أنوار الأصول - ج ٣

أنوار الأصول - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-15-6
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٢٤

هذا مضافاً إلى ما قد مرّ سابقاً من وجوب الاقتصار على المرجّحات المنصوصة ( وليس هذا منها ).

نعم ، هيهنا أبحاث من علم المعاني والبيان كمسألة تقديم ما حقّه التأخير ، وأبواب المجاز والحقيقة والكنايات والاستعارات ، يكون لها دخل في فهم الأحكام عن الأدلّة اللفظيّة ، ولكنّها مسائل يبحث عنها في علم الاصول أيضاً ، وأمّا غيرها من سائر مسائل هذا العلم فلا أثر لها في الاستنباط ، نعم قد يقال : إنّ لها أثراً مع الواسطة من حيث دخلها في تبيين كون كتاب الله معجزة خالدة.

بقي هنا أمران :

الأوّل : لا شكّ في أنّ القواعد الفقهيّة لها دور عظيم في استنباط الأحكام الفرعيّة ، ولعلّ عدم ذكرها في العلوم التي يبتني عليها الاستنباط من باب عدّهم إيّاها من الفقه نفسه ، ولكن قد ذكرنا في محلّه أنّها علم برأسه وليست من اصول الفقه ، كما أنّها ليست من الفقه نفسه فراجع (١).

الثاني : لا ينبغي الشكّ في أنّ للزمان والمكان دخلاً في الاجتهاد.

وتوضيحه : أنّ لكلّ حكم موضوعاً ، والمعروف في الألسنة أنّ تشخيص الموضوع ليس من شؤون الفقيه ، ولكن الصحيح أنّه لا يمكن للفقيه تجريد الذهن وتفكيك الخاطر عنه ، فإنّ لموضوعات الأحكام مصاديق معقّدة غامضة لا يقدر العوام على تشخيصها ، بل لابدّ للفقيه تفسيرها وتبيين حدودها وخصوصياتها ، كما يشهد على ذلك أنّ كثيراً من الفروعات المعنونة في الكتب الفقهيّة ( كالمبسوط للشيخ ، والقواعد للعلاّمة ، والعروة الوثقى للسيّد اليزدي رحمهم‌الله ) هى من هذا القبيل.

وإن شئت قلت : إن كان المراد من الموضوع في المقام هو الموضوعات الجزئيّة ، أي مصاديق الموضوعات الكلّية للأحكام ، كمصاديق الدم والخمر والماء المطلق والمضاف

__________________

(١) راجع مقدّمة المجلّد الأوّل من القواعد الفقهيّة.

٥٦١

وغيرها فإنّه كذلك ، أي ليس تشخيصها من شؤون الفقيه ، وأمّا إن قلنا بأنّ المراد منه هو نفس الموضوعات الكلّية الواردة في لسان الأخبار فلا إشكال في أنّ تشخيصها وتعيين حدودها من شؤون الفقيه.

وبعبارة أدقّ : أنّ هذا القسم من الموضوعات ـ في الواقع ـ يستنبطها الفقيه بإرتكازه العرفي ، ويستخرجها ويأخذها من بين العرف بما أنّه من أهل العرف ، ثمّ يرجعها إلى العرف ويجعلها بأيديهم بعد تفسير الخصوصيات وتبيين حدودها ، وإن شئت فانظر إلى فتاوي الفقهاء مثلاً في ما يصحّ السجود عليه ، فقد ورد في الدليل أنّه يجوز السجود على الأرض وما يخرج منها إلاّما أكل وما لبس ، فهذا عنوان عرفي ، وقد تكلّم فقهاؤنا رضوان الله عليهم في مصاديقه وأنّه أي شيء يعدّ من المأكول والملبوس وأي شيء لا يعد منهما فقد يكون هناك مصاديق لا يقدر العرف على تشخيص أنّها منهما أو ليست منهما ، ولذا أورد المحقّق اليزدي رحمه‌الله في هذا الباب من العروة الوثقى فروعاً كثيرة لتبيين هذه المصاديق المشتبهة كجواز السجود وعدمه على الامور التالية :

١ ـ الأدوية والعقاقير كلسان الثور.

٢ ـ قشر الفواكه.

٣ ـ تفالة الشاي.

٤ ـ نخالة الحنطة.

٥ ـ نواة الفواكه.

٦ ـ ورق الكرم بعد اليبوسة وقلبها.

٧ ـ ما يؤكل في بعض الأوقات دون بعض.

٨ ـ ما هو مأكول في بعض البلاد دون بعض.

٩ ـ النبات الذي ينبت على وجه الماء ( فهل هو داخل في عنوان « ما أنبته الأرض » الوارد في الرواية أو لا؟ ).

١٠ ـ التنباك ... إلى غير ذلك من أشباهها.

إن قلت : كيف يكون رجوع العوام إلى الفقيه في هذا القسم من المصاديق من قبيل رجوع الجاهل إلى العالم؟ أي كيف تشملها أدلّة التقليد؟

٥٦٢

قلنا : إنّ أدلّة التقليد تشملها ويكون الرجوع فيها من قبيل رجوع الجاهل إلى العالم من باب أنّه ليس لها متخصّص وخبير غير الفقيه ، نعم لو كانت هناك موضوعات يكون لها في العرف خبراء معروفون يجب الرجوع إليهم دون الفقيه.

ومن الأمثلة التي يمكن أن تذكر في هذا المجال عنوان النظر المحرّم إلى الأجنبيّة فإنّه أيضاً من الموضوعات المشكلة من باب أنّ لها مصاديق معقّدة مبهمة ، فهل يصدق على النظر إلى تصوير الأجنبي في المرآة مثلاً أو الماء الصافي أو في تلفزيون عنوان النظر إلى الأجنبية أو لا؟

هذا من ناحية ، ومن ناحية اخرى نعلم أنّ الأحكام تابعة لموضوعاتها متابعة الظلّ لذي الظلّ وقد يتبدّل الموضوع بتبدلّ الزمان أو المكان ، فترى الماء في المفازة والصحاري مالية فيجوز بيعه فيها ، بينما لا يكون له مالية على الشاطىء ، فيبطل بيعه ( هذا من قبيل دخل المكان في الموضوع ) وترى الشيخ رحمه‌الله يجوّز بيع الثلج في الصيف دون الشتاء لكونه مالاً في الأوّل دون الثاني ( وهذا من قبيل دخل الزمان في الموضوع ).

ومن أمثلتها الواضحة في يومنا هذا الدم الذي كان بيعه وشراؤه حراماً في الأزمنة السابقة باعتبار عدم وجود منفعة محلّلة معتدّ بها له. ولكن الآن لا إشكال في جواز بيعه وشرائه لما له من منافع محلّلة مقصودة ، حيث لا تنحصر منافعه في الأكل المحرّم أو الصبغ الذي يعدّ من المنافع النادرة ، فإنّ الدم في يومنا هذا عنصر حياتي يمكن به إنقاذ نفس إنسان من التهلكة ، ولذا تكون له ماليّة عظيمة محلّلة معتدّ بها لنجاة المصدومين والجرحى وكثير من المرضى ، لا سيّما في العمليات الجراحيّة فلِما لا يجوز بيعه في زماننا والحال هذا؟ وكذا بيع الكُلْية وشرائها لنجاة بعض المرضى الذين فسدت كِليَتهم ، مع أنّها بعد فصلها عن صاحبها تكون بحكم الميتة ، ولا سيّما أنّها من غير المأكول ، فلم يكن بيعها في الأزمنة السابقة جائزاً لعدم منفعة محلّلة لها ، ولكن الآن جاز بيعها في زماننا هذا لتغيّر الموضوع وتبدّله ، ولذا يشترونها بالأثمان الغالية جدّاً ( نعم قد يقال : إنّها وإن جاز بيعها من هذه الناحية أي كونها ذات منفعة محلّلة مقصودة ، ولكن لا يجوز بيعها من باب حرمة بيع الميتة من كلّ شيء وإن كان لها منفعة مقصودة ، للنصوص الخاصّة الواردة فيها ، فالواجب حينئذٍ عدم جواز أخذ الثمن في مقابل نفسها بل في مقابل إجازه التصرّف في بدن صاحب الكِلوة فتأمّل جيّداً ).

ومن أمثلتها في عصرنا ما قد يقال في مسألة تقليل المواليد وأنّها كانت مرجوحة في

٥٦٣

الأعصار السابقة ، بينما هى راجحة في زماننا ، لا أقلّ في بعض البلاد التي تكون كثرة النفوس فيها موجبة للفقر الشديد والتأخّر والمفاسد الأخلاقيّة العظيمة.

فإنّ ما ورد في الترغيب على تكثير النسل والمواليد كالنبوي المعروف : « تناكحوا تكثروا فإنّي اباهى بكم الامم يوم القيامة ولو بالسقط » (١) ناظرة إلى الأعصار السابقة التي كانت كثرة النفوس فيها سبباً للقدرة والسلطة ، فما كان من الجوامع الإنسانيّة أكثر نفراً كان أشدّ قدرة وأكثر قوّة كما يشهد عليه قوله تعالى : ( كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً ) (٢). وقوله تعالى : ( وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً ) (٣) ، وقوله تعالى : ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ) (٤) وقوله تعالى : ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ... وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ) (٥) فهذه الآيات تدلّ بظاهرها على أنّ كثرة الأولاد كانت موجبة للقدرة والشوكة كما كانت كثرة الأموال أيضاً كذلك ، ومثل النبوي المعروف قد ورد في مثل هذا الظرف من المجتمع الإنساني ، فهذه الخصيصة الاجتماعية الموجودة في عصر صدوره تكون بمنزلة قرينة لبّية قد توجب انصرافه إلى خصوص ذلك الزمان ، وهذه الدعوى وإن لم تكن ثابتة بالقطع واليقين ، ولكنّها قابلة للدقّة والتأمّل.

فقد ظهر ممّا ذكر دخل الزمان والمكان في الاجتهاد والاستنباط لكن لا على نحو دخلهما في الحكم بلا واسطة بل من طريق دخلهما في الموضوع ، فإنّ الأحكام ثابتة إلى الأبد ، « وحلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة » ، والمتغيّر على مرّ الدهور والأزمان ، والمتبدّل في الأمكنة والأقطار إنّما هو الموضوعات ، وبتبعها تتغيّر الأحكام قهراً.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٠٣ ص ٢٢٠ ح ٢٤.

(٢) سورة التوبة : الآية ٦٩.

(٣) سورة سبأ : الآية ٣٥.

(٤) سورة الحديد : الآية ٢٠.

(٥) سورة نوح : الآية ١٢.

٥٦٤

الأمر السادس : التخطئة والتصويب

والمراد من التخطئة أنّه عند اختلاف الآراء لا يكون الصواب إلاّواحد منها فيكون الباقي خطأً ، وبعبارة اخرى : أنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكماً يشترك فيه الكلّ ، العالم والجاهل ، فمن أصابه أصابه ومن أخطأه أخطأه.

والمراد من التصويب أنّه عند اختلاف الآراء كلّها أحكام الله وكلّها صواب.

والتحقيق في المسألة يستدعي رسم امور :

الأمر الأوّل : لا إشكال ولا كلام في بطلان التصويب في الأحكام العقليّة الحقيقيّة والمحسوسة فيكون الرأي الصحيح فيها واحداً بالإجماع ، كما إذا وقع الاختلاف بين المنجّمين في عدد سيّارات المنظومة الشمسية أو بين الأطباء في تشخيص كيفية مرض زيد مثلاً وتعيين الدواء له ، والوجه في ذلك أنّ الواقع شيء واحد فلا يمكن إنقلابه إلى مؤدّى آراء المجتهدين ، ولا فرق بين أن يكون متعلّق الحكم من الجواهر والأعراض كالمثالين المذكورين أو من الامور نفس الآمرية كاستحالة الجمع بين الضدّين ( حيث إنّه لا يكون لا من الاعتباريات ولا من الامور الخارجيّة التكوينيّة ).

نعم نقل عن عبدالله بن حسن العنبري التصويب في العقليات أيضاً ( على ما حكي عن كتاب اصول الأحكام للآمدي والمستصفى للغزالي ) ولا توجيه لكلامه إلاّ أنّ الفقيه معذور ، فلو حكم فقيه بكرّية هذا الماء وفقيه آخر بعدم كريّته ، أو حكم أحدهما بطلوع الفجر والآخر بعدمه فلا إشكال في عدم كون كليهما صادقين بل كلّ منهما معذور في حكمه ولا عقاب عليه على فرض خطئه إذا لم يكن مقصّراً.

الأمر الثاني : ينقسم التصويب في الشرعيات إلى أربعة أقسام :

١ ـ ما هو باطل عقلاً.

٢ ـ ما ليس بباطل عقلاً ولكن يكون مجمعاً على بطلانه.

٣ ـ ما ليس بباطل عقلاً ولا مجمعاً على بطلانه ولكن الأقوى بطلانه.

٤ ـ ما يكون خارجاً عن هذه الأقسام الثلاثة ولا إشكال في صحّته.

أمّا التصويب الباطل عقلاً ( أي القسم الأوّل ) فهو إنّ الله ينشأ أحكاماً إلهيّة على وفق آراء المجتهدين بعد اجتهادهم ، والوجه في بطلانه عند العقل أنّه لابدّ للطلب من مطلوب ، فلو

٥٦٥

كان الله تعالى يجعل الحكم بعد اجتهاد المجتهد ، والمجتهد يطلب في استنباطه حكم الله الواقعي فما هو مطلوبه؟

وبعبارة اخرى : يستلزم منه الدور المحال لأنّ اجتهاد المجتهد متفرّع على وجود حكم قبله ، والمفروض أنّ الحكم أيضاً متوقّف على اجتهاده ، وقد يسمّى هذا بتصويب الأشعري ، وليس بذلك ، كما سيأتي بيانه.

وأمّا القسم الثاني : ( وهو ما يكون مجمعاً على بطلانه ) فهو أنّ الله تعالى ينشىء أحكاماً عديدة بعدد آراء المجتهدين قبل اجتهادهم ، فيكون كلّ مجتهد طالباً في استنباطه لحكمه الذي جعله الله تعالى في حقّه ، وهذا وإن لم يكن محالاً عقلاً ولكنّه مجمع على بطلانه عند الإمامية ، حيث إنّهم يعتقدون أنّ لكلّ واقعة حكماً واقعياً واحداً للعالم والجاهل ، أصابه المجتهد أو لم يصيبه ، وقد يسمّى هذا بتصويب المعتزلي وليس بذلك ، كما سيأتي بيانه أيضاً.

وأمّا القسم الثالث : فهو أن يكون حكم الله تعالى في مقام الإنشاء واحداً ولكنّه متعدّد في مقام الفعليّة لأنّ طرقه الشرعيّة متعدّدة ويكون كلّ طريق سبباً لإيجاد المصلحة في مؤدّاه فيكون منشأ التعدّد في الأحكام الفعلية هو القول بسببيّة الأمارات ، وقد مرّ أنّ الصحيح المختار بطلان السببيّة ، وأنّ المستفاد من أدلّة حجّية الأمارات إنّما هو الطريقيّة فحسب ، فالأقوى بطلان هذا القسم وإن لم يكن باطلاً عقلاً ولا مجمعاً على بطلانه.

وأمّا القسم الرابع : فهو التصويب في الأحكام الظاهريّة الذي يوافق مبنى القائلين بأنّ أدلّة حجّية الأمارات وإن لم تكن سبباً لإيجاد المصلحة ولكنّها توجب جعل حكم ظاهري مماثل كما هو المختار ، وهو الظاهر من كلمات المشهور وفتاواهم ، وقد يكون في سلوك هذه الطرق مصالح أهمّ من المصالح الواقعيّة التي تفوت من المكلّف وهذا ما يعبّر عنه بالمصلحة السلوكيّة.

هذا هو المختار في معنى الطريقيّة ، وهناك قول آخر بأنّ المراد من الطريقيّة هو جعل المنجّزية والمعذّرية مع القول بالمصلحة السلوكيّة ، وعلى كلّ حال يكون القول بالطريقيّة خارجاً عن التصويب بأي معنى فرض كما سيأتي.

الأمر الثالث : في أنّ هذا التقسيم الرباعي ناشٍ من وقوع خلط في معنيي الاجتهاد ، وهو الخلط بين الاجتهاد بالمعنى العام والاجتهاد بالمعنى الخاصّ ، وإلاّ يكون التقسيم ثلاثياً.

٥٦٦

توضيح ذلك : قد مرّ أنّ الاجتهاد بالمعنى العام هو استنباط الحكم عن أدلّته التفصيليّة وأنّ الاجتهاد بالمعنى الخاصّ هو تقنين المجتهد وتشريعه فيما لا نصّ فيه ، ولا إشكال في عدم لزوم التصويب المحال بناءً على الاجتهاد بالمعنى الخاصّ لأنّه ليس فيما لا نصّ فيه حكم على زعمهم حتّى يقال بأنّه لابدّ للطلب من مطلوب ، وقد نصّ على ذلك الغزالي في مستصفاه ، وقال : « إنّه ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معيّن يطلب بالظنّ ، بل الحكم يتبع الظنّ ، وحكم الله تعالى على كلّ مجتهد ما غلب على ظنّه ، وهو المختار ، وإليه ذهب القاضي ، وذهب قوم من المصوّبة إلى أنّ فيه حكماً معيّناً يتوجّه إليه الطلب ، إذ لابدّ للطلب من مطلوب ، لكن لم يكلّف المجتهد إصابته ، فلذلك كان مصيباً وإن أخطأ ذلك الحكم المعيّن الذي لم يؤمر بإصابته ، بمعنى أنّه أدّى ما كلّف فأصاب ما عليه » (١).

وقد نسب مؤلّف الاصول العامّة القول الأوّل إلى محقّقي المصوّبة ، وقال بعد ذلك : « وقد عرف القسم الأوّل من التصويب على ألسنة بعض الباحثين من الاصوليين بالتصويب الأشعري كما عرف القسم الثالث بالتصويب المعتزلي » (٢).

فظهر أنّه بناءً على ما ذهب إليه مشاهير المصوّبة أنّه لا موضوع للقسم الأوّل من التصويب فيكون التقسيم ثلاثيّاً ، نعم أنّه رباعي بناءً على قول غيرهم ، كما ظهر أنّ التصويب الأشعري هو هذا المعنى المنسوب إلى مشاهير المصوبة ، لا ما مرّ من القسم الأوّل ، وأنّ التصويب المعتزلي هو نفس ما عليه المخطئة لا القسم الثاني من الأقسام الأربعة السابقة.

والحاصل أنّ الاشتباه في دعوى إستحالة القسم الأوّل من التصويب نشأ من توهّم كون المراد من الاجتهاد هو الاجتهاد بالمعنى المعروف ، أي استفراغ الوسع في كشف الحكم الشرعي عن أدلّتها ، بينما ليس مرادهم ذلك ، بل الاجتهاد عندهم هو استفراغ الوسع في طلب المصالح والفاسد وتشريع الأحكام على وفقها من ناحية المجتهد فليس هناك حكم واقعي يطلبه المجتهد حتّى يلزم المحال.

ثمّ إنّ للغزالي هنا في توجيه نظره كلاماً حاصله ما يلي : الكلام الكاشف للغطاء رحمه‌الله عن هذا الكلام المبهم هو أنّا نقول : المسائل منقسمة إلى ما ورد فيها نصّ وما لم يرد ، أمّا ما ورد فيه

__________________

(١) الاصول العامّة للفقه المقارن : ص ٦١٧.

(٢) المصدر السابق.

٥٦٧

نصّ ، فالنصّ كأنّه مقطوع به من جهة الشرع ، لكن لا يصير حكماً في حقّ المجتهد إلاّ إذا بلغ وعثر عليه ، وأمّا إذا لم يبلغه ولم يعثر عليه فليس هو حكماً في حقّه إلاّبالقوّة ، لأنّ الحكم الفعلي عبارة عن النصّ البالغ المعثور عليه ، وأمّا ما لم يرد فيه نصّ فيعلم أنّه لا حكم فيها لأنّ حكم الله تعالى خطابه ، وخطابه يعرف بأن يسمع من الرسول أو يدلّ عليه دليل قاطع من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو سكوته ، فإذا لم يكن خطاب لا مسموع ولا مدلول عليه فكيف يكون فيه حكم؟ (١).

أقول : إنّ هذا التقسم قد نشأ من الخلط بين مراتب الحكم الثلاثة :

مرتبة الجعل ، وهى مرحلة الإنشاء ، نظير ما يصوّب في مجالس التقنين في زماننا هذا قبل الإبلاغ إلى الدولة والموظفين للإجراء ، فإنّه وإن كان مصوباً في هذه المجالس ولكن لا يكلّف المواطنون بالعمل به إلاّبعد إبلاغه رسميّاً إلى الدولة.

ومرحلة الفعليّة وهى مرحلة الإبلاغ والبعث أو الزجر فيلزم العمل على طبقه.

ومرحلة التنجيز ، وهى مرحلة استحقاق العقاب في صورة ترك العمل ، وهى لا تشمل الجاهل القاصر أو العالم العاجز عن العمل به وأمثالهما.

في بطلان القسم الأوّل من التصويب ( التصويب الأشعري )

إذا عرفت هذه الامور الثلاثة فاعلم : أنّ الحقّ بطلان التصويب بالمعنى الذي اشتهر بين المصوّبة ( أي التصويب الأشعري ) لأنّ هذا المعنى من التصويب يبتني على أمرين :

١ ـ وجود وقائع خالية عن الحكم.

٢ ـ أن يكون اختيار التقنين بيد الفقيه فيكون من شؤون الفقيه جعل الحكم وتقنين الأحكام فيما لا حكم فيه ، ذلك الأمر الذي يعبّر عنه أخيراً بالتشريع الإسلامي ، والذي يذكر له مصادر ومنابع.

وكلا الأمرين قابل للمناقشة والمنع :

__________________

(١) الاصول العامة للفقه المقارن : ص ٦١٨.

٥٦٨

أمّا الأمر الأوّل : فلما مرّ في بيان بطلان الاجتهاد بمعنى التشريع والتقنين من ناحية المجتهد إجمالاً ، وتفصيله : إنّا نقول : كلّ ما يحتاج إليه الامّة إلى يوم القيامة فقد ورد فيه حكم ، والدليل عليه :

أوّلاً : كتاب الله الكريم أي قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) (١) ، وقوله تعالى : ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) (٢) وقوله تعالى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) (٣) ، فلو كانت بعض الوقائع خالية عن الحكم لما كان الدين كاملاً ، والنعمة تامّة ، ولم يكن الكتاب تبياناً لكلّ شيء ( لأنّه لو لم يكن تبياناً للمسائل الجزئيّة الخارجيّة كمسائل العلوم الفلكيّة والطبيعيّة ونحوهما فلا أقلّ من كونه تبياناً للمسائل الكلّية الشرعيّة ) ، بل كان الدين ناقصاً فاستعان سبحانه ( العياذ بالله ) من خلقه على إتمامه وإكماله ، ولزم من ذلك مفاسد جمّة سنشير إليها.

وثانياً : الروايات الكثيرة الواردة من ناحية أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، وهى على طوائف أربعة :

الطائفة الاولى : حديث الثقلين الذي تواتر نقله بين الفريقين ، فإنّه روى باسناد عديدة في الكتب المعروفة من الشيعة وأهل السنّة ، وينبغي نقل واحدٍ منها من باب التيمّن والتبرّك ، وهو ما ورد في صحيح الترمذي قال : « حدّثنا نصر بن عبدالرحمن الكوفي حدّثنا زيد بن الحسن وهو الأنماطي عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جابر بن عبدالله قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجّته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول : يا أيّها الناس إنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي » (٤).

ومن أراد الوقوف على مجموعها فليراجع إلى جامع أحاديث الشيعة ، ج ١ ، الباب ٤ ، ح ١٨٩ إلى ح ٢٠٩.

ولا إشكال في أنّه نصّ على كفاية الرجوع إلى كتاب الله والعترة ليؤمن عن الخطأ ولا

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٣.

(٢) سورة الأنعام : الآية ٣٨.

(٣) سورة النحل : الآية ٨٩.

(٤) جامع أحاديث الشيعة : ج ١ ، الباب ٤ ، ح ٢٠٢.

٥٦٩

يكون الضلال في شيء ، ولازمه عدم خلوّ الوقائع عن الأحكام الإلهيّة كما لا يخفى.

الطائفة الثانية : ما تدلّ على أنّ لله في كلّ واقعة حكماً يشترك فيه جميع الامّة ، وقد نقلها الكليني رحمه‌الله في المجلّد الأوّل من اصول الكافي في باب « الردّ إلى الكتاب والسنّة وأنّه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج إليه إلاّوقد جاء فيه كتاب أو سنّة » ، والشيخ الحرّ العاملي رحمه‌الله في المجلّد الثاني عشر من كتاب الوسائل الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي وهى روايات كثيرة :

منها : ما رواه عمر بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام قال سمعته يقول : « إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً يحتاج إليه الامّة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعل لكلّ شيء حدّاً وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه ، وجعل على تعدّي ذلك الحدّ حدّاً » (١).

ومنها : ما رواه حمّاد بن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : « ما من شيء إلاّوفيه كتاب أو سنّة » (٢).

ومنها : ما رواه المعلّى بن خنيس قال : قال أبو عبدالله عليه‌السلام : « ما من أمر يختلف فيه إثنان إلاّ وله أصل في كتاب الله عزّوجلّ ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال » (٣) ( أي لابدّ أن يسأل من الأئمّة المعصومين خلفاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

ومنها : ما رواه سماعة عن أبي الحسن الموسى عليه‌السلام قال : « قلت له : أكلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أو تقولون فيه؟ قال : بل كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٤).

ومنها : ما ورد في حديث حجّة الوداع : « يا أيّها الناس : والله ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلاّوقد أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم من النار ويباعدكم من الجنّة إلاّ وقد نهيتكم عنه » (٥).

ومنها : ما رواه مسعدة بن صدقة عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أيّها

__________________

(١) اصول الكافي : ج ١ ، ص ٥٩ ، ح ٢.

(٢) المصدر السابق : ح ٤.

(٣) المصدر السابق : ح ٦.

(٤) المصدر السابق : ح ١٠.

(٥) المصدر السابق : ص ٧٤ ، ح ٢.

٥٧٠

الناس ... ( إلى أن قال ) : ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم ، أخبركم عنه : أنّ فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة ، وحكم ما بينكم وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون فلو سألتموني عنه لعلّمكتم » (١).

ومنها : ما رواه سليمان بن هارون قال : « سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول : ما خلق الله حلالاً ولا حراماً إلاّوله حدّ كحدّ الدار ... حتّى أرش الخدش فما سواه والجلدة ونصف الجلدة » (٢).

ومنها : ما رواه مرازم عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « إنّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كلّ شيء حتّى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد ، حتّى لا يستطيع عبد يقول : لو كان هذا أُنزل في القرآن إلاّوقد أنزله الله فيه » (٣).

إلى غير ذلك من أشباهها ونظائرها ، وقد نقل جملة منها ( ثماني روايات ) المحدّث البحراني أيضاً في تفسير البرهان ( المجلّد الأوّل ص ١٤ ) فراجع.

ولا يخفى أنّ المستفاد من هذه الطائفة أنّ لله في كلّ واقعة حكماً يشترك فيه العالم والجاهل ، وعلى هذا المعنى ، التواتر المعنوي من الروايات ( لا اللفظي كما هو ظاهر بعض الكلمات ).

الطائفة الثالثة : روايات متظافرة تدلّ على وجود كتاب عند الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام كان بإملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطّ علي عليه‌السلام فيه كلّ ما يحتاج إليه الامّة إلى يوم القيامة حتّى إرش الخدش ، وكان يسمّى بالجامعة.

منها : ما رواه بكر بن كرب الصيرفي قال : « سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول : إنّ عندنا ما لا نحتاج معه إلى الناس ، وإنّ الناس ليحتاجون إلينا ، وإنّ عندنا كتاباً إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطّ علي عليه‌السلام ، صحيفة فيها كلّ حلال وحرام » (٤).

ومنها : ما رواه عبدالله بن ميمون عن جعفر عن أبيه قال : « في كتاب علي عليه‌السلام كلّ شيء

__________________

(١) اصول الكافي : ص ٦٠ ، ح ٧.

(٢) المصدر السابق : ح ٣.

(٣) المصدر السابق : ح ١.

(٤) المصدر السابق : ص ٢٤١.

٥٧١

يحتاج إليه حتّى الخدش والأرش والهرش » (١).

وفي مجمع البحرين : « والأرض ما يأخذه المشتري من البائع إذا اطّلع على عيب في المبيع ، والخدش تفرّق اتّصال في الجلد أو الظفر أو نحو ذلك وإن لم يخرج الدم خَدَشَه خدشاً إذا جرحه في ظاهر الجلد ».

وفي مقاييس اللغة : « الهاء والراء والشين ( هرش ) هى مهارشة الكلاب ، تحريش بعضها على بعض ».

ومنها : ما رواه أبو بصير عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال سمعته يقول : « وذكر ابن شبرمة في فتياه ، فقال : أين هو من الجامعة أملى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطّه علي عليه‌السلام بيده ، فيها جميع الحلال والحرام حتّى ارش الخدش فيه » (٢).

ومنها : ما رواه جعفر بن بشير عن رجل عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « ما ترك علي عليه‌السلام شيئاً إلاّ كتبه حتّى ارش الخدش » (٣).

ومنها : ما رواه علي بن سعيد قال سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول : « أمّا قوله في الجفر إنّما هو جلد ثور مدبوغ كالجراب ، فيه كتب وعلم ما يحتاج إليه إلى يوم القيامة من حلال وحرام ، إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطّ علي عليه‌السلام » (٤).

وفي مجمع البحرين : « الجراب بالكسر وعاء من إهاب شاة يوعى فيه الحبّ والدقيق ونحوها ».

الطائفة الرابعة : روايات متظافرة أيضاً تحكم بالاحتياط والوقوف عند الشبهات حتّى في موارد الشكّ في الحكم ، وتأمر بوجوب الفحص والسؤال عند عدم العلم بحكم الله الواقعي ، فإنّها تدلّ بالملازمة على وجود حكم واقعي في كلّ واقعة كما لا يخفى.

منها : ما رواه عبدالرحمن بن الحجّاج قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجلين أصابا صيداً وهما محرّمان ، الجزاء بينهما أو على كلّ واحد منهما جزاءً؟ قال : لا ، بل عليهما أن يجزي كلّ

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ، الباب ٤ ، من أبواب المقدّمات ، ح ٢٣.

(٢) المصدر السابق : ح ٢٥.

(٣) المصدر السابق : ح ٢٦.

(٤) المصدر السابق : ح ٤١.

٥٧٢

واحد منهما الصيد ، قلت : إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه ، فقال : إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا » (١).

ومنها : ما رواه جميل بن صالح عن الصادق عليه‌السلام ( وهو معروف بحديث التثليث ) عن آبائه عليهم‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في كلام طويل : الامور ثلاثة : أمر تبيّن رشده فاتّبعه ، وأمر تبيّن لك غيّه فاجتنبه ، وأمر اختلف فيه فردّه إلى الله عزّوجلّ » (٢).

ومنها : ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « سألت أبا جعفر عليه‌السلام ما حجّة الله على العباد؟ قال : أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون » (٣).

وغير ذلك من أشباهها (٤) ، ومفاد جميعها عدم خلوّ الواقعة عن الحكم الشرعي ولذا لابدّ من الاحتياط حتّى يسأل عن الإمام المعصوم عليه‌السلام.

وممّا ينبغي جدّاً ذكره في هذا المقام ما مرّ كراراً من خطبة أمير المؤمنين عليه‌السلام في الذمّ على الرأي والاجتهاد ، وهو قوله عليه‌السلام : « ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ، ثمّ ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي إستقضاهم فيصوّب آراءهم جميعاً وإلههم واحد ، ونبيّهم واحد ، وكتابهم واحد ، أفأمرهم الله سبحانه بالإختلاف فأطاعوه ، أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل الله سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه ، أم كانوا شركاء له ، فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل الله سبحانه ديناً تامّاً فقصّر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عن تبليغه وأدائه ، والله سبحانه يقول : ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) وفيه ( تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) » (٥).

هذا كلّه ما ورد من طرق الخاصّة ، وقد ورد من طرق العامّة أيضاً ما يوافق مذهب التخطئة وأنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكم.

منها : ما رواه الترمذي عن أبو هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « إذا حكم الحاكم فاجتهد

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ١٢ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ١.

(٢) المصدر السابق : ح ٢٣.

(٣) المصدر السابق : ح ٢٧.

(٤) راجع ح ٣١ و ٤٣ و ٤٩ من نفس الباب ، وح ١٠ و ٣٢ من الباب ١١.

(٥) نهج البلاغة : صبحي الصالح ، خ ١٨.

٥٧٣

فأصاب فله أجران ، وإذا حكم فأخطأ فله أجر واحد » (١).

ومنها : ما ورد في الدرّ المنثور قال : « سئل أبو بكر عن الكلالة فقال : إنّي سأقول فيها برأي فإن كان صواباً فمن الله وحده ، لا شريك له ، وإن كان خطأً فمنّي ومن الشيطان والله عنه بريء » (٢).

إلى غير ذلك من نظائرهما.

فقد ظهر ببركة هذه الآيات والروايات الكثيرة بطلان الأمر الأوّل ، وهو أنّ ما لا نصّ فيه لا حكم فيه.

أمّا الأمر الثاني : وهو جواز إعطاء حقّ التقنين بيد الفقيه ، ففيه : أنّه دعوى بلا دليل ، بل اللازم في ما لا يوجد فيه نصّ خاصّ على حكم إلهي هو الرجوع إلى الأحكام الظاهريّة المتّخذة من الاصول العمليّة ( البراءة والاحتياط والاستصحاب والتخيير ، كلّ في مورده ).

نعم ، أنّه يوجب لأهل السنّة الذين أعرضوا عن الثقل الأصغر ، الدخول في هرج شديد لخلوّ كثير من الوقايع عن الحكم عندهم ، وهذه نتيجة الإعراض عن العمل بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حديث الثقلين.

وينبغي هنا أوّلاً : الإشارة إلى ما دفعهم إلى القول بالتصويب ، وثانياً : إلى المفاسد التي تترتّب على القول بالتصويب.

١ ـ أسباب السقوط في هوّة التصويب

إنّ هناك اموراً دفعتهم إلى القول بالتصويب :

أحدها : قلّة الروايات التي يمكن الإستناد إليها في استنباط الأحكام الشرعيّة عندهم ، وذلك نشأ من عدم قبولهم الخلافة التي نصّ بها الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله طيلة رسالته الشريفة

__________________

(١) الترمذي : ج ٢ ، ص ٣٩١ الرقم ١٣٤١.

(٢) الدرّ المنثور : ج ٢ ، ص ٢٥٠.

٥٧٤

كراراً ، حيث إنّه أوجب حصر الطريق إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الصحابة ، والإعراض عن عترته الطاهرة ، حتّى بمقدار كونهم طرقاً معتبرة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإذا إنضمّ هذا إلى ورود مجعولات كثيرة في الروايات المنسوبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي يطلب بالطبع الجرح والتعديل وطرح عدّة من الروايات ، وهكذا إذا إنضمّ إلى المنع عن ضبط الأحاديث من زمن الخليفة الثاني إلى مقدار مائة عام ـ إستنتج منه تنزّل أخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أقلّ قليل ، بحيث نقل أنّ الأحاديث الفقهيّة المعتبرة على زعمهم ، الموجودة عند أبي حنيفة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت محصورة في خمسة وعشرين حديثاً ، ولذلك اضطرّوا أن يلوذوا بأقوال الصحابة من قبيل أبي هريرة وأنس ، وبالقياسات والظنّيات ونحوهما والتصويب فيها.

ثانيها : إعتقادهم في مسألة الخلافة مع شدّة أهميتها بأنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فوّض أمرها إلى الامّة أي أهل الحلّ والعقد ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا فوّض أمر الخلافة بتلك الأهميّة إلى الامّة ففي المسائل الفرعيّة بطريق أولى ، ولازمه تصويب الامّة في آرائهم.

ثالثها : اعتقادهم بعدالة الصحابة وعدم خطئهم في الرأي ، ولازمه صواب آراء جميعهم في صورة الاختلاف ، وبالطبع تعدّد الحكم الواقعي بالإضافة إلى واقعة واحدة.

٢ ـ المفاسد المترتّبة على القول بالتصويب

لا خفاء في ما يترتّب على هذا القول من المفاسد العديدة في الفقه والمجتمع الإسلامي ، وقد أشار إلى بعضها الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته الشريفة التي مرّ ذكرها.

منها : الاعتراف بنقصان الدين العياذ بالله ، وهو نفس ما أشار إليه الإمام عليه‌السلام في خطبته.

ومنها : انسداد باب الاجتهاد ، فإنّ قولهم بانسداد باب الاجتهاد وحصر جواز الفتوى عن الأئمّة الأربعة لهم إنّما نشأ من كثرة الفتاوي الحاصلة من الاجتهاد بالرأي ، ووقوع الخلاف الشديد بين الناس باختيار بعض هذه الفتاوي ، فقد ألجأهم ذلك إلى سدّ هذا الباب ، لإزالة الخلاف ، فصار مصداقاً للمثل المعروف : « كم أكلة منعت أكلات » ( إذ كانت الأكلة الاولى سبباً للأمراض الموجبة للحرمان ).

ومنها : وقوع الفوضى والهرج والمرج الفقهي والقضائي ، لملازمته وجود آراء متضادّة ومتعدّدة بعدد المجتهدين في مسألة واحدة ، بل إنّه أكثر فساداً وأسوأ حالاً من المجالس التقنينيّة

٥٧٥

في يومنا هذا ، كما أشرنا إليه سابقاً في أوائل مبحث الاجتهاد والتقليد في الأمر الثاني ( حيث إنّ أمر التشريع فيها إنّما هو بيد جماعة تسمّى بشورى التقنين لا فرد فرد من علمائهم ومتخصّصيهم ، وهم يضعون لقطر من أقطار الأرض ، والواضعون جماعة كثيرة من العقلاء ، مندوبون عن الجماهير ، بخلاف القول بالتصويب ، لأنّهم قد يكون في بلد واحد ، أو قرية من القرى مجتهدون متعدّدون ، ويكون لكلّ واحد منهم رأي وتقنين على حسب ظنّه الشخصي ).

وهذا هو الذي سبّب انسداد باب الاجتهاد في أواخر القرن الرابع من ناحية زعماء القوم بعد ما أحسّوا خطراً عظيماً ، وهو اضمحلال الدين وهدم نظام الامّة ، لاختلاف الآراء جدّاً ، فحدّدوها في الأربعة المعروفة ، وسدّوا باب الاجتهاد على السائرين.

وقد أشار إلى هذا المعنى في خلاصة التشريع الإسلامي فقال : إنّ سدّ باب الاجتهاد نشأ من أربعة عوامل :

الأوّل : توجّه العلماء إلى المسائل السياسيّة وانغمارهم فيها ، وتخلّفهم عن المسائل العلميّة الفقهيّة ، فاضطرّوا إلى القول بأنّ المجتهد والقادر على الاستنباط هم العلماء الأوّلون فحسب.

الثاني : تحزّب المجتهدين ودخول كلّ واحد منهم في حزب وخطّ سياسي خاصّ فكان ينبغي على كلّ حزب الحصول على دليل من الروايات والآيات على حقّانية حزبه.

الثالث : تحاسد العلماء وظهور تصرفات سيّئة قبيحة في سلوكيات بعضهم حيث يتشبث بكلّ وسيلة دنيئة لتسقيط من انتهى إلى رأي جديد ونظر حديث في مسألة باجتهاده والعمل على تشويه سمعته وتزييف أراءه ولهذا لم يجترأ أحد على الاجتهاد والاستنباط لئلا يقع في معرض تحاسد الآخرين.

الرابع : معالجة الفوضى الفقهيّة بالجمود وسدّ باب الاجتهاد (١) ( انتهى كلامه ).

أقول : الأهمّ من هذه الوجوه هو الوجه الأخير ، فإنّ القول بالتصويب أوجب الوقوع في فوضى عظيمة ، وبالتالي أوجب سدّ باب الاجتهاد ، وتسبب في فقر فقهي شديد في المسائل المستحدثة ، ولذلك رجع بعضهم في الأزمنة الأخيرة ، وإعتقد بفتح باب الاجتهاد.

هذا ـ بخلاف الإماميّة التابعين لمكتب أهل البيت عليهم‌السلام فلا يترتّب على قولهم بالإنفتاح

__________________

(١) راجع خلاصة التشريع الإسلامي : ص ٣٤١.

٥٧٦

أيّة مفسدة ، بل إنّه موجب لإزدهار علم الفقه والاصول ، وتطوّره وتقدّمه باستمرار ، وذلك أوّلاً : لاعتبارهم كون مرجع الفتوى للناس أعلم الفقهاء الأحياء ، وثانياً : أنّ اجتهادهم ـ كما مرّ تعريفه ـ مبنيّ على أساس النصوص وضوابط خاصّة مستفادة من النصوص أيضاً ، لا على القياس والاستحسانات الظنّية وأشباهها ممّا لا تندرج تحت ضابطة معيّنة.

وبالجملة ، أنّ نتيجة القول بالتصويب ـ بما أنّه يستبطن سدّ باب الاجتهاد ـ هى ركود علم الفقه وعدم تكامله فإنّ القائل به لا يرى في الآراء الفقهيّة الصادرة خطأً حتّى يرى نفسه ملزماً بالتحقيق والتتبّع ويتعب نفسه للحصول على ما هو الواقع الحقّ بخلاف القول بالتخطئة ، فإنّ القائل به يبذل جهده لتحصيل ذلك الحكم الواحد الواقعي ، ولازمه التفكّر العميق والتدبّر الواسع وإعمال كمال الدقّة للظفر بالحقّ والعثور على الواقع.

هذا كلّه في القسم الأوّل من التصويب.

وأمّا القسم الثاني : وهو التصويب المعتزلي

( وهو أنّ لله في كلّ واقعة حكماً ولكن لمن وصل إليه الخطاب ، وأمّا من لم يصل إليه الخطاب فلا حكم في حقّه ، بل تصل النوبة حينئذٍ إلى تقنين الفقيه ) فهو أيضاً باطل بكلتا مقدّمتيه ، لأنّ القول بأنّ الأحكام مخصوصة للعالمين فقط مخالف لظاهر جميع أدلّتها ، فإنّ مثل قوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) وقوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً ) عامّ للجاهل والعالم ، وليس العلم مأخوذاً في موضوعه ، بل العلم طريق إليه ، ولو سلّمنا اختصاص الأحكام بالعالمين فلا دليل أيضاً على إعطاء حقّ التقنين بيد الفقيه كما مرّ في نظيره ( التصويب الأشعري ).

وأمّا القسم الثالث : وهو التصويب المبني على القول بسببيّة الأمارات.

ففيه أيضاً : أنّه لا دليل على سببيّة الأمارات فإنّ ظاهر أدلّتها هو الطريقيّة كما مرّ بيانه في محلّه ، فإنّا قد قلنا هناك أنّ قوله تعالى : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) مثلاً بمعنى « فأسألوا حتّى

٥٧٧

تعلموا » ، وممّا يؤكّد هذا المعنى ما مرّ كراراً من أنّ الأمارات الشرعيّة جلّها ـ لولا كلّها ـ امضاءات لبناءات العقلاء ، ولا إشكال في أنّها طرق إلى الواقع عندهم فقط.

وأمّا القسم الرابع : وهو أنّ يكون المراد من التصويب جعل أحكام ظاهريّة مماثلة لمؤدّيات الطرق والأمارات فقد قلنا سابقاً أنّه هو الصحيح المختار ، بل لا يسمّى هذا تصويباً.

والدليل عليه : أنّ أدلّة حجّية الأمارات ظاهرة في الجعل والإنشاء ، وليس مفادها مجرّد المنجّزية أو المعذّرية ، والشاهد عليه هو السيرة العمليّة للفقهاء وارتكازهم الفقهي والمتشرّعي ، حيث إنّهم يعبّرون في رسائلهم العمليّة عن مؤدّيات الأمارات بالواجب والحرام ، ويحكمون بأنّ هذا واجب وذاك حرام ، لا أنّك معذور إن كان هذا حراماً ولست معذوراً إن كان هذا واجباً.

ولكن ـ كما عرفت ـ فإنّ تسمية هذا بالتصويب خلاف الاصطلاح ، لأنّ مصطلح الفقهاء فيه إنّما هو في الأحكام الواقعيّة.

ثمّ إنّه قد مرّ في أوائل البحث عن أقسام التصويب في ذيل هذا القسم ، أنّه قد يكون في سلوك هذه الطرق مصالح أهمّ من المصالح الواقعيّة التي تفوت المكلّف ، وهى التي يعبّر عنها بالمصالح السلوكيّة ، وبهذا يندفع ما أورد على حجّية الأمارات من أنّ لازمه تفويت المصلحة أو القاء العبد في المفسدة كما لا يخفى.

نعم ، قد إستشكل بعض الأعلام في المحاضرات في هذا القسم ( وبتعبير آخر في هذا المعنى للسببية ، وبتعبير ثالث في المصلحة السلوكيّة ) من جهتين :

الاولى : « أنّه لا ملزم للالتزام بهذه المصلحة لتصحيح اعتبار الأمارات وحجّيتها ( ودفع الإشكال المزبور ) والسبب في ذلك أنّ اعتبار الأمارات من دون أن ترتّب عليه مصلحة وإن كان لغواً فلا يمكن صدوره من الشارع الحكيم ، إلاّ أنّه يكفي في ذلك ترتّب المصلحة التسهيلية عليه ، حيث إنّ تحصيل العلم الوجداني بكلّ حكم شرعي لكلّ واحد من المكلّفين غير ممكن في زمان الحضور فضلاً عن زماننا هذا ، ولو أمكن هذا فبطبيعة الحال كان حرجيّاً لعامّة المكلّفين في عصر الحضور فما ظنّك في هذا العصر ، ومن الواضح أنّ هذا منافٍ لكون الشريعة

٥٧٨

الإسلاميّة شريعة سهلة وسمحة.

الثانية : أنّ مردّ هذه السببيّة إلى السببيّة المعتزلية في انقلاب الواقع وتبدّله لأنّنا إذا افترضنا قيام مصلحة في سلوك الأمارة التي توجب تدارك مصلحة الواقع فالإيجاب الواقعي عندئذٍ تعييناً غير معقول » (١).

أقول : أمّا الإشكال الأوّل فهو عجيب فإنّ مصلحة التسهيل هى نفس المصلحة السلوكيّة ومصداق بيّن منها ، فلولا هذه المسألة لما أمر الشارع بسلوك هذه الطرق.

وأمّا الثاني فالجواب عنه ظاهر بعد ما عرفت من أنّ مصلحة التسهيل هى من المصالح السلوكيّة ، فما يجاب عن هذه المصلحة هو الجواب في أشباهها. وبعبارة أوضح : ليست المصلحة السلوكيّة في عرض مصلحة الواقع ، فإنّ المصالح الواقعيّة إنّما هى مصالح في أفعال المكلّفين ، وأمّا المصلحة السلوكيّة فإنّما هى مصلحة في سلوك هذا الطريق بقصد الوصول إلى الحكم الواقعي ، فيكون أحدهما في طول الآخر ، ولا معنى للتخيير حينئذٍ.

الأمر السابع : تبدّل رأي المجتهد

وفيه يبحث أيضاً عن مسألة العدول عن مجتهد إلى آخر ، من حي إلى حي أو من ميّت إلى حي لاشتراك المسألتين في الأدلّة ، وهو بحث مبتلى به كثيراً ، ويطرح تارةً بالنسبة إلى المجتهد نفسه في العمل برأيه ، واخرى بالنسبة إلى مقلّديه.

كما أنّ الكلام فيه تارةً يقع في العبادات واخرى في المعاملات بالمعنى الأخصّ ، كما إذا اشترى داراً بالبيع الفضولي أو المعاطاة ، ثمّ تبدّل رأيه إلى بطلانه ، وثالثة في المعاملات بالمعنى الأعمّ ، كما إذا تزوّج بالعقد الفارسي ، ثمّ تبدّل رأيه وذهب إلى إشتراط العربية ، أو كان قائلاً في باب الرضاع باعتبار أكثر من عشر رضعات في حصول المحرميّة فتزوّج بمن إرتضعت من امّه عشر رضعات ، ثمّ تبدّل رأيه وذهب إلى كفايتها في حصول المحرميّة ، أو كان قائلاً في باب النجاسات بعدم نجاسة عرق الجنب عن الحرام ، وفي باب الطهارة بعدم اعتبار عصر الثوب في

__________________

(١) المحاضرات : ج ٢ ، ص ٢٧١ ـ ٢٧٣.

٥٧٩

التطهير ، ثمّ تبدّل رأيه إلى نجاسة عرق الجنب عن الحرام أو اعتبار العصر.

ومن جانب آخر تارةً يكون الموضوع موجوداً ، كما إذا كانت الذبيحة موجودة أو كان متلبّساً بثوب لم يعصره حين تطهيره ، واخرى يكون معدوماً.

ثمّ ليعلم أنّ هذا كلّه إنّما هو في ما إذا كانت الفتوى السابقة موافقة للاحتياط ، وأمّا إذا كانت مخالفة له كما إذا كان قائلاً باعتبار إتيان التسبيح ثلاث مرّات وتبدّل رأيه إلى كفاية مرّة واحدة فلا إشكال في أنّه خارج عن محلّ النزاع.

وكيف كان ، لابدّ هنا من تقديم امور :

الأوّل : في الأقوال في المسألة ، وهى كثيرة :

قول بالإجزاء مطلقاً.

وقول بعدم الإجزاء مطلقاً.

وقول بالتفصيل ، وهو بنفسه متعدّد :

تفصيل المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية بين ما إذا كان مدرك الاجتهاد الأوّل هو القطع بالحكم ، أو كان هو الطريق المعتبر شرعاً ، وكان المبنى اعتبار الأمارات من باب الطريقيّة ، فيعامل حينئذٍ مع الأعمال السابقة معاملة البطلان ، وبين ما إذا كان مدرك الاجتهاد السابق هو الطريق المعتبر شرعاً كان المبنى اعتبار الأمارات من باب السببيّة والموضوعيّة ، أو كان ملاك الاجتهاد السابق هو الاستصحاب أو البراءة الشرعيّة فيعامل معها معاملة الصحّة.

وتفصيل صاحب الفصول رحمه‌الله بين ما إذا كان الاجتهاد الأوّل في نفس الحكم الشرعي فيتغيّر الحكم الشرعي بتغيّر الاجتهاد الأوّل ولا يبقى إلى الآخر ، فلو بنى على حلّية حيوان فذكّاه ، ثمّ رجع وبنى على تحريم المذكّى ، وبين ما إذا كان الاجتهاد الأوّل في متعلّق الحكم الشرعي ، وقد وقع المتعلّق في الخارج على طبق ذلك الاجتهاد الأوّل ، ثمّ تغيّر الاجتهاد ، فلا يتغيّر المتعلّق عمّا كان عليه من الصحّة ، بل يبقى على آثاره حتّى بعد الرجوع ، كما إذا بنى على عدم جزئيّة شيء للعبادة أو عدم شرطيّته فأتى بها على الوجه الذي بنى عليه ثمّ رجع ، فيبني على صحّة ما أتى به.

وتفصيل المحقّق اليزدي رحمه‌الله في العروة الوثقى ( المسألة ٥٣ ) بين ما إذا كان موضوع اجتهاده باقياً بنفسه فلا يكون مجزياً ، كما إذا أفتى بجواز الذبح بغير الحديد مثلاً فذبح حيواناً كذلك

٥٨٠