أنوار الأصول - ج ٣

أنوار الأصول - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-15-6
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٢٤

ومع قطع النظر عن هذا يكون المورد من موارد العلم بالاشتغال الذي يقتضي البراءة اليقينيّة فإنّ الاشتغال بالصلاة في الوقت مقطوع ولا تحصل البراءة إلاّبالقطع بالإمتثال.

وثانيهما : ما رواه الشهيد رحمه‌الله في الذكرى قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » (١) ، ولكّنها مرسلة لا يمكن الاعتماد عليها.

هذا تمام الكلام في أدلّة الأخباريين من ناحية السنّة.

الثالث : العقل

وممّا استدلّ به الاخباريون وجوب الاحتياط في الشبهات التحريميّة سواءً من إعترف منهم بحجّية العقل في الجملة ، أو من مال منهم إلى العقل ، وتقريبه من وجوه ثلاثة :

الوجه الأوّل : العلم الإجمالي بوجود محرّمات كثيرة فعليّة في جملة المشتبهات فتتنجّز تلك المحرّمات بواسطة العلم الإجمالي ، والمعلوم بالإجمال هنا من قبيل الكثير ، في الكثير ، فيجب الاحتياط في جميع المشتبهات حتّى يحصل العلم بالفراغ.

وأجاب عنه : جميع المحقّقين بأنّ العلم الإجمالي هذا ينحلّ بواسطة قيام الأمارات على المحرّمات الكثيرة في أطراف المعلوم بالإجمال بعد الفحص عن الأدلّة.

وإستشكل على هذا الجواب أوّلاً : بأنّه يعتبر في إنحلال العلم الإجمالي الاتّحاد زماناً بين حصول العلم الإجمالي وحصول العلم التفصيلي بالمقدار المعلوم كما سيأتي وجهه في مبحث الاشتغال ، وهذا ليس حاصلاً في المقام لأنّ العلم التفصيلي يوجد بعد الفحص عن الأدلّة.

ولكن يرد عليه : أنّ التقارن والاتّحاد الزماني حاصل في المقام لأنّنا في نفس زمان العلم الإجمالي بوجود محرّمات كثيرة في المشتبهات نعلم بوجود إجماعات وروايات وآيات توجب العلم التفصيلي بتلك المحرّمات وانحلال ذلك العلم الإجمالي.

وثانياً : بأنّ العلم الإجمالي ينحلّ بالعلم التفصيلي لا الظنّ التفصيلي ، بينما الحاصل بظواهر الكتاب وخبر الواحد إنّما هو الظنّ.

ويندفع هذا الإشكال أيضاً بأنّ الموجب للانحلال إنّما هو قيام حجّة تفصيلية سواء

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٥٦.

٦١

كانت من قبيل البيّنة والظنّ المعتبر أو القطع واليقين كما سيأتي تفصيله في محلّه إن شاء الله تعالى.

هل الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة؟

الوجه الثاني : أنّ الأصل في الأشياء في غير الضروريات الحظر ، فإن ورد من الشرع دليل على جوازه فهو ، وإلاّ فيبقى على ممنوعيته.

توضيح ذلك : أنّ مسألة الحظر أو الإباحة في الأشياء مسألة تلاحظ بلحاظ ما قبل الشرع المقدّس أو مع قطع النظر عنه خلافاً لأصالة البراءة والاحتياط اللتين تلاحظان بلحاظ بعد الشرع ، وحينئذ نقول : إذا راجعنا إلى العقل وأحكامه بالنسبة إلى قبل الشرع نجد أنّ الأفعال على ثلاثة أقسام فبعضها من المستقلاّت العقليّة يرجع حكمها إلى الحسن والقبح العقليين ، وبعضها الآخر يكون من الضروريات كالتنفّس وسدّ الرمق ، وقسم ثالث لا يكون من القسم الأوّل ولا من الثاني من قبيل شمّ الرياحين وأكل الفواكه وغيرهما من الرفاهيات ما لم تصبح أمراً ضرورياً ، ففي هذا القسم هل يحكم العقل بالإباحة أو يحكم بالحظر. فيه أربعة أقوال :

١ ـ القول بالإباحة وهو المشهور بين القدماء.

٢ ـ الحظر.

٣ ـ عدم الحكم ، أي يحكم العقل بخلوّها عن الحكم مطلقاً ، وقد نقل هذا عن الحاجبي.

٤ ـ التوقّف عن الحكم ، قال به الأشعري.

ثمّ إنّ الفرق بين أصالة الحظر وأصالة الاحتياط ، أو الفرق بين أصالة الإباحة والبراءة يتلخّص في امور :

الأوّل : ما أشرنا إليه آنفاً من أنّ الحظر أو الإباحة تلحظ بما قبل الشرع أو مع قطع النظر عن الشرع والاحتياط أو البراءة تلحظ بالنسبة إلى ما بعد الشرع.

الثاني : أنّ الحكم في الأوّل واقعي ، فمفاد أصالة الحظر أو الإباحة أنّ الشيء الفلاني ممنوع أو مباح واقعاً ، بينما الحكم في الثاني ظاهري ، فيترتّب العقاب على ترك الاحتياط مثلاً في صورة الإصابة إلى الواقع لا مطلقاً.

٦٢

الثالث : أنّ التحريم أو الترخيص بناءً على أصالة الحظر أو الإباحة تحريم أو ترخيص مالكي يحكم به الشارع بما أنّه مالك ، بينما التحريم أو الترخيص بناءً على أصالة الاحتياط أو الإباحة تحريم أو ترخيص مولوي يحكم به الشارع بما أنّه مقنّن ومشرّع وبما أنّه مولى.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ عمدة ما استدلّ به القائلون بالحظر مالكية الباري تعالى وأنّ العالم كلّه ملك له والتصرّف في ملك الغير بدون إذنه قبيح عقلاً لا سيّما في المالك الحقيقي ، ونتيجته أنّ الأصل في الأشياء الحظر إلاّما أذن الله تعالى به.

ولا يخفى أنّ هذا مبنى على ثبوت الحسن والقبح العقليين والقول بالمستقلاّت العقليّة.

وقد اورد على هذا الوجه من ناحية الكبرى والصغرى معاً.

أمّا الكبرى : وهى كون التصرّف في الأشياء تصرّفاً في ملك الغير بدون إذنه.

فيرد عليها أوّلاً : أنّ الإذن حاصل في المقام بدليل الحكم فإنّ الحكمة تقتضي أن يكون خلق الأشياء للانتفاع والتمتّع بها فلا معنى مثلاً لخلق الرياحين والفواكه مع المنع عن أيّ تصرّف فيها للإنسان الذي هو جوهر العالم السفلي.

ثانياً : أنّ اعتبار الإذن يتصوّر فيما إذا صدق التصرّف عرفاً فلا معنى لاعتباره في استماع الخطابة من الخطيب أو شمّ الرياحين مثلاً ، لعدم صدق التصرّف عليه عند العرف ، كذلك في المقام ، فربّما لا يصدق التصرّف العرفي فيه حتّى يقال بأنّه تصرّف في ملك الغير ولا يجوز بدون إذنه كما في النظر إلى الأجنبية ، وهذا نظير ما يقال : إنّه يجوز الإستضاءة بنار الغير ونوره والإستظلال بجداره لعدم كونها تصرّفاً عرفاً ، وحينئذٍ يصبح الدليل أخصّ من المدّعى.

وثالثاً : أنّه يمكن أن يستدلّ ببعض الآيات على وجود الإذن من الله بالنسبة إلى تصرّفات عبيده كقوله تعالى : ( خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) وقوله تعالى : ( وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ ).

ورابعاً : الاستدلال بأدلّة البراءة الشرعيّة حيث تدلّ بالالتزام على وجود الإباحة المالكيّة وإن كان مدلولها المطابقي الإباحة الظاهريّة المولويّة.

وأمّا الصغرى : وهى كون العالم ملكاً اعتبارياً لله تعالى.

فأورد عليها في تهذيب الاصول بما حاصله : أنّ المفيد بحال الأخباري في المقام إنّما هو المالكية القانونية الاعتباريّة ، ولا وجه لاعتبار ملكيّة اعتباريّة لله عزّوجلّ ، فإنّ اعتبارها

٦٣

لابدّ وأن يكون لأغراض حتّى تقوم بها المعيشة الاجتماعيّة ، وهو سبحانه أعزّ وأعلى منه ، وأمّا المالكيّة التكوينيّة بمعنى أنّ الموجودات والكائنات قائمة بإرادته ، مخلوقة بمشيّته ، واقعة تحت قبضته تكويناً فلا يمكن للعبد أن يتصرّف في شيء إلاّبإذنه التكويني وإرادته فهى غير مربوطة بالمقام (١).

أقول : أنّ المالكيّة التكوينيّة ليست في عرض المالكيّة القانونيّة بل إنّها أمر فوقها وحينئذٍ تتصوّر المالكيّة الاعتباريّة بالنسبة إلى الباري تعالى بطريق أولى ، أي المالكية التكوينية تتضمّن المالكيّة القانونيّة وتكون منشأً لها كما يشهد به استدلال القائلين بالمالكيّة الشخصيّة للإنسان في محصول عمله في مقابل منكريها بأنّ الإنسان مالك تكويناً لنفسه وأعضائه وقواه ، فيكون مالكاً لعلمه ، وبالنتيجة يكون مالكاً لأمواله ، حيث إنّه تجسّد للعمل وتبلور له.

أضف إلى ذلك أنّه يمكن الاستدلال لمالكيّته التشريعيّة مع قطع النظر عن مالكيته التكوينيّة بآية الخمس إذ إنّ مالكيته بالنسبة إلى الخمس في قوله تعالى ( للهِ خُمُسَهُ ) تشريعية بلا ريب لأنّها جعلت في عرض مالكية الأصناف الخمسة الاخرى ، فمقتضى وحدة السياق أن تكون مالكيته تعالى من سنخ مالكية سائر الأصناف.

مضافاً إلى أنّه لو كان المراد المالكيّة التكوينيّة فلا معنى لأن يكون خصوص سهم من الخمس ملكاً تكوينياً له حيث إنّ العالم كلّه ملك له تعالى وكذا الكلام بالنسبة إلى الإنفال وشبهها.

وإن شئت قلت : إذا كان التصرّف في الملك الاعتباري غير جائز عقلاً فعدم جواز التصرّف في الملك التكويني بطريق أولى.

ثمّ إنّه قد يستدلّ على القول بالإباحة في مقابل الحظر بقاعدة قبح العقاب بلا بيان لكن الحقّ أنّه في غير محلّه لأنّ هذه القاعدة تتصوّر بعد أن قام الشارع للبيان ولم يبيّن ، بينما المفروض في المقام إنّما هو ما قبل البيان ، مضافاً إلى أنّه يمكن أن يكون حكم العقل بعدم جواز التصرّف في ملك الغير بنفسه بياناً.

وهنا كلام للمحقّق الأصفهاني رحمه‌الله لإثبات أنّ الأصل هو الإباحة لا الحظر ، حيث يقول :

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٢١٣ ، طبع جماعة المدرّسين.

٦٤

« إنّ المنع تارةً ينشأ عن مفسدة في الفعل تبعث الشارع بما هو مراعٍ لمصالح عباده وحفظهم عن الوقوع في المفاسد على الزجر والردع عمّا فيه المفسدة ، وهذا هو المنع الشرعي ، لصدوره من الشارع بما هو شارع ، وفي قبالة الإباحة الشرعيّة الناشئة عن لا اقتضائيّة الموضوع وخلوّه عن المفسدة والمصلحة ، فإنّ سنّة الله ورحمته مقتضية للترخيص في مثله لئلاّ يكون العبد في ضيق منه. واخرى لا ينشأ عن مفسدة إمّا لفرض خلوّه عنها ، أو لفرض عدم تأثيرها فعلاً في الزجر كما في ما قبل تشريع الشرائع والأحكام في بدو الإسلام بل من حيث إنّه مالك للعبد وناصيته بيده يمنعه عن كلّ فعل إلى أن يقع موقع حكم من الأحكام حتّى يكون صدوره ووروده عن رأي مولاه ، فهذا منع مالكي لا شرعي ، وفي قباله الإباحة المالكيّة وهو الترخيص من قبل المالك لئلاّ يكون في ضيق منه إلى أن يقع الفعل موقع حكم من الأحكام ، فنقول : حيث إنّ الشارع كلّ تكاليفه منبعث عن المصالح والمفاسد لانحصار أغراضه المولويّة فيها فليس له إلاّزجر تشريعي أو ترخيص كذلك ، فمنعه وترخيصه لا ينبعثان إلاّعمّا ذكر ، ولا محالة إذا فرض خلوّ الفعل عن الحكم بقول مطلق ، أعني الحكم الذي قام بصدد تبليغه وإن كان لا يخلو موضوع من الموضوعات من حكم واقعي وحياً أو إلهاماً فليس الفعل منافياً لغرض المولى بما هو شارع فليس فعله خروجاً عن زيّ الرقّية ، ومنه يتبيّن أنّ الأصل فيه هو الإباحة لا الحظر ، فإنّ عدم الإذن المفروض في الموضوع لا يؤثّر عقلاً في المنع العقلي إلاّ باعتبار كون الفعل معه خروجاً عن زي الرقّية ، وحيث إنّه فرض فيه عدم المنع شرعاً فلا يكون خروجاً عن زيّ الرقّية إذ فعل ما لا ينافي غرض المولى بوجهٍ من الوجوه بل كان وجوده وعدمه على حدّ سواء لا يكون خروجاً عن زي الرقّية » (١).

فملخّص كلامه أنّه بما أنّ كلّ تكاليف الشارع صادرة عن المصالح والمفاسد فإذا فرض خلوّ الواقع عن الحكم كما في ما قبل الشرع فلا يكون فعل العبد حينئذٍ خروجاً عن زي الرقّية فيكون الأصل في هذه الحالة الإباحة ، فيكون لازم كلامه أنّ مالكيّة الله تعالى مندكّة في مولويته ، أي كلّ ما هو وظيفة للعباد يكون من طريق مولويته لا مالكيته لأنّ أغراضه منحصرة في المصالح والمفاسد التشريعيّة ، وحيث إنّ المفروض عدم وصول حكم من ناحية

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ، ص ٢٠٥ ، طبع القديم.

٦٥

مولويته إلى العبد في ما قبل الشرع فلا يكون فعل العبد خروجاً عن زيّ العبوديّة فيكون الأصل هو الإباحة.

أقول : هذا الكلام أيضاً غير تامّ لأنّ المولويّة والمالكيّة وصفان مختلفان ، فالعبد الذي يخرج إلى السفر بدون إذن المولى تارةً يركب مثلاً على مركب المولى ويخرج إلى السفر ، واخرى يركب على مركب غيره ، ففي كلتا الحالتين خرج عن زي عبوديّة المولى ، لكنّه في الحالة الاولى فعل معصية اخرى ، وهو الخروج عن مالكيّة المولى ونقض مالكيته أيضاً.

وبعبارة اخرى : أنّ للمولى مالكيّة على العبد ولازمها حرمة الخروج إلى السفر بدون إذنه ، ومالكيّة على الفرس ولازمها حرمة الركوب على فرسه بدون إذنه ، فكذلك في ما نحن فيه ، فكما أنّ العبد مملوك لله تعالى كذلك الرياحين والفواكه أيضاً مملوكة له ويكون التصرّف فيها تصرّفاً في ملك الغير بدون إذن ، فلكلّ واحد من هذين حكمه ولا يندكّ أحدهما في الآخر. وبعبارة اخرى : أنّ الله تعالى مالك للعباد وتنشأ من هذه المالكيّة وظائف الرقّية والعبوديّة ، فهو مولى وهذا عبد ، ومالك لما سوى العباد تنشأ منه حرمة التصرّف فيها بغير إذنه ولا ربط لأحدهما بالآخر.

الوجه الثالث : ـ من الوجوه العقليّة ـ حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، وقد تقدّم تفصيل الكلام فيه.

والجواب عنه : بأنّه لو كان المراد من الضرر الضرر الاخروي فلا صغرى لهذه القاعدة لورود قاعدة قبح العقاب بلا بيان عليها ، وإن كان المراد الضرر الدنيوي ففي كثير الموارد لا يكون الضرر الدنيوي ملاك الحكم ، فاحتمال الضرر لا يكون موجباً للزوم دفعه ، هذا أوّلاً.

وثانياً : أنّ هذه القاعدة إرشاد من ناحية العقل كأوامر الطبيب فلا ينشأ منها حكم مولوي.

تنبيهات أصالة البراءة :

وينبغي التنبيه على امور :

التنبيه الأوّل : اشتراط عدم وجود أصل موضوعي ( وهو من أهمّها )

إنّ أصالة البراءة كسائر الاصول الحكميّة يشترط في جريانها عدم وجود أصل

٦٦

موضوعي ينقّح حال الموضوع ، وإلاّ فلو كان في المقام أصل جارٍ من ناحية الموضوع لكان حاكماً على الأصل الحكمي سواء في الشبهة الموضوعيّة أم الحكميّة ، فالأولى نظير استصحاب عدم ذهاب ثلثي العصير العنبي فيما إذا شككنا في ذهاب الثلثين وعدمه ، فهو حاكم على أصالة الإباحة ومانع عن جريانها ، لأنّه بمنزلة الأصل السببي وأصالة الإباحة أصل مسبّبي ، وسيأتي البحث عنهما ولزوم تقديم الأوّل على الثاني ، والثانية نظير استصحاب جلل الحيوان فيما إذا شككنا في أنّ إستبراء الجّلال يتحقّق عند الشارع بسبعة أيّام أو بعشرة أيّام ، فهو حاكم على أصالة الحلّية لنفس العلّة ، وهى أنّ الشكّ في الحلّية مسبّب عن الشكّ في بقاء الجلل وعدمه. فاستصحاب بقاء الجلل أصل سببي وأصالة الحلّية أصل مسبّبي.

ومن هنا يظهر أنّ المراد من الموضوع في قولك : « الأصل الموضوعي » في المقام ما هو في مقابل الحكم سواء كان موضوعاً جزئيّاً كما في المثال الأوّل في الشبهة الموضوعيّة ، أو موضوعاً كلّياً كما في المثال الثاني في الشبهة الحكميّة ، فليس المراد منه الموضوع الخارجي حتّى يكون جزئياً في جميع الموارد وتكون الشبهة موضوعيّة دائماً.

كما يظهر ضعف ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله في المقام حيث قال : إنّ المراد من الأصل الموضوعي في ما نحن فيه ليس خصوص الأصل الجاري في الموضوع مقابل الحكم الشرعي ، بل كلّ أصل محرز متكفّل للتنزيل يكون حاكماً على أصالتي البراءة والاشتغال ، وقال في صدر كلامه : « ونعني بـ ( الأصل المتكفّل للتنزيل ) أن يكون مفاد الأصل إثبات المؤدّى بتنزيله منزلة الواقع بحسب الجري العملي سواء كان المؤدّى موضوعاً خارجياً أو حكماً شرعيّاً » (١).

أقول : الظاهر إنحصار هذا الأصل ( المتكفّل للتنزيل على مبناه ) في الاستصحاب ، وأمّا وجه ضعف كلامه هذا أنّه ينتقض بجميع الموارد التي يقدم فيه الاستصحاب على البراءة مع عدم كونه أصلاً موضوعياً بالنسبة إليها ومن قبيل السبب بالنسبة إلى مسبّبه ، بل الوجه في تقدّمه عليها إنّما هو أخصّية أدلّة الاستصحاب بالنسبة إلى أدلّة البراءة ( كما سيأتي في محلّه ) نظير ما إذا شككنا في حلّية شيء مع العلم بأنّ حالته السابقة هى الحرمة فاستصحاب الحرمة

__________________

(١) راجع فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٣٨٠.

٦٧

فيه مقدّم على أصالة الحلّية لا من باب أنّه من قبيل الأصل الموضوعي وما إذا كان الشكّ في حكم الحلّية ناشئاً من الشكّ في موضوعه ، بل لما ذكرنا من أخصّية أدلّة الاستصحاب.

والظاهر أنّه وقع الخلط في كلام هذا المحقّق رحمه‌الله بين مسألة تقدّم الاستصحاب على البراءة ومسألة تقدّم الاصول الموضوعيّة على الحكميّة.

وممّا يؤيّد ما ذكرنا أنّ الاصول الموضوعيّة مقدّمة على الحكميّة من دون فرق بين الاستصحاب وسائر الاصول الجارية في الموضوعات كأصالة الحلّية الجارية في الحيوان ، فيجوز كون أجزاؤه في بدن المصلّى وهو مقدّم على أصالة الاشتغال بالصلاة.

الكلام في أصالة عدم التذكية

ثمّ إنّه قد وقع بحث طويل بين الأعلام بمناسبة تمثيلهم للأصل الموضوعي بأصالة عدم التذكية في جريان أصالة عدم التذكية في حيوان شكّ في قابليته للتذكية ، أو في وقوع التذكية الشرعيّة عليه للشكّ في اختلال بعض الامور الدخيلة في تحقّقها.

ولابدّ لتوضيح البحث من بيان حقيقة التذكية فنقول : يحتمل فيها ثلاث احتمالات :

١ ـ أن تكون أمراً بسيطاً مسبّباً عن شيئين : أحدهما : الذبح الشرعي ، والثاني : قابلية الحيوان للتذكية ، فتكون التذكية حينئذٍ أمراً مسببيّاً ، وهو الطهارة الحاصلة في الحيوان تبيح أكله.

٢ ـ أن تكون أمراً مركّباً من الجزئين المذكورين ، فتكون حقيقتها نفس هذا السبب المركّب من جزئين.

٣ ـ أن تكون عبارة عن نفس الذبح الشرعي فقط ، وأمّا القابلية فهى شرط من شرائطها لا أن تكون جزء لماهيتها.

فعلى المعنى الأوّل : لا إشكال في جريان أصالة عدم التذكية في صورة الشكّ ، لأنّ الشكّ في التذكية وعدمها يرجع إلى الشكّ في حصول ذلك الأمر البسيط وعدمه.

وعلى الثاني : لا إشكال في عدم جريانها إلاّمن باب أصل العدم الأزلي ، لأنّ الجزء الأوّل وهو الذبح الشرعي حاصل بالوجدان ، والجزء الثاني وهو القابلية ليس عدمه متيقّناً في

٦٨

السابق إلاّمن باب العدم الأزلي فتجري حينئذٍ أصالة الطهارة بلا مانع بناءً على ما هو المختار من عدم حجّية أصل العدم الأزلي.

وعلى الثالث : فلا إشكال أيضاً في عدم جريانها لأنّ التذكية وهى خصوص الذبح الشرعي حاصلة بالوجدان والشكّ إنّما هو في حصول بعض شرائطها.

والمحقّق النائيني رحمه‌الله اختار المعنى الثالث لقوله تعالى : ( إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ) إذ إنّ نسبة التذكية إلى الفاعلين تدلّ على أنّها من فعلهم (١).

ولكن يرد عليه : أنّ إسناد الفعل إلى الجزء الأخير من العلّة إسناد شائع ، وهذا يناسب المعنى الثاني أيضاً ، نعم إنّ أصل مدّعاه تامّ لعدم وجود حقيقة شرعيّة في معنى التذكية ، فتحمل على معناها العرفي ، ولا إشكال في أنّ مدلولها العرفي إنّما هو المعنى الثالث لأنّ أصلها الذكاء ( بالذال ) لا الزكاء ( بالزاء ) كما وقع الخلط بينهما في كلمات بعض الأعاظم ، ففي مفردات الراغب : التذكية ( بالذال ) في الأصل بمعنى الإضاءة وذكّيت الشاة ذبحتها ، وحقيقة التذكية إخراج الحرارة الغريزيّة ، بينما التزكية ( بالزاء ) بمعنى النموّ والبركة والتطهير.

وبالجملة المرجع في المقام هو المعنى العرفي لعدم حقيقة شرعية لها ( وما جاء في الشريعة من بعض الشروط فهو خارج عن حقيقتها ) والمعنى العرفي إنّما هو المعنى الثالث ، وعليه لا تجري أصالة عدم التذكية لأنّها حاصلة بالوجدان.

بقي هنا أمران :

الأوّل : أنّه قد ذكر في كلمات بعضهم أصل آخر يتوهّم حكومته على أصالة الحلّية ، وهو استصحاب الحرمة في حال الحياة.

ولكن يمكن الجواب عنه بأمرين :

أحدهما : عدم اتّحاد القضيّة المتيقّنة مع القضية المشكوكة في المقام ، لأنّ الموضوع في الاولى هو الحيوان الحيّ ، وفي الثانية الحيوان الميّت ، ولعلّ الحياة مقوّمة لحرمة الأكل.

ثانيهما : حرمة الأكل في حال الحياة أوّل الكلام لأنّ أكل الحيوان حيّاً غير ممكن إلاّفيما هو صغير جدّاً كالسمكة الصغيرة التي يمكن بلعها لدفع بعض الأمراض على ما هو المعروف

__________________

(١) راجع فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٣٨٢.

٦٩

بين الناس ، فلا موضوع للحلّية والحرمة حينئذٍ.

الثاني : في جريان أصالة عدم التذكية من ناحية الشبهة الموضوعيّة.

كان البحث إلى هنا في جريان أصالة عدم التذكية من ناحية الشبهة الحكميّة ، وأمّا جريانها من ناحية الشبهة الموضوعيّة فيتصوّر له ثلاث صور :

الاولى : في القطعة المطروحة في الطريق التي شكّ في أنّها من الحيوان المذكّى أو غير المذكّى ، فلا إشكال في أنّها محكومة بالحرمة لجريان أصالة عدم التذكية فيها بمعانيها الثلاثة كما لا يخفى ، وأمّا الرواية (١) الواردة في السفرة المطروحة في الطريق من أنّه يجوز أكل لحمها فالظاهر أنّه لمكان كون البلد بلداً مسلماً ، وهو أمارة على الحلّية ، ومقدّمة على أصالة عدم التذكية.

الثانية : في القطعة المبانة التي يدور أمرها بين حيوانين ، أحدهما مذكّى ، والثاني غير مذكّى ، ففيها أيضاً تجري أصالة عدم التذكية ، نعم أنّها لا تجري بالنسبة إلى نفس القطعة لأنّ التذكية صفة تعرض على كلّ الحيوان لا على بعضه بل لابدّ أن يكون المستصحب عنوان « ما أخذ منه اللحم » فيقال الحيوان الذي يكون منه هذا اللحم كان غير مذكّى ، فيستصحب عدم تذكيته الذي من آثاره عدم حلّية هذه القطعة أيضاً.

الثالثة : ما إذا كانت هناك قطعات مختلفة مذكّاة وغير مذكّاة اختلط بعضها ببعض ، فهل يجب الاجتناب عنها أو لا؟ فيتصوّر فيها صورتان : تارةً يكون كلا الحيوانين داخلين في محلّ الابتلاء ، فلا إشكال في وجوب الإجتناب عن كلّ واحد من تلك القطعات لمكان العلم الإجمالي ، واخرى يكون أحدهما خارجاً عن محلّ الابتلاء ففيها وإن لم يكن العلم الإجمالي منجّزاً لكن تجري أصالة عدم التذكية بالنسبة إلى « ما أخذ منه هذا اللحم » ويحكم بحرمة كلّ قطعة بلا ريب.

فتحصّل من ذلك جريان أصالة عدم التذكية في الشبهة الموضوعيّة بجميع صورها.

ثمّ إنّ هيهنا إشكالاً أورده بعض الأعلام على جريان أصالة عدم التذكية مطلقاً وفي جميع

__________________

(١) وهى ما رواه السكوني عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكّين. فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل لأنّه يفسد وليس له بقاء فإن جاء طالبها غرموا له الثمن ، قيل : يا أمير المؤمنين : لا ندري سفرة مسلم أو سفرة مجوسي فقال : هم في سعة حتّى يعلموا. ( وسائل الشيعة : كتاب الصيد والذبائح الباب ٣٨ ، ح ٢ ).

٧٠

صورها ، وهو « أنّ حقيقة التذكية التي هى فعل المذكّى عبارة عن إزهاق الروح بكيفية خاصّه وشرائط مقرّرة ، وهى فري الأوداج الأربعة مع كون الذابح مسلماً ، وكون الذبح عن تسمية وإلى القبلة مع آلة خاصّة ، وكون المذبوح قابلاً للتذكية ، وعدم هذه الحقيقة بعدم الإزهاق بالكيفية الخاصّة والشرائط المقرّرة ، ولا إشكال في أنّ هذا الأمر العدمي على نحو « ليس » التامّة ليس موضوعاً للحكم الشرعي ، فإنّ هذا المعنى العدمي متحقّق قبل تحقّق الحيوان وفي زمان حياته ، ولم يكون موضوعاً للحكم ، وما هو الموضوع عبارة عن الميتة ، وهى الحيوان الذي زهق روحه بغير الكيفية الخاصّة بنحو الإيجاب العدولي ، أو زهوقاً لم يكن بكيفية خاصّة على نحو « ليس » الناقصة أو الموجبة السالبة المحمول وهما غير مسبوقين بالعدم فإنّ زهوق الروح لم يكن في زمان محقّقاً بلا كيفية خاصّة ، أو مسلوباً عنه الكيفية الخاصّة فما هو موضوع غير مسبوق بالعدم ، وما هو مسبوق به ليس موضوعاً له ، واستصحاب النفي التامّ لا يثبت زهوق الروح بالكيفية الخاصّة إلاّعلى الأصل المثبت » (١).

ويرد عليه : أنّ الواسطة في ما نحن فيه خفيّة وأنّ العرف يحكم باتّحاد مفاد ليس التامّة ومفاد ليس الناقصة ، وإلاّ يلزم نفس الإشكال حتّى بالنسبة إلى مورد أخبار الاستصحاب وهو الوضوء ، إذ إنّ الوضوء في حدّ ذاته لا يترتّب عليه أثر ولا يكون موضوعاً للحكم الشرعي ، بل الموضوع عبارة عن الصّلاة المقيّدة بالطهارة ، فيلزم أن تثبت الصّلاة مع الطهارة باستصحاب الطهارة بما هى هى ، فيكون مثبتاً مع أنّه لا يلتزم به أحد.

وإن شئت قلت : موضوع الحكم هنا ( مورد أخبار الاستصحاب ) هو مفاد كان الناقصة أي كون الصّلاة متّصفة بالطهارة ، مع أنّ الاستصحاب فيه هو مفاد كان التامّة أي بقاء الطهارة ، فكما أنّ الاستصحاب بعنوان مفاد كان التامّة يكفي عمّا هو مفاد كان الناقصة ، فكذلك الكلام بالنسبة إلى مفاد ليس التامّة وليس الناقصة.

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٢٢٢ و ٢٢٣ ، طبع جماعة المدرّسين.

٧١

التنبيه الثاني : في حسن الاحتياط ، وترتّب الثواب عليه ، وإمكان الاحتياط في العبادات

فيقع البحث في ثلاث مقامات ، وهو في الأوّلين كبروي وفي الثالث صغروي.

أمّا الأوّل : ( وهو حسن الاحتياط ) فلا إشكال ولا ريب في حسنه عقلاً وشرعاً في الجملة ولم يخالف فيه أحد.

وأمّا الثاني : فالمسلّم عند المحقّق الخراساني رحمه‌الله وجماعة من الأعاظم ترتّب الثواب على الاحتياط ، ولكنّه عندنا محلّ إشكال لأنّ الثواب يتصوّر في الأوامر المولويّة ، وأمّا الأوامر الإرشادية التي منها الأمر بالاحتياط فما يترتّب عليها إنّما هو المصلحة المرشد إليها لا غير.

وبعبارة اخرى : أنّ الاحتياط في الواقع نحو من الإنقياد الذي يقابل التجرّي ، ولا إشكال في أنّ الإنقياد والتجرّي متساويان في ترتّب الثواب والعقاب وعدمه ، فكما أنّ التجرّي لا يترتّب عليه العقاب بناءً على المختار في محلّه ، كذلك الإنقياد فلا يترتّب عليه الثواب وإلاّ يلزم في صورة الإصابة ترتّب ثوابين وهو مقطوع العدم كما في باب التجرّي بالنسبة إلى ترتّب عقابين.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إذا احتاط العبد احتراماً للمولى وتعظيماً لأوامره المحتملة فإنّه يستحقّ الثواب بعنوان آخر من باب التعظيم والاحترام كما أنّه في باب التجرّي لو قصد العبد بفعله هتك حرمة المولى ترتّب عليه العقاب بلا إشكال ، ولكنّه أمر آخر غير ترتّب الثواب على الإنقياد بما هو الإنقياد وترتّب العقاب على التجرّي بما هو التجرّي الذي هو محلّ البحث.

وهنا كلام للمحقّق العراقي رحمه‌الله يدّعي فيه ظهور طائفة من الأخبار الواردة في المقام في المولويّة وترتّب الثواب على الاحتياط من هذه الناحية ، نعم يعترف في الغاية بعدم استفادة الاستحباب المولوي النفسي منها نظراً إلى بعد الاستحباب النفسي عن مساق تلك الأخبار ، بل المستفاد منها إنّما هو الاستحباب المولوي الطريقي ، وإليك نصّ كلامه : « إنّ الأخبار الواردة في المقام على طوائف :

منها : ما يشتمل على عنوان الاحتياط كقوله عليه‌السلام : أخوك دينك فاحتط لدينك ، وقوله عليه‌السلام : إذا أصبتم بمثل هذا فعليكم بالاحتياط.

ومنها : ما يشتمل على عنوان المشتبه ، وهذه الطائفة على صنفين : أحدهما : ما يكون

٧٢

مذيّلاً بالتعليل بأنّه خير من الإقتحام في الهلكة ، وثانيهما : ما لا يكون له هذا الذيل ، كقوله عليه‌السلام : « من ترك الشبهات كان لما استبان له أترك ». أمّا الطائفة الاولى : فلابدّ من حملها على الإرشاد كأوامر الإطاعة والإنقياد ، وأمّا الطائفة الثانية : فهى أيضا بمقتضى التعليل الواقع في ذيلها ظاهرة في الإرشاد لكن لا إلى حكم العقل بحسن الإطاعة ، بل إلى عدم الوقوع في مخالفة التكاليف الواقعيّة والمفاسد النفس الآمرية نظير أوامر الطبيب ونواهيه ، وأمّا الطائفة الثالثة : فهى وإن كانت قابلة للإرشاد وللمولويّة إلاّ أنّ ظهورها في المولويّة ينفي الإرشادية ، نعم يدور أمرها بين الاستحباب النفسي ، أو الطريقي كسائر الأحكام الطريقيّة المجعولة لحفظ الواقعيات المجهولة كما في أوامر الطرق والأمارات على ما بيّناه ، وحينئذٍ فظاهر تعلّق الأمر بعنوان المشتبه وإن كان يقتضي كونه مستحبّاً نفسيّاً حكمته إعتياد المكلّف على الترك بنحو يهون عليه الاجتناب عن المحرّمات المعلومة ولكن لا يبعد ترجيح الطريقيّة نظراً إلى بعد الاستحباب النفسي عن مساق تلك الأخبار ... إلى أن قال : فعلى هذا صحّ لنا دعوى عدم استفادة الاستحباب المولوي النفسي من الأخبار الواردة في المقام حتّى المشتمل منها على عنوان المشتبه » (١).

أقول : إنّ الطائفة الثالثة من الأخبار أيضاً ظاهرة في الإرشاد لا المولويّة ، لأنّها ترشدنا إلى أنّ ترك المشتبهات يقوّينا على ترك المحرّمات المعلومة ، فهى إرشاد إلى ما يوجب الإجتناب عن المحرّمات ، وهو حصول القوّة والعادة على ترك القطعيّة منها.

وأمّا المقام الثالث : ( وهو إمكان الاحتياط في العبادات ) فاستشكل فيه بما يمكن أن يقرّر بثلاث تقريرات :

الأوّل : أنّه يعتبر في العبادة قصد القربة ، وهو يحتاج إلى أمر قطعي ، وهو مفقود في المقام.

الثاني : أنّ العبادة فرع الإطاعة ، والإطاعة متفرّعة على وجود الأمر. ( لكنّه يرجع إلى الأوّل وإن جاء في بعض الكلمات بعنوان بيان مستقلّ ).

الثالث : لابدّ في العبادة من الجزم بكون العمل مأموراً به ولا جزم في موارد الاحتياط.

واجيب عنها بامور :

__________________

(١) نهاية الأفكار : القسم الثاني من الجزء الثالث ، ص ٢٦٠ و ٢٦١.

٧٣

الأمر الأوّل : من طريق إثبات وجود أمر قطعي في الاحتياط ، وذلك بثلاثة طرق :

١ ـ أن يقصد إمتثال أوامر الاحتياط.

وفيه : أنّه قد عرفت أنّ تلك الأوامر إرشاديّة ، ولا يصحّ قصد التقرّب بالأوامر الإرشاديّة لعدم حسن ذاتي لمتعلّقاتها بل الحسن والمحبوبيّة إنّما هى في المرشد إليه على فرض وجوده.

٢ ـ أن يقال : يترتّب على الاحتياط الثواب وهو يلازم المحبوبيّة الذاتية.

وفيه : منع ترتّب الثواب كما مرّ آنفاً.

هذا مضافاً إلى لزوم الدور ، لأنّ لازم ذلك توقّف إمكان الاحتياط على ترتّب الثواب عليه ، بينما ترتّب الثواب يتوقّف على إمكان الاحتياط.

٣ ـ أن يقصد إطاعة إخبار « من بلغ ... ».

ولكن سيأتي أنّ إخبار من بلغ لا تدلّ على المحبوبيّة الذاتيّة وأنّ الثواب الوارد فيها هو من باب التفضّل من الله تعالى لا من باب حصول الاستحقاق ، والثواب التفضّلي ليس كاشفاً عن الأمر كما هو وضاح.

الأمر الثاني : ما هو أسوأ حالاً من سابقه ، وهو أن يقال : إنّ المراد بالاحتياط في العبادات هو نفس إتيان ظاهر العمل ولو بدون قصد القربة.

وإشكاله واضح ، لأنّه لا محبوبيّة ولا حسن لما أتى به من دون قصد القربة ، والإتيان بظاهر العبادة بدون القربة كالجسد بلا روح.

الأمر الثالث : ( وهو العمدة ) أن يقال بكفاية الاحتمال بل الرجاء في تحقّق قصد القربة ، ولا حاجة إلى الأمر القطعي.

توضيح ذلك : قد مرّ في مبحث التعبّدي والتوصّلي أنّ أعمال الإنسان على قسمين : قسم منها من الامور التكوينيّة الحقيقيّة غير الاعتباريّة كالصناعات والتجارات والزراعات وغيرها من الأعمال الاعتياديّة للبشر التي لا دخل فيها ليد الجعل والاعتبار ، وقسم آخر يكون من الامور الاعتباريّة المجعولة من قبل العقلاء كجعل رفع القلنسوة أو وضع العمامة مثلاً للاحترام والتعظيم على اختلاف الآداب والعادات ، ومن هذا القسم ما يدلّ على نوع خاصّ من الخضوع والتواضع الذي يسمّى بالعبادة وفي اللغة الفارسيّة بـ « پرستش » ، نظير التواجد

٧٤

في عرفات أو الهرولة في مناسك الحجّ أو غسل الوجه واليدين في الوضوء أو الإمساك عن الأكل والشرب في الصيام ، ومن هذا النوع ما تكون العبادة ذاتيّة له كالسجود الذي يكفي فيه مجرّد قصد العمل بعنوان السجدة بخلاف غيره من العبادات التي تتميّز عن سائر الأفعال بقصد القربة ، ومن دونه لا تتحقّق بعنوان العبادة ، كما أنّ عباديتها تحتاج إلى كون العمل حسناً ومحبوباً ذاتاً.

وبالجملة لابدّ في عبادية العمل من تحقّق أمرين : أحدهما : كون العمل محبوباً لله تعالى ، والثاني : كون الباعث إليه التقرّب إليه سبحانه ، فتكون العبادة مركّبة منهما ، ولا إشكال في حصول هذين في العبادات الاحتياطيّة ، معه لا حاجة إلى أمر وراء ذلك.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله أفاد في المقام بأنّه إذا احتاط المكلّف وأتى بالعمل بقصد الرجاء فإن أصاب الواقع فيقع العمل عبادة ، وإن خالف الواقع فيترتّب عليه الثواب لأنّه إنقياد وإطاعة حكميّة.

وذكر المحقّق الأصفهاني رحمه‌الله في ذيل كلامه إشكالاً ، وهو أنّ المعلول الفعلي يتوقّف على علّة فعلية ، ولا يكفيه العلّة التقديرية ، فالحركة نحو الفعل لا يعقل استنادها إلى الأمر على تقدير ثبوته بل لابدّ من استنادها إلى شيء محقّق ، وليس في البين إلاّ احتمال الأمر ، فإنّه شيء فعلي ، فلو صار الفعل قربيّاً فإنّما يصير به لا بالأمر على تقدير ثبوته ، وهل هو إلاّ الإنقياد لا أنّه إطاعة تارةً وإنقياد اخرى.

وأجاب عنه بنفسه بأنّ : « الأمر بوجوده الواقعي لا يكون محرّكاً أبداً ضرورة إنّ مبدأ الحركة الاختياريّة هو الشوق النفساني ، فلابدّ له من علّة واقعة في النفس ، فلابدّ من كون الأمر بوجوده الحاضر للنفس داعياً ومحرّكاً دائماً ، وكما أنّ الأمر الحاضر للنفس المقترن بالتصديق الجزمي قابل للتأثير في حدوث الشوق ، كذلك الأمر الحاضر المقترن بالتصديق الظنّي أو الاحتمالي ، فإذا كان التصديق القطعي موافقاً للواقع كانت الصورة الحاضرة من الأمر صورة شخصية ، فينسب الدعوة بالذات إلى الصورة وبالعرض إلى مطابقها الخارجي ، وإذا لم يكن التصديق القطعي موافقاً للواقع كانت الصورة الحاضرة صورة مثله المفروض ، فلا شيء في الخارج حتّى تنسب إليه الدعوة بالعرض ، فيكون إنقياداً محضاً لا إمتثالاً وإطاعة للأمر وانبعاثاً عنه ، فكذا الأمر المظنون أو المحتمل ، فالأمر المظنون أو المحتمل هو الداعي ، وهذه

٧٥

الصفة فعلية في هذه المرتبة فإن وافق الواقع نسب إليه الدعوة وكان إنبعاثاً عنه وإمتثالاً له بالعرض وإلاّ فلا ، بل كان محض الإنقياد كما في صورة القطع طابق النعل بالنعل » (١).

أقول : وما قد يقال في الفرق بين صورتي القطع والاحتمال من « أنّ القطع يكون طريقاً للواقع فإذا طابق الواقع كان الانبعاث من الواقع في الحقيقة ولكن الاحتمال لا طريقيّة له » (٢) قابل للدفع ، فإنّ الاحتمال وإن لم يكن طريقاً إلى الواقع بالمعنى المعروف في الاصول في باب الطرق ، ولكنّه ناظر إلى الواقع ، فلو طابق الواقع كان الباعث في الحقيقة هو الواقع ، وهذا أمر ظاهر بالوجدان ، فمن احتمل قدوم بعض أخويه من السفر فاستقبله فأصاب احتماله الواقع كان المحرّك له إلى الإستقبال في الحقيقة قدوم أخيه لا غير ، فكأنّه وقع الخلط بين الطريقيّة بمعنى الحجّية ، والطريقيّة بمعنى النظر إلى الخارج.

الكلام في أخبار من بلغ ( التسامح في أدلّة السنن )

لمّا كان الكلام في تصحيح العبادة الاحتياطيّه وتقدم أن أحد الطرق لذلك أخبار من بلغ ، كان المناسب بسط الكلام في مفاد هذه الأخبار ومغزاها وما يترتّب عليها من الأحكام.

فنقول ومنه جلّ ثنائه التوفيق والهداية : يقع الكلام فيه في مقامين :

المقام الأوّل : في أنّ المسألة اصوليّة أو لا؟

يمكن عنوان المسألة بصورتين :

الاولى : عنوانها كمسألة اصوليّة ، بأن يقال : هل الأخبار الضعاف في المستحبّات في حكم الأخبار الصحاح في الواجبات أو لا؟ وهذا ما يعبّر عنه بالتسامح في أدلّة السنن ، ولا يخفى أنّها حينئذٍ مسألة اصوليّة لأنّه يبحث فيها عن الحجّية وعدمها.

والثانية : عنوانها كقاعدة فقهيّة بأن يقال : هل الخبر الدالّ على ترتّب ثواب على عمل يدلّ بالاژلتزام على استحباب ذلك العمل شرعاً أو لا؟ وهذا بحث فقهي حيث يبحث عن

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ، ص ٢١٧ ، الطبع القديم.

(٢) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٢٣٠ ، طبع جماعة المدرّسين.

٧٦

أحد الأحكام الخمسة ، وهو الاستحباب ، وقاعدة فقهيّة من باب أنّه كلّي ليست عهدتها على المقلّد.

ربّما يقال : بإمكان كون هذه المسألة مسألة كلاميّة لأنّها تبحث عن ترتّب الثواب على العبادات الاحتياطيّة وعدمه ، والبحث عن الثواب والعقاب إنّما هو من شأن علم الكلام.

لكن قد مرّ في بعض الأبحاث السابقة أنّه لو كان الأمر كذلك للزم أن يكون قسم عظيم من الكتب الفقهيّة داخلاً في علم الكلام ، وهو كما ترى ، بل معيار المسألة الكلاميّة إنّما هو البحث عن وجود أصل الثواب والعقاب في يوم القيامة على نحو الكلّي لا البحث عن مصاديقهما.

المقام الثاني : في أدلّة المسألة

واستدلّ لها بأمرين :

الأوّل : دعوى الإجماع من ناحية الشهيد رحمه‌الله في الذكرى حيث قال : « أخبار الفضائل يتسامح فيها بما لا يتسامح في غيرها عند أهل العلم » والظاهر أنّه ذكر المسألة بعنوان مسألة اصوليّة ، كما أنّ ظاهر قوله : « عند أهل العلم » العامّة والخاصّة معاً.

الثاني : طائفة من الأخبار التي فيها صحيح السند ( كروايتي هشام بن سالم الآتيتين ) وفيها ضعاف أو مراسيل.

١ ـ ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله » (١).

٢ ـ ما رواه هشام بن سالم أيضاً عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « من سمع شيئاً من الثواب على شيء فصنعه كان له ، وإن لم يكن على ما بلغه » (٢).

والظاهر عند النظر البدوي كونهما روايتين مستقلّتين ولكن عند الدقّة يحتمل قويّاً إتّحادهما كما لا يخفى.

٣ ـ ما رواه محمّد بن مروان عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ١٨ ، أبواب مقدّمة العبادات ، ح ٣.

(٢) المصدر السابق : ح ٦.

٧٧

الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان له ذلك الثواب وإن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله » (١).

٤ ـ ما رواه محمّد بن مروان أيضاً قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : « من بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب اوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه » (٢).

٥ ـ ما رواه صفوان عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل ( فعمله ) به كان له أجر ذلك ، وإن كان ( وإن لم يكن على ما بلغه ) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله » (٣).

٦ ـ ما رواه علي بن موسى بن جعفر بن طاووس في كتاب الإقبال عن الصادق عليه‌السلام قال : « من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له ذلك وإن لم يكن الأمر كما بلغه » (٤).

٧ ـ ما رواه الصدوق عن محمّد بن يعقوب بطرقه إلى الأئمّة عليهم‌السلام إنّ : « من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له من الثواب ما بلغه وإن لم يكن الأمر كما نقل إليه » (٥).

والظاهر رجوع هذا الحديث إلى سابقه ولعلّه إلى الرواية الثانية التي نقلها الكليني أيضاً عن هشام بن سالم ، كما أنّ المحتمل قويّاً كون رواية ابن طاووس أيضاً راجعة إلى إحدى الروايات السابقة فالروايات السبعة ترجع في الواقع إلى أربعة.

٨ ـ ما ورد في كتاب عدّة الداعي من طريق العامّة : عن عبدالرحمن الحلواني مرفوعاً إلى جابر بن عبدالله الأنصاري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من بلغه من الله فضيلة فأخذ بها وعمل بما فيها إيماناً ورجاء ثوابه أعطاه الله تعالى ذلك وإن لم يكن كذلك ».

ثمّ قال مؤلّف الكتاب ( عدّة الداعي ) : فصار هذا المعنى مجمعاً عليه عند الفريقين (٦).

أقول : أمّا الدليل الأوّل وهو الإجماع فيمكن النقاش فيه من جهتين :

فأوّلاً : من ناحية وجود المخالف مثل صاحب المدارك والعلاّمة والصدوق وشيخه محمّد بن حسن بن الوليد.

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ١٨ ، أبواب مقدّمة العبادات ، ح ٤.

(٢) المصدر السابق : ح ٧.

(٣) المصدر السابق : ح ١.

(٤) المصدر السابق : ح ٩.

(٥) المصدر السابق : ح ٨.

(٦) جامع أحاديث الشيعة : ج ١ ، الباب ٩ ، من أبواب مقدّمات العبادات الحديث الأخير من الباب.

٧٨

فقد قال صاحب المدارك في كتابه في مبحث الوضوءات المستحبّة : وما يقال من أنّ أدلّة السنن يتسامح فيها بما لا يتسامح في غيرها فمنظور فيه لأنّ الاستحباب حكم شرعي يتوقّف على دليل شرعي.

وقال الصدوق رحمه‌الله في باب صلاة غدير خمّ : إنّ شيخنا لم يصحّح أخبار هذه الصّلاة فلا اعتبار بها ( بصلاة غدير خمّ ) عندنا.

فإنّه لو كان الإجماع قائماً على التسامح في أدلّة السنن لم يقل بهذا.

وثانياً : من ناحية إنّه محتمل المدرك والظاهر أنّ مدركه هو أخبار من بلغ.

فالعمدة في المقام إنّما هى الأخبار ، واستدلّ بها بأنّ ظاهرها ترتّب الثواب على العمل لا من باب التفضّل فقط بل من باب إنّ العمل يوجب الإستحقاق ، ففي حديث صفوان : « كان له أجر ذلك » ( المشار إليه هو العمل ) ، وكذلك في حديث هشام ( الذي مرّ إنّه من أهمّها ) : « كان أجر ذلك له » فقد اضيف الأجر في هذين الحديثين إلى العمل ، وهو ظاهر في كون العمل مأموراً به ولازمه الاستحباب النفسي.

وبعبارة اخرى : لا إشكال في أنّ هذه الأخبار تحرّضنا إلى العمل والتحريض إلى العمل دليل على كونه محبوباً ، والمحبوبية تدلّ على وجود الأمر.

هذا غاية البيان للاستدلال بهذه الأخبار على الاستحباب.

لكن أورد عليه بوجوه عديدة بعضها قابل للدفع :

١ ـ إنّ هذه الأخبار أخبار آحاد ، وقد ثبت في محلّه عدم حجّيتها بالنسبة إلى الاصول.

ويمكن الجواب عنه بأمرين : أحدهما : إنّ المسألة فقهيّة لا اصوليّة. ثانيهما : إنّه قد وقع الخلط بين اصول الفقه واصول الدين وما ذكر من عدم حجّية أخبار الآحاد إنّما هو بالنسبة إلى الثاني لا الأوّل.

لكنّ فيه : إنّ اصول الفقه أيضاً على المبنى المختار لا تثبت بخبر الواحد لأنّ عمدة الدليل على حجّيته إنّما هو بناء العقلاء ، وهم لا يقنعون به في المسائل الأساسية الاصوليّة فلا يكتفون به مثلاً في ما يسمّى اليوم بالدُستور ، وباللغة الفارسيّة « قانون أساسي » ولا ريب في اتّحاد القاعدة الفقهيّة مع القاعدة الاصوليّة في هذه الجهة ( أي الأهميّة والخطورة ).

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ خبر الواحد في ما نحن فيه معتضد بعمل الأصحاب قديماً وحديثاً ،

٧٩

مضافاً إلى تظافر الأخبار في المقام ، وهو كافٍ في إثبات المطلوب.

٢ ـ إنّه لا يستفاد من هذه الأخبار أكثر من الثواب الإنقيادي كما أنّه مقتضى صراحة بعض التعابير الواردة فيها كقوله عليه‌السلام : « ففعل ذلك طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله » أو « التماس ذلك الثواب » وكما أنّه مقتضى التفريع بالفاء في بعض آخر ( فعمله ) حيث إنّ مثل هذه التعابير ظاهرة أو صريحة في أنّ الباعث على العمل إنّما هو الإنقياد والتماس الثواب ، وحينئذٍ بناءً على ترتّب الثواب على الإنقياد أيضاً لا تكون هذه الأخبار دليلاً على الاستحباب بل غاية ما يستفاد منها الإرشاد إلى حكم العقل بحسن الإنقياد.

وإن شئت قلت : لا أقلّ من صيرورتها مجملة بالنسبة إلى دلالتها على الاستحباب.

أقول : هذا عمدة الإيراد على الاستدلال بهذه الأخبار على الاستحباب النفسي ، وذلك وقع الأعلام في حيص وبيص في مقام الجواب عنه.

فأجابوا عنه أوّلاً : بأنّ لازم هذا ( كون المدلول الثواب الإنقيادي فقط ) ترتّب الثواب الإنقيادي كلّما حصل الاحتمال بكون هذا العمل صادراً من ناحية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولو من طريق فتوى فقيه فلماذا عبّر فيها بخصوص الخبر؟

ولكنّه قابل للدفع بأنّ الغالب في نشوء الاحتمال إنّما هو الخبر الضعيف ، فالروايات ناظرة إلى الفرد الغالب ، أضف إلى ذلك وجود احتمال خصوصيّة في الثواب الإنقيادي الحاصل من الخبر وهى احترام قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام.

وثانياً : بأنّ الثواب الإنقيادي أمر لازم لنيّة العبد لنفس العمل كما لا يخفى ، بينما الظاهر من هذه الروايات ترتّب الثواب على نفس العمل.

ولكنّه أيضاً قابل للدفع بأنّ الثواب الإنقيادي أيضاً مربوط بالعمل لا النيّة ، غاية الأمر أنّه يترتّب على العمل المستند إلى النيّة كما يحكم به الوجدان في باب التجرّي أيضاً.

٣ ـ ( وهو من أهمّها ) إنّ لحن هذه الأخبار لحن التفضّل لا الاستحقاق كما يشهد عليه أنّ ظاهرها ترتّب نفس الثواب الذي بلغه ، مع أنّه لو كان من باب الاستحقاق ، كان الثواب الاستحقاقي تابعاً في درجته مقدار ما يقتضيه العمل واقعاً سواء كان أقلّ ممّا بلغه أو أكثر.

نعم لا يوجد هذا اللحن في الصحاح منها ( وهى روايتي هشام ) لكنّه موجود في عدّة متضافرة ، منها والتضافر موجب لجبر الضعف وحصول الوثوق بالصدور.

٨٠