللفظ في المعنى مطلقاً ، أو مع قيام قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي في جميع الموارد ، بحيث لا يختص كونها موجبة للظهور المذكور مطلقاً ، أو مشروطاً ، على اختلاف الرأيين ببعض صورها ، دون بعض ، وكما في الأمر الواقع عقيب توهّم الحظر ، فإنّ وقوعه في هذا المقام حالة توجب ظهوره في الإباحة ورفع الحظر ، دون الوجوب .

ثم إنّ القرينة حالية كانت ، أو مقالية ، قد تكون مانعة عن مقتضى وضع اللفظ وكونه مراداً منه ، وقد تكون معينة لغير مقتضى اللفظ ، وهو المعنى الغير الموضوع

١٥٤
 &

له ، بعد قيام ما منع اللفظ عن مقتضى وضعه ، وقد تكون موصوفة بكلتا الصفتين ، فعلى الأوّل صارفة محضة ، وعلى الثاني معينة كذلك ، وعلى الثالث موصوفة بكلتيهما ، فعلى الأوّل : فهي موجبة لظهور اللفظ في غير الموضوع له إجمالاً ، وعلى الثاني : موجبة لظهوره فيه تفصيلاً ، بعد قيام قرينة صارفة له عن الموضوع له ، وأمّا على الثالث : فهي بنفسها موجبة لظهور اللفظ في غير الموضوع له تفصيلاً فالنسبة بينهما أي الصارفة والمعينة عموم من وجه .

وكيف كان ، فكلما ظهر اللفظ في غير المعنى الموضوع له إجمالاً أو تفصيلاً ، ولو بانضمام شيء آخر ، فهذا الظهور متبع يجب ترتيب آثاره عليه حسب ما يقتضيه المقام ، وبحسب الإجمال والتفصيل ، وقد عرفت الدّليل على ذلك .

ثم إنّه إذا قامت قرينة صارفة للفظ عن معناه الحقيقي ، واتّحد المجاز ، فلا إشكال حينئذ في حمل اللفظ على ذلك المعنى المجازي ، فتلك القرينة الصارفة ـ حينئذ ـ معينة أيضاً ، وإن تعدد ، فقالوا : الحمل على أقرب المجازات ، ويعنون به الأقرب إلى نظر العرف ، بمعنى أنّه يحمل اللفظ ـ حينئذ ـ على أظهر المجازات عندهم ، بعد قيام القرينة الصّارفة على عدم إرادة الحقيقة .

ثم سبب ظهور إرادة هذا المعنى المجازي حينئذ من اللفظ ، وصيرورته أظهر من بين المجازات مرجعه ـ على المشهور ـ إلى أحد الاُمور الثلاثة :

الأوّل : الأقربية من حيث الاستعمال ، بمعنى أكثرية استعمال اللفظ في هذا المعنى من استعماله في المجازات الاُخرى .

الثاني : أقربيته من حيث الاعتبار ، أي كونه أقرب إلى الحقيقة من حيث الاعتبار العقلي .

وبعبارة اُخرى : كونه آكد علاقة للمعنى الحقيقي من بين المجازات ، فذلك يوجب أقربيته في نظر العرف حينئذ .

الثالث : ما لا يكون شيئاً منهما ، وليس نوعاً مندرجاً تحته جزئيات هذا القسم ، وإنّما تتميز تلك الجزئيات بنفس النتيجة المذكورة ، أعنى ظهور اللفظ في ذلك المعنى المجازي الخاص من بين المجازات .

وبعبارة اُخرى : إنّه كلما وجد مورد في العرف ، فيما إذا تعدد المجازات ، بعد قيام القرينة الصارفة ، يفهمون من اللفظ أحدها بخصوصه ، مع انتفاء الأمرين المذكورين بينه وبين المعنى الحقيقي ، فالسبب الموجِب لذلك الظهور حينئذ ، الذي لا نعلمه تفصيلاً ،

١٥٥
 &

داخل في هذا القسم ، وربما يطلق على هذا القسم التبادر تسمية للشيء باسم مسببه ، فإنّ التبادر حقيقة هو هذا الظهور ، وذلك القسم سببه فتسميته به بالاعتبار المذكور .

ووقع التعبير عنه بذلك في كلام بعض السادة الأجلاء ، حيث قال : إنّ سبب ظهور اللفظ في المعنى المجازي في صورة تعدده أحد اُمور ثلاثة :

الاشتهار ، والقرب ، والتبادر ، وأراد بالاشتهار الأقربية من حيث الاستعمال ، وبالقرب الأقربية من حيث الاعتبار ، وبالتبادر القسم الأخير .

هذا ، ولكن الحق عدم كون القرب الاعتباري سبباً للتعيين والظهور ، نعم هو يكون منشأ للأقربية الاستعمالية بمعنى أنه شَرطٌ شُرِط فيها ، فإنه يتوقف استعمال اللفظ في الغير الموضوع قليلاً أو كثيراً بملاحظته ، إذ لولاه لما جاز الاستعمال المجازي ، لتوقفه على العلاقة المؤكدة بين المعنى الأصلي والمجازي ، لكنه ليس بنفسه صالحاً للتعيين ، وظهور اللفظ في الأقرب من جهته .

وما ذكرنا ـ من المنع ـ لا ينافي ما ذكره أهل البيان : من أنّ وجه الشبه ـ بين المشبه والمشبه به ـ لا بد أن يكون من أظهر أوصافه ، ليكون سبباً للانتقال من المشبه به إلى المشبه ، فإنّ غرضهم الأظهرية في نظر العرف ، دون الواقع ، ونظر العقل .

ثم إنّه تظهر الثمرة بين ما اخترنا ـ في الأقربية الاعتبارية ـ وبين القول الآخر في حديث الرفع ، وأمثاله مما قامت القرينة فيه على تعذر حمل اللفظ على الحقيقة ، مع وجود أقرب اعتباراً من بين المجازات ، فعلى ما اخترنا لا يحمل الحديث على رفع جميع الآثار ، لكونه أقرب إلى نفي الحقيقة ، بل يحمل على الأمر الظاهر عند العرف في مثل هذا التركيب إن كان كالمؤاخذة ، وإلّا فالتوقف .

ثم إنّه يترتب على كون الظهور العرفي معيّناً للمعنى المجازي حمل قوله تعالى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ) (١) على حرمة وطئها ، لأنّه الأظهر عرفاً من بين سائر المحتملات ، وكذا حمل قوله تعالى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) (٢) على حرمة أكلها ، لكونه أظهر عرفاً في مثل هذا التركيب ، بعد تعذر الحقيقة ، فإنّ الحقيقة في المثالين متعذرة الإرادة ، لأنّ الحرمة من صفات الفعل لا الذات ، فلا يجوز اتصافها بها .

ثم ليعلم أنّ مثل هذا الظهور من القسم الثالث ، فإنّ سببه ليس الأقربية

___________________________

(١) سورة النساء : ٢٣ .

(٢) سورة المائدة : ٣٠ .

١٥٦
 &

الاستعمالية ، ولا الاعتبارية على القول باعتبارها ، ومن هذا القبيل قوله عليه السلام ( لا غيبة لفاسق ) فإنّ ظهوره في نفي الحرمة غير مسبب عن شهرة الاستعمال أو القرب الاعتباري .

وكيف كان ، فالمدار في تعيين اللفظ في أحد المجازات ، بعد تعذر حمله على الحقيقة على الظهور العرفي للّفظ في هذا المعنى المجازي ، سواء كان مسبباً من كثرة الاستعمال ، أو من القرب الاعتباري ، أو من غيرهما ، فإن الغرض من نفي كون القرب الاعتباري منشأ للظهور ، إنّما هو نفي الملازمة ، كما كانت حاصلة بين الشهرة ، والمجاز المشهور ، لا نفي إمكانه أو وقوعه أحياناً .

تذنيب :

إذا وقع التعارض بين تلك الأسباب ، أعني الشهرة والأقربية الاعتبارية على القول بها ، وغيرهما ، فيقدم الظهور المسبب عن الأوّل ، ثمّ المسبب عن الثالث ، وأما المسبب عن الثاني ، فعلى فرض تسليم كونه سبباً له فهو متأخر عن الجميع ، فلا يرجع إليه إلا بعد فقد الآخرين .

خاتمة :

في تعارض الاُصول اللفظية ، وما يجري مجراها من الاُصول المستعملة ، في إثبات الأوضاع ونفيها ، كأصالة عدم الاشتراك والنقل ، إذا فهم المراد من استعمالها ، ويدخل فيه البحث المعروف بتعارض الأحوال ، لأن المراد بهذه الأحوال اُمور يخالف كل واحد منها أصلاً من الاُصول اللفظية ، كالاشتراك ، والنقل ، والتخصيص ، والإضمار ، والمجاز ، فمعارضة بعضها مع بعض يرجع إلى تعارض الاُصول اللفظية ، فإن تعارض الاشتراك مع النقل يرجع إلى معارضة أصالتي عدمهما وهكذا . . .

وقد يعبر عنها بمسائل الدوران ، وإنما أفردوا التخصيص والإضمار ، مع أنهما قسمان من المجاز ، لاختصاصهما بمزايا ليست في سائر الأقسام ، كذا قيل .

لكن الأظهر في وجه الإفراد ، هو أن كون التخصيص خصوصاً المتصل منه مجازاً مختلف فيه ، والإضمار أيضاً خارج عن حد المجاز المعروف في الحقيقة ، وإنما يطلق عليه المجاز في الإعراب توسعاً ، فهو ضرب آخر غير المجاز المعروف المحدود في كلامهم .

١٥٧
 &

وإنّما أفردوا البحث عن التقييد ، والنسخ ، مع أنهما أيضاً من أحوال اللفظ ، مع وقوع التّعارض بينهما وبين غيرهما من الأحوال الخمسة المتقدمة ، لأنّ النسخ ليس قسماً آخر من الأحوال ، بل هو داخل في التخصيص ، فالبحث عن حكم معارضة التخصيص مع غيره يغني عن البحث عن حكم تعارض النسخ ، مع سائر الأحوال المتقدمة ، إذ ليس له خصوصية زائدة من بين أفراد التخصيص ، فيكون حكمه حكم مطلق التخصيص ، وإفرادهم له بالبحث ليس من جهة البحث عن معارضته مع سائر الأحوال غير التخصيص ، بل الغرض الممهّد لأجله مبحث بناء العام على الخاص ، أو النسخ إنّما هو بيان الحال في معارضة أفراد التخصيص بعضها مع بعضها ، فيقال فيما إذا ورد عام ، ثم ورد خاص : فهل يحكم بالتخصيص الافرادي بحمل العام الأوّل على هذا الخاص ، أو بالتخصيص الأزماني ، فيجعل الخاص نسخاً للعام .

والغرض فيما نحن فيه ـ أعنى تعارض الأحوال ـ بيان الحال عند تعارض أنواع تلك الأحوال ، لا أفرادها بعضها مع بعض ، فظهر أنّ إفراد النسخ بالبحث ـ في مبحث بناء العام على الخاص ـ ليس إفراداً من الجهة المبني عليها بحث تعارض الأحوال .

وأمّا إفراد التقييد ، فلطول البحث فيه بحيث لا يسعه المقام هنا ، فإنّ الجواب السابق لا يتمشى هنا ، فإنّ الغرض في مبحث المقيد والمطلق ، هو الغرض في تعارض الأحوال من معرفة حكم معارضة التقييد مع غير نوعه ، فانّ التعارض هناك بين التقييد في المطلق ، أو المجاز في المقيد .

وكيف كان ، فبملاحظة دخول النسخ ، والتقييد في الأحوال ، فيما نحن فيه ترتقي أقسام تعارض الأحوال إلى أحد وعشرين قسماً ، كما يظهر بالتأمل ، ولعل الذي حصر الأقسام في العشرة ، أهمل هذين ، أي النسخ والتقييد فيما نحن فيه ، إذ بعد إهمالهما ترتقي أقسام تعارض سائر الأحوال إلى عشرة ، وبزيادتها يزيد أحد عشر .

ثم إنّ تنقيح المقال في تعارض الأحوال يتوقف على مراحل ثلاث :

الاُولى : في تأسيس الأصل ، فيما إذا تكافأت اثنتان منها ، إمّا لعدم مزية لأحدهما على الاُخرى أصلاً ، أو بناء على عدم اعتبار المزية ، والترجيح في المقام ، واختصاص اعتباره بتعارض الأخبار .

الثانية : في ذكر المزايا والمرجّحات النوعيّة ، وأمّا الشخصيّة التي تفيد الظن الفعلي بأحد الطرفين ، فهي باعتبار عدم انضباطها ، لم تصلح لتعلق غرض الاُصوليين بذكرها في المقام .

١٥٨
 &

الثالثة : في اعتبار تلك المزايا وعدمه ، ومسألتنا هذه إنّما هي المرحلة الثالثة ، فلنقدّم الكلام في المرحلة الاُولى ، وقبل الشروع لا بد من تمهيد مقدمة :

وهي أنّ محل النزاع في تعارض الأحوال وتكافُئها أعمّ من أن يكون التعارض بين الحالين ذاتياً ـ بمعنى كونه ناشئاً عن مقتضى ظاهري اللفظين ، كما في أسد يرمي ، فإنّ التعارض بين مجازية الأسد في الشجاع وبين مجازيّة يرمي في رمي التراب ، وبقاء الأسد على حقيقته ناشئ عن مقتضى ظهور اللفظين ، فإنّ ظاهرهما متنافيان بالذات ، لا يجوز الجمع بينهما عقلاً ـ أو عرضياً مسبّباً عن العلم الاجمالى بعدم إرادة ظاهر أحد الخطابين ، فإنّ الأمر حينئذ دائر بين التصرف في ظاهر ذلك الخطاب ، وجعله هو المعلوم بالإجمال ، وبين التصرف في ظاهر هذا الخطاب ، بسبب العلم الإجمالى بحيث لولاه لا يمكن الجمع بينهما .

وهذا كما في قوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ) (١) إذ لا ريب أنّه لا تنافي بالذات بين بقاء العام الذي هو المطلقات على عمومه ، وبين بقاء الضمير على ظاهره ، وهو اتحاده لما أريد من المرجع بأن يكون المراد بالمطلقات أعمّ من الرجعية والمطلقة بالطلاق البائن ، كما هو ظاهره ، ويكون المراد بالضمير في بعولتهنّ مطلق المطلقات ـ كما ذكر ـ متحد الضمير مع ما أريد من المرجع ، فلا يلزم خلاف أصل في شيء منهما ، لكن لما قام الإجماع على اختصاص جواز الرجوع بالرجعيات ، فلا يمكن حينئذ أن يراد بالضمير مطلق المطلقات ، بل لا بد من أن يراد به الرجعيات خاصة ، فبذلك يدور الأمر بين الاستخدام وبين التخصيص في العام ، إذْ لو أريد من العام مطلق المطلقات ، يلزم الاستخدام في الضمير ، لعدم مطابقته حينئذ لما أريد من المرجع ، وإن أريد اتحاده لما أريد منه ، وعدم الاستخدام يلزم التخصيص في العام .

فقد عرفت أنَّ العلم الإجمالي بمخالفة أحد الظاهرين ، أحدهما العموم ، وثانيهما ظهور الضمير في مطابقته لما أريد من مرجعه أوجب هذا التعارض ، وإلّا فلا تعارض بينهما بالذّات كما عرفت .

هذا ، ثم إنّ النزاع في المقام فيما إذا لم يكن في بعض تلك الأحوال مسبَّباً عن الشك في الآخر ، فالأصل في الشك السببي مقدّم على الشك في المسبب ، كما تحقق ذلك في

___________________________

(١) سورة البقرة آية ٢٢٨ .

١٥٩
 &

تعارض الاستصحاب ، بل الأمر هنا أوضح ، لأنّ الاصول اللفظية كلّها أمارات ظنية ، ولا يعقل الظن بوجود المسبَّب ، مع الظن بعدم السبب ، بل يرتفع الأوّل بالثاني عقلاً ، والمفروض حصول الظن من الأصل النافي للسبب ، فيرتفع الذي كان الشك فيه مسبَّباً عن الشك في ذلك السبب .

ومن هذا الباب دوران الأمر بين تخصيص العام المتعقب بالضمير ، وبين ارتكاب الاستخدام في الضمير ، وبقائه على حاله ، كما في الآية المتقدمة حيث أنّ حمل المطلقات على ظاهره ـ الذي هو العموم ـ يوجب الاستخدام في ضمير ( بعولتهن ) للاجماع على عدم الرجوع في جميع أقسام المطلّقة ، كما عرفت ، فيدور الأمر بين تخصيص العام مع بقاء الضمير على حقيقته ، أعني المطابقة للمراد بالمرجع ، وبين إبقائه على العموم ، والتزام الاستخدام في الضمير ، لكن الشك في الثاني لمّا كان مسبَّباً عن الشك في التخصيص ، فبأصالة عدمه يثبت الاستخدام ، وإن كان التخصيص في نفسه أرجح من المجاز مطلقاً ، فإنّ الظن بالمزيل ، يرفع الظن بالمزال ، وإن كان أضعف الظنون ، وكذلك الأصل فيه يرفع الأصل في الثاني ، وإن كان أضعف اعتباراً من الأصل في الثاني .

ويظهر لمراعاة القاعدة المذكورة ـ أعني تقدم الأصل في المزيل على الأصل في المزال ـ ثمرات كثيرة في مسائل العِدة في غير الرجعيات في الفقه ، إذ عليها يتمسّك بعموم المطلقات الذي هو موضوع حكم التّربص بثلاثة قروء على إثبات ذلك الحكم ، أي التّربص بثلاثة قروء في مطلق المطلقات ، إلّا ما قام الدليل على خروجها ، وعلى عدمها ، إمّا بالحكم بحقيقة الضمير ، بأن يكون المراد بالمطلّقات خصوص الرجعيات ، أو بالتعارض بين تخصيصه وبين الاستخدام ، والتوقف ، فلا يجوز التمسك به في اثبات ذلك الحكم في غير الرجعيات .

أمّا علىٰ الاول : اي علىٰ الحكم بتخصيصه ، وبقاء الضمير علىٰ ظاهره ، فظاهر ، لسكوته حينئذ عن حكَم غير الرجعيات .

وأمّا على الثاني : أي على التعارض والتكافؤ ، فلإجماله في ارادة العموم .

فإذا عرفت هذه كلّها ، فلنرجع إلى ما نحن بصدده ، فنقول بعون الله وحسن توفيقه :

١٦٠