أنوار الأصول - ج ٣

أنوار الأصول - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-15-6
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٢٤

فمات المجتهد ( أو تبدّل رأيه ) وقلّد من يقول بحرمته وكان الحيوان المذبوح موجوداً فلا يجوز بيعه ولا أكله ، وبين غيره من موارد العبادات والمعاملات ممّا قد مضى فيكون مجزياً ، فلو قلّد من يكتفي بالمرّة مثلاً في التسبيحات الأربع ، أو أوقع عقداً أو إيقاعاً بتقليد مجتهد يحكم بالصحّة ثمّ مات ، وقلّد من يقول بعدم كفاية المرّة وبالبطلان ، يجوز له البناء على صحّة العبادة والعقد ، ولا يجب عليه إعادة الأعمال السابقة.

الثاني : أنّ هذه المسألة جزئي من جزئيات مسألة الإجزاء ومصداق من مصاديقها ، لأنّ من أقسامه هو الإجزاء في الأوامر الظاهريّة ، والمقام من هذا القبيل ، لأنّ حجّية فتوى المجتهد للمقلّد حكم ظاهري له.

نعم أنّها أعمّ منها من جهة اخرى ، فإنّ مسألة الإجزاء مختصّة بباب الأوامر والأحكام التكليفيّة فحسب ، ولا تعمّ الأحكام الوضعيّة ، بينما البحث هنا أي مسألة التبدّل والعدول يعمّ الأحكام التكليفيّة والوضعيّة معاً ، فكلّ من المسألتين أعمّ من الاخرى من جهة ، وأخصّ منها من جهة اخرى.

الثالث : في مقتضى الأصل في المسألة ، ولا يخفى لزوم تعيينه حتّى يطالب من يخالفه بالدليل فنقول : لا إشكال في أنّ مقتضى الأصل والقاعدة الأوّليّة في المقام هو الفساد فإنّ الأصل مثلاً هو عدم وقوع التذكية شرعاً أو عدم الإتيان بالصلاة الصحيحة ( مع قطع النظر عن القواعد الخاصّة التي يمكن جريانها كقاعدة الفراغ ونحوها ) فهو يوافق القول بعدم الإجزاء فلابدّ للقائلين بعدم الفساد من إقامة الدليل عليه.

إذا عرفت هذا فاعلم : أنّه إذا كان مدرك الاجتهاد السابق هو القطع ثمّ انكشف خلافه بالقطع أيضاً فلا وجه حينئذٍ للقول بالإجزاء ، لأنّ المفروض أنّه لم يكن في الواقع أمر من جانب المولى ، بل إنّه امتثل أمراً خيالياً منقوشاً في الذهن فقط ، وذلك لأنّ القطع ليس من الأمارات الشرعيّة حتّى يقال : إنّه أمارة كسائر الأمارات يتولّد منها حكم ظاهري شرعي ، بل هو من الأمارات العقليّة التي تكون مجرّد طرق إلى الواقع فحسب ، ومنه يعلم الحال فيما إذا زال القطع السابق وقامت أمارة شرعيّة على خلافه.

٥٨١

لكن موارد تبدّل رأي المجتهد ليست من هذا القبيل غالباً لأنّ ما يتبدّل عند المجتهد في غالب الموارد إنّما هو الأمارات الظنّية المعتبرة ، كما أنّ رجوع المقلّد إلى مجتهد آخر أيضاً ليس من هذا القبيل أصلاً ، لأنّ الحجّة عنده إنّما هو قول المجتهد وهو أمارة ظنّية عقلائية أمضاها الشارع المقدّس.

والمهمّ في المقام هو ما إذا كانت فتوى المجتهد على أساس أمارة شرعية وكان المبنى في حجّية الأمارات ، الطريقيّة ( كما هو الحقّ ) ، وحينئذٍ يستدلّ للإجزاء بوجوه عديدة :

الوجه الأوّل : ( وهو العمدة ) إنّ إطلاقات أدلّة حجّية الأمارات لا تشمل الأعمال السابقة التي أتى بها المكلّف وفقاً لأمارات كانت حجّة عليه حين العمل ، وبعبارة اخرى : إنّ أدلّة حجّية الأمارات وإن كانت مطلقة من حيث الزمان ، ولكنّها منصرفة إلى زمان الحال والاستقبال ، ولا تشمل ما عمل سابقاً على وفق أمارة اخرى ، أي أنّ القدر المتيقّن منها إنّما هو الحال والمستقبل ، كما أنّه كذلك في الأمارات العرفيّة ، فمن أعطى دراهم بيد وكيله ، وأمره بأن يتّجر بها أحسن التجارة وأنفعها ، والوكيل لا يعلم ما هو أنفعها وأحسنها فيعتمد فيها على قول الخبرة ، ويسأل زيد الخبرة عنها مثلاً ، فيعمل على وفق رأيه ، ثمّ بعد مضيّ زمان يسأل عن عمرو الخبرة نفس ذلك ، فيجيبه بما يخالف رأي زيد ، فحينئذٍ هل يكون معنى حجّية كلام عمرو إبطال جميع العقود السابقة لأنّه لم يكن وكيلاً في إبتياع غير الأنفع ، فالعقود الواقعة عليها فضوليّة ، أو أنّ القدر المتيقّن منها إنّما هو بالنسبة إلى الحال والاستقبال؟ لا إشكال في أنّ وجداننا العرفي يحكم بالثاني.

وعلى أي حال : لا اطلاق في الاجتهاد الثاني حتّى يعمّ الواقعة السابقة ، ولا أقلّ من الشكّ في ذلك ، ولعلّ هذا هو مراد من قال ( وهو صاحب الفصول وغيره ) : « الواقعة الواحدة لا تتحمّل اجتهادين » ، ولعلّه هو العلّة للسيرة المدّعاة في كلمات بعضهم على عدم إعادة الأعمال السابقة ( وكون الإعادة أمراً مستغرباً في أذهان أهل الشرع بأن يعمل بفتوى مجتهد عشرات سنة ، ثمّ بعد تبدّله أو تقليد مجتهد آخر يعيد جميع أعماله التي عملها في هذه السنوات ، وكذلك فيما بعده من تبدّلات الرأي ، ولعلّه أيضاً المصدر الوحيد لما ادّعى من الإجماع في المسألة ، ولا أقلّ في العبادات.

وإن شئت قلت : الإجماع المدّعى والسيرة المستمرّة التي وردت في كلمات بعضهم ـ ولا

٥٨٢

يبعد قبولها في الجملة ـ أيضاً مؤيّدتان لما ذكرنا من الدليل.

ثمّ إنّ هيهنا بيانين آخرين لا يمكن الالتزام بهما إلاّ إذا رجعا إلى البيان المزبور :

أحدهما : أنّ الاجتهاد اللاحق كالإجتهاد السابق ، ولا دليل على ترجيحه عليه حتّى يبطله. وهذا بحسب ظاهره باطل قطعاً ، لأنّ المفروض أنّ المجتهد يرى الاجتهاد السابق في الآن باطلاً ولو ظنّاً ، ويكون هذا الزمان زمان حكومة الاجتهاد الثاني ، فكأنّه ظفر لمصدر الاجتهاد السابق معارضاً لم يظفر به سابقاً.

إلاّ أن يرجع إلى أنّ دليل حجّية الاجتهاد اللاحق لا يعمّ الأعمال السابقة وهو نفس ما ذكرناه.

ثانيهما : ما ذكره في « التنقيح » من دون أن يقبله ، وحاصله : أنّ الاجتهاد الأوّل كان حجّة في ظرفه ، والاجتهاد الثاني حجّة من زمن تحقّقه ، ولا يعمّ السابق ، فكلّ حجّة في ظرفه الخاصّ به.

وبعبارة اخرى : المفروض في المقام هو ما إذا كان إنكشاف الخلاف بقيام حجّة معتبرة على الخلاف ، فلا علم وجداني بكون الاجتهاد السابق على خلاف الواقع ، وحينئذٍ كما يحتمل أن يكون الاجتهاد الثاني مطابقاً للواقع ، يحتمل أيضاً أن يكون الاجتهاد الأوّل كذلك ، فهما متساويان من هذه الجهة لأنّ الاجتهاد اللاحق لا يكشف عن عدم حجّية الاجتهاد السابق في ظرفه ، لأنّ انكشاف الخلاف في الحجّية أمر غير معقول ، بمعنى أنّ السابق يسقط عن الحجّية في ظرف الاجتهاد الثاني مع بقائه على حجّيته في ظرفه (١).

وهذا أيضاً لا يمكن المساعدة عليه بظاهره ، لأنّ الاجتهاد الثاني وإن كان زمان حجّيته حين وصوله ، ولكنّه يمكن أن يكون عاماً من حيث المحتوى والمؤدّى فيشمل الأعمال السابقة أيضاً.

فمثلاً إذا ظفر المجتهد برواية تدلّ على وجوب صلاة الجمعة فإنّها وإن صارت حجّة من زمن وصولها ولكن مضمونها ومحتواها يدلّ على وجوب صلاة الجمعة من زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يوم القيامة ، لأنّ مقتضاها ثبوت مدلولها في الشريعة المقدّسة من الابتداء ، لعدم اختصاصه

__________________

(١) راجع التنقيح في شرح العروة الوثقى : ج ١ ص ٥١ ـ ٥٤.

٥٨٣

بعصر دون عصر ، وحينئذٍ يكون العمل المأتي به على طبق الحجّة السابقة باطل بمقتضى الحجّة الثانية.

إلاّ أنّ يقال : إنّ المقصود من هذا البيان أنّ المضمون المذكور منصرف من الأعمال السابقة التي عمل فيها بدليل معتبر في وقته ، فيرجع إلى ما ذكرنا من البيان.

الوجه الثاني : أنّ عدم الإجزاء يؤدّي إلى العسر والحرج المنفيين عن الشريعة السمحة ، لعدم وقوف المجتهد غالباً على رأي واحد ، فيؤدّي إلى الاختلال فيما يبني فيه عليها من الأعمال.

وفيه : أنّه أخصّ من المدّعى من وجه ، وأعمّ منه من وجه آخر ، أمّا كونه أخصّ منه فلأنّ المعروف أنّ المعيار إنّما هو الحرج الشخصي لا النوعي فلا يعمّ الدليل جميع المكلّفين ، وأمّا كونه أعمّ منه فلشموله موارد القطع واليقين مع أنّه لا كلام في عدم الإجزاء في موارد القطع.

الوجه الثالث : الإجماع على الإجزاء مطلقاً أو في خصوص العبادات على الأقلّ.

وفيه : أوّلاً : أنّه منقول لا دليل على حجّيته ، وثانياً : يكون محتمل المدرك لو لم يكن متيقّنه.

الوجه الرابع : السيرة المتشرّعة المستمرّة على عدم الإعادة والقضاء مع أنّ تبدّل الرأي أمر شائع بين المجتهدين.

وفيه : أنّ إرجاع هذه السيرة إلى زمن المعصوم عليه‌السلام أمر مشكل جدّاً ، لأنّه وإن كان الاجتهاد موجوداً في ذلك الزمان أيضاً ولكن لم يكن على نحو تبدّل الآراء والعدول عنها بحيث كان في مرأى ومسمع من الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، ولعلّ منشأ هذه السيرة وكذا الإجماع هو الدليل الأوّل الذي اخترناه ، كما أشرناه إليه آنفاً.

الوجه الخامس : أنّ عدم الإجزاء يوجب ارتفاع الوثوق في العمل بآراء المجتهدين ، من حيث إنّ الرجوع في حقّهم محتمل ، وهو منافٍ للحكمة الداعية إلى تشريع حكم الاجتهاد.

وفيه : أنّه مجرّد إستحسان ظنّي لا يركن إليه ما لم يلزم منه عسر حرج اختلاف النظام.

الوجه السادس : ما استدلّ به بعضهم من الاستصحاب على بقاء آثار السابقة للأعمال التي أتى بها.

وفيه : أوّلاً : ما ذكرناه غير مرّة من عدم حجّية الاستصحاب في الشبهات الحكميّة ، وثانياً : ـ وهو العمدة ـ : أنّ المقوّم للأحكام السابقة كان رأي المجتهد ، والمفروض انتفاؤه فعلاً

٥٨٤

وإنقلابه إلى غيره ، فإذا عدم الرأي كيف يمكن استصحاب آثاره ، وهو أشنع من الاستصحاب عند تبدّل الموضوع وتغيّره.

الوجه السابع : ما استدلّ به بعض الأعلام على الإجزاء وعدم انتقاض الآثار السابقة بعد تقسيمه الأحكام إلى التكليفيّة والوضعيّة ، وحاصله :

أمّا أحكام الوضعيّة : بالمعنى الأعمّ فإنّها تتعلّق غالباً بالموضوعات الخارجيّة ، ولا معنى لقيام المصلحة بها ، بل المصلحة قائمة بالأمر الاعتباري ، ففي عقد المعاطاة مثلاً المصلحة لا تقوم بالمال بل بالملكيّة الحاصلة من المعاطاة القائمة بالمال ، فإذا أدّت الحجّة إلى أنّ المعاطاة مملّكة فقد وجدت المصلحة في جعل الملكيّة ، فإذا قامت الحجّة الثانية على أنّ المعاطاة لا تفيد الملكية لم تكشف إلاّعن أنّ المسألة من لدن قيامها إنّما هى في جعل الإباحة في المعاطاة لا في جعل الملكية ، فقيام الحجّة الثانية من قبيل تبدّل الموضوع.

وأمّا الأحكام التكليفيّة : فهى وإن كانت تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها ويتصوّر فيها كشف الخلاف ، إلاّ أنّ الحجّة الثانية إنّما يتّصف بالحجّية بعد إنقطاع الحجّة السابقة ، فالحجّة الثانية لم تكن حجّة في ظرف الحجّية السابقة ، وإنّما حجّيتها تحدث بعد سلب الحجّية عن السابقة ، وإذا كان الأمر كذلك استحال أن تكون الحجّية المتأخّرة موجبة لانقلاب الأعمال المتقدّمة عليها ، ( انتهى ملخّصاً ) (١).

وفيه : أوّلاً : أنّه قدس‌سره هل يتكلّم على مبنى القائلين بالسببيّة في حجّية الأمارات أو الطريقيّة؟ من الواضح أنّه لا يقول بالأوّل ، وأمّا على الثاني فالحجج الشرعيّة لا تكشف عن المصالح الواقعيّة لأنّها تتضمّن أحكاماً ظاهريّة فحسب ، والمصلحة السلوكيّة لا توجب الاجزاء ، فما ذكره من أنّ المصلحة حاصلة في عقد المعاطاة بعد قيام الحجّة أمر غريب على مبناه ، وقوله : « إذا أدّت الحجّة إلى أنّ المعاطاة مملّكة فقد وجدت المصلحة في جعل الملكية في المعاطاة » نفس القول بالسببية من دون تفاوت.

وأمّا دعوى الاستحالة في كون الحجّية المتأخّرة موجبة لانقلاب الأعمال المتقدّمة في الأحكام التكليفيّة فهو أغرب منه ، فإنّ الأعمال المتقدّمة لم تثبت صحّتها واقعاً وإنّما ثبتت

__________________

(١) راجع التنقيح في شرح العروة الوثقى : ج ١ ، ص ٥٤ ـ ٥٦.

٥٨٥

صحّتها ظاهراً ( كما هو المفروض ) والانقلاب إنّما هو بالنسبة إلى آثارها الموجودة الآن من القضاء والإعادة ، وهذا ليس من المستحيل أبداً.

اللهمّ إلاّ أن يعود كلامه إلى ما ذكرنا آنفاً من أنّ الحجّية الثانية لا تدلّ على ترتيب الآثار عليها إلاّبالنسبة إلى أعماله في الحال وفي المستقبل ، لانصرافها عمّا أتى به وفقاً للحجّة السابقة ، والانصراف العرفي أمر ، ودعوى الاستحالة العقليّة أمر آخر.

وثانياً : ما أفاده من أنّه لا معنى لقيام المصلحة أو المفسدة بالجسم والموضوع الخارجي.

فيرد عليه : أنّ الطهارة والنجاسة من الأحكام الوضعيّة تتبّعان المصالح والمفاسد الموجودة في الموضوعات الخارجيّة ، وهكذا أشباههما.

بقي هنا شيء :

وهو أنّ ما ذكرناه هنا إنّما هو مقتضى القواعد الأوّلية في الأعمال السابقة المطابقة للإجتهاد الأوّل مع قطع النظر عن مقتضى القواعد الثانوية الخاصّة ، فإنّ هيهنا قواعد خاصّة تقتضي صحّة الأعمال السابقة :

منها : ما يختصّ بباب الصّلاة ، وهى قاعدة « لا تعاد الصّلاة إلاّمن خمس » لشمول إطلاقها للجاهل القاصر ، وما نحن فيه من مصاديقه لأنّ المجتهد إذا أخطأ في إجتّهاده كان من هذا القبيل ، فإذا أدّى الاجتهاد الأوّل إلى عدم جزئيّة شيء للصّلاة مثلاً والمكلّف أتى بالصلاة على طبقه ، ثمّ تبدّل الرأي وانكشف الخلاف وظهرت جزئية ذلك الشيء صحّت الصّلاة ، ولا إشكال في عدم وجوب الإعادة والقضاء.

ومنها : ما يختصّ بباب الصيام فإنّ الأدلّة التي تدلّ على أنّ الإفطار يوجب البطلان مختصّة بالعالم العامد فقط ولا تشمل ما نحن فيه ، ولازمه صحّة الصيام الذي أتى به المكلّف وفقاً للاجتهاد الأوّل.

منها : الإجماع على الإجزاء في بعضهم العبادات ، وقد ادّعاه بعضهم وقال في مستمسكه « نسب إلى بعض دعوى صريح الإجماع بل الضرورة عليه » (١).

__________________

(١) مستمسك العروة لسيّد الحكيم قدس‌سره : ج ١ ، ص ٨١.

٥٨٦

ولكن فيه : أوّلاً : أنّه من قبيل الإجماع المنقول الذي لا دليل على حجّيته ، فإنّ المحصّل منه في أمثال المقام لم يتعرّض أكثر الأصحاب للمسألة في كلماتهم أمر مشكل جدّاً.

وثانياً : أنّه محتمل المدرك لو لم يكن متيقّنة فإنّا نحتمل ( على الأقل ) استنادهم في ذلك إلى بعض الوجوه المستدلّ بها في المقام ، وقد مرّ عليك ذكرها آنفاً.

وثالثاً : أنّ المحكيّ عن العلاّمة والعميدي ٠ دعوى الإجماع على خلافه ( على ما في مستمسك الحكيم قدس‌سره ).

هذا كلّه فيما إذا كانت فتوى المجتهد على أساس أمارة من الأمارات الشرعيّة.

ومنه يظهر الكلام في الاصول العمليّة العقليّة أو الشرعيّة ، فإنّ الحكم الحاصل منها حكم ظاهري ، وقد عمل به المكلّف ، ثمّ تبيّن بحسب الاجتهاد الثاني خلافه ، فيأتي جميع ما ذكرنا في الأمارات والأدلّة الاجتهاديّة.

وملخّص الكلام في المقام : أنّ تبدّل الرأي على ثلاثة صور :

تارةً يكون العمل قد مضى ثمّ تبدّل الرأي ، ففي هذه الصورة لا إشكال في الإجزاء إلاّفيما إذا كان مدرك الاجتهاد السابق هو القطع.

واخرى : السبب قد مضى والمسبّب باقٍ على حاله كما في مثال الذبيحة فإنّ عمل التذكية فيه قد مضى وأمّا الحيوان المذكّى فهو موجود في الحال ، ومثل عقد النكاح بالفارسية فالعقد قد مضى وأمّا مسبّبه ومنشأه وهو الزوجية باقٍ على حاله ، ومثل ما إذا اشترى داراً بعقد المعاطاة فمسبّبه وهو ملكية الدار باقية على حالها ، ففي هذه الصورة أيضاً إذا تبدّل رأي المجتهد ، الصحيح هو الإجزاء من دون فرق بين مثال الذبيحة وإنشاء العقد باللغة الفارسيّة لأنّ كليهما من باب واحد ، والمسبّب ( أو الموضوع على تعبير المحقّق اليزدي رحمه‌الله في العروة الوثقى ) باقٍ على حاله في كليهما ، ولا وجه للفرق بينهما كما ذهب إليه السيّد اليزدي رحمه‌الله ، ولذلك علّق على كلامه وإستشكل عليه أكثر المعلّقين.

وثالثة : يكون الموضوع باقياً على حاله ، كما إذا اجتهد سابقاً ورأى كفاية سبعة وعشرين شبراً في تحقّق الكرّية ، واجتهد في اللاحق على عدم كفايتها ، وكان الماء المحكوم بالكرّية سابقاً باقياً على حاله ، ورأي سابقاً عدم نجاسة ملاقي الشبهة المحصورة أو عدم نجاسة عرق

٥٨٧

الجنب عن الحرام أو دم البيض ، والآن يرى نجاستها وهى باقية على حالها ، ففي هذه الصورة لا إشكال في عدم الإجزاء ، لأنّ الكلام فيه ليس في الأعمال الماضية ، بل بالنسبة إلى الحال والمستقبل ، بأن يعامل مع هذا الماء معاملة الكرّ في الحال والآتي فلا ريب في عدم الإجزاء.

فالحقّ في المسألة هو التفصيل بين الصورتين الأوّليين والصورة الأخيرة ، والقول بالإجزاء في الأوليين دون الأخيرة ، ومنه يظهر حال سائر التفاصيل المذكورة في المقام والجواب عنها.

ثمّ إنّ هنا تفصيلاً آخر اختاره سيّدنا الاستاذ الحكيم رحمه‌الله في مستمسكه ، وحاصله : الفرق بين أعمال المجتهد نفسه وأعمال مقلّديه ، وعدم الإجزاء في الاولى والاجزاء في الثانية ، أمّا حكم المجتهد نفسه بالإضافة إلى الأعمال السابقة على العدول فالظاهر وجود التدارك عليه ، لأنّ الدليل الأوّل في نظره على الفتوى اللاحقة لا فرق فيه بين الوقائع السابقة واللاحقة ، وأمّا بالنسبة إلى المقلّد فيمكن الاستدلال على صحّة الأعمال السابقة بأنّ ما دلّ على جواز العدول أو وجوبه إنّما دلّ عليه بالإضافة إلى الوقائع اللاحقة سواء كان هو الإجماع أو غيره ، مضافاً إلى استصحاب بقاء الحجّية للفتوى السابقة بالإضافة إلى الوقائع السابقة ، نعم لو كان العدول لأجل أعلمية المعدول إليه فوجوب العدول إليه يقتضي تدارك الأعمال السابقة لإطلاق دليل حجّية فتوى الأعلم ، ( إنتهى كلامه ملخّصاً ) (١).

وفيه : أنّ الإنصاف عدم الفرق بين المجتهد والمقلّد في هذا الباب ، ولا بين أن يكون تبدّل الفتوى للعدول إلى الأعلم أو غير ذلك من أسباب العدول وتغيير الفتوى ، فإنّ الفتوى الأخيرة التي استنبطها المجتهد عن الأدلّة غير مقيّدة بزمان ولا مكان ، ولا حال دون حال ، بل محتواها أنّ الحكم الشرعي من زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى آخر الدنيا هو هذا كما كانت الاولى قبل كشف خلافها كذلك ، فإذا ثبتت حجّية فتوى المجتهد ، في زمان وجب ترتيب الآثار على كلامه بالنسبة إلى جميع الأزمنة.

اللهمّ إلاّ أن يقال : بانصراف حجّيتها إلى خصوص الوقائع اللاحقة ، ولكن يجري مثل هذه الدعوى بالنسبة إلى المجتهد نفسه لأنّه وإن كان يعترف بالخطأ في الجملة ولكن المفروض

__________________

(١) المستمسك : ج ١ ، ص ٨١ ـ ٨٣.

٥٨٨

أنّه ليس معناه حصول القطع ببطلان الفتوى السابقة لأنّه خارج عن محلّ الكلام ، بل يحتمل صحّتها أيضاً في متن الواقع ، وإن كانت وظيفته فعلاً العمل بالثانية.

وحينئذٍ يمكن دعوى انصراف أدلّة حجّية الفتوى اللاحقة إلى الوقائع اللاحقة حتّى بالنسبة إلى المجتهد نفسه ، هذا إذا كان الدليل لفظياً ، وأمّا إذا كان دليل الحجّية لبّياً فالقدر المتيقّن منه ليس إلاّما ذكرناه ، وهذا الكلام يجري بالنسبة إلى الأعلم أيضاً.

إلى هنا تمّ الكلام عن المقام الأوّل من مباحث الاجتهاد والتقليد ( وهو البحث عن أحكام الاجتهاد ).

المقام الثاني : فى مباحث التقليد

وهو في اللغة جعل القلادة على العنق ، قلّده تقليداً جعل القلادة على عنقه ، ومنها تقليد الولاة الأعمال ، وتقليد البدنة أن يعلّق في عنقها شيء ليعلم أنّه هدى ، وتقليد السيف تعليقه في العنق أو شدّه على وسطه ، وأمّا الاقليد فهو معرّب « كليد » ، وفي مجمع البحرين أنّه لغة يمانية بمعنى المفتاح ، فلا ربط بينه وبين مادّة القلادة.

وأمّا التقليد في المقام ، أي التقليد عن المجتهد فالمعروف أنّه قبول قول الغير من غير دليل ، لأنّ المقلِّد يجعل عمله كالقلادة على عنق المجتهد ، وقيل أنّ المقلِّد يجعل طوق التبعيّة على عنقه.

وأمّا في الاصطلاح فقد ذكر شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه‌الله له في رسالته الشريفة أربعة معانٍ :

١ ـ العمل بقول الغير.

٢ ـ قبول قول الغير.

٣ ـ الأخذ بقول الغير.

٤ ـ متابعة قول الغير.

ويمكن أن يقال : إنّها جميعاً ترجع إلى معنى واحد ولكن يستخرج منها عند الدقّة ثلاثة مفاهيم مختلفة : أحدها : العمل بقول الغير ، ثانيها : الأخذ بقول الغير بقصد العمل من دون العمل به ، ثالثها : الالتزام القلبي بالعمل به وإن لم يأخذه ولم يعمل به ، ثمّ يقع البحث في أنّه أي شيء من

٥٨٩

هذه الامور الثلاثة يعبّر عن حقيقة التقليد ، فهل هى الالتزام القلبي بفتوى المجتهد سواء أخذ بها أم لم يأخذ ، وسواء عمل بها أم لم يعمل ، أو أنّه الالتزام مع الأخذ بقصد العمل سواء عمل أم لم يعمل ، أو أنّه الالتزام مع الأخذ والعمل؟

وللمحقّق الخراساني رحمه‌الله تعريف خامس ، وهو : الأخذ بقول الغير بغير دليل ، فأضاف إليه قيد « بغير دليل » ، ولا ريب في أنّ مراده من الدليل إنّما هو الدليل التفصيلي ، وإلاّ يكون للمقلّد دليل في تقليده إجمالاً بلا إشكال.

وفي العروة الوثقى للمحقّق اليزدي ؛ تعريف سادس وهو : الالتزام بالعمل بقول مجتهد معيّن ، فإنّه قال في المسألة ٨ : « التقليد هو الإلتزام بالعمل بقول مجتهد معيّن وإن لم يعمل بعد ، بل ولو لم يأخذ فتواه فإذا أخذ رسالته والتزم بما فيها كفى في تحقّق التقليد ».

وقد وافقه جماعة من المحشّين ، وخالفه جماعة اخرى منهم وقالوا : « التقليد هو الأخذ بفتوى المجتهد للعمل ».

والتعريف السابع ما هو المختار ، وهو : الاستناد إلى رأي المجتهد في مقام العمل. فإنّ الإنصاف أنّ التقليد إنّما هو العمل استناداً إلى قول المجتهد أو أنّه الاستناد في مقام العمل ، والدليل عليه :

أوّلاً : أنّه هو المناسب للمعنى اللغوي حيث إنّه عبارة عن جعل القلادة في العنق ، ولا ريب في أنّ قلادة التقليد تعلّق على عنق المجتهد بعد أن عمل المقلّد بفتاويه استناداً إليها.

ثانياً : ما سيأتي في مسألة جواز التقليد وعدمه ممّا إستند إليه لعدم الجواز من الآيات الناهية عن العمل بغير علم ، حيث إنّ لازمه كون التقليد هو العمل بغير العلم ، ولم يردّ عليه ( لا من جانب المستدلّين بها لعدم جواز التقلّد ولا من جانب المجيبين عنهم ) بأنّ هذه الآيات لا ربط لها بمسألة التقليد لأنّه ليس من مقولة العمل ، فكأنّ الطرفين توافقا على كونه من قبيل العمل.

وثالثاً : أنّ المقصود من التقليد والأثر الشرعي المترتّب عليه إنّما هو صحّة العمل وهى لا تحصل بدون العمل.

وبعبارة اخرى : كما أنّ الآثار الشرعيّة التي تترتّب على التقليد عبارة عن الآثار في مقام العمل فليكن معناه أيضاً كذلك ، أي لابدّ من إدخال العمل في معناه.

٥٩٠

ثمّ إنّ القائلين بأنّ التقليد عبارة عن الإلتزام القلبي أو الأخذ بالفتوى فعمدة الدليل عليه عندهم : أوّلاً : ما جاء في كلمات المحقّق الخراساني رحمه‌الله وغيره من إشكال الدور ، ببيان : أنّه لابدّ أن يكون العمل عن تقليد ، فيكون التقليد في رتبة سابقة على العمل ، فلو كان التقليد عبارة عن العمل فيكون في رتبة متأخّرة عنه ، فيلزم منه الدور وتقديم ما حقّه التأخير.

وإن شئت قلت : أنّ وقوع العبادة في الخارج هو ممّا يتوقّف على قصد القربة ، وقصد القربة على ثبوت كونها عبادة ، وثبوت ذلك للعامي ممّا يتوقّف على التقليد ، فلو كانت التقليد هو العمل ، أي وقوع العبادة في الخارج ، لتوقّف وقوعها في الخارج على وقوعها في الخارج ، وهو دور واضح.

ثانياً : أنّ التقليد سابق على العمل ، فلو كان التقليد هو نفس العمل لكان العمل الأوّل بلا تقليد.

ثالثاً : أنّ التقليد في اللغة جعل القلادة على عنق المقلِّد ، ولا إشكال في أنّه يتحقّق بالالتزام وإن لم يعمل بعد.

والجواب عن الأوّل : أنّه لم يرد في آية ولا رواية من أنّه لابدّ أن يكون العمل عن تقليد ومسبوقاً بالتقليد وناشئاً عنه كي يجب أن يكون التقليد سابقاً على العمل ، بل الذي يجب على المقلّد إنّما هو العمل بقول المجتهد والأخذ بكلامه ، فلو عمل بقوله فقد صدق أنّه قلّده وإن لم يصدق أنّه عمل عن تقليد.

وبعبارة اخرى : أنّه قد وقع الخلط بين التقليد والحجّة ، فإنّ ما يجب على المقلّد إنّما هو إتيان العمل عن حجّة ، والتقليد عبارة عن العمل عن حجّة ، لأنّا نقول : لابدّ أن يكون المكلّف في أعماله وعباداته إمّا مجتهداً أو محتاطاً أو مقلّداً ، ولا نقول : لابدّ أن يكون عمله عن تقليد ، وحينئذٍ يكون علمه الأوّل أيضاً مع التقليد وينطبق عليه عنوانه ، لأنّه أيضاً يكون عن حجّة ودليل ، وبهذا يظهر الجواب عن الدليل الثاني.

وأمّا الدليل الثالث ففيه : ما مرّ من معنى التقليد في اللغة ، فإنّه ليس عبارة عن جعل القلادة على عنق المقلّد ، بل هو عبارة عن جعل قلادة المسؤولية على عنق المجتهد ولا يحصل ذلك إلاّبعد العمل.

والعمدة في المقام والذي يسهّل الخطب أنّ التكلّم في مفهوم التقليد لا يترتّب عليه ثمرة

٥٩١

فقهيّة ، وذلك لأنّه أمر حادث في مصطلح الفقهاء لم يرد في آية ولا رواية ولا معقد إجماع إلاّفي مرسلة الإحتجاج عن أبي محمّد العسكري عليه‌السلام : « فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه مخالفاً لهواه ، مطيعاً لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه » (١).

لكنّها مضافاً إلى ضعفها من ناحية السند مؤيّدة لما ذكرنا لأنّ الذمّ الوارد فيها إنّما هو على عملهم بفتاوي من لا يوثق به من علماء أهل الكتاب.

نعم ، عن محمّد بن عبيدة قال : قال لي أبو الحسن عليه‌السلام : « يامحمّد أنتم أشدّ تقليداً أم المرجئة؟ قال : قلت : قلّدنا وقلّدوا ، فقال : لم أسألك عن هذا ، فلم يكن عندي جواب أكثر من الجواب الأوّل ، فقال أبو الحسن عليه‌السلام : أنّ المرجئة نصبت رجلاً لم تفرض طاعته وقلّدوه ، وأنّكم نصبتم رجلاً وفرضتم طاعته ثمّ لم تقلّدوه ، فهم أشدّ منكم تقليداً » (٢).

ولكنّها ـ مع قطع النظر عن وجود سهل بن زياد في سندها ـ أيضاً خارجة عن محلّ البحث وهو التقليد عن غير المعصوم ، مضافاً إلى أنّه ظاهر أيضاً في كون التقليد هو العمل لأنّ شكوى الإمام عليه‌السلام إنّما هو على ترك العمل بأقواله وهداياته.

وهكذا ما جاء في بعض معاقد الإجماعات من أنّه « لا يجوز تقليد الميّت إجماعاً » لأنّه سيأتي أنّ الإجماع في باب التقليد لا أقلّ من كونه محتمل المدرك ، فالظاهر أنّ منشأه هو بناء العقلاء ، مضافاً إلى كونه من إجماع المتأخّرين الذي لا يكشف عن قول المعصوم عليه‌السلام تعبّداً.

وربّما يقال : إنّ ثمرة البحث عن مفهوم التقليد تظهر في مسألتي البقاء على تقليد الميّت ، والعدول من حي إلى غيره ، فإنّا إذا فسّرناه بالإلتزام وفرضنا أنّ المكلّف التزم بالعمل بفتوى مجتهد ثمّ مات ذلك المجتهد فله أن يعمل على فتاواه لأنّه من قبيل البقاء على تقليد الميّت ، وليس تقليداً ابتدائياً له ، وهذا بخلاف ما إذا فسّرناه بالاستناد إلى فتوى المجتهد في مقام العمل لأنّه حينئذٍ من قبيل تقليد الميّت ابتداءً لعدم استناد المكلّف إلى شيء من فتاوي المجتهد الميّت حال حياته في مقام العمل.

وهكذا في مسألة العدول من حي إلى غيره ، لأنّه إذا التزم بالعمل بفتيا مجتهد ، وفسّرنا التقليد بالالتزام حرّم عليه العدول عن تقليده لأنّه قد قلّده تقليداً صحيحاً ولا مرخّص له

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ١٠ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٠.

(٢) المصدر السابق :

٥٩٢

للعدول ، وهذا بخلاف ما إذا قلنا أنّ التقليد هو الاستناد إلى فتوى المجتهد في مقام العمل ، لأنّه حينئذٍ لم يتحقّق منه تقليد المجتهد ليحرم عليه العدول بل لا يكون رجوعه لغيره عدولاً من مجتهد إلى مجتهد آخر (١).

ولكن يرد عليه : أنّ هذا إنّما يتمّ لو كان دليل الجواز على البقاء على تقليد الميّت أو العدول من حي إلى آخر هو معاقد الإجماعات المشتملة على لفظ التقليد ، ولكن قد عرفت في السابق وسيأتي مشروحاً إن شاء الله أنّه ليس كذلك ، فهذه الثمرة أيضاً ساقطة.

مسائل التقليد

ويقع البحث فيه في ثلاث مقامات :

١ ـ جواز التقليد للعامي

لا إشكال في أنّه لابدّ من أن يكون العامي مجتهداً في خصوص هذه المسألة التي لا مؤونة لاستنباطها واجتهادها ، فإنّ لزوم رجوع الجاهل إلى العالم أمر إرتكازي لجميع العقلاء ، وسيأتي أنّ المهمّ والعمدة في باب التقليد إنّما هو بناء العقلاء ، وما يشاهد من أنّهم يكتبون في إبتداء رسائلهم العمليّة من أنّه لابدّ للعامي أن يجتهد في خصوص هذه المسألة فهو لمجرّد تقريب الذهن وإرشاد العامي.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه استدلّ لجواز التقليد بامور أربع :

الأمر الأوّل : ( وهو العمدة في المسألة ) سيرة العقلاء في جميع أعصار وأنحاء العالم وجميع الصنائع والتجارات والزراعات والعلوم المختلفة البشريّة كعلم الطب وشعبه المتفاوتة ( طبّ الإنسان وطبّ الحيوان وطبّ النبات ) وغيره من سائر العلوم ، بل جميع المجتهدين والمتخصّصين للعلوم البشريّة يكون تخصّصهم واجتهادهم في فنون طفيفة معدودة ، وأمّا بالإضافة إلى سائر الفنون والحرف فيكونون مقلّدين ، فالمجتهد في علم الفقه مثلاً يقلِّد الأطباء

__________________

(١) التنقيح : ج ١ ، ص ٨١ ـ ٨٢.

٥٩٣

في علم الطبّ والمعمار في بناء داره مثلاً ، وهكذا في غيرها ممّا يحتاج إليه في امور معاشه ، بل وفي موضوعات أحكام معاده ، وكثيراً مّا يتّفق أنّ عدّة من طلاّب العلوم مثلاً يتعلّم كلّ واحد منهم علماً خاصّاً ويصير متخصّصاً في ذلك وفي نفس الوقت يقلّد كلّ واحد من أصحابه في علمه الخاصّ به ، فيكون كلّ منهم متخصّصاً في علم واحد ومقلّداً في سائر العلوم.

ولذلك نقول : إنّ ما يدور في الألسنة في يومنا هذا من وجوب التحقيق في المسائل الشرعيّة الفرعيّة على كلّ أحد ولا معنى للتقليد فيها بعد إمكان التحقيق ، كلام شعري أو هتاف سياسي ، بل الأخباري المنكر للتقليد أيضاً إمّا أن ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان ، أو يكون إنكاره من باب الخلط بين الاجتهاد بالمعنى العامّ والاجتهاد بالمعنى الخاصّ كما مرّ بيانه آنفاً.

ثمّ إنّه لا بأس أن نشير هنا إلى أنّ هذا البناء للعقلاء يكون في الواقع ناشئاً من انسداد صغير فإنّهم يلاحظون في الأموال مثلاً أنّهم لو اعتمدوا فيه على العلم فقط وأنكروا حجّية اليد على الملكيّة لأنسدّ باب العلم في هذا المقام وإن كان مفتوحاً في الأبواب والموارد الاخرى ، ولذلك يعتبرون حجّية كثير من الاصول والقواعد كقاعدة اليد وغيرها ، وهذه هى النكتة التي أشار إليها المحقّق الخراساني رحمه‌الله بقوله : « وإلاّ لأنسدّ باب العلم على العامي ».

الأمر الثاني : الاستدلال بالكتاب العزيز بجملة من الآيات :

منها : آية النفر ، وقد مرّ الكلام فيه تفصيلاً في مبحث حجّية خبر الواحد ، وينبغي هنا أن نشير إلى نكتة منها فقط ، وهى أنّ هذه الآية ناظرة إلى باب الاجتهاد والتقليد لا باب الرواية ، فإنّ التفقّه الوارد فيها بمعنى الاجتهاد والاستنباط عن نظر وبصيرة ، وإلاّ ربّ حامل رواية وفقه إلى من هو أفقه منه ، كما أنّ الإنذار أيضاً من وظائف وشؤون المجتهد لا الراوي ، أي إنّما يقدر على الإنذار من كان بصيراً بالحكم الإلهي ، وعالماً متيقّناً به ، وقادراً على تمييز الواجب عن المستحبّ ، وناظراً في الحلال والحرام ، وقد مرّ أيضاً أنّ كلمة « لعلّ » فيها كناية عن الوجوب ، وإلاّ فمادّة الحذر وماهيته لا تقبل الاستحباب كما لا يخفى.

نعم ، هيهنا إشكالان لو أمكن دفعهما كان الاستدلال بالآية في المقام تامّاً وإلاّ فلا :

أحدهما : أنّ الآية لا اطلاق لها حتّى تشمل صورة العلم وعدمه فلعلّ المقصود من قوله تعالى : ( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) خصوص ما إذا حصل من الإنذار العلم واليقين بحكم الله فلا يعمّ

٥٩٤

صورة حصول الظنّ كما هو محلّ النزاع في المقام ، وبعبارة اخرى : أنّ للآية قدر متيقّن في مقام التخاطب فإطلاقها ليس بحجّة لعدم حصول جميع مقدّمات الحكمة.

والجواب عنه : أنّ الآية مطلقة ، ومجرّد وجود قدر متيقّن في مقام التخاطب لا ينافي الاطلاق كما ذكرناه في محلّه ، وإلاّ لأختلّ غالب النصوص المطلقة لنزولها أو ورودها في مقامات خاصّة.

ثانيهما : أنّها في مقام بيان وظيفة المجتهد لا المقلّد ، فلا اطلاق لها من هذه الجهة.

وفيه : أنّه مجرّد دعوى لا شاهد عليها ، بل الظاهر كون الآية في مقام البيان من الجانبين.

منها : آية السؤال ، وهى قوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ ) (١) وقوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ ) (٢) ( والفرق بينهما هو إضافة كلمة « من » في الثانية ).

هذه الآية من جهة أقوى دلالة من آية النفر لأنّها في مقام بيان وظيفة المقلّد وتلك كانت في مقام بيان وظيفة الفقيه والمجتهد على قول.

وتقريب الاستدلال بها واضح ، فإنّ المراد من أهل الذكر أهل العلم والقرآن من العلماء كما نصّ عليه جماعة.

ولكن أورد عليه أوّلاً : بأنّ موردها وشأن نزولها إنّما هو أهل الكتاب في باب اصول الدين التي يعتبر فيها تحصيل العلم ، فيكون الأمر بالسؤال من أهل الذكر لتحصيل العلم من أقوالهم فيعمل بالعلم لا بأقوالهم تعبّداً ليثبت المطلوب.

وثانياً : بأنّ ذيلها وهو قوله تعالى : ( إِنْ كُنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ ) أقوى شاهد على أنّ الغرض من السؤال هو العلم فالآية تقول : « إن كنت لا تعلم فاسأل حتّى تعلم ».

لكن الإنصاف إمكان دفع كليهما ...

أمّا الإيراد الأوّل : فلأنّ المورد ليس مخصّصاً والآية مطلقة تعمّ السؤال عن اصول الدين وغيرها ، وتقييد بعض المصاديق ( وهو اصول الدين ) بالعلم بدليل من الخارج لا يوجب تقييد سائر المصاديق به واعتباره فيها ، فكما أنّه يمكن تقييد جميع المصاديق بدليل منفصل كقوله : « لا

__________________

(١) سورة الأنبياء : الآية ٧.

(٢) سورة النحل : الآية ٤٣.

٥٩٥

تكرم الفسّاق منهم » بالنسبة إلى دليل « أكرم العلماء » كذلك يمكن تقييد بعض المصاديق كما إذا قيل : « لا تكرم الفسّاق من النحويين ».

وأمّا الإيراد الثاني : فلأنّ قوله تعالى : ( إِنْ كُنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ ) هو في مقام بيان الموضوع ، أي تقول الآية : « اسأل عند عدم العلم حتّى تكون لك الحجّة » كما إذا قيل : « إن كنت لا تعلم دواء داءك فارجع إلى الطبيب » فليس معناه أنّ قول الطبيب يوجب العلم دائماً.

وبعبارة اخرى : قوله تعالى : ( إِنْ كُنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ ) ليس من قبيل بيان الغاية حتّى يورد عليها بما ذكر.

وبعبارة ثالثة : تارةً يكون العلم موضوعاً واخرى يكون غايةً ، وما نحن فيه من قبيل الأوّل ، فهى تقول : إنّ الموضوع للرجوع إلى البيّنة أو القسم أو الموضوع للرجوع إلى الخبرة إنّما هو الجهل ، وهذا لا يعني حصول العلم بعد الرجوع.

سلّمنا كونه غاية ، لكن ليس المراد من العلم في المقام اليقين الفلسفي كما مرّ كراراً بل المراد منه هو العلم العرفي الذي يحصل من ناحية إقامة أيّة حجّة ، فإنّ العرف والعقلاء يعبّرون بالعلم في كلّ مورد قامت فيه الحجّة.

هذا ـ ولكن الآيات الواردة في المسألة كبعض الروايات الواردة فيها التي سنشير إليها إمضاءً لما عند العقلاء من رجوع الجاهل إلى العالم ، نعم لا ضير فيها من هذه الجهة.

الأمر الثالث : الروايات الواردة في خصوص المقام ، وهى كثيرة إلى حدّ تغنينا عن البحث حول إسنادها.

منها : ما رواه أبو عبيدة قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : « من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه » (١).

فهو يدلّ بمفهومه على جواز الإفتاء بعلم ، ولا ريب في أنّ المقصود من العلم فيه إنّما هو الحجّة.

منها : ما رواه عنوان البصري عن أبي عبدالله جعفر بن محمّد عليهما‌السلام في حديث طويل يقول فيه : « سل العلماء ما جهلت وإيّاك أن تسألهم تعنّتاً وتجربة » (٢).

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٤ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ١.

(٢) المصدر السابق : الباب ١٢ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٥٤.

٥٩٦

ومنها : ما رواه إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال : « سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن المتعة فقال : « ألق عبدالملك بن جريح فسله عنها فإنّ عنده منها علماً » (١).

ومنها : ما رواه في تحف العقول من كلام الحسين بن علي عليه‌السلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويروى عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « اعتبروا أيّها الناس ... بأنّ مجاري الامور والأحكام على أيدي العلماء بالله الامناء على حاله وحرامه ... » (٢).

ومنها : ما رواه في المستدرك عن علي عليه‌السلام : أنّه قال في حديث : « فإذا كان كذلك إتّخذ الناس رؤساء جهّالاً يفتون بالرأي ويتركون الآثار فيضلّون ويضلّون فعند ذلك هلك هذه الامّة » (٣).

ومنها : ما رواه في المستدرك أيضاً عن تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء ، فإذا لم ينزل عالم إلى عالم يصرف عنه طلاّب حكّام الدنيا وحرامها ، ويمنعون الحقّ أهله ويجعلونه لغير أهله ، واتّخذ الناس رؤساء جهّالاً ، فسألوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا » (٤).

ومنها : ما رواه مفضّل بن يزيد قال : قال أبو عبدالله عليه‌السلام : « أنهاك عن خصلتين فيهما هلك الرجال ، أنهاك أن تدين الله بالباطل ، وتفتي الناس بما لا تعلم » (٥).

ومنها : ما رواه عبدالرحمن بن الحجّاج قال : قال لي أبو عبدالله عليه‌السلام : « إيّاك وخصلتين ففيهما هلك من هلك إيّاك أن تفتي الناس برأيك أو تدين بما لا تعلم » (٦).

ومنها : ما رواه عبدالرحمن بن الحجّاج أيضاً قال : « سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن مجالسة أصحاب الرأي فقال : جالسهم وإيّاك عن خصلتين تهلك فيهما الرجال ، أن تدين بشيء من رأيك أو تفتي الناس بغير علم » (٧).

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ١١ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٥.

(٢) مستدرك الوسائل : ح ١٦ من الباب ١١ ، من أبواب صفات القاضي.

(٣) المصدر السابق : ح ٢ من الباب ١٠ ، من أبواب صفات القاضي.

(٤) المصدر السابق : ح ٦ من الباب ١٠ ، من أبواب صفات القاضي.

(٥) المصدر السابق : الباب ٤ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٢.

(٦) المصدر السابق : ح ٣.

(٧) المصدر السابق : ح ٢٩.

٥٩٧

ومنها : ما رواه موسى بن بكر قال : قال أبو الحسن عليه‌السلام : « من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة الأرض وملائكة السماء » (١).

ومنها : ما رواه إسماعيل بن زياد عن أبي عبدالله عن أبيه عليهما‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض » (٢).

ومنها : ما رواه الطبرسي في الإحتجاج عن أبي محمّد العسكري عليه‌السلام في حديث طويل : « فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً على هواه ، مطيعاً لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه » (٣).

ودلالته على المطلوب واضحة.

ومنها : ما رواه حذيفة قال : سألته عن قول الله عزّوجلّ : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ ) قال : « أما إنّهم لم يتّخذوهم آلهة إلاّ أنّهم أحلّوا لهم حلالاً فأخذوا به وحرّموا حراماً فأخذوا به ، فكانوا أربابهم من دون الله » (٤).

وقد ورد الذمّ فيهما على عمل اليهود حيث أخذوا أحكامهم عن العلماء المحرّفين لأحكام الله بما يظهر منه أنّه لو كان هؤلاء علماء صالحين لم يكن هناك ذمّ في الرجوع إليهم.

ومنها : ما رواه عمر بن حنظلة عن أبي عبدالله عليه‌السلام في حديث طويل : « قال ينظر أنّ من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما إستخفّ بحكم الله وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله » (٥).

ومنها : ما رواه أبو خديجة عن أبي عبدالله عليه‌السلام : « ... اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا ، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً ... » (٦).

__________________

(١) مستدرك الوسائل : الباب ٤ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٣١.

(٢) المصدر السابق : ح ٣٢.

(٣) المصدر السابق : الباب ١٠ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٠.

(٤) المصدر السابق : ح ٢٨.

(٥) المصدر السابق : ح ١.

(٦) المصدر السابق : الباب ١١ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٦.

٥٩٨

وهما وإن وردا في باب القضاء ولكن ظاهرهما أو صريحهما كون النزاع في الشبهات الحكميّة فلو جاز الرجوع إلى القضاة فيها مع النزاع جاز الرجوع إليهم فيها بدونه أيضاً فتأمّل.

ومنها ما رواه إسحاق بن يعقوب عن الإمام الحجّة عليه‌السلام : « ... وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله ... » (١).

ومنها : عدّة من الأحاديث الواردة في نفس الباب مثل الحديث ١١ و ١٥ من الباب الحادي عشر من المستدرك ، ومثل الحديث ١٥ و ٢١ و ٣٤ و ٣٥ و ٣٦ من الباب الحادي عشر من الوسائل ( وإن كان بعضها لا يخلو عن كلام ) ممّا يدلّ على إرجاع الناس إلى أعاظم أصحابهم نظير زرارة وأبي بصير ومحمّد بن مسلم وزكريّا بن آدم وبريد بن معاوية وأشباههم ، ولا شكّ أنّهم كانوا ممّن يعالجون تعارض الأخبار ويجمعون بين المطلق والمقيّد والعام والخاصّ وما يشبه ذلك ، ولا شكّ في أنّ هذه نوع من الاجتهاد فالأخذ منهم كان من باب أخذ المقلّد من المجتهد.

إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا المعنى وهى متفرّقة في أبواب مختلفة من الوسائل والمستدرك في أبواب صفات القاضي.

الأمر الرابع : إجماع المسلمين ، وقد يعبّر عنه بسيرة المتشرّعة لأنّه إجماع عملي والظاهر أنّه أيضاً ينشأ من بناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم ، ولا أقلّ من احتماله ، أي احتمال أنّ المتشرّعين والمتديّنين بنوا على الرجوع إلى العالم بالمسائل الشرعيّة لا بما هم متشرّعون بهذا الشرع المقدّس بل بما هم عقلاء أو بما أنّه من الامور الفطريّة الارتكازيّة ( كما إعترف به المحقّق الخراساني ) ثمّ أمضاه الشارع المقدّس وإذاً ليس الإجماع أو السيرة دليلاً مستقلاً برأسه.

هذا كلّه ما يمكن أن يستدلّ به لجواز التقليد ، ولكن مع ذلك كلّه نقل صاحب المعالم وصاحب الفصول عدم جوازه عن جماعة ، فقال صاحب المعالم قدس‌سره ، أنّه عزى في الذكرى إلى بعض علماء الأصحاب وفقهاء حلب منهم القول بوجوب الاستدلال على العوام ، وقال

__________________

(١) مستدرك الوسائل : الباب ١١ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٩.

٥٩٩

صاحب الفصول قدس‌سره : « ذهب شرذمة إلى عدم جواز التقليد » والمشهور أيضاً أنّ الأخباريين منكرون لجواز التقليد.

ويمكن أن يستدلّ لهم أنّ العامي إمّا أن يكون عربياً يفهم الكتاب والسنّة ، ويدرك مفاهيم الألفاظ واللغات ، فلا حاجة له حينئذٍ إلى الرجوع إلى المجتهد ، بل هو بنفسه يلاحظ أدلّة الأحكام ويعمل بها ، وأمّا أن يكون عجمياً فهو وإن لا يدرك معاني الألفاظ واللغات ولكن لا حاجة له إلى التقليد أيضاً لأنّه يكفيه دلالة المجتهد إلى موارد الأدلّة ووضعها بين يديه حتّى يصير قادرا على إستخراج الأحكام واستنباطها منها ، فالمجتهد حينئذٍ يكون من قبيل المترجم فحسب ، لا مرجعاً ومقلّداً.

ولكنّه واضح البطلان ، أمّا في عصرنا هذا فلما نشاهده من سعة دائرة الفقه وأدلّة الأحكام والقواعد ، والبعد الحاصل بيننا وبين عصر الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، الذي يوجب بطبعه غموضاً شديداً في فهم أدلّة الأحكام ومقاصد الإمام عليه‌السلام فإنّ تعليمها بجميع المقلّدين وعرضها لهم يستلزم نفر جميعهم إلى الحوزات العلميّة ، وهذا ممّا يلزم منه إختلال النظام والمعاش.

وأمّا بالنسبة إلى أعصار الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام التي كان تحصيل المسائل فيها خفيف المؤونة ، وإسناد الروايات فيها واضحة ، أو لم يكن حاجة إليها لإمكان الوصول إلى الأئمّة عليهم‌السلام مباشرةً وبدون الواسطة ، وبالجملة كان الاجتهاد والاستنباط في ذلك الزمان بسيطاً جدّاً بالنسبة إلى زماننا هذا ، فبالنسبة إلى تلك الأعصار نقول أيضاً : لم يكن تحصيل ملكة الاجتهاد ممكناً لجميع الناس خصوصاً لغير العرب ، سيّما إذا لاحظنا أنّ كثيراً من الناس فاقدون للإستعداد اللازم لفهم المسائل الشرعيّة الدقيقة ، بل وفي مستواها البسيط ، وهذا ممّا ندركه بوجداننا بالإضافة إلى عوام عصرنا فتدبّر.

والحاصل : أنّ فرض إمكان الاجتهاد لجميع آحاد الناس في جميع الأحكام الشرعيّة من دون فرق بين الرجال والنساء ، ومن كان قريب العهد بالبلوغ من البدوي والقروي وغيرهما أمر يشبه بالخيال والرؤيا ، ومن يدّعيه إنّما يدّعيه باللسان ويخالفه عند العمل ، كما هو ظاهر ، كما أنّ الأمر كذلك في سائر العلوم.

هذا ـ وعمدة أدلّتهم لعدم جواز التقليد هى الآيات الناهية بظاهرها عن التقليد ، وهى على طائفتين :

٦٠٠