أنوار الأصول - ج ٣

أنوار الأصول - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-15-6
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٢٤

٤ ـ ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله من « أنّ هذه الأخبار مسوقة لبيان أنّ البلوغ يحدث مصلحة في العمل بها فيكون البلوغ كسائر العناوين الطارئة على الأفعال الموجبة لحسنها وقبحها والمقتضية لتغيير أحكامها ، كالضرر والعسر والنذر والإكراه وغير ذلك من العناوين الثانوية ، فيصير حاصل معنى قوله عليه‌السلام « إذا بلغه بعد حمل الجملة الخبرية على الإنشائيّة هو أنّه يستحبّ العمل عند بلوغ الثواب عليه كما يجب العمل عند نذره ، فيكون مفاد الأخبار حجّيه قول المبلّغ وأنّ ما أخبر به هو الواقع ، فيترتّب عليه كلّ ما يترتّب على الخبر الواجد للشرائط » (١).

أقول : إنّ معنى هذا الكلام قبول دلالة الأخبار على الاستحباب لعدم الفرق بين أن نستفيد منها الحجّية الاصوليّة أو الاستحباب في مسألة فقهيّة ولا تترتّب عليه ثمره غير ما سيأتي ذكره في التنبيهات ، فليس هذا إشكالاً على دلالة أخبار من بلغ.

٥ ـ ما ذهب إليه في تهذيب الاصول وهو : « أنّ الظاهر من هذه الأخبار أنّ وزانها وزان الجعالة ، بمعنى وضع الحكم على العنوان العام ليتعقّبه كلّ من أراد ، فكما أنّ تلك ، جعل معلّق على ردّ الضالّة ، فهذا أيضاً جعل متعلّق على الإتيان بالعمل بعد البلوغ برجاء الثواب.

توضيحه : أنّ غرض الشارع لما تعلّق على التحفّظ بعامّة السنن والمستحبّات ويرى أنّ الاكتفاء في طريق تحصيلها بالطرق المألوفة ربّما يوجب تفويت بعضها ، فلأجل ذلك توصّل إلى مراده بالحثّ والترغيب إلى إتيان كلّ ما سمع عن الغير الذي يحتمل كونه ممّا أمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأردف حثّه باستحقاق الثواب وترتّب المثوبة على نفس العمل حتّى يحدث في نفس المكلّف شوقاً إلى الإتيان ، لعلمه بأنّه يثاب بعمله طابق الواقع أو خالف ... وممّا ذكرنا يظهر إنّ استفادة الاستحباب الشرعي منها مشكل غايته ، للفرق الواضح بين ترتّب الثواب على عمل له خصوصيّة ورجحان ذاتي فيه كما في المستحبّات وبين ترتّب الثواب على الشيء لأجل إدراك المكلّف ما هو الواقع المجهول كما في المقام ، كما أنّ جعل الثواب على المقدّمات العلمية لأجل إدراك الواقع لا يلازم كونها اموراً استحبابيّة وكما أنّ جعل الثواب على المشي في طريق الوفود إلى الله أو إلى زيارة الإمام الطاهر الحسين بن علي عليهما‌السلام لأجل الحثّ إلى زيارة بيت الله

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٤١٤ و ٤١٥ ، طبع جماعة المدرّسين.

٨١

أو الإمام لا يلازم كون المشي مستحبّاً نفسيّاً » (١).

أقول : لا يترتّب على نفس ما يكون مجرّد طريق أو مقدّمة إلى شيء ثواب كما ذكر في محلّه في مبحث مقدّمة الواجب سواء كانت مقدّمة العلم أو مقدّمة الوجود مع أنّ الظاهر من هذه الأخبار ترتّب الثواب على نفس العمل ، وهذا يقتضي كونه مستحبّاً ولو بعنوان ثانوي غير كونه مقدّمة.

٦ ـ إنّه يمكن أن يكون مورد الروايات ما إذا كان المبلّغ ثقة كما هو الظاهر في بدو النظر من قوله عليه‌السلام : « بلغه » لأنّ البلوغ ظاهر في البلوغ الصحيح ، ولا أقلّ من عدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة ( كون المبلغ ثقة أو غير ثقة ) فلا يمكن التمسّك بإطلاقه بل إنّه في مقام بيان أنّ الثواب يترتّب على العمل حتّى في صورة التخلّف عن الواقع.

لكن يمكن أن يقال : إنّ اطلاق حديث من بلغ يقتضي عدم الفرق بين البلوغ من الطرق المعتبرة أو غيرها لصدق البلوغ على كليهما ، ويؤيّده فهم الفقهاء ، حيث إنّهم في باب التسامح في أدلّة السنن تمسّكوا بهذه الأخبار.

وإن شئت قلت : بلوغ الخبر أعمّ من أن يكون الخبر مطابقاً للواقع أو غير مطابق ، فالبلوغ صحيح على كلّ حال وإن لم يكن الخبر مطابقاً للواقع.

٧ ـ إنّها تتعارض مع منطوق آية النبأ لأنّها تدلّ بإطلاقها على وجوب التبيّن حتّى في المستحبّات.

واجيب عنه : بأنّ عموم الآية أو إطلاقها يخصّص أو يقيّد بهذه الروايات.

٨ ـ إنّ مدلولها أخصّ من المدّعى من ناحية وأعمّ منها من ناحية اخرى ، فهو أخصّ من باب أنّ موردها ما إذا وعد بالثواب ، فلا يعمّ غيره كما إذا ورد خبر ضعيف بصيغة الأمر كقوله « اغتسل » من دون الوعد بالثواب ، وأعمّ من جهة إنّها تشمل ما إذا كان الخبر الضعيف دالاً على الوجوب أيضاً.

ويمكن الجواب عن هذا بأنّها شاملة لموارد عدم الوعد بالثواب بمدلولها الالتزامي كما لا يخفى ، لإلغاء الخصوصيّة من هذه الناحية عرفاً. وأمّا عمومها بالنسبة إلى الخبر الدالّ على

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ، طبع جماعة المدرّسين.

٨٢

الوجوب فلا بأس به لأنّ المعتبر دلالته على رجحان الفعل وترتّب الثواب فيصير بضميمة أخبار من بلغ دليلاً على الاستحباب.

هذا كلّه هو ما اورد على أخبار من بلغ من الإيرادات حيث كان الأوّل منها إيراداً من ناحية السند والباقي من ناحية الدلالة ، وكان أهمّها الذي لا يمكن الجواب عنه ، هو الإشكال الثاني وحينئذٍ لا يمكن التمسّك بهذه الأخبار لإثبات استحباب ما أمرت به الأخبار الضعاف ، فلا يجوز الفتوى بالاستحباب بل لابدّ أن يقيّد بلزوم إتيان العمل بقصد الرجاء ، وبهذا يسقط كثير من المستحبّات الواردة في كتب الفتوى والرسائل العمليّة ، فاللازم الإتيان بها بقصد الرجاء لا الورود ، إلاّ إذا كان دليلها الأخبار المعتبرة لا الضعاف.

ثمّ إنّه لو سلّمنا دلالتها على الاستحباب فليس مفادها حجّية الخبر الضعيف بعنوان مسألة اصوليّة بحيث يكون مثل قوله عليه‌السلام : « ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان » بل إنّ مفادها مجرّد إعطاء قاعدة كلّية فقهيّة وهى استحباب العمل بعنوان ثانوي وهو عنوان البلوغ.

والفرق بين الأمرين يظهر في بعض الفروع نظير ما مثّل به الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله في رسائله من غسل المسترسل من اللحية في الوضوء ، فالحكم باستحبابه من باب دلالة خبر ضعيف عليه لا يوجب جواز المسح ببلله لأنّ المسح لابدّ من أن يكون من بلل الوضوء ، ولا يصحّ ببلل ما ليس منه ولو كان مستحبّاً فيه إلاّ إذا ثبت كونه جزءاً مستحبّاً من الوضوء بدليل معتبر ، فلا إشكال حينئذٍ في جواز المسح به.

أضف إلى ذلك كلّه خروج هذه الأخبار عن محلّ النزاع ( وهو تصحيح العبادة الاحتياطيّة ) لأنّه إمّا أن تكون أخبار من بلغ كافية لإثبات الاستحباب الشرعي أو لا ، وفي كلا الحالين يكون البحث عنها خارجاً عن محلّ النزاع ، أمّا على الأوّل فلأنّ محلّ البحث في المقام ما إذا لم يكن في البين حجّة على الوجوب أو الاستحباب واريد الاحتياط ، فلو كانت هذه الأخبار كافية لإثبات الحجّية للخبر الضعيف فلا معنى لإتيان العمل بقصد الاحتياط كما لا يخفى.

وأمّا على الثاني فلأنّ المفروض في محلّ الكلام عدم كفاية قصد الرجاء مع أنّ مقتضى التعبير الوارد في هذه الأخبار لزوم قصد الرجاء في هذه الموارد ، فلا فائدة في الاستناد إلى أخبار من بلغ لما هو محلّ البحث.

٨٣

بقي هنا امور

الأمر الأوّل : إنّ إحراز موضوع البلوغ من وظيفة المجتهد لا المقلّد سواء كانت المسألة اصوليّة أو كانت قاعدة فقهيّة أو مسألة فقهيّة ، أمّا بناءً على كونها اصوليّه فلأنّ الحجّية أو عدمها أمر تشخيصها من شأن المجتهد ، وأمّا بناءً على كونها قاعدة فقهيّة أو مسألة فقهيّة فلأنّ تشخيص البلوغ أو عدمه يتوقّف على إعمال مقدّمات فنيّة لا يكون في استطاعة المقلّد غالباً.

الأمر الثاني : أنّه لا فرق في المقام بين أن يكون الخبر الضعيف مفاده استحباب الشيء أو وجوبه لاتّحاد المناط فيهما وهو بلوغ الثواب ، فالخبر الدالّ على الوجوب حيث إنّ من مدلوله ترتّب الثواب والأجر يتحقّق به موضوع البلوغ ، فيكون مشمولاً لأخبار من بلغ ، ويصير مفاده مستحبّاً بالعنوان الثانوي وإن لم يثبت به الوجوب بالعنوان الأوّلي ، نعم هذا كلّه بناءً على عدم كون المسألة اصوليّة ، وأمّا إذا كانت المسألة اصوليّة فحيث إنّه يثبت بهذه الأخبار حجّية الخبر الضعيف يكون الخبر معتبراً من ناحية السند فيدلّ على الوجوب بلا إشكال.

اللهمّ إلاّ أن يقال : بإمكان بالتبعيض في الحجّية ، وذلك بأن لا يكون مفاد هذه الأخبار بناءً على هذا المبنى أيضاً أكثر من الحجّية من ناحية دلالة الخبر على الرجحان لا الحجّية مطلقاً ، فيثبت به مجرّد رجحان العمل واستحبابه فحسب.

الأمر الثالث : أنّه لا فرق بين أن يكون الخبر منسوباً إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو إلى الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، لأنّ روايات الباب من هذه الجهة على ثلاث طوائف فطائفة : منها يكون الموضوع فيها مطلق بلوغ الثواب كالرواية ٦ و ٨ و ٩ من الباب ، وفي طائفة اخرى مقيّد بالبلوغ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كالرواية ٥ و ٤ و ٣ و ١ ، وفي طائفة ثالثة مقيّد بالبلوغ عن الله تبارك وتعالى كالرواية ٧.

أمّا الطائفة الاولى : فلا إشكال في شمولها للخبر المنسوب إلى الأئمّة عليهم‌السلام كما لا إشكال في عدم تقييدها بالطائفتين الاخريين لأنّهما من قبيل المثبتين.

وأمّا الطائفة الثانية والثالثة : فيمكن أيضاً الاستدلال بهما لجهتين :

الاولى : إلغاء الخصوصيّة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّ الأئمّة وارثون له وحاملون لعلومه.

الثانية : الأخبار الخاصّة التي تدلّ على أنّ ما عند الأئمّة عليهم‌السلام من علم الحلال والحرام والشرائع والأحكام نزل به جبرئيل عليه‌السلام وأخذوه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد ورد في بعضها عن

٨٤

أبي عبدالله عليه‌السلام يقول : « حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدّي وحديث جدّي حديث الحسين عليه‌السلام وحديث الحسين عليه‌السلام حديث الحسن عليه‌السلام وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين عليه‌السلام وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قول الله عزّوجلّ » (١).

وفي بعضها الآخر عن الصادق عليه‌السلام : « ما سمعته منّي فاروه عن أبي وما سمعته منّي فاروه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٢).

فبضمّ هذه الروايات إلى الخبر الضعيف المروي عن الأئمّة عليهم‌السلام يثبت موضوع البلوغ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الله سبحانه بلا إشكال.

الأمر الرابع : أنّ هذه الأخبار لا تشمل ما إذا احتمل الاستحباب من غير ناحية الخبر الضعيف من فتوى فقيه بل من شهرة أو إجماع منقول أو من غير ذلك ممّا ليس بحجّة شرعاً ( في صورة عدم حصول اليقين أو الاطمئنان بسببها بوجود خبر لم يصل إلينا ) وإن كانت بعضها مطلقةً كما مرّ آنفاً لانصرافها إلى البلوغ عن المعصوم بالخبر المروي عنه.

وإن شئت قلت : لا يصدق عنوان البلوغ عن المعصوم في فتوى الفقيه باستحباب شيء أو وجوبه لأنّ الفقيه يخبر عن رأيه بالوجوب أو الاستحباب ولا يكون واسطة في النقل.

الأمر الخامس : أنّه يكفي في المقام مجرّد ورود أمر من ناحية المعصوم عليه‌السلام من دون أن يعد بالثواب صريحاً ، كما إذا ورد في رواية ضعيفة : « اغتسل للزيارة » لما مرّ سابقاً من أنّه لا فرق فيما نحن فيه بين أن يكون الوعد بالثواب مدلولاً مطابقياً للخبر أو مدلولاً التزامياً له ، ولا إشكال في أنّ الأمر بعمل يدلّ بالالتزام على ترتّب أجر وثواب عليه.

الأمر السادس : أنّ الظاهر عدم شمول الأخبار لما يدلّ على كراهة عمل أو حرمته ، فلا يجري التسامح في أدلّة المكروهات لأنّ موضوعها بلوغ الثواب ، وهو يصدق فيما إذا كان الفعل ذو مصلحة وترتّب عليه ثواب ، والمكروه أو الحرام لا يكون في تركه مصلحة فلا يترتّب عليه ثواب بل إنّه مجرّد اجتناب عن مفسدة يوجب النجاة من العقاب.

لكن الإنصاف أنّ ظاهر جملة من الآيات والروايات ترتّب الثواب على ترك المعصية إذا

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة : ج ١ ، ص ١٢.

(٢) المصدر السابق : ص ١٣.

٨٥

كان بعنوان الإطاعة لله كقوله تعالى : ( وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ... ) (١) وقوله تعالى : ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) (٢) وقوله تعالى : ( وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ... ) (٣) ، إذن فتأتي فيها أخبار من بلغ ، ويكون الكلام في الخبر الدالّ على الحرمة نظير الكلام في الخبر الدالّ على الوجوب.

الأمر السابع : في شمول أخبار من بلغ الأحاديث المأثورة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بطرق العامّة وعدمه.

فنقول : لو كنّا نحن وأخبار من بلغ فلا إشكال في دخولها تحت اطلاق هذه الأخبار ، إلاّ أنّه يمكن أن يقال بأنّ مقتضى بعض الروايات الخاصّة عدم جواز الأخذ برواياتهم كقوله عليه‌السلام في مقبولة عمر بن حنظلة : « ما خالف العامّة ففيه الرشاد » (٤) وقوله عليه‌السلام : « لا تأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا فإنّك إن تعدّيتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم ... » (٥).

لكن الصحيح عدم طروّ منع من ناحية هذه الروايات لأنّها خارجة عن محلّ الكلام ، فمثلاً الرواية الاولى مختصّة بالمرجّحات في باب تعارض الخبرين ، والثانية ظاهرة في اصول الدين بمقتضى تعبيرها بمعالم الدين حيث إنّه ظاهر في الاصول وشبهها.

الأمر الثامن : أنّه لا إشكال في عدم شمول أخبار من بلغ للرواية الضعيفة من ناحية الدلالة والغير ظاهرة في الاستحباب أو الوجوب لعدم صدق موضوع البلوغ حينئذٍ كما لا يخفى.

الأمر التاسع : أنّه لا تبعد دعوى شمول أخبار من بلغ للإخبار عن بعض الموضوعات الخارجية التي يلازم الأخبار عن ترتّب الثواب عرفاً كما إذا قام خبر ضعيف على كون مكان

__________________

(١) سورة النساء : الآية ١٣ ، وسورة الفتح : الآية ١٧.

(٢) سورة النازعات : الآية ٤٠.

(٣) سورة النساء : الآية ٦٩.

(٤) وسائل الشيعة : الباب ٩ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ١.

(٥) المصدر السابق : الباب ١١ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٤٢.

٨٦

معيّن مدفن معصوم كمدفن هود وصالح في المكان المعروف الآن في وادي السلام في أرض الغري أو مقام إمام عليه‌السلام ، فإنّ الإخبار بهذه الموضوعات يدلّ التزاماً على ترتّب الثواب على زيارة المعصوم في المكان الذي قام الخبر على كونه مدفنه ، ولا إشكال في أنّ البلوغ يصدق على كلّ من الدلالة المطابقيّة والالتزاميّة لأنّ العرف يلغي الخصوصيّة عن المدلول المطابقي ، فيصير مثل هذا الخبر مشمولاً لأخبار من بلغ.

الأمر العاشر : إذا وردت رواية ضعيفة باستحباب فعل ، وورد دليل معتبر ظنّي بعدم استحبابه فهل تشملهما أخبار من بلغ أو لا؟ قال الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله في رسالته الخاصّة في مسألة التسامح : « فيه وجهان بل قولان صرّح بعض مشايخنا بالثاني لأنّ الدليل المعتبر بمنزلة القطعي فلابدّ من التزام عدم استحبابه وترتيب آثار عدم الاستحباب عليه كما لو قطع بعدم الاستحباب » ثمّ إستشكل فيه بما يرجع حاصله إلى وجهين :

الأوّل : إنّ أخبار من بلغ تعارض أدلّة حجّية الدليل المعتبر ، ومقتضى القاعدة وإن كان هو التساقط إلاّ أنّ الأمر لمّا دار بين الاستحباب وغيره وصدق بلوغ الثواب حكم بالاستحباب تسامحاً.

فإن قلت : أخبار بلوغ الثواب لا تعمّ نفسها.

قلنا : نعم هو غير معقول إلاّ أنّ المناط منقّح فلا يقدح عدم العموم اللفظي لعدم تعقّله فافهم فالقول بالتسامح قوي جدّاً.

الثاني : أنّه لا تعارض في البيان لأنّ الشارع نزّل المظنون بالأدلّة المعتبرة منزلة الواقع المقطوع لا أنّه نزّل صفة الظنّ منزلة صفة القطع ، ونزّل نفس الاحتمال المرجوح منزلة القطع بالعدم ، وحينئذٍ يكون الاحتمال باقياً على حاله ، وهو موضوع أخبار عن بلغ ، ولذا لا ينكر حسن الاحتياط مع قيام الأدلّة المعتبرة.

أقول : أوّلاً : لا تعارض بين أدلّة حجّية خبر الواحد وأخبار من بلغ ، بل الثانية حاكمة على الاولى كحكومة أدلّة الوفاء بالنذر على أدلّة استحباب صلاة الليل مثلاً فيما إذا نذر أن يأتي بها ، فإنّ موضوع هذه الأخبار عنوان ثانوي وهو عنوان العمل بالخبر الضعيف امتثالاً لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ( وتعظيماً واهتماماً بكلامه ) وهو متحقّق حتّى بعد قيام دليل معتبر على عدم الاستحباب.

٨٧

وثانياً : لا يبعد دعوى انصراف هذه الأخبار عن مثل هذا المورد ، وقد أشار إليه الشيخ رحمه‌الله نفسه في ذيل كلامه إلاّ أنّه لم يقبله بقوله « ولا شاهد عليه » ، ونحن نقول : الشاهد عليه هو الوجدان.

الأمر الحادي عشر : لو وردت رواية ضعيفة بالاستحباب ورواية ضعيفة اخرى بعدمه فلا إشكال في شمول أخبار من بلغ ، لعدم جريان ما مرّ في التنبيه السابق من الانصراف هنا كما لا يخفى ، ومنه يظهر الحال فيما إذا وردت رواية ضعيفة اخرى بالكراهة فلا مانع من الشمول أيضاً لتحقّق موضوع الأخبار وهو بلوغ الثواب وعدم إحراز الإنصراف.

لكن شيخنا الأنصاري رحمه‌الله إستشكل فيه بأنّ لازمه استحباب كلّ من الفعل والترك لأنّ ترك العمل المكروه أيضاً مستحبّ ، وهو غير ممكن لأنّ طلب الفعل والترك قبيح لعدم القدرة على الإمتثال ، وصرف الأخبار إلى استحباب أحدهما على وجه التخيير موجب لاستعمال الكلام في الاستحباب العيني والتخييري ( أي استعمال اللفظ في أكثر من معنى ) مع أنّ التخيير بين الفعل والترك في الاستحباب لا محصّل له ( لأنّ المكلّف إمّا فاعل أو تارك على أيّ حال فيكون الطلب التخييري من قبيل تحصيل الحاصل ).

أقول : أوّلاً : لا إشكال في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى على المبنى المذكور في محلّه.

ثانياً : ليس التخيير بين الفعل والترك في ما نحن فيه من قبيل تحصيل الحاصل لأنّه إنّما يتصوّر فيما إذا لم يكن شقّ ثالث في المقام بينما الصور المتصوّرة هنا أربعة ، فتارةً يأتي بالعمل احتراماً للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ورجاءً للثواب ، واخرى يتركه كذلك ، وثالثة يأتي به لا لطلب الثواب وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بل لداع من الدواعي الاخرى ، ورابعة يتركه كذلك ، وحينئذٍ يمكن البعث والتحريك لأن يأتي المكلّف بالفعل أو يتركه بقصد القربة وطلباً لما بلغ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الثواب.

فلا إشكال حينئذٍ في شمول الأخبار لما نحن فيه ، نعم لا يبعد القول بالانصراف في هذه الصورة أيضاً كما أشار إليه الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في ذيل كلامه بقوله : « مضافاً إلى انصرافها

٨٨

بشهادة العرف إلى غير هذه الصورة » (١).

الأمر الثاني عشر : حكى عن الشهيد رحمه‌الله في الدراية أنّه قال : « جوّز الأكثر العمل بالخبر الضعيف في نحو القصص والمواعظ وفضائل الأعمال لا في صفات الله تعالى وأحكام الحلال والحرام وهو حسن حيث لم يبلغ الضعيف حدّ الوضع والاختلاف ( الاختلاق ) ».

وقال شيخنا الأعظم رحمه‌الله بعد نقل كلامه هذا : « المراد بالخبر الضعيف في القصص والمواعظ هو نقلها واستماعها وضبطها في القلب وترتيب الآثار عليها عدا ما يتعلّق بالواجب والحرام ... ويدخل حكاية فضائل أهل البيت عليهم‌السلام ومصائبهم من دون نسبة إلى الحكاية ...

كأن يقول : كان أمير المؤمنين يقول كذا ويفعل كذا ويبكي كذا ، ونزل على مولانا سيّد الشهداء عليه‌السلام كذا وكذا » (٢).

ثمّ استدلّ على الجواز بطريق العقل والنقل وقال : إنّ الدليل على جواز ما ذكرنا من طريق العقل حسن العمل بهذه مع أمن المضرّة فيها على تقدير الكذب ، وأمّا من طريق النقل فرواية ابن طاووس رحمه‌الله ( من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له ذلك (٣) والنبوي (٤) ( وهو رواية عدّة الداعي المذكورة سابقاً ).

أقول : يرد عليهما ( الشهيد والشيخ الأعظم رحمهما الله ) أوّلاً : أنّ المقام داخل في ما استثنياه من كلامهما وهو ما يتعلّق بالحرام والحلال لأنّ المقام مشمول لقوله تعالى : ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) والقول بغير علم حرام بمقتضى هذه الآية وأدلّة اخرى كثيرة إلاّ إذا قلنا بأنّ المستفاد من أخبار من بلغ حجّية الخبر الضعيف فيكون حاكماً على هذه الآية.

ثانياً : الظاهر من قوله عليه‌السلام « فعمل به » العمل الخارجي الجارحي ، ونقل القصص وذكر الفضائل ليس عملاً بالقصص والفضائل ولا أقلّ من الإنصراف.

ثالثاً : لا يأمن من المضرّة في المقام لأنّ هذا يفتح باب الأكاذيب والخرافات في الشرع المقدّس وادخال ما يوجب الوهن للأنبياء والأوصياء ولمعالمهم ومعارفهم ، وأيّ مضرّة أشدّ منه؟!

__________________

(١) مجموعة رسائل : ص ٢٨ و ٣٦.

(٢) المصدر السابق : ص ٢٨ و ٣٦.

(٣) وسائل لشيعة : الباب ١٨ ، من أبواب مقدّمة العبادات ، ح ٩.

(٤) المصدر السابق : ح ٤.

٨٩

ومن العجب استدلال بعضهم للجواز بما دلّ على رجحان الإعانة على البرّ والتقوى ورجحان الإبكاء على سيّد الشهداء عليه‌السلام ما دامت الغبرى والسماء ، وأنّ من أبكى وجبت له الجنّة من باب أنّ ذكر المصائب مقدّمة للبكاء المستحبّ ومقدّمة المستحبّ مستحبّة.

وفيه : أنّ الإعانة والإبكاء ـ كما أفاد الشيخ الأعظم رحمه‌الله ـ قد قيّد رجحانهما بالسبب المباح والمقدّمة المباحة ، لعدم جواز التوصّل بالمحرّم لإتيان المستحبّ ، فلابدّ حينئذٍ من ثبوت إباحة المقدّمة من الخارج ، ولا يمكن إثبات إباحة شيء وعدم تحريمه بأنّه يصير ممّا يعان به على البرّ لو كان كذلك لكان لأدلّة الإعانة والإبكاء قوّة المعارضة لما دلّ على تحريم بعض الأشياء كالغناء في المراثي والعمل بالملاهي لإجابة المؤمن ونحو ذلك.

الأمر الثالث عشر : هل يترتّب على متعلّق أخبار من بلغ سائر آثار العمل المستحبّ غير تّرتّب الثواب؟ فإذا ورد خبر ضعيف على استحباب غسل خاصّ فهل يمكن إتيان الصّلاة به بناءً على كفاية الأغسال المستحبّة عن الوضوء؟

قد يقال بالفرق بين ما إذا كان المبنى ثبوت المسألة الاصوليّة فيترتّب سائر الآثار ، وما إذا كان المبنى ثبوت المسألة الفقهيّة فلا يترتّب ، ولكن الإنصاف عدم الفرق بين المبنيين لأنّه إذا كان المستفاد من الأخبار مجرّد ترتّب الثواب على ذلك الفعل لا المحبوبيّة الذاتيّة فعلى القول بدلالتها على حجّية الخبر أيضاً يمكن أن يقال بأنّها تدلّ على الحجّية من هذه الجهة لا من جميع الجهات

وإن شئت قلت : كفاية الأغسال المستحبّة عن الوضوء ناظرة إلى ما كان مستحبّاً ذاتيّاً لا ما كان بعنوان الإنقياد وطلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من العناوين الطارئة.

الأمر الرابع عشر : لا إشكال في أنّ النسبة بين هذه الأخبار وأدلّة حرمة التشريع ليست التعارض لأنّ الأخبار حاكمة عليها توجب رفع موضوع التشريع تعبّداً كما لا يخفى.

وإن شئت قلت : أخبار من بلغ لسانها لسان أدلّة العناوين الثانوية كأدلّة أمر الوالد وشبهها الجارية على موضوعات ثانوية ، ومن المعلوم أنّها حاكمة على أدلّة العناوين الأوّلية بل قد يكون واردة عليها إذا كانت قطعيّة.

الأمر الخامس عشر : أنّ ظاهر الأصحاب عدم التفصيل في مسألة التسامح بين أن يكون الفعل من ماهيّات العبادات المركّبة المخترعة كما إذا ورد خبر ضعيف على أنّ صلاة الأعرابي

٩٠

أربع ركعات وبين أن يكون من غيرها.

قال الشيخ الأعظم رحمه‌الله : « إلاّ أنّ الاستاذ الشريف قدس‌سره فصّل ومنع التسامح في الاولى ، والذي بالبال ما ذكره لساناً في وجه التفصيل هو أنّ (١) ... ( إلى هنا جفّ قلمه الشريف ).

أقول : لعلّ وجه التفصيل في نظر شريف العلماء رحمه‌الله أنّ المستفاد من مذاق الشرع والذوق الفقهي المتشرّعي أنّ ماهيات العبادات لكونها من المخترعات الشرعيّة التوقيفيّة لا تثبت إلاّ بدليل معتبر ، وهذا غاية ما يمكن أن يقال به في توجيه هذا التفصيل ، وهو في محلّه ، وإن أبيت عن هذا فإنّ الأخبار عامّة تعمّ كلتا الصورتين كما لا يخفى.

إلى هنا تمّ البحث عن أخبار من بلغ وقد تحصّل منه امور أهمّها ثلاثة :

الأوّل : إنّه لا يستفاد من هذه الأخبار لا حجّية الأخبار الضعيفة ولا الاستحباب الفقهي ، وما ذكرنا من التنبيهات كان مبنيّاً على أحد المبنيين لا على ما اخترناه من أنّ المستفاد منها مجرّد ترتّب الثواب تفضّلاً ، وقد جرت عادة القوم على هذا النحو من البحث فكثيراً ما يبحثون عن مسائل لا موضوع لها إلاّعلى بعض المباني.

الثاني : إنّ المستفاد من هذه الأخبار لزوم إتيان العمل بقصد رجاء ترتّب الثواب وإن قلنا بدلالتها على الاستحباب لأنّه صريح مثل قوله عليه‌السلام « فعمل به رجاء ذلك الثواب ».

الثالث : إنّ هذه الأخبار لا تحلّ المشكلة التي طرحنا هذا البحث لأجلها ، وهى مشكلة العبادات المشكوكة بناءً على اعتبار قصد الأمر القطعي فيها ، وذلك باعتبار أنّ المستفاد منها إتيان العمل بقصد الرجاء كما مرّ آنفاً ، والمفروض عدم كفايته في عبادية العبادة. هذا أوّلاً.

وثانياً : لو سلّمنا الكفاية كان الدليل أخصّ من المدّعى حيث إنّ هذه الأخبار تشمل خصوص العبادات المشكوكة التي يكون منشأ الشكّ فيها رواية ضعيفة ، فلا تعمّ ما كان المنشأ فيه أمر آخر من قبيل شهرة أو إجماع منقول.

نعم هذا كلّه بناءً على اعتبار قصد الأمر الجزمي القطعي في العبادة ، وأمّا على القول بكفاية مطلق المحبوبية وقصد الرجاء ( كما هو المختار ) فلا حاجة إلى أخبار من بلغ من الأساس كما لا يخفى ، وقد عرفت غير مرّة أنّ المعتبر في العبادة الحسن الفعلي والفاعلي ، والمراد من

__________________

(١) مجموعة رسائل : ص ٤٢.

٩١

الحسن الفعلي كونه أمراً قربيّاً ، ومن الحسن الفاعلي كون الداعي والباعث على الإتيان بالعمل هو الله تعالى بأيّ صورة كانت.

التنبيه الثالث : في جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة

وفيه ثلاثة وجوه :

الأوّل : ما هو المشهور وهو البراءة مطلقاً.

الثاني : الاحتياط مطلقاً.

الثالث : التفصيل بين ما إذا كان المطلوب في الحرام مجموع التروك من حيث المجموع بحيث لو أتى به في زمان أو مكان دفعةً واحدة لم يمتثل أصلاً فلا تجري البراءة ، وبين ما إذا كان المطلوب فيه تروكاً متعدّدة بحيث يكون كلّ ترك مطلوباً مستقلاً ( كالنهي عن الخمر أو الكذب ) فيقتصر في الترك على الأفراد المعلومة ، وأمّا المشكوكة فتجري البراءة عن حرمتها.

واستدلّ للقول الأوّل : تارةً بالبراءة العقليّة ، واخرى بالبراءة الشرعيّة.

أمّا البراءة العقليّة : فالمعروف جريانها في الشبهات الموضوعيّة أيضاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

لكن الإنصاف أنّه مشكل لأنّ وظيفة الشارع بما هو شارع ليس إلاّبيان الكبريات ، وقد بيّنها ووصلت إلى المكلّف حسب الفرض ، وإنّما الشكّ في الصغرى وهى كون هذا المائع الخارجي مثلاً ممّا ينطبق عليه متعلّق الحرمة وهو الخمر أم لا ، ومن المعلوم أنّ المرجع في إزالة هذه الشبهة ليس هو الشارع فلا يتحقّق حينئذٍ موضوع القاعدة وهو عدم البيان ، فلا تجري القاعدة بل على المكلّف إزالة هذا النوع من التردّد والاشتباه.

قد يقال : إنّ المراد من البيان في هذه القاعدة هو العلم ، وعدم العلم صادق في المقام ، ولكنّه مجرّد دعوى عهدتها على مدّعيها لأنّه لا دليل على كون قبح العقاب بلا علم مطلقاً وفي جميع الموارد من المستقلاّت العقليّة.

وقال المحقّق النائيني رحمه‌الله بما حاصله : إنّ مردّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان إنّما هو قبح العقاب بلا علم لأنّ العقل حاكم على أنّ المجهول لا يمكن أن يكون باعثاً ومحرّكاً للمكلّف ولا

٩٢

فرق فيه بين الجهل بالصغرى والكبرى (١).

وقد مرّ أنّه لا إشكال في محرّكية المجهول بل الإنسان ونوع البشر يتحرّك في الصناعات والتجارات والزراعات في أكثر الموارد بالاحتمال بل قد يكون الإنبعاث بمجرّد الوهم ( أي الاحتمال المرجوح ) كما إذا كان في طلب ضالّته.

هذا كلّه بناءً على مبنى القوم من أنّ القاعدة عقلية ، وأمّا بناءً على ما اخترناه من أنّها عقلائيّة فلا يبعد عدم بناء العقلاء على البراءة في الشبهات الموضوعيّة خصوصاً في الموضوعات الهامّة ، فإذا قال المولى لعبده « إحذر من أعدائي » مثلاً ، فمن البعيد جدّاً بناء العقلاء على قبح عقاب العبد فيما إذا لم يحذر من مشكوك العداوة ، والظاهر أنّه لا فرق في ذلك بين الدماء والفروج وغيرها.

أمّا البراءة النقلية : فلا إشكال في جريانها في الشبهات الموضوعيّة لأنّه القدر المتيقّن من أكثر أدلّتها ، وأمّا تفصيل المحقّق الخراساني رحمه‌الله بين ما كان من قبيل العام الإفرادي والمجموعي ، فقد أورد عليه بأنّ مقتضى القاعدة جريان البراءة في كلا القسمين من كلامه ، لما سيأتي من عدم وجوب الاحتياط حتّى في الأقلّ والأكثر الإرتباطيين ، ولا إشكال في رجوع القسم الثاني إلى الأقل والأكثر الإرتباطيين ، والحقّ فيه الانحلال.

إن قلت : إنّ الإشكال مبنائي لأنّ مبنى المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الأقلّ والأكثر الإرتباطيين هو الاحتياط.

قلنا : سيأتي إنّه قائل بجريان البراءة الشرعيّة وإن كان حكم العقل عنده الاحتياط ، فالنتيجة النهائيّة عنده في مقام العمل هى البراءة ، وهى تخالف ما اختاره في المقام.

نعم هيهنا صورة ثالثة تقتضي القاعدة الاحتياط فيها ولعلّها كانت مورد نظر المحقّق الخراساني رحمه‌الله وهى ما إذا كان المأمور به أمراً بسيطاً يتحقّق بإتيان مجموع التروك مقدّمة ، فيرجع الشكّ في المصداق المشكوك إلى الشكّ في المحصّل الذي لا إشكال في أنّ مقتضى الاشتغال اليقيني فيه البراءة اليقينية ، وحينئذٍ الأصل الجاري إنّما هو الاحتياط وقاعدة الاشتغال لا البراءة ( وإن كانت عبارته قاصرة عن أداء هذا المعنى ).

__________________

(١) راجع أجود التقريرات : ج ٢ ، ص ٢٠٠.

٩٣

التنبيه الرابع : في حسن الاحتياط مطلقاً حتّى مع قيام الحجّة على العدم

لا إشكال في اختلاف موارد الاحتياط من جهات ثلاثة : من ناحية قوّة درجة الاحتمال وضعفها ، ومن ناحية قوّة المحتمل وضعفها ، ومن ناحية قيام الأمارة على الجواز وعدمه.

ذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله إلى حسن الاحتياط مطلقاً في مطلق الشبهات سواء كانت وجوبيّة أو تحريميّة وسواء كانت حكميّة أو موضوعيّة وسواء قامت الحجّة على العدم أم لم تقم وسواء كان الاحتمال أو المحتمل قويّاً أو ضعيفاً ، نعم إنّه قال : إنّ حسن الاحتياط مطلقاً منوط بعدم إخلاله بالنظام وإلاّ يكون الاحتياط قبيحاً فلابدّ حينئذٍ من ترجيح بعض الاحتياطات على بعض ، أمّا بملاك إقوائية الاحتمال أو إقوائيّة المحتمل أو بملاك عدم قيام الأمارة على العدم.

أقول : هنا نكتتان ينبغي ذكرهما في المقام :

إحديهما : إنّ اختلال النظام من العناوين الثانوية للأحكام ولا خصوصيّة له في المقام بل كلّ عنوان ثانوي يزاحم حسن الاحتياط لابدّ من تقديمه عليه ، كما إذا لزم من الاحتياط ترك المراودة والمعاشرة مع المؤمنين أو ترك صلة الأرحام أو إيذاء المؤمن أو هتكه أو لزم منه تشويه وجه المذهب في الأنظار أو ترك أمر أهمّ كتحصيل العلم لطلاّب العلوم الدينية ( وكلّ هذه العناوين ممّا يبتلى بها كثيراً في الاحتياط التامّ ) فلا حسن في مثل هذه الموارد للاحتياط وإن لم يلزم منها اختلال النظام.

الثانية : يمكن أن يقال : إنّه لا دليل أصلاً على حسن الاحتياط التام في الشبهات الموضوعيّة في جميع الموارد ، بل الدليل على خلافه فيما إذا قامت الأمارة على الخلاف ، والشاهد على ذلك لحن الروايات الواردة عن المعصومين بالنسبة إلى سوق المسلمين في الجبن وغيره نظير ما رواه أبو الجارود قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن فقلت له : أخبرني من رأى إنّه يجعل فيه الميتة ، فقال : أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم في جميع الأرضين؟ إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل ، والله إنّي لأعترض السوق فأشتري بها اللحم والسمن والجبن ، والله ما أظنّ كلّهم يسمّون هذه البربر وهذه السودان » (١).

فإنّ مقتضى السياق العرفي لهذه الرواية وأمثالها مرجوحية الاحتياط وإنّه مرغوب عنه

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٦١ ، من أبواب الأطعمة المباحة ، ح ٥.

٩٤

في موارد قيام الحجّة على الجواز.

إن قلت : يمكن أن يقال : بأنّ مثل هذه الروايات تكون في مقام دفع الحظر فلا يستفاد منها إلاّ مطلق عدم الحرمة.

قلنا : الإنصاف أنّ سياقها هو النهي بمعناه الحقيقي عن مثل هذا الاحتياط ، وسيرة المعصومين رحمه‌الله وأهل الشرع من أقوى الشواهد عليه في موارد قيام الحجّة على الجواز.

إلى هنا تمّ الكلام في أصالة البراءة وما يلحق بها من المباحث

والحمد لله ربّ العالمين.

٩٥
٩٦

٢ ـ أصالة التخيير

تطبيقات أصالة التخيير في الفقه

التخيير في الواقعة المتكرّرة

التخيير في التعبّديّات

دوران الأمر بين التعيين والتخيير

٩٧
٩٨

٢ ـ أصالة التخيير

إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته سواء كان بنحو الشبهة الحكميّة ( كما إذا دار الأمر في زمن الغيبة بين وجوب صلاة الجمعة وبين حرمتها مع قطع النظر عن اعتبار القربة في الصّلاة أم كان بنحو الشبهة الموضوعيّة ( كما إذا شككنا في أنّ متعلّق النذر شرب هذا المائع في زمن خاصّ أو تركه ) ففيه وجوه :

١ ـ الحكم بالبراءة شرعاً وعقلاً نظير الشبهات البدوية بعينها.

٢ ـ وجوب الأخذ بأحدهما تخييراً شرعاً وعقلاً.

٣ ـ التخيير بين الفعل والترك عقلاً والحكم بالبراءة شرعاً.

٤ ـ التخيير بين الفعل والترك عقلاً مع التوقّف عن الحكم بشيء شرعاً.

٥ ـ التوقّف عن الحكم عقلاً وشرعاً.

واختار المحقّق الخراساني رحمه‌الله القول الثالث الذي يتركّب من جزئين : التخيير بين الفعل والترك عقلاً ، والحكم بالإباحة شرعاً ، واستدلّ للجزء الأوّل بحكم العقل بعدم الترجيح بين الفعل والترك ، وللجزء الثاني بشمول مثل : « كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام » له.

إن قلت : جريان البراءة في كلّ واحد من الطرفين معارض لجريانها في الطرف الآخر.

قلنا : التعارض فرع لزوم المخالفة القطعيّة العمليّة وهو مفقود في المقام.

إن قلت : إنّ العقل كما يستقلّ بوجوب الإطاعة عملاً كذلك يحكم بوجوبها التزاماً وقلباً ، والتمسّك بالأصل في الطرفين ينفي هذا المعنى.

قلنا : بناءً على تسليم وجوب الموافقة الالتزاميّة لا منافاة بينه وبين جريان أصالة الحلّ ، لإمكان الإنقياد القلبي الإجمالي بأن يلتزم إجمالاً بالحكم الواقعي على ما هو عليه وإن لم يعلم بشخصه تفصيلاً وفي مقام الفعل ، ولا دليل على وجوب الأزيد منه على فرض القول بوجوبه.

٩٩

إن قلت : إنّ ما نحن فيه مشمول لأدلّة تعارض الخبرين المتعارضين التي تقتضي التخيير شرعاً.

قلنا : إنّه قياس مع الفارق ، لأنّ مورد تلك الأدلّة هو الأخبار ، والأخبار إمّا أن تكون حجّة من باب السببيّة أو من باب الطريقيّة ، فعلى الأوّل يكون التخيير بين الخبرين المتعارضين على القاعدة ، لفرض حدوث مصلحة ملزمة في المؤدّى بسبب قيام خبر على الوجوب ، وحدوث مفسدة ملزمة فيه بقيام خبر آخر على حرمة نفس ذلك المتعلّق ، فيقع التزاحم بين تكليفين تتعذّر موافقتهما ويستقلّ العقل بالتخيير حينئذٍ إذا لم يكن ترجيح بين الملاكين.

وعلى الثاني ( وهو حجّية الأخبار على الطريقيّة ) فالقياس مع الفارق أيضاً ، ضرورة أنّ مقتضى القاعدة الأوّلية في تعارض الطرق وإن كان هو التساقط لا التخيير ، إلاّ أنّه لمّا كان منهما واجداً لشرائط الحجّية ولما هو مناط الطريقيّة من احتمال الإصابة ولم يمكن الجمع بينهما في الحجّية الفعلية لمكان التعارض فقد جعل الشارع أحدهما حجّة تخييراً مع التكافؤ ، وتعييناً مع المزيّة لمصلحة لاحظها في ذلك ، وهذا بخلاف المقام إذ ليس في شيء من الاحتمالين اقتضاء الحجّية. ( انتهى كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله بتحرير منّا ).

أقول : الإنصاف أنّ الصحيح هو القول الأوّل ، أي الحكم بالإباحة ظاهراً عقلاً وشرعاً وذلك باعتبار أنّه بعد فرض عدم إمكان الاحتياط ولغوية وجوب أحدهما تخييراً في مقام الظاهر لكونه تحصيلاً للحاصل تصل النوبة إلى احتمال وجوب أحدهما معيّناً لأنّه نحتمل تكليف الشارع بالنسبة إلى خصوص الفعل أو خصوص الترك ، وحينئذٍ لا إشكال في جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان لتحقّق موضوعها وهو عدم البيان إذ لا بيان على خصوص الوجوب أو الحرمة كما لا إشكال في عموم أدلّة الإباحة الشرعيّة لعدم اختصاصها بما إذا كان أحد طرفي الشكّ في حرمة شيء هو الإباحة كشرب التتن حتّى يختصّ بالشبهة البدوية ، بل يعمّ ما إذا علم جنس الإلزام ولم يعلم النوع الخاصّ منه ، فوجوب أحدهما تعييناً مرفوع كرفع الحرمة المحتملة في سائر الموارد.

أمّا القول الثاني : وهو التخيير شرعاً وعقلاً قياساً لما نحن فيه بتعارض الخبرين المتعارضين الجامعين لشرائط الحجّية فقد مرّ الجواب عنه ضمن بيان كلام المحقّق

١٠٠