أنوار الأصول - ج ٣

أنوار الأصول - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-15-6
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٢٤

وقد ورد فيه حكم أو نصّ ، وقد جمعت مقدّمة كتاب في جامع أحاديث الشيعة نقلاً عن الكافي للكليني وغيره.

الرابع : ما ثبت لنا عملاً وتاريخياً إلى حدّ الآن في طيلة الأعصار والقرون من الصدر الأوّل إلى عصرنا هذا من أنّ فقهاء الخاصّة وأصحابنا الإماميّة قدّس الله أسرارهم لم يحسّوا حاجة لرفع الحاجات الفقهيّة إلى إعمال مثل القياس والاستحسان فإنّ لديهم نصوصاً خاصّة من ناحية أهل بيت العصمة واصولاً كلّية تنطبق على أكثر القضايا والمصاديق الفرعية ، وقواعد واصولاً عملية يرجعون إليها في سائر القضايا الفقهيّة ، وهذا هو معنى انفتاح باب العلم والاجتهاد عندهم خلافاً لفقهاء الجمهور فإنّهم بعد اعراضهم عن مكتب عترة الرسول وما وصّى به في حديث الثقلين وغيره من لزوم التمسّك بعترته في عرض التمسّك بالكتاب العزيز إعتقدوا عدم كفاية الكتاب والسنّة لرفع حاجات الاستنباط كما مرّ ، وبالتالي ظنّوا عدم كفاية نصوص الكتاب والسنّة للدلالة على الحكم في كثير من القضايا ، ولازمه عدم استيعاب الشريعة لمختلف شؤون الحياة ، وبتبعه إستباحوا لأنفسهم أن يعملوا بالظنون والاستحسانات ويتصدّوا لتشريع الأحكام في هذه الأبواب.

الخامس : أنّ الاجتهاد بهذا المعنى معناه نقصان الشريعة ، وأنّ الله تعالى لم يشرّع في الإسلام إلاّ أحكاماً معدودة ، وهى الأحكام التي جاء بيانها في الكتاب والسنّة ، وترك التشريع في سائر المجالات إلى الفقهاء من الناس ليشرّعوا الأحكام على أساس الظنّ والاستحسان ، ولا يخفى أنّ لازمه الفوضى والهرج والمرج الشديد في الدين وما لا نجد نظيره حتّى في التقنينات العقلائيّة في اليوم لأنّ ما يجعل ويقنّن فيها هو قانون واحد لا قوانين عديدة بعدد الفقهاء والعلماء كما مرّ آنفاً.

ولما ذكرنا كلّه خصوصاً لهذه النتيجة الفاسدة الشنيعة نهض أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في مقام الذمّ لهذا النوع من الاجتهاد في عصره ( فكيف بالأعصار اللاحقة ) بما مرّ ذكره في بعض الأبحاث السابقة ، ولا بأس بإعادته لأنّه كالمسك كلّما كرّرته يتضوّع ، قال فيما روي عنه في نهج البلاغة : « ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ثمّ ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ... أم أنزل الله سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه ، أم كانوا شركاء لله فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى ، أم أنزل الله سبحانه ديناً تامّاً فقصر

٥٤١

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عن تبليغه وأدائه ، والله سبحانه يقول : ( ما فرّطنا في الكتاب من شيء ... ).

ولا يخفى أنّ هذا البيان وكذلك غيره من الأخبار التي وردت في ذمّ هذا النوع من الاجتهاد من سائر الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ـ في الواقع دفاع عن كيان الدين وأساس الشريعة والتأكيد على كمالها وعدم النقص فيها.

فقد ظهر ممّا ذكرنا بطلان القسم الثاني من الاجتهاد ، ولعلّ الخلط بين القسمين صار منشأً لمعارضة الأخباريين مع الاصوليين ، وإلاّ فإنّ الاجتهاد بالمعنى الأعمّ يعمل به الأخباري أيضاً في المجالات المختلفة من الفقه ، وإن شئت فراجع إلى كتاب الحدائق حتّى تلاحظ كونه اجتهاد واستنباط من المحدّث البحراني من أوّله إلى آخره ، وكذا غيره من أشباهه.

الأمر الثالث : موارد النزاع بين الأخباري والاصولي

ويرجع تاريخ هذا النزاع إلى أوائل القرن الحادي عشر على يد الميرزا محمّد أمين الاسترابادي رحمه‌الله صاحب كتاب الفوائد المدنية ( وإن كانت بذوره موجودة من قبل في كلمات جمع من المحدّثين المتقدّمين ) فابتدأ النزاع منه ، ثمّ إستمرّ إلى القرن الثاني عشر ، وإستبان الحقّ فيه تدريجاً.

وعمدة محلّ الخلاف بين الطائفتين امور ثلاثة :

١ ـ مسألة جواز الاجتهاد.

٢ ـ حجّية العقل.

٣ ـ تقليد العوام المجتهدين.

أمّا المورد الأوّل : فقد أشرنا سابقاً إلى أنّ الأخباري أيضاً يستنبط الحكم من أدلّته ويجتهد على نحو الاجتهاد بالمعنى العام في مقام العمل ، كما أنّ الاصولي أيضاً يخالف الاجتهاد بالمعنى الخاصّ ، فالنزاع بينهم في هذا المجال كأنّه نشأ من مناقشة لفظية واشتراك لفظي أو معنوي في كلمة الاجتهاد أو الرأي أو الظنّ ، فإنّ للاجتهاد معنيين : المعنى العام والمعنى الخاصّ ( وقد مرّ تعريفهما وبيان المقصود من كلّ واحد منهما ) كما أنّ للعمل بالظنّ وهكذا العمل بالرأي أيضاً معنيين ، فهما عند الاصوليين بمعنى العمل بالأمارات المعتبرة وظواهر الكتاب والسنّة ،

٥٤٢

وعند العامّة بمعنى العمل بالقياس الظنّي أو الاستحسان الظنّي ، فقد وقع الخلط بين المعنيين لأجل هذا الاشتراك.

والشاهد على لفظية النزاع أنّ بعض الأخباريين أيضاً بحثوا عن كثير من مباحث الاصول في ابتداء كتبهم الفقهيّة كالمحدّث البحراني ، حيث خصّص قسماً كبيراً من المجلّد الأوّل من حدائقه بالبحث عن المسائل الاصوليّة أي قواعد الاجتهاد بالمعنى العام وإن عبّر عنه بمقدّمات الحدائق لا المسائل الاصوليّة ، كما أنّ تتبّع كلمة الاجتهاد في تاريخ الفقه والحديث يدلّنا بوضوح أنّ هذه الكلمة كانت تستخدم للتعبير عن الاجتهاد بالمعنى الخاصّ منذ عصر الأئمّة عليهم‌السلام إلى عدّة قرون وكان هو المراد منها في الروايات المأثورة عن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام التي تذمّ الاجتهاد وكذلك في كلمات الأصحاب وتصنيفاتهم التي ألّفوها في هذا المجال ، ويكفيك مثل هذا التعبير في بعض كلماتهم : « أنّ الاجتهاد باطل ، وأنّ الإماميّة لا يجوز عندهم العمل بالظنّ ولا الرأي ولا الاجتهاد » ، فإنّه دليل ظاهر على أنّ مرادهم من الاجتهاد هو ما يرادف الرأي والظنّ.

وبهذا نعرف أيضاً أنّ لكلمة الأخباري أيضاً معنيين : أحدهما ما يرادف مصطلح المحدّث الذي يطلق في الكلمات على مثل الصدوق والكليني رحمهما الله ، والثاني ما يقابل مصطلح الاصولي ، الذي ظهر أمره وانتشر انتشاراً كثيراً في القرن الحادي عشر على يد أمين الاسترابادي ، والمتبادر منه هو الأخير كما أنّ المتبادر من المحدّث هو الأوّل.

هذا كلّه في المورد الأوّل من موارد الاختلاف بين الأخباري والاصولي.

أمّا المورد الثاني : وهو حجّية العقل فقد وقع النزاع فيه أيضاً بين الطائفتين ، وقد أنكر الأخباريون اعتبار العقل إنكاراً تامّاً ، وحيث أورد عليهم بأنّه لو عزلتم العقل عن حكمه مطلقاً فمن أين تثبت اصول الدين؟ وهل يمكن إثباته بالدليل النقلي مع استلزامه الدور الواضح؟ فلذا أخذ جماعة منهم في الاستثناء عن هذا العموم فقال بعضهم باعتبار العقل البديهي ، وبعضهم باعتبار ما يقرب إلى الخمس من العقل النظري كالرياضيات إلى غير ذلك ممّا ذكروه في هذا المقام ممّا يدلّ على وقوعهم في هرج وتناقض من هذا الأمر وحيث قد مرّ الكلام في جميع ذلك مشروحاً في مباحث القطع فلا حاجة إلى إعادته فراجع وتأمّل.

وأمّا المورد الثالث : وهو تقليد العوام للعلماء ـ فقد ذهب الأخباريون إلى عدم جوازه ،

٥٤٣

وقالوا أنّ اللازم على المجتهد إراءة النصوص الشرعيّة إلى العوام لكي يعملوا بها مباشرة وبدون واسطة ، كما كان ذلك ديدن القدماء من الأصحاب إلى « نهاية » شيخ الطائفة رحمه‌الله ، فقد كانت كتبهم الفتوائية متلقّاة من كلمات المعصومين ومتّخذة من نفس العبارات الواردة في الأخبار بعد تنقيحها وتهذيبها وعلاج التعارض بينها.

أقول : لا يخفى أنّ هذا النزاع أشبه بالمناقشة اللفظية أو مغالطة واضحة ، حيث إنّ اعطاء النصوص والأخبار بأيدي العوام بعد حلّ تعارضها وتهذيب إسنادها وتخصيص عمومها بخصوصها وتقييد مطلقها بمقيّدها وغير ذلك ممّا لابدّ منه في مقام استخراج الأحكام ليس أمراً وراء الاجتهاد من جانب الفقيه ، والتقليد من جانب العوام ، والقائلون بجواز التقليد لا يريدون شيئاً وراء هذا.

والكتب المشار إليها أيضاً من هذا القبيل ، نعم هى خالية غالباً عن تفريع الفروع ، وأين هذا من عدم اجتهادهم في بيان اصول الأحكام؟

الأمر الرابع : المجتهد المطلق والمتجزّي

أمّا المجتهد المطلق فقد عرّف بأنّه من له ملكة يقتدر بها على إستنباط جميع الأحكام الشرعيّة الفرعيّة.

والتعريف بالملكة لا ينافي ما مرّ سابقاً من « أنّ الاجتهاد عبارة عن المعنى المصدري أو اسم المصدري للاستراج والاستنباط ، فيكون أمراً فعلياً لا بالقوّة » لأنّ الكلام هنا في المتّصف بهذه الصفة والمشتقّ منها ، أي عنوان « المجتهد » ( لا « الاجتهاد » ) ولا يخفى أنّ المبدأ في مثل هذه العناوين والمشتقّات أخذ على نحو الملكة لا على نحو الفعلية بعنوان الملكة ، فإنّ قيام المبدأ بالذات على أنحاء مختلفة كما قرّر في محلّه في بحث المشتقّ.

والمجتهد المتجزّي عبارة عن ، من له ملكة يقدر بها استنباط بعض الأحكام الشرعيّة الفرعيّة فقط.

وحينئذٍ يقع البحث في جهتين :

الجهة الاولى : في أحكام المجتهد المطلق.

٥٤٤

الجهة الثانية : في أحكام المجتهد المتجزّي.

أمّا الجهة الاولى : في أحكام المجتهد المطلق

فلتحقيق البحث فيها لابدّ من رسم مسائل :

المسألة الاولى : إمكان تحقّق الاجتهاد المطلق

ربّما يقال بعدم إمكان الاجتهاد المطلق ، لأنّ الفقيه لو بلغ إلى أي مرتبة من العلم والفقاهة يبقى مع ذلك في بعض المسائل متردّداً ، ولذا قد يتردّد الأعلام في بعض المسائل ، ويقولون في كتبهم الاستدلاليّة : أنّ المسألة بعدُ محلّ إشكال أو محلّ تأمّل فيعبّرون في رسائلهم العمليّة بوجوب الاحتياط.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ هذه الاحتياطات إنّما تدلّ على وجود تعقيد في المسألة فحسب ، ولذلك يقتضي الورع الفقهي عدم إعلان فتواه العلمي ما لم يحسّ ضرورة في إعلانه ، وإن شئت قلت : إنّما يحتاط الفقهاء الأعلام في بعض المسائل لأحد أمرين :

أحدهما : حاجة المسألة إلى تتبّع كثير لا يسع له الوقت أو لا يحضر منابعها ومداركها بالفعل.

ثانيهما : ما يكون الدليل فيه في أقلّ مراتب الحجّية فلا يجترىء الفقيه للفتوى لشدّة ورعه ، ولأن لا يبعّد المكلّفين مهما إمكن عن الأحكام الواقعيّة ، ولكن لو مسّت الحاجة إلى تبيين الحكم كانوا قادرين عليه ، لأنّ المسألة إمّا ورد في نصّ يبلغ مرتبة الحجّية أم لا ، وعلى تقدير وروده إمّا يوجد معارض أم لا ، وعلى تقدير عدم وروده إمّا يكون هناك اطلاق أو عموم ، أو لا يوجد شيء من ذلك ما عدى الاصول العمليّة التي تكون حاصرة لمواردها حصراً عقلياً ، والوظيفة في جميع هذه الفروض معلومة مبيّنة ، لا معنى لعجز الفقهاء الأكابر الأعلام عن تشخيصها.

نعم ، لمّا كانت الاحتياطات موجبة لخروج الشريعة عن كونها سهلة سمحة فالجدير بالعلماء الأعلام أن لا يحوموا حولها إلاّبشرطين :

أحدهما : أن يكون المورد من الموارد التي لا توجب للمقلّد الكلفة والمشقّة الشديدة في

٥٤٥

مقام العمل ، كما أنّه كذلك في الاحتياط بالجمع بين القصر والإتمام في الصّلاة والصيام.

ثانيهما : كون المورد من الموارد التي لا يمكن فيها تحصيل الحدّ الأقل من الحجّة بسهولة ، وإلاّ ففي غير هذين الموردين يجب عليه ترك الاحتياط وإظهار الفتوى.

المسألة الثانية : جواز العمل بالاجتهاد المطلق

لا ريب في جواز عمل المجتهد برأيه في أعماله ، لشمول الخطابات الشرعيّة وأدلّة الأمارات المعتبرة والاصول العمليّة له ، فبعد ثبوتها عنده يجب العمل على طبقها ، بل يكون تقليده لغيره حراماً ، لأنّه على الفرض يرى المخالف له في فتواه جاهلاً ومخطئاً ، أي قامت الحجّة عنده على أنّ ما يقوله المخالف ليس حكم الله ، فكيف يرجع إليه ويلتزم بفتواه في مقام العمل؟ نعم إذا كان قادراً على الاستنباط ولم يستنبط فالمعروف هنا أيضاً حرمة تقليده للغير ، لكنّه لكن لا يخلو عن إشكال كما ذكرنا في محلّه.

وأمّا عمل الغير باجتهاده وفتاويه فقد ذهب الأخباريون من أصحابنا إلى عدم جوازه ، وسيأتي في أحكام التقليد بيان بطلانه وضعفه ، وعدم التزام الأخباري أيضاً به في العمل ، والمشهور جوازه ، بل ادّعى صاحب الفصول أنّه إجماعي بل ضروري ، وهو غير بعيد كما سيأتي.

وفصّل المحقّق الخراساني رحمه‌الله بين ما إذا كان المجتهد إنفتاحياً فيجوز تقليده ، وبين ما إذا كان انسدادياً فلا يجوز ، واستدلّ على عدم الجواز في الانسدادي بما حاصله : أنّ رجوع الغير إليه ليس من رجوع الجاهل إلى العالم بل إلى الجاهل ، أضف إلى ذلك أنّ أدلّة جواز التقليد إنّما دلّت على جواز رجوع غير العالم إلى العالم ، وأمّا مقدّمات الانسداد الجارية عند الإنسدادي فمقتضيها حجّية الظنّ في حقّ نفسه دون غيره ، إذ لا ينحصر المجتهد بالانسدادي فقط ، هذا كلّه على تقدير الحكومة ، وأمّا بناءً على الكشف فإنّه وإن ظفر المجتهد الانسدادي بناءً عليه بحكم الله الظاهري من طريق كشف العقل عنه ، ولكن يبقى الإشكال الثاني على قوّته ، أي لا دليل على جريان مقدّمات الانسداد بالنسبة إلى غيره مع وجود المجتهد الانفتاحي.

أقول : وللنظر في كلامه مجال من جهات شتّى :

٥٤٦

أوّلاً : ليس بناء العقلاء في رجوع الجاهل إلى العالم على رجوعه إلى العالم بالحكم فقط ، بل إنّه استقرّ على رجوع الجاهل إلى العالم مطلقاً سواء كان عالماً بالحكم أو بمطلق الحجّة ومواقع العذر ، وإن هو إلاّنظير البراءة العقليّة والاحتياط العقلي على القول بالإنفتاح ، بل نظير تمام الأمارات على مبنى القائلين بالمنجّزية والمعذّريّة ، حيث إنّ مفاد أدلّة حجّية الأمارة حينئذٍ ليس حكماً شرعياً حتّى يكون العالم به عالماً بالحكم ، بل إنّ مفاده حينئذٍ قضيتان شرطيّتان وهما : إن أصاب الواقع فهو منجّز وإن خالف الواقع كان معذّراً.

ثانياً : في قوله أنّ مقدّمات الانسداد لا تكاد تجري بالنسبة إلى غير المجتهد ـ أنّ الفقيه المجتهد يكون كالنائب عن جميع الناس يكشف مواقع الأدلّة في حقّهم ، ولا يخفى وضوح هذا المعنى في كشفه عن أحكام لا ترتبط به نفسه ، كالأحكام المختصّة بالنساء في الحيض والنفاس وغيرهما ، فهو كالنائب عنهنّ في تشخيص موارد الأدلّة ، وكذلك الكلام عن انسداد باب العلم. فإنّه لو رأى انسداد باب العلم فكأنّه رأى انسداده لجميع الناس ، فليكن رأيه حجّة لجميعهم.

ثالثاً : أنّ المجتهد الإنسدادي لو فرض كونه أعلم من غيره فكيف يعدّ جاهلاً بالحكم ، وغيره الإنفتاحي عالماً بالحكم ، مع أنّ المجتهد الإنفتاحي قد يكون من أقلّ تلامذته ويكون جاهلاً مركّباً في نظره؟

فظهر ممّا ذكرنا أنّه لا وجه للتفصيل بين الانسدادي والانفتاحي في حجّية قول المجتهد المطلق لغيره.

المسألة الثالثة : جواز القضاء للمجتهد المطلق

قد يقال : أنّ مقتضى مقبولة عمر بن حنظلة لمكان التعبير بـ « حكم بحكمنا » و « عرف أحكامنا » اختصاص نفوذ قضاء المجتهد المطلق بما إذا كان انفتاحياً ، حيث إنّ الانسدادي ليس عالماً بالحكم وعارفاً بالأحكام.

ولكن الجواب هو الجواب ، وهو أنّ المراد من الحكم إنّما هو مطلق الحجّة ، فالعارف بالحجج أيضاً يعدّ عارفاً بالأحكام ، كما أنّ الحاكم بالحجّة أيضاً يكون حاكماً بالحكم.

٥٤٧

بقي هنا شيء :

وهو ما أفاده بعض الأعلام فيمن له ملكة الاجتهاد ولم يجتهد بالفعل ، أو اجتهد شيئاً قليلاً ، من عدم جواز الرجوع إليه في التقليد ، وعدم نفوذ قضائه وتصدّيه للُامور الحسبيّة ، من باب أنّ الأدلّة اللفظيّة المستدلّ بها على جواز التقليد من الآيات والروايات أخذت في موضوعها عنوان العالم والفقيه وغيرهما من العناوين غير المنطبقة على صاحب الملكة ، وكذلك الحال في السيرة العقلائيّة ، لأنّها إنّما جرت على رجوع الجاهل إلى العالم ، وصاحب الملكة ليس بعالم فعلاً ، فرجوع الجاهل إليه من قبيل رجوع الجاهل إلى مثله ، هذا إذا لم يتصدّ للاستنباط بوجه ، وأمّا لو استنبط من الأحكام شيئاً طفيفاً فمقتضى السيرة العقلائيّة جواز الرجوع إليه فيما استنبطه من أدلّته ، فإنّ الرجوع إليه من رجوع الجاهل إلى العالم ، فإنّ إستنباطه بقيّة الأحكام وعدمه أجنبيان عمّا استنبطه بالفعل ، نعم قد يقال : إنّ الأدلّة اللفظيّة رادعة عن السيرة ، إذ لا يصدق عليه عنوان الفقيه أو العالم بالأحكام ، ولكن الإنصاف أنّ الأدلّة اللفظيّة لا مفهوم لها وإنّها غير رادعة.

هذا كلّه في جواز التقليد وعدمه ، وأمّا نفوذ قضائه وعدمه فالصحيح عدم نفوذ قضائه وتصرّفاته في أموال القصر ، وعدم جواز تصدّيه لما هو من مناصب الفقيه ، وذلك لأنّ الأصل عدمه ، لأنّه يقتضي أن لا يكون قول أحد أو فعله نافذاً في حقّ الآخرين إلاّفيما قام عليه الدليل ، وهو إنّما دلّ على نفوذ قضاء العالم أو الفقيه أو العارف بالأحكام أو غيرها من العناوين الواردة في الأخبار ، ولا يصدق شيء من ذلك على صاحب الملكة (١). ( انتهى )

أقول : في ما أفاده مواقع للنظر :

أوّلاً : قد مرّ أنّ حصول ملكة الاجتهاد من دون ممارسة عملية مجرّد فرض لا واقع له خارجاً.

ثانياً : سلّمنا ، ولكن لا إشكال في أنّ سيرة العقلاء لم تستقرّ على الرجوع إلى مثله ، ولا أقلّ من عدم إحرازها.

ثالثاً : أنّه لم يبيّن الفرق في كلامه بين جواز التقليد وجواز التصدّي للقضاء في جريان

__________________

(١) التنقيح : ج ١ ، ص ٣٢ ، طبعة مؤسسة آل البيت.

٥٤٨

سيرة العقلاء على الرجوع في الأوّل دون الثاني ، فإنّه لو فرض استقرار سيرة العقلاء على رجوع الجاهل إلى صاحب الملكة في أمر التقليد ، فكيف لم تستقرّ سيرتهم على رجوع المتداعيين إليه في أمر القضاء؟ مع أنّ لازم جواز الرجوع إليه في أمر التقليد كونه عالماً وخبرة عندهم بمجرّد الحصول على الملكة ، وهذا صادق أيضاً بالنسبة إلى من له ملكة القضاء ، وما ذكره من أنّ الأصل عدم نفوذ قضاء أحد في حقّ ، أحد ـ حقّ ، ولكن يمكن إحراز النفوذ في مثل المقام بإطلاقات أدلّة القضاء وإنصرافها إلى ما هو متعارف عند العقلاء ( إلاّ ما خرج بالدليل ) فإنّ القضاء ليس أمراً تأسيسيّاً للشرع ، بل هو إمضاء لما عند العقلاء.

المسألة الرابعة : من مناصب المجتهد المطلق الولاية والحكومة

إنّ من الواضحات والامور البديهية في الشريعة حاجة المجتمع الإنساني إلى الحكومة وعدم إمكان تفكيكه عنها ، وذلك من باب أنّه بالحكومة يمكن تحقيق أهداف الشريعة المقدّسة التي لا يمكن الوصول إليها إلاّمن طريق تشكيل الحكومة وتنفيذ الولاية.

ومن تلك الأهداف المهمّة حفظ نظام المجتمع ، فلا إشكال في لزوم اختلال النظام بدون الحكومة وهو ممّا لا يرضى الشارع به ، بل هو من أهمّ الامور عنده.

ومنها : تعليم النفوس الإنسانيّة وتربيتها.

ومنها : إقامة القسط والعدل ، وإحقاق حقوق الناس ، فإنّه أيضاً من أهداف الشريعة المقدّسة.

ومنها : إجراء بعض المراحل العالية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومنها : تولّى القضاء ، فإنّه أيضاً لا يمكن تحقّقه في الخارج من دون اعتضاده بالحكومة.

ومنها : إجراء الحدود والتعزيرات.

ومنها : حفظ حدود الممالك الإسلاميّة وثغورها ، فإنّها أيضاً لا تتحقّق إلاّبتشكيل الحكومة والعساكر.

فظهر أنّ أصل الحكومة أمر لازم ضروري.

ثمّ إنّ هذه الحكومة تأخذ مشروعيتها من ناحية الباري تعالى لا من جانب الناس

٥٤٩

وآرائهم ، وأمّا قانون الانتخاب في الحكومة الإسلاميّة فإنّه لمجرّد جلب مشاركة الناس في أمر الحكومة ، التي هى من المقدّمات الواجبة لتحقيق الأهداف المزبورة ، ولذلك نقول : لابدّ من تنفيذ أمر رئيس الجمهورية بعد توفيقه في أخذ أكثرية الآراء من جانب الولي الفقيه.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ هذا المنصب جعل من ناحية الإمام المعصوم عليه‌السلام للفقيه الواجد للشرائط المذكورة في محلّها ، ويدلّ على هذا الجعل وجوه عديدة ، كما أنّ لولايته مراحل وشؤوناً مختلفة ، ليس هنا محلّ ذكرها ، وقد بحثنا عن هذه الشؤون وتلك الوجوه تفصيلاً في كتاب أنوار الفقاهة ، كتاب البيع ، مبحث أولياء العقد ، فراجع.

هذا كلّه في الجهة الاولى ، وهى البحث في أحكام المجتهد المطلق.

الجهة الثانية : في أحكام المجتهد المتجزّي

وقبل الورود فيها لابدّ من بحث موضوعي وهو إمكان التجزّي في الاجتهاد وعدمه ، وقد وقع الخلاف فيه بين الأصحاب ، فقال بعض بأنّه ممكن ، وقال بعض آخر بأنّه محال ، ولنا نظرة اخرى وهى أنّ الاجتهاد المطلق يستحيل عادةً تحقّقه في الخارج من دون العبور عن طريق الاجتهاد المتجزّي.

واستدلّ القائلون بالإستحالة بوجهين :

أحدهما : أنّ الملكة من الكيفيات النفسانية وهى بسيطة لا تقبل القسمة والتجزّي.

ثانيهما : ربط المسائل الفقهيّة بعضها ببعض وعدم إمكان التفكيك بينها.

ويرد على الوجه الأوّل : أنّ الملكة وإن لم تنقسم ولا تتجزّى ، لكنّها ذات مراتب متفاوتة باعتبار تفاوت متعلّقاتها من حيث الصعوبة والسهولة والكمال والنقص ، فهى حينئذٍ ملكات كثيرة بعدد المسائل التي وقعت متعلّقة للملكة ، وقد تحصل مرتبة ناقصة منها دون المرتبة الكاملة من دون تلازم بينهما في الوجود ، ومن هذا القبيل ملكة الاجتهاد ، فإنّها كسائر الملكات تدريجية الحصول لا تصل إلى مرتبة أعلى إلاّبعد العبور عن المرتبة الأدنى ، ولا تتحقّق ملكة الاجتهاد في المسائل المعقّدة المشكلة إلاّبعد حصول القدرة على استنباط المسائل الساذجة ، كما أنّه كذلك في مثل ملكة المشي والتكلّم للصبي التي تبتدأ من مراحل ساذجة إلى مراحل

٥٥٠

معقّدة ، وهكذا في القدرة على الطبابة ، فإنّها تبتدأ من المعالجات البسيطة إلى مراحل معقّدة عميقة ، بل قد يكون الاجتهاد المطلق في بعض العلوم الجديدة كالطب من المحالات ، فإنّ كلّ طبيب يمكن له أن يجتهد ويستنبط في مجال خاصّ من الطبابة.

إن قلت : إنّ قياس ملكة الاجتهاد في المسائل الفقهيّة بسائر الملكات مع الفارق ، لأنّ مدارك الاستنباط واصوله وقواعده في باب من الفقه متّحدة مع الاصول الجارية في أبواب اخر.

قلنا : أنّه كذلك ، ولكن يمكن التفكيك في المسائل الاصوليّة أيضاً من حيث الصعوبة والسهولة ، فيتطرّق التقسيم والتجزّي فيها ، ولا إشكال حينئذٍ في ورود التجزّي إلى المسائل الفقهيّة التي تنطبق عليها ، فمثلاً مسألة اجتماع الأمر والنهي من المسائل المشكلة في الاصول ، ومن لا يقدر على حلّها والاجتهاد فيها لا يقدر على حلّ ما يرتبط بها من الفروعات الفقهيّة في باب الصّلاة والصوم والحجّ وغيرها. هذا أوّلاً.

وثانياً : قد مرّ أنّ الإحاطة بعلم الاصول وحده لا تكفي لحصول ملكة الاجتهاد ، بل لابدّ من التمرين والممارسة ، ولا ريب في أنّ للممارسة مراحل مختلفة ودرجات متفاوتة ، وبحسبها يتجزّأ الاجتهاد في الفقه ، وهذا هو ما ذكرنا من أنّ الاجتهاد المطلق يستحيل عادةً من دون العبور عن الاجتهاد المتجزّي.

وقد يقال : إنّ الوصول إلى الاجتهاد المطلق من دون طيّ مرحلة التجزّي يلزم منه الطفرة التي قضى العقل ببطلانها.

ولكن يمكن الجواب عنه : أنّ المراد من الطفرة تقديم ما هو في رتبة متأخّرة أو بالعكس ، كتقديم ذي المقدّمة على المقدّمة ، والمعلول على العلّة ، ومثل رفع الأقدام المتأخّرة قبل الاقدام المتقدّمة في العلل الأعدادية ، فهى تتصوّر فيما إذا كان هناك ترتيب عقلاً ، وهو مفقود في ما نحن فيه.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه يبحث في أحكام المجتهد المتجزّي عن امور ثلاثة :

أحدها : جواز عمل المتجتهد المتجزّى برأيه

والتحقيق فيه التفكيك بين صورتين :

٥٥١

الاولى : ما إذا اجتهد واستقرّ رأيه على شيء.

الثانية : ما إذا لم يجتهد ، أو اجتهد ولكن لم يستقرّ رأيه بعد على شيء.

أمّا الصورة الاولى :

فلا ريب في وجوب تقليده لنفسه والعمل برأيه ، وحرمة تقليده لغيره ، لأنّه لا إشكال في كونه مخاطباً لأدلّة الاصول العمليّة والأمارات الشرعيّة ، مثل دليل « إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّوا » ، ولازمه أنّه إذا اجتهد واستنبط مثلاً تنجّس الماء القليل تمّت الحجّة عليه في خصوص هذه المسألة من دون الحاجة إلى الإذن من مجتهد مطلق.

أمّا الصورة الثانية :

ففي جواز العمل برأيه فيها خلاف ، ذهب صاحب المناهل إلى عدمه ، ومقتضى اطلاق كلام الشيخ الأعظم رحمه‌الله في رسالته في الاجتهاد والتقليد هو الجواز ، بل حرمة التقليد عن الغير ، وتفصيل البحث في ذلك في محلّه.

ثانيها : جواز رجوع الغير إليه

والتحقيق فيه أن يقال : إنّه تارةً : يمكن له أن يجتهد في شيء معتدّ به من الأحكام ، بحيث يصدق عليه عنوان « من عرف حلالنا وحرامنا » أو « شيئاً من قضايانا » أو عنوان « أهل الذكر » و « من كان من الفقهاء » ، كما إذا حصلت له ملكة الاجتهاد في أبواب المعاملات مثلاً ، فلا ريب حينئذٍ في جواز تقليد الغير له ، والشاهد عليه بناء العقلاء على العمل برأي الطبيب المتجزّي المتخصّص في فنّه ، بل على ترجيحه على غيره ، لكونه أعلم من غيره في هذه الناحية.

واخرى : يمكن له أن يجتهد مسائل طفيفة قليلة ، ففي هذه الصورة لا تصدق عليه العناوين المزبورة ، أي لا تشمله الأدلّة النقليّة الواردة في باب التقليد ، نعم لا إشكال في جريان سيرة العقلاء وبنائهم على تقليده ، كما لا إشكال في عدم ثبوت الردع عنه بتلك الأدلّة النقلية ، لأنّها ساكتة عنه ، ونتيجته جواز تقليده في هذه الصورة أيضاً إذا كان واجداً لسائر شرائط التقليد.

٥٥٢

والذي يسهل الخطب أنّ المتجزّي بهذا المعنى لا مصداق له خارجاً ، لأنّه قد مرّ أنّ من شرائط حصول الملكة ، الممارسة في الاستنباط ، وهى تحتاج إلى استنباط مسائل كثيرة ، كما أنّه كذلك في مثل ملكة الطبابة ونحوها.

ثالثها : قضاء المجتهد المتجزّي

وقد فصّل بعض فيه بين من كانت له ملكة الإستنباط على مقدار معتنى به من الأحكام ومن كان قادراً على استنباط أحكام قليلة ، وقال بجواز القضاء للأوّل دون الثاني ، وذلك لعدم شمول العناوين الواردة في مثل مقبولة عمر بن حنظلة ومشهورة أبي خديجة لمثله.

ولكن يمكن أن يستدلّ للجواز مطلقاً بوجوه عديدة :

منها : ما رواه أحمد عن أبيه رفعه عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « القضاة أربعة ثلاثة في النار وواحد في الجنّة : رجل قضى بجور وهو يعلم ، فهو في النار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة » (١).

فإنّ قوله عليه‌السلام : « قضى بالحقّ وهو يعلم » صادق على المتجزّي مطلقاً بلا إشكال ، نعم الإشكال في سندها لكونها مرفوعة.

ومنها : بناء العقلاء ، فإنّه استقرّ على الرجوع بمن هو عالم بأحكام القضاء المتداولة بينهم سواء كان مجتهداً مطلقاً أو متجزّياً ، وعلى الثاني سواء كان له ملكة الاجتهاد بالنسبة إلى مسائل معتدّ بها ، أو كان له ملكة الاجتهاد بالنسبة إلى مسائل طفيفة قليلة ، ولا إشكال في أنّ هذا البناء يخصّص ذلك الأصل الأوّلي ، أي أصالة عدم نفوذ قضاء أحد على أحد ، كما لا إشكال في عدم رادعية الروايات المذكورة له ، لأنّها تثبت جواز القضاء لمن كانت العناوين الواردة فيها صادقة عليه ، وليس لها مفهوم ينفي الجواز عمّن لم تكن تلك العناوين صادقة عليه ، فتأمّل.

ومنها : نفس مقبولة عمر بن حنظلة ورواية أبي خديجة من باب أنّه لا موضوعيّة

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٤ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٦.

٥٥٣

للعناوين الواردة فيهما ، بل إنّها طريق إلى من يكون قادراً على القضاء ، وعناوين مشيرة إلى اعتبار العلم بأحكام القضاء حتّى يكون قادراً عليه ، فهما تعمّان المتجزّي أيضاً.

فظهر أنّه يجوز القضاء للمتجزّي حتّى لمن كان مجتهداً في مسائل قليلة ، لكن الكلام في وجود هذا القسم من المتجزّي خارجاً كما مرّ سابقاً.

بقي هنا شيء :

وهو أنّه لا إشكال في عدم اعتبار الإذن من المجتهد المطلق في عمل المجتهد المتجزّي برأيه إذا كان مجتهداً في المباني الاصوليّة ، وحصل له القطع بالحجّة بعد الإستنباط ، نعم رجوع العامي إليه يحتاج إلى الإذن من المجتهد المطلق ، أي لابدّ له من التقليد عن المجتهد المطلق في خصوص هذه المسألة ، أي مسألة جواز التقليد عن المجتهد المتجزّي ، وإلاّ دار ، وهذا نظير ما يقال به في مسألة جواز تقليد غير الأعلم من أنّه لابدّ في خصوص هذه المسألة من تقليد الأعلم ، فإن أجاز هو تقليد غير الأعلم فهو ، وإلاّ فلا يجوز تقليد غير الأعلم ، وهكذا بالنسبة إلى مسألة تقليد الميّت. فلابدّ في خصوصها من تقليد الحي.

إلى هنا تمّ الكلام في الأمر الرابع بكلتا جهتيه ( أحكام المجتهد المطلق والمتجزّي ).

الأمر الخامس : مباني الاجتهاد

وقد ذكر بعضهم أنّ الاجتهاد في المسائل الشرعيّة يبتني على علوم كثيرة ربّما تربو على أربعة عشر علماً : علم اللغة ، علم الصرف ، علم النحو ، علم التفسير ، علم الرجال ، علم الحديث ، علم الدراية ، علم الكلام ، علم اصول الفقه ، علم الفقه نفسه ( ممارسة الفقه ) ، علم المنطق ، الفلسفة ، علم المعاني ، علم البيان.

ولابدّ من البحث أوّلاً : في أصل وجوب تحصيل كلّ واحد من هذه العلوم واعتباره في الاجتهاد والإستنباط ، وثانياً : في المقدار اللازم منه.

فنقول : أمّا علم اللغة ، فلا ريب في لزومه أمّا اجتهاداً أو رجوعاً إلى أهل الخبرة ، لأنّ عمدة الأدلّة هى الكتاب والسنّة ، وهما صدرا بلسان عربي مبين ، فلابدّ من معرفة مواد اللغة العربية.

٥٥٤

وهكذا علم الصرف ، لوضوح دخالته في فهم الكتاب والسنّة ، وعلم النحو ، لأنّ كلمة واحدة تستعدّ لمعانٍ مختلفة على أساس إعرابات متفاوتة ، فلابدّ من معرفته حتّى تتميّز المعاني بعضها عن بعض ، نعم اللازم منه ما يكون له أثر في اختلاف المعاني فحسب لا أكثر.

وبالجملة لكلّ واحد من هذه الثلاثة دخل في فهم المعاني ، فإنّ علم اللغة يبيّن المادّة ، وعلم الصرف يبيّن هيئة الكلمة وعلم النحو يبيّن هيئة الجملة.

وأمّا علم التفسير ، فالمراد منه ما يكون وراء الثلاثة السابقة وهو الإحاطة بالآيات القرآنيّة ، وردّ بعضها إلى بعض ، ومعرفة المحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، وغير ذلك من أشباهه فلا إشكال في دخله في إستنباط الأحكام.

وأمّا علم الرجال ، فلا حاجة إليه عند من يقول بحجّية الأخبار المدوّنة في الكتب المشهورة المعروفة ، من الكتب الأربعة وغيرها ، وهكذا عند القائلين بحجّية الأخبار الواردة في خصوص الكتب الأربعة ، وأمّا بناءً على مبنى القائلين باعتبار الوثوق برجال السند أو الوثوق بالرواية ( الذي قد يحصل من طريق الوثوق بالراوي وقد يحصل من طريق الموافقة لعمل المشهور ، وقد يحصل من طريق علوّ المضامين ، أو من طريق تظافر الروايات ) فلا إشكال في لزوم علم الرجال ودخله في الاستنباط والاجتهاد كما لا يخفى.

وأمّا علم الحديث فيكون بمنزلة علم التفسير ، ومورداً للحاجة في طريق الاستنباط ، لأنّ المراد منه معرفة لسان الرواية فإنّ لرواية الأئمّة المعصومين لسان خاصّ ، ولحن مخصوص بها كالقرآن الكريم ، يفترق عن لسان عبارات الفقهاء والعلماء ولحنها.

وأمّا علم الدراية ، فلا إشكال في لزومه أيضاً ، لأنّ المراد منه هو معرفة أقسام الرواية من حيث صفات الراوي من الصحيح والحسن والضعيف وغيرها ، وبما أنّ الميزان في حجّية الرواية هو الوثوق بالرواية وأحد طرق حصوله هو الوثوق برجال الحديث كما مرّ آنفاً فلابدّ من معرفة أقسام الحديث على أساس رجال السند.

وأمّا علم الكلام ، فكذلك لا إشكال في لزومه لأنّ إثبات حجّية كلام المعصوم وفعله وتقريره متوقّف على إثبات إمامته وعصمته في الرتبة السابقة ، كما أنّ إثبات حجّية ظواهر الكتاب أيضاً مبنيّ على إثبات حقّانيّة أصل الكتاب وهكذا ... ، ومحلّ البحث عن مثل هذه الامور إنّما هو علم الكلام كما لا يخفى.

٥٥٥

إن قلت : لازم هذا البيان عدم صدق الاجتهاد والاستنباط على اجتهاد زنديق يكون من فحول علماء علم الاصول ( فرضاً ) وعالماً في سائر مباني الاستنباط ، وهو كما ترى.

قلنا : يعتبر في صدق الاجتهاد تحصيل العلم بالحجّة ، وهو لا يحصل لمثل هذا المفروض ، وبما أنّه فرض غير واقعي لا ينبغي البحث فيه أكثر من هذا.

وأمّا علم اصول الفقه ، فلزومه وشدّة الحاجة إليه في الاستنباط من القضايا قياساتها معها ، كما يلوح به تعريف علم الاصول بأنّه هو العلم بقواعد تقع في طريق الاستنباط.

إن قلت : فما دعوى الأخباريين في مقابل الاصوليين وعدّ بعضهم إيّاه من البدعة في الدين؟

قلنا : لا إشكال في أنّ قسماً من النزاع بين الطائفتين لفظي ، لأنّ المحدّث الاسترابادي نفسه مثلاً محتاج أيضاً في إثبات الأحكام الشرعيّة إلى حجّية خبر الواحد وحجّية ظواهر الألفاظ ، وإلى ملاحظة إمكان الجمع الدلالي ، ثمّ العلاج السندي عند تعارض الأدلّة ، وإلى الرجوع إلى الاصول العمليّة عند فقدان النصّ ( ولو كان الأصل عنده خصوص أصالة الاحتياط ) ولا يخفى أنّ هذه المسائل من أهمّ مسائل علم الاصول.

ويشهد عليه ملاحظة ما بحث عنه صاحب الحدائق ( وهو من المحدّثين المعروفين ) في مقدّمات الحدائق ، وهى إثنتا عشرة مقدّمة في ١٧٠ صفحة ، ومن تلك المقدّمات حجّية خبر الواحد ( وهو المقدّمة الثانية ) ومنها مدارك الأحكام الشرعيّة ، ومن جملتها حجّية ظواهر الكتاب والإجماع وأصالة العدم وأصالة البراءة في الشبهات الوجوبيّة ومقدّمة الواجب ، ومسألة أنّ الأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضدّه أم لا؟ وقياس الأولوية ، وقياس منصوص العلّة ( وهذه كلّها هى المقدّمة الثالثة ) ومنها التعارض بين الأدلّة ( وهو المقدّمة السادسة ) ومنها مسألة أنّ مدلول الأمر والنهي هل هو الوجوب والتحريم أو لا؟ ( وهو المقدّمة السابعة ) ومنها ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه ( المقدّمة الثامنة ) ومنها معنى المشتقّ ( المقدّمة التاسعة ) ومنها حجّية دليل العقل وعدمها ( المقدّمة العاشرة ) وقد ذكر في المقدّمة الحادية عشرة جملة من القواعد الفقهيّة فراجع.

فلا ريب في أنّ البحث والنزاع بين الطائفتين في هذا القسم من الاصولي لفظي.

٥٥٦

نعم هنا قسم من مباحث الاصول يقع النزاع فيه معنوياً ، وقد حكى (١) صاحب الحدائق عن المحدّث الشيخ عبدالله البحراني صاحب كتاب منية الممارسين : أنّ موارد الاختلاف في هذا القسم تنتهى إلى ثلاثة وأربعين مسألة ، ولكن الإنصاف أنّ هذا العدد ليس عدداً واقعياً ، فإنّ كثيراً ممّا عدّه من موارد الاختلاف هى من شقوق دليل العقل ، وتجمع تحت عنوان دليل العقل ، والصحيح أنّ العمدة من موارد النزاع بينهم هى امور ثلاثة :

أحدها : في عدد الأدلّة ، فإنّها عند الاصوليين أربعة : الكتاب والسنّة والإجماع ودليل العقل ، بينما هى عند الأخباريين الأوّلان خاصّة ، ولكن قد مرّ أنّ الإجماع الحجّة عند الاصوليين يرجع في الحقيقة إلى السنّة ، فهو ليس دليلاً برأسه ، وأمّا دليل العقل فالبديهيات العقليّة وهكذا العلوم العقليّة التي إستمدّت قضاياها من الحسّ ، كالرياضيات فهى حجّة عند الجميع ، فتبقى النظريات غير المعتمدة على الحسّ ، فالأخباريون ذهبوا إلى عدم حجّيتها لما ظهر من الخطأ في تاريخ العلوم في هذا القسم من المدركات العقليّة ( وهو نفس ما استدلّ به المذاهب الحسّية والتجربية في الفلسفة الأوربية ) ولذلك قالوا بعدم حجّية ما يدركه العقل في مثل مسألة مقدّمة الواجب ومسألة الترتّب ومسألة أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه أو لا؟ ومسألة إجتماع الأمر والنهي وغيرها من أشباهها.

ثانيها : أصالة البراءة في الشبهات الحكميّة التحريميّة.

ثالثها : حجّية ظواهر كتاب الله ، فإنّ بعض الأخباريين ذهب إلى عدم حجّيتها إلاّبعد ضمّ تفسير الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام إليها.

فقد ظهر أنّ موارد الاختلاف بينهم قليلة ، والإنصاف أنّ هذا المقدار من الخلاف أمر قهري طبيعي قد يكون بين الاصوليين أنفسهم أيضاً ، فلا يوجب تشنيعاً ولا تكفيراً من جانب الأخباريين بالنسبة إلى الاصوليين أو بالعكس كما نبّه عنه المحدّث البحراني في المقدّمة الثانية عشرة ، فالجدير بالمقام نقل كلامه في هذا المجال ، وإليك نصّه في الحدائق : « وقد كنت في أوّل الأمر ممّن ينتصر لمذهب الأخباريين ، وقد أكثرت البحث فيه مع بعض المجتهدين من مشايخنا المعاصرين ، وأودعت كتابي الموسوم بالمسائل الشيرازية مقالة مبسوطة مشتملة

__________________

(١) الحدائق ، ج ١ ، ص ١٧٠ ، المقدّمة الثانية عشرة.

٥٥٧

على جملة من الأبحاث الشافية والأخبار الكافية تدلّ على ذلك وتؤيّد ما هنالك ، إلاّ أنّ الذي ظهر لي ـ بعد إعطاء التأمّل حقّه في المقام وإمعان النظر في كلام علمائنا الأعلام ـ هو إغماض النظر عن هذا الباب ، وإرخاء الستر دونه والحجاب ، وإن كان قد فتحه أقوام وأوسعوا فيه دائرة النقض والإبرام :

أمّا أوّلاً : فلاستلزامه القدح في علماء الطرفين والإزراء بفضلاء الجانبين ، كما قد طعن به كلّ من علماء الطرفين على الآخر ، بل ربّما إنجرّ إلى القدح في الدين ، سيّما من الخصوم المعاندين ، كما شنّع به عليهم الشيعة من إنقسام مذهبهم إلى المذاهب الأربعة ، بل شنّع به كلّ منهم على الآخر أيضاً.

وأمّا ثانياً : فلأنّ ما ذكروه في وجوه الفرق بينهما جلّة بل كلّه عند التأمّل لا يثمر فرقاً في المقام ... ـ إلى أن قال ـ.

وأمّا ثالثاً : فلأنّ العصر الأوّل كان مملوءاً من المحدّثين والمجتهدين ، مع أنّه لم يرتفع بينهم صيت هذا الخلاف ، ولم يطعن أحد منهم على الآخر بالإتّصاف بهذه الأوصاف ، وإن ناقش بعضهم بعضاً في جزئيات المسائل ، واختلفوا في تطبيق تلك الدلائل ، وحينئذٍ فالأولى والأليق بذوي الإيمان ، والأحرى والأنسب في هذا الشأن هو أن يقال : أنّ عمل علماء الفرقة المحقّة والشريعة الحقّة ـ أيّدهم الله تعالى بالنصر والتمكين ورفع درجاتهم في أعلى علّيين سلفاً وخلفاً ـ إنّما هو على مذهب أئمّتهم صلوات الله عليهم وطريقهم الذي أوضحوه لديهم ، فإنّ جلالة شأنهم وسطوع برهانهم ودرعهم وتقواهم المشهور بل المتواتر على مرّ الأيّام والدهور يمنعهم من الخروج عن تلك الجادّة القويمة والطريقة المستقيمة ، ولكن ربّما حادّ بعضهم أخبارياً كان أو مجتهداً عن الطريق غفلة أو توهّماً أو لقصور إطّلاع أو قصور فهم أو نحو ذلك في بعض المسائل ، فهو لا يوجب تشنيعاً ولا قدحاً ، وجميع تلك المسائل ـ التي جعلوها مناط الفرق ـ من هذا القبيل ، كما لا يخفى على من خاض بحار التحصيل ، فإنّا نرى كلاً من المجتهدين والأخباريين يختلفون في آحاد المسائل ، بل ربّما خالف أحدهم نفسه ، مع أنّه لا يوجب تشنيعاً ولا قدحاً ، وقد ذهب رئيس الأخباريين الصدوق ( رحمه‌الله تعالى ) إلى مذاهب غريبة لم يوافقه عليها مجتهد ولا أخباري ، مع أنّه لم يقدح ذلك في علمه وفضله ، أو لم يرتفع صيت هذا الخلاف ولا وقوع هذا الإعتساف إلاّمن زمن صاحب الفوائد المدنية سامحه الله تعالى برحمته

٥٥٨

المرضيّة ، فإنّه قد جرّد لسان التشنيع على الأصحاب وأسهب في ذلك أي إسهاب ، وأكثر من التعصّبات التي لا تليق بمثله من العلماء الأطياب ، وهو وإن أصاب الصواب في جملة من المسائل التي ذكرها في ذلك الكتاب ، إلاّ أنّها لا تخرج عمّا ذكرنا من سائر الاختلافات ودخولها فيما ذكرنا من التوجيهات ، وكان الأنسب بمثله حملهم على محامل السداد والرشاد ، إن لم يجد ما يدفع به عن كلامهم الفساد ، فإنّهم رضوان الله عليهم لم يألوا جهداً في إقامة الدين وإحياء سنّة سيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا سيّما آية الله العلاّمة رحمه‌الله الذي قد أكثر من الطعن عليه والملامة ، فإنّه بما ألزم به علماء الخصوم والمخالفين من الحجج القاطعة والبراهين حتّى آمن بسببه الجمّ الغفير ، ودخل في هذا الدين الكبير والصغير والشريف والحقير ، وصنّف من الكتب المشتملة على غوامض التحقيقات ودقائق التدقيقات ، حتّى أنّ من تأخّر عنه لم يلتقط إلاّمن درر نثاره ، ولم يغترف إلاّمن زاخر بحاره ، قد صار له من اليد العليا عليه وعلى غيره من علماء الفرقة الناجية ما يستحقّ به الثناء الجميل ومزيد التعظيم والتبجيل لا الذمّ والنسبة إلى تخريب الدين ، كما اجترأ به قلمه عليه رحمه‌الله وعلى غيره من المجتهدين » (١) ( انتهى ).

وأمّا علم الفقه نفسه ، أي ممارسة الفقه فقد يتوهّم أنّه لا معنى لكونه من مباني الاجتهاد من باب أنّه يكون غاية لغيره وذا المقدّمة بالنسبة إلى سائره ، ولكن قد مرّ كراراً أنّ ملكة الاجتهاد لا تتحقّق إلاّبالتمرين والممارسة في الفقه كما في غالب العلوم ، وهى تحصل أوّلاً : بتطبيق الاصول على الفروع ، وثانياً : بردّ الفروع إلى الاصول ، فإذا سئل عنه مثلاً عن رجل صلّى الظهرين وهو يعلم إجمالاً بأنّه كان في أحدهما فاقداً للطهارة ، فليعلم أنّه هل يجب عليه الاحتياط فيكون المورد من موارد تطبيق قاعدة الاحتياط ، أو أنّه من موارد تطبيق قاعدة ٦٥٦٥ الفراغ؟ وأنّه هل يكون الترتيب بين الظهر والعصر ترتيباً واقعيّاً ، أو لا؟ فيكفي إتيان صلاة رباعية بقصد ما في الذمّة ، أو سئل عمن صار مستطيعاً وقد استُؤجر سابقاً لمناسك الحجّ فهل يبطل عقد الإجارة أو لا؟ من باب عدم كونه مستطيعاً شرعاً والممنوع شرعاً كالممنوع عقلاً ، وهكذا ... إلى سائر الفروعات والمسائل.

وأمّا علم المنطق ، فقد يقع الشكّ في الحاجة إليه ، لأنّ المقدار اللازم منه أمر فطري لكلّ

__________________

(١) الحدائق الناضرة : ج ١ ص ١٦٧ ـ ١٧٠.

٥٥٩

إنسان فإنّ عمدة المنطق إنّما هى الأشكال الأربعة ، وجلّ استدلالات الناس ( لولا كلّها ) ترجع إلى الشكل الأوّل ، وقد ذكروا أنّه بديهي الإنتاج ، وأمّا السائر المسائل فقلّما يتّفق الحاجة إليها في الفقه ، نعم الإحاطة ببعض المصطلحات فيها ربّما توجب سهولة الأمر في بيان الاستدلالات ، كالإحاطة بالنسب الأربعة والكلّيات الخمس والوَحَدات المعتبرة في التناقض وغيرها.

وهكذا الفلسفة ، فلا دخل لها بعلم الفقه لأنّها تبحث عن الامور الحقيقيّة ، بينما الفقه يبحث عن الاعتباريات ، نعم يمكن أن يقال : أنّ لها تأثيراً في الفقه من باب تأثيرها في علم الكلام فليس لها دخل مباشرة وبلا واسطة.

هذا ـ وقد أوجد الخلط بين مسائلها ومسائل اصول الفقه غوامض وتعقيدات كثيرة قد أشرنا إلى بعضها في بعض الأبحاث السابقة ، ومن تلك المسائل الفلسفية التي أوردوها في الاصول قاعدة الواحد ، مع أنّه قد قرّر في محلّه أنّها مختصّة بالواحد البسيط الحقيقي ، ولا مساس لها بالاعتباريات ، ومنها قاعدة عدم جواز الجمع بين النقيضين في باب إجتماع الأمر والنهي ، مع أنّه أيضاً يتكلّم عن الحسن والقبح في الاعتباريات لا عن الإمكان والاستحالة في الحقائق ، ولا استحالة في اعتبار النقيضين ، ومنها تنزيلهم الحكم والموضوع بمنزلة العرض والمعروض وإسراء أحكامهما عليهما ، ومنها أحكام العلّة والمعلول في باب الواجب المشروط وباب تداخل الأسباب الشرعيّة.

نعم ، قد يلزم البحث عنها في عصرنا هذا للمنع عن هذا التداخل.

وأمّا علم المعاني والبيان فغاية ما قد يقال في تأثيره في الاستنباط والاجتهاد : أنّ من المرجّحات في الخبرين المتعارضين البلاغة والفصاحة ، مع أنّ الصحيح أنّهما ليسا من المرجّحات ، لأنّ كلمات الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام مختلفة ، قسم منها عبارة عن الخطب والمواعظ ، وقد أعملوا فيها قواعد الفصاحة والبلاغة وبدائعها ، نظير خطب نهج البلاغة وأدعية الصحيفة السجّادية وأشباهها.

وقسم آخر صدر لبيان الأحكام الفرعيّة والمسائل العمليّة ، فلم يصدر عنهم صلوات الله عليهم ببدائع الفصاحة والبلاغة كما لا يخفى على الخبير ، وفي الواقع القسم الأوّل نظير الآيات القرآنية ، بينما يكون القسم الثاني شبيه الأحاديث القدسية الإلهيّة.

٥٦٠