أنوار الأصول - ج ٣

أنوار الأصول - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-15-6
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٢٤

قال المحقّق الأصفهاني رحمه‌الله في المقام ما حاصله : أنّ القياس في المرجّحات لا يكون مشمولاً لأدلّة النهي عن القياس لعدم كونه طريقاً شرعياً وواسطة في إثبات حكم من الأحكام الشرعيّة فرعيّة كانت أو اصوليّة ، لأنّ الحكم الفرعي من الوجوب والحرمة أو الاصولي كالحجّية يثبت بنفس الخبر الموافق لا بالظنّ القياسي ، ومن جانب آخر : مرجّحية الظنّ القياسي ثبت بأدلّة الترجيح المتكفّلة أمر حجّة كلّ ما يوجب الأقربيّة إلى الواقع ، وحينئذٍ يمكن الترجيح بالظنّ القياسي من دون أن يكون مشمولاً لقوله عليه‌السلام : إنّ دين الله لا يصاب بالعقول.

ولكنّه عدل عنه في ذيل كلامه بقوله : كما أنّ الأدلّة المانعة عن العمل بالقياس توجب خروج الظنّ القياسي عن تحت الدليل الدالّ على حجّية كلّ ظنّ ( لو كان هناك دليل ) كذلك توجب خروجه عن تحت أدلّة الترجيح بكل ما يوجب الأقربيه إلى الواقع ( لو قلنا به ) فكما ليس له الحجّية ، كذلك ليس له المرجّحية (١).

أقول : ما ذكره في آخر كلامه هو الحقّ لما ذكره بعينه.

وإن شئت قلت : إنّ جعل القياس من المرجّحات يصدق عليه أنّه من قبيل إستعماله في الدين.

ومن هنا يعلم ( بالنسبة إلى المقام الثاني ) أنّه لا تصل النوبة حينئذٍ إلى تعارض الأدلّة الدالّة على الأخذ بأقوى الدليلين والأدلّه الناهيّة عن القياس ، فإنّ الأخير آبٍ عن التخصيص.

وأمّا القسم الثاني : فكونه من المرجّحات مبنى على جواز التعدّي من المرجّحات المنصوصة ، وبما أنّ المختار كان هو عدم التعدّي فهذا القسم عندنا ليس من المرجّحات.

وأمّا القسم الثالث : وهو الأمارات الظنّية المعتبرة ، فلا إشكال في لزوم الترجيح به إذا كان من المرجّحات المنصوصة كموافقة الكتاب.

وأمّا القسم الرابع : وهو ما يوجب القطع بالحكم الشرعي فكذلك لا ريب في لزوم الترجيح به ، لأنّه من قبيل تمييز الحجّة عن اللاّحجّة كما لا يخفى.

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٥ ـ ٦ ، ص ٣٥٨ ـ ٣٥٩ ، طبعة مؤسسة آل البيت.

٥٢١

وأمّا القسم الخامس : فهو نظير ما إذا دلّت رواية على حرمة المواقعة قبل الغسل وبعد انقطاع الدم ، ودلّت رواية اخرى على جوازها ، فهل تقدّم الاولى على الثانية لكونها موافقة مع استصحاب الحرمة ، أو لا؟ فيه ثلاثة أقوال :

١ ـ تقديم الموافق للأصل ، وهذا ما نسب إلى المشهور ، ويشهد عليه أنّهم في الفقه يعتبرون الموافقة مع الأصل من المرجّحات للأحكام.

٢ ـ تقديم المخالف للأصل ، وهذا أيضاً منسوب إلى المشهور ، ويشهد عليه ما كان يعنون سابقاً في الاصول من أنّه إذا دار الأمر بين الناقل والمقرّر كان الترجيح للناقل ( المخالف للأصل ) عند المشهور ، بل قد يدّعي عليه الإجماع.

ويمكن دفع هذا التهافت ( في النسبة إلى المشهور ) بأنّ البحث عن الناقل والمقرّر مختصّ بالاصول العقليّة ، ويبحث عنه عقيب البحث عن الحظر والإباحة الذي هو من شقوق مبحث البراءة العقليّة ، بينما النسبة الاولى إلى المشهور مرتبطة بالبراءة الشرعيّة.

٣ ـ ما ذهب إليه جمع من الأعاظم منهم الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني والمحقّق النائيني رحمه‌الله ، وهو عدم مرجّحية الأصل مطلقاً لا المخالف والا الموافق.

واستدلّ للقول الأوّل بوجهين :

أحدهما : أنّ مطابق الأصل مظنون ، وكلّ ظنّ مرجّح ، واجيب عنه :

أوّلاً : بأنّ الأصل العملي لا يوجب ظنّاً بالحكم ، حيث إنّه وظيفة عملية للشاكّ فحسب.

وثانياً : سلّمنا ، ولكنّه مبنيّ على التعدّي من المرجّحات المنصوصة ، والمختار عدمه كما مرّ ، فكلّ من الصغرى والكبرى لهذا الوجه ممنوعة.

ثانيهما : أنّ الأخذ بموافق الأصل يوجب تخصيص دليل واحد ، وهو أدلّة حجّية خبر الواحد بالنسبة إلى الدليل المخالف ، ولكن الأخذ بمخالف الأصل يوجب تخصيص دليلين : وهما أدلّة حجّية خبر الواحد وأدلّة حجّية الأصل ، ولا إشكال في أولوية الأوّل.

والجواب عنه واضح ، وهو أنّ الاصول ليست في رتبة الأمارات حتّى يوجب الأخذ بالخبر المخالف ( وهو أمارة من الأمارات ) تخصيص أدلّة حجّية الأصل ، أعني أنّه مع الأخذ بالخبر المخالف لا تصل النوبة إلى الاصول حتّى يلزم تخصيص أدلّتها ، بل إنّها خارجة حينئذٍ تخصّصاً أو من باب الورود أو الحكومة.

٥٢٢

واستدلّ القائلون بترجيح المخالف ( القول الثاني ) بأنّ المحتاج إلى البيان من جانب الشارع إنّما هو في الغالب ما يكون مخالفاً للأصل ، وهو الوجوب أو الحرمة ، إذ إنّ المباح الموافق للبراءة أو أصالة الاباحة لا يحتاج إلى بيان غالباً ، وهذا ما يوجب حصول الظنّ بأنّ ما صدر من جانب الشارع إنّما هو المخالف للأصل لا الموافق.

والجواب عنه : أنّه أيضاً مبنى على التعدّي من المرجّحات المنصوصة ، وإلاّ لا حجّية لمثل هذا الظنّ في مقام الترجيح.

فظهر أنّ الصحيح هو القول الثالث بعد عدم وجود الدليل على ترجيح الموافق أو المخالف.

بقي هنا امور :

الأمر الأوّل : في أنّ الشهرة على أقسام : الروائيّة والفتوائيّة والعمليّة

أمّا الشهرة الروائيّة فهى اشتهار الرواية بين الرواة والمحدّثين.

وأمّا الشهرة الفتوائيّة فهى عبارة عن فتوى المشهور بشيء وإن كانت الرواية فيه شاذّة.

وأمّا الشهرة العمليّة فهى عبارة عن نفس السيرة العمليّة للمتشرّعة وأصحاب الأئمّة.

ولا إشكال في أنّ النسبة بين الأوّل والثاني هى العموم من وجه ، فقد تتحقّق الشهرة الروائية بالنسبة إلى خبر وتكون فتوى الأصحاب أيضاً على طبقه ، وقد تتحقّق الشهرة الروائيّة من دون الفتوى على طبقها ، وقد تكون القضية بالعكس ، أي تكون الفتوى مطابقة لرواية مع عدم شهرتها روائية.

كما لا إشكال في أنّ النسبة بين الأوّل والثالث أيضاً العموم من وجه ، فقد تكون رواية مشهورة بين الرواة والمحدّثين ، ومعمولاً بها عند الأصحاب والمتشرّعة ، وقد تكون الرواية مشهورة من دون العمل على طبقها ، وقد يكون عمل المتشرّعة مطابقاً لرواية من دون شهرتها بين المحدّثين.

نعم ، النسبة بين الثاني والثالث هى العموم المطلق ، فإنّ فتوى الأصحاب بشيء يلازم عملهم وعمل المتشرّعة على طبقه ، بينما قد يكون عمل المتشرّعة على رواية من دون فتوى

٥٢٣

الأصحاب بها في كتبهم الفتوائيّة.

إذا عرفت هذا فاعلم ، أنّه لا إشكال في كون القسم الأوّل من الشهرة من المرجّحات لأنّ الظاهر من قوله عليه‌السلام في المقبولة : « خذ ما كان من روايتها ... » هو الشهرة الروائية ، نعم أنّه مشروط بعدم إحراز العمل على خلافها ، لأنّ المقبولة هى في مقام بيان قرائن صدق الرواية ومرجّحات صدورها ، والمقام هذا بنفسه قرينة لبّية موجبة لعدم انعقاد اطلاق للمقبولة بالنسبة إلى ما إذا كان العمل مخالفاً للرواية وانصرافها إلى غيره.

وكذلك ظاهر المرفوعة ، حيث ورد فيها : « ياسيّدي إنّهما معاً مشهوران مأثوران عنكم » ولا إشكال في ظهوره في الشهرة الروائيّة.

وأمّا الشهرة الفتوائيّة والعمليّة فلا إشكال في عدم شمول المقبولة والمرفوعة لهما باطلاقهما ، ولكن لا يبعد إلغاء الخصوصيّة عن الشهرة الروائيّة بالنسبة إليهما أو تنقيح المناط خصوصاً بعد ملاحظة التعليل الوارد في المقبولة بأنّ « المجمع عليه لا ريب فيه » فإنّه تعليل بإعتبار عقلي يوجد في الفتوائية والعمليّة أيضاً كما لا يخفى.

نعم ، هذا كلّه فيما إذا كانت الشهرة الفتوائيّة بين القدماء لا المتأخّرين حيث لا شكّ في أنّ الشهرة الفتوائيّة بين المتأخّرين لا تكون سبباً للترجيح سواء كانت فتواهم على طبق القاعدة أو لم تكن ، وذلك لأنّ مباني فتاويهم موجودة بأيدينا فلا تزيدنا الشهرة شيئاً عليها ، بخلاف الشهرة بين القدماء ، فإنّهم كانوا حديث العهد بعصر الأئمّة المعصومين وقد وصلوا إلى ما لم نصل إليها.

هذا كلّه بالنسبة إلى الترجيح بالشهرة بأقسامها.

وأمّا بالنسبة إلى جبر ضعف سند الرواية أو وهن صحّته فالصحيح أنّه يمكن إنجبار الضعف وكذلك وهن الصحّة بالشهرة الفتوائيّة أو العمليّة لأنّ الميزان في باب الحجّية إنّما هو الوثوق بالصدور كما مرّ غير مرّة ، لا الوثوق بالراوي فقط ، فكما يحصل الوثوق بالصدور بكون الراوي ثقة كذلك يحصل بمطابقة الشهرة لمضمون الخبر ، كما لا يحصل الوثوق بالصدور إذا تحقّقت الشهرة على خلاف رواية وإن تحقّق الوثوق برواتها.

٥٢٤

نعم يشترط أوّلاً : كون الشهرة متحقّقة بين القدماء الذين كانوا قريبوا عهد بالمعصومين عليهم‌السلام.

وثانياً : إحراز استناد المشهور في فتاويهم أو عملهم إلى تلك الرواية.

ولكن الكلام في أنّه كيف يمكن إحراز استنادهم إليها مع خلوّ كتبهم الفقهيّة في الغالب عن الاستدلال وإكتفائهم بذكر الفتاوي فقط كما لا يخفى على من راجع كتبهم؟

قد يقال : إنّ الإستناد يحرز بالجمع بين الأمرين : أحدهما كون المسألة على خلاف القاعدة ، والثاني كون الخبر في مرأى ومسمع منهم ، وهو كذلك ، فإنّ ظاهر الحال حينئذٍ استنادهم إليها.

إن قلت : كيف تكون الشهرة موجبة لحجّية الخبر مع عدم كونها حجّة مستقلاً ، وليس هذه إلاّمن قبيل ضمّ اللاّحجّة باللاّحجّة.

قلنا : أنّ الحجّة قد تحصل من تراكم الظنون ، فإنّ المدار في حجّية خبر الواحد هو الوثوق بصدوره ، وهذا قد يحصل من ضمّ ظنّ إلى ظنّ ، كما قد يحصل العلم منه مثل الخبر المتواتر الذي يوجب العلم من طريق تراكم الظنون وضمّ بعضها إلى بعض.

الأمر الثاني : لماذا تكون مخالفة العامّة من المرجّحات؟

والاحتمالات فيه أربعة ( قد أشرنا إلى بعضها في تفسير قوله عليه‌السلام « فإنّ الرشد في خلافهم » في البحث عن جواز التعدّي عن المرجّحات المنصوصة ) :

١ ـ كون الترجيح بها لمجرّد التعبّد من الشرع لا لغيره.

٢ ـ أن يكون الرشد في نفس المخالفة لهم لحسنها ورجحانها فيكون للمخالفة موضوعيّة.

٣ ـ أن يكون لها طريقيّة إلى ما هو الأقرب إلى الواقع فالترجيح بالمخالفة لهم من باب أنّ الخبر المخالف أقرب إلى الواقع لأنّ الرشد والحقّ غالباً يكون فيما خالفهم والغيّ والباطل في ما وافقهم.

٤ ـ أن يكون لها طريقيّة إلى احتمال وجود التقيّة ( أي طريقيّة جهتية ، خلافاً للاحتمال الثالث الذي كان للمخالفة فيه طريقيّة مضمونيّة ) فيكون الترجيح بها لأجل إنفتاح باب

٥٢٥

التقيّة فيما وافقهم وانسداده فيما خالفهم.

والبحث هنا في تحديد ما يستظهر من روايات الباب فنقول :

أمّا الوجه الأوّل : فلا إشكال في أنّه خلاف ظاهر التعليل الوارد فيها كما لا يخفى.

وأمّا الوجه الثاني : فهو أيضاً بعيد جدّاً لكونه مخالفاً لظاهر التعليل الوارد فيها أيضاً ، فإنّ الرشد بمعنى الوصول إلى الحقّ وسلوك طريق الهداية.

مضافاً إلى أنّه خلاف ما ورد في روايات كثيرة من الأمر بالحضور في تشييع جنائزهم عيادة مرضاهم والحضور في جماعاتهم وغير ذلك.

وأمّا الوجه الثالث : فيمكن أن يستشهد له أوّلاً : بما رواه أبو إسحاق الأرجاني رفعه قال : قال أبو عبدالله عليه‌السلام : « أتدري لِمَ امرتم بالأخذ بخلاف ما تقول العامّة ، فقلت : لا أدري ، فقال : إنّ عليّاً عليه‌السلام لم يكن يدين الله بدين إلاّخالف عليه الامّة إلى غيره إرادة لإبطال أمره ، وكانوا يسألون أمير المؤمنين عليه‌السلام عن الشيء الذي لا يعلمونه فإذا أفتاهم جعلوا له ضدّاً من عندهم يلتبسوا على الناس » (١).

فإنّ ظاهرها أنّ هناك تعمّد في مخالفة العامّة لآراء أهل البيت عليهم‌السلام ولازمه أنّ الغلبة في مخالفتهم للواقع فلابدّ في موارد الشكّ من الرجوع إلى ما هو موافق للواقع غالباً وهو المخالف لآراء العامّة.

ولكن يناقش فيها بضعف السند أوّلاً : لكونها مرفوعة ، وثانياً : بأنّها مخالفة لما ثبت في كتبهم التاريخيّة والفقهيّة من استنادهم في فتاويهم إلى قول علي عليه‌السلام ، وكلام عمر في حقّ أمير المؤمنين عليه‌السلام في مواقف كثيرة « أنّه لولا علي لهلك عمر » معروف.

مضافاً إلى ما نشاهد بأعيننا من موافقة كثير من أحكام مذهب أهل البيت لأحكامهم في أبواب مختلفة من الفقه نظير باب الحجّ فإنّ كثيراً من مناسكه مشتركة بين الفريقين.

ويستشهد لهذا الوجه ثانياً : بما رواه أبو بصير عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « ما أنتم والله على شيء ممّا هم فيه ولا هم على شيء ممّا أنتم فيه ، فخالفوهم فما هم من الحنفية على شيء » (٢).

ولكنّها أيضاً قابلة للمناقشة من ناحية السند ، لأنّ المقصود من ابن حمزة فيه إنّما هو ابن

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٩ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٤.

(٢) المصدر السابق : ح ٣٢.

٥٢٦

حمزة البطائني الذي هو من الكذّابين وإن كان ممّن ينقل عنه ابن أبي عمير ، لأنّ الثابت في محلّه أنّ ابن أبي عمير لا يرسل إلاّعن ثقة ، لا أنّه لا يروي إلاّعن ثقة مطلقاً سواء في مراسيله أو مسانيده.

وهكذا من ناحية الدلالة ، لأنّه إن كان المراد فيها أنّنا لا نوافقهم على شيء في مسألة الولاية فهو صحيح ، ولكن لا ربط له بما نحن فيه ، وإن كان المراد عدم التوافق في غيرها فهو كما ترى.

فيبقى الوجه الرابع : ويشهد له ما رواه عبيد بن زرارة عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « ما سمعته منّي يشبه قول الناس فيه التقيّة ، وما سمعت منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه » (١).

إن قلت : الظاهر من قوله عليه‌السلام في المقبولة « ما خالف العامّة ففيه الرشاد » إنّما هو الاحتمال الثالث لمكان التعبير بالرشاد الظاهر في الموافقة مع الواقع والحقّ.

قلنا : الإنصاف أنّ قوله عليه‌السلام هذا ظاهر في الطريقيّة إجمالاً الدائر أمرها بين الوجه الثالث والرابع ، فلا يمكن الاستدلال به لشيء منهما ، بل الظاهر هو الوجه الرابع بتناسب الحكم والموضوع في المقام.

فقد ظهر إلى هنا أنّ المتعيّن في المقام هو الوجه الرابع ، ولازمه اختصاص مرجّحية مخالفة العامّة بموارد احتمال التقيّة ، فلو كان الخبران المتعارضان واردين في عصر لا يحتمل فيه التقيّة كعصر الإمام الرضا عليه‌السلام يشكل ترجيح المخالف على الموافق ، بل لابدّ من الرجوع إلى سائر المرجّحات.

الأمر الثالث : التعارض بين العامين من وجه

فهل يكون المرجع فيه الأخبار العلاجيّة فلابدّ عند وجود المرجّحات من الترجيح وعند فقدها من التخيير ، أو لا ، بل في مادّة الإفتراق يعمل بكلّ واحد منهما وفي مادّة الاجتماع يحكم بالتساقط ويكون المرجع هو الأصل الجاري في المسألة؟ ( بعد أن كان المرجع في

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٩ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٤٦.

٥٢٧

المتباينين الأخبار العلاجيّة وفي العموم المطلق الجمع الدلالي ).

وهو نظير ما إذا وردت مثلاً رواية تدلّ بإطلاقها على نجاسة عذرة كلّ ما لا يؤكل لحمه ، ورواية اخرى تدلّ باطلاقها على طهارة عذرة كلّ طائر ، فمادّة الإجتماع فيهما هو الطائر الذي لا يؤكل لحمه ، فتتعارضان فيه وتدلّ إحديهما على نجاسته والاخرى على طهارته ، فهل المرجع فيه الأخبار العلاجية فإمّا أن ترجّح إحديهما على الاخرى عند وجود المرجّح أو يخيّر بينهما عند فقده ، أو يكون المرجع الأصل الجاري فيه بعد فقد العمومات أو الإطلاقات؟

لا إشكال في عدم جريان المرجّحات الصدوريّة فيه ، لأنّ المفروض أنّه يعمل بكلّ واحد منهما في مادّتي الافتراق ، ومعلوم أنّ الرجوع إلى المرجّحات الصدورية وترجيح أحدهما على الآخر مستلزم لإسقاط الدليل في مادّة الاجتماع ، فيلزم التبعّض والتجزئة في الصدور والسند ، وبطلانه واضح.

وأمّا المرجّحات الجهتيّة وهكذا المرجّحات المضمونيّة ( بناءً على عدم إرجاعها إلى المرجّحات الصدوريّة ) فلا مانع من جريانها ، لأنّ في مادّة الاجتماع يمكن الأخذ بإحديهما وترجيحها على الاخرى لمكان التقية مثلاً ، وفي مادّة الإفتراق يعمل بكلتيهما من دون أن يلزم محذور ، لإمكان أن يكون الإمام عليه‌السلام في مقام بيان حكم الله الواقعي بالإضافة إلى أصل الدليل ، وفي مقام التقيّة بالإضافة إلى اطلاقه.

هذا بالنسبة إلى الترجيح عند وجود المرجّح.

وأمّا التخيير عند فقد المرجّح فالمشهور على عدمه ، فيتساقط الخبران حينئذٍ في مادّة الاجتماع عندهم ، ويكون المرجع هو الأصل الجاري في المسألة ، ونسب إلى المحقّق الطوسي رحمه‌الله التخيير ، وذهب إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله ، واستدلّ له بإطلاقات أدلّة التخيير.

والإنصاف أنّ ما ذهب إليه المشهور هو الأقوى لانصراف أدلّة التخيير عن موارد العامين من وجه ، فإنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : « فتخيّر أحدهما ودع الآخر » قبول أحدهما بتمامه وترك الآخر بتمامه ، لا قبول أحدهما وترك بعض الآخر ، فهى مختصّة بالمتباينين.

إلى هنا تمّ الكلام عن التعادل والتراجيح ، والحمد لله ربّ العالمين.

٥٢٨

خاتمة

في الاجتهاد والتقليد

المقام الأوّل : في مباحث الاجتهاد

١ ـ معنى الاجتهاد لغةً وإصطلاحاً

٢ ـ الاجتهاد بالمعنى العام والاجتهاد بالمعنى الخاصّ

٣ ـ موارد النزاع بين الأخباري والاصولي

٤ ـ المجتهد المطلق والمجتهد المتجزي

الجهة الاولى : في أحكام المجتهد المطلق

إمكان تحقّق الاجتهاد المطلق

جواز العمل بالإجتهاد المطلق

جواز القضاء للمجتهد المطلق

من مناصب المجتهد المطلق الولاية والحكومة

الجهة الثانية : في أحكام المجتهد المتجزي

جواز عمل المجتهد المتجزّي برأيه

جواز رجوع الغير اليه

قضاء المجتهد المتجزّي

٥ ـ مباني الاجتهاد

٦ ـ التخطئة والتصويب :

أسباب السقوط في هوّة التصويب

المفاسد المترتّبة على القول بالتصويب

٧ ـ تبدّل رأي المجتهد

المقام الثاني : في مباحث التقليد :

١ ـ جواز التقليد للعامي

٢ ـ تقليد الأعلم

٣ ـ تقليد الميّت

٥٢٩
٥٣٠

خاتمة في الاجتهاد والتقليد

المقدمة :

لابدّ قبل الورود في أصل البحث من بيان مقدّمة وهى هل أنّ هذه المسألة من مسائل الفقه أو الاصول؟ الصحيح أنّها من مسائل الفقه فورودها في علم الاصول استطرادي ، ولذلك يبحث عنها في الكتب الفقهيّة والرسائل العمليّة أيضاً في ابتدائها ، والوجه في ذلك ما عرفت من أنّ المسألة الاصوليّة ما يقع في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة ، ولا إشكال في أنّ الاستنباط من شؤون الفقيه المجتهد لا المقلد ، ونتيجة المسألة الاصوليّة حكم كلّي من شؤون المجتهد لا المقلِّد ، بينما نتيجة هذه المسألة ( أي حجّية قول المجتهد ) ترجع إلى المقلد.

فلا يقال : إنّ من مسائل علم الاصول البحث عن حجّية الأمارات ، وكلام المجتهد من الأمارات.

لأنّا نقول كلام المجتهد أمارة إجماليّة للمقلِّد لا المجتهد ، والأمارة الاصوليّة هى ما يقع في طريق استنباط الأحكام التفصيليّة للمجتهد.

وبعبارة اخرى : البحث هنا بحث عن جواز التقليد عن المجتهد وعن أمارية قول المجتهد وحجّيته ، ونتيجته وهى حجّية قول المجتهد تعود إلى المقلّد لا المجتهد.

إذا عرفت هذا فلنشرع في مسائله ، فنقول البحث فيه يقع في مقامين :

المقام الأوّل : في مباحث الاجتهاد

وفيه امور :

الأمر الأوّل : معنى الاجتهاد لغةً واصطلاحاً

أمّا في اللغة فهو مأخوذ من الجَهد ( بالفتح ) أو الجُهد ( بالضمّ ) وهل هما بمعنيين أو بمعنى

٥٣١

واحد؟ اختلف فيه بين أرباب اللغة ، ففي مختصر الصحاح : الجَهد والجُهد الطاقة ، وفي مقاييس اللغة : الجيم والهاء والدالّ أصلة المشقّة ... والجُهد الطاقة » (١) وفي مفردات الراغب : الجَهد والجُهد الطاقة والمشقّة ، وقيل : الجَهد ( بالفتح ) المشقّة والجُهد الواسع ... ( إلى أن قال ) : والاجتهاد أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمّل المشقّة (٢).

أقول : الظاهر أنّ معناه الأصلي هو نهاية الطاقة والقدرة التي من لوازمها المشقّة ، فإنّ من بذل نهاية طاقته يقع في المشقّة والكلفة ، وعليه فالصحيح أنّه بمعنى بذل نهاية الطاقة كما ذهب إليه في « التحقيق في كلمات القرآن الكريم » (٣) وإستعمل فيه في لسان الآيات أيضاً كقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ لَايَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ ) (٤) أي نهاية طاقتهم في الإنفاق على أمر الجهاد وقوله تعالى : ( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ) (٥) أي أقسموا بالله نهاية طاقتهم في القسم.

وأمّا في الاصطلاح : فقد ذكر له في كلمات الاصوليين تعاريف كثيرة :

١ ـ ما حكي عن قدماء الاصوليين من أهل السنّة والشيعة مثل الحاجبي والعلاّمة ، وهو : « استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي ».

ويرد عليه أوّلاً : أنّه لا وجه للتقييد فيه بالظنّ ، لصدق الاجتهاد على استفراغ الوسع لتحصيل العلم أيضاً.

وثانياً : قد يكون نتيجة الاستنباط والاجتهاد حصول الظنّ بمطلق الحجّة من دون أن يصدق عليها الحكم ، كما في البراءة العقليّة والظنّ الانسدادي على الحكومة والاحتياط العقلي ، وحينئذٍ ليس التعريف جامعاً لتمام الافراد.

وثالثاً : أنّه يعمّ استفراغ وسع المقلّد في تحصيل فتوى مقلّده ( بالفتح ) أيضاً فلابدّ من ضمّ قيد « عن أدلّتها التفصيليّة » إليه حتّى يخرج جهد المقلّد.

__________________

(١) مقاييس اللغة : ج ١ ، ص ٤٨٦.

(٢) مفردات الراغب : جهد ، ص ٩٩.

(٣) التحقيق في كلمات القرآن الكريم : ج ٢ ، ص ١٣٦.

(٤) سورة التوبة : الآية ٧٩.

(٥) سورة النور : الآية ٥٣.

٥٣٢

ورابعاً : لا حاجة إلى التعبير بالاستفراغ فإنّ لبذل الوسع في باب الفحص مقداراً لازماً قد ذكر في محلّه ، وهو قد لا يصل إلى حدّ الاستفراغ كما لا يخفى على من راجع كلماتهم هناك.

إن قلت : إنّ تعاريف القوم كلّها لفظية لشرح الاسم وحصول المعنى في الجملة ، وليست هى حقيقيّة لبيان الكنه والماهيّة ، لتكون بالحدّ أو الرسم ، مضافاً إلى أنّه لا إحاطة لغير علاّم الغيوب بكنه الأشياء كي يمكن تعريفها الحقيقي.

قلنا : أنّ التعاريف شرح الاسميّة إنّما هى من شؤون اللغوي الذي هو في مقام شرح اللفظ وبيان المفهوم الإجمالي ، وأمّا علماء العلوم المختلفة فكلّ واحد منهم بصدد بيان التعريف الحقيقي لما هو موضوع علمه أو موضوع مسائله ، ولذلك يقول اللغوي : « سعدانة نبت » ولا يقوله عالم النبات الذي يطلب في تعريفه لشيء من النباتات ترتيب آثار حقيقيّة خارجيّة ، فإنّ فلسفة التعاريف في سائر العلوم ( غير علم اللغة ) إعطاء معرفة جامعة مانعة للأشياء بيد الطالب ، حتّى يمكن له ترتيب آثارها عليها خارجاً ، ولا إشكال في توقّفه على إرائة تعريف جامع مانع.

وممّا يشهد على ما ذكره إيراد جميع علماء الاصول وغيره من العلوم وإستشكالهم بجامعيّة التعاريف ومانعيتها. هذا أوّلاً.

وثانياً : لا حاجة في تعريف كنه الأشياء إلى معرفة الجنس والفصل حتّى يقال بأنّ العالم بهما إنّما هو علاّم الغيوب ، لأنّ التعريف الجامع المانع لا يتوقّف عليهما ، بل يحصل بالعرض الخاصّ أيضاً.

أضف إلى ذلك أنّ الكلام في ما نحن فيه إنّما هو في العلوم الاعتباريّة لا الحقيقيّة ، ولا إشكال في أنّ كنه الامور الاعتباريّة وحقيقتها ليست أمراً وراء نفس الاعتبار ، فيكون كلّ معتبر عالماً بكنه اعتباره ، ولا

يختصّ العلم به بعلاّم الغيوب.

٢ ـ « استفراغ الوسع في تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي ».

وهذا ـ مع سلامته عن الإشكال الأوّل والثاني الواردين على التعريف السابق لمكان التعبير بالحجّة ـ يرد عليه الإشكالان الأخيران كما لا يخفى.

٣ ـ « أنّه ملكة يقتدر بها على إستنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأصل ، فعلاً أو قوّة قريبة منه ».

٥٣٣

ويرد عليه أوّلاً : أنّ الاجتهاد الذي يعدّ عدلاً للتقليد والاحتياط ، والذي هو من أطراف الوجوب التخييري الثابت للاجتهاد والتقليد والاحتياط ، ليس عبارة عن نفس الملكة ، كما أنّ الطبابة والنجارة وغيرهما من سائر العلوم ليست ملكات نفسانية سواء بمعناها المصدري أو اسم المصدري ، لأنّ الملكة قوّة نفسانية ينشأ منها ويتولّد منها الاجتهاد ، وهكذا فعل الطبابة والنجارة ، نعم قد يطلق عنوان المجتهد ( لا الاجتهاد ) في الإصطلاح على من له ملكة الاجتهاد والاستنباط ولو لم يكن متلبّساً بالفعل الخارجي حين ذلك الاطلاق ، فعلى هذا فرق بين المعنى الوصفي والمصدري أو اسم المصدر.

ثانياً : ينبغي تبديل التعبير بـ « الأصل » بقوله « من أدلّته التفصيليّة » حتّى يعم جميع الأمارات والاصول ، ولا يكون فيه إجمال وإبهام.

ثالثاً : كثيراً مّا لا يكون مستنبط الفقيه حكماً من الأحكام ، بل يكون من قبيل تحصيل الحجّة على البراءة أو الاشتغال ، كما مرّ بالنسبة إلى التعريف الأوّل والثاني.

٤ ـ ما جاء في التنقيح من « أنّ الاجتهاد هو تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي » (١).

وهو وإن كان أحسن من غيره من بعض الجهات ، لكن يرد عليه أيضاً بعض الإشكالات لشموله عمل المقلّد أيضاً ، فإنّه أيضاً يحصّل الحجّة على الحكم الشرعي ، غاية الأمر من طريق دليل إجمالي وهو « إنّ كلّ ما حكم به المجتهد فهو الحجّة على المقلّد ».

هذا ـ مضافاً إلى شموله للمسائل الاصوليّة لخلوّه عن قيد « الفرعيّة » ، ومضافاً إلى ما أورد على التعاريف السابقة بالإضافة إلى التعبير بالحكم من أنّه ليس جامعاً لجميع المصاديق.

فالأولى في تعريف الاجتهاد أن يقال : الاجتهاد هو استخراج الحكم الشرعي الفرعي أو الحجّة عليه من أدلّتها التفصيليّة.

بقي هنا شيء :

وهو ما ذهب إليه بعض الأعلام في تنقيحه من أنّ ملكة الاجتهاد تحصل للإنسان وإن لم

__________________

(١) التنقيح في شرح العروة الوثقى : ج ١ ، ص ٢٢ ، طبعة مؤسسة آل البيت.

٥٣٤

يتصدّ الاستنباط ولو في حكم واحد ، وقال في توضيحه : « أنّ ملكة الاجتهاد غير ملكة السخاوة والشجاعة ونحوهما من الملكات ، إذ الملكة في مثلهما إنّما يتحقّق بالعمل والمزاولة كدخول المخاوف والتصدّي للمهالك ، فإنّ بذلك يضعف الخوف متدرّجاً ويزول شيئاً فشيئاً حتّى لا يخاف صاحبه من الحروب العظيمة وغيرها من الامور المهام ، فترى أنّه يدخل الأمر الخطير كما يدخل داره ، وكذلك الحال في ملكة السخاوة فإنّ بالإعطاء متدرّجاً قد يصل الإنسان مرتبة يقدّم غيره على نفسه فيبقى جائعاً ويطعم ما بيده لغيره ، والمتحصّل أنّ العمل في أمثال تلك الملكات متقدّم على الملكة ، وهذا بخلاف ملكة الاجتهاد لأنّها إنّما يتوقّف على جملة من المبادىء والعلوم كالنحو والصرف وغيرهما ، والعمدة علم الاصول فبعد ما تعلّمها الإنسان تحصل له ملكة الاستنباط وإن لم يتصدّ للاستنباط ولو في حكم واحد » (١).

لكن الإنصاف أنّ هذا مجرّد فرض ، فإنّ من المحالات جدّاً أن تحصل للإنسان ملكة الاستنباط بمجرّد تحصيل المبادىء ولو لم يتصدّ للاستنباط في حكم واحد ، بلا فرق بينها وبين سائر الملكات ، وإن شئت فاختبر نفسك من لدن الشروع في تحصيل علم الفقه ومبانيها فإنّك ترى لزوم الممارسة في تطبيق القواعد الاصوليّة على مصاديقها وممارسة ردّ الفروع إلى الاصول في كثير من الكتب التي تدرس في الحوزات العلمية ككتاب مكاسب الشيخ وغيرها فإنّ طلاّب الفقه لا يقدرون على الاجتهاد حتّى في حدّ التجزّي بدون هذه الممارسات.

والحاصل أنّه لا فرق بين علم الطبّ وعلم الفقه وغيرهما من العلوم في لزوم الممارسة مدّة طويلة في تطبيق القواعد على مصاديقه وردّ الفروع إلى اصولها في العمل حتّى تتمّ ملكة الاجتهاد فيها ، بل من المحال عادةً حصول شيء منها بغير الممارسة العمليّة ، فالعالم بقواعد العلوم إذا لم يكن ممارساً لها عملاً لا يقدر على الاجتهاد فيها قطعاً ، ولو فرض قدرته عليه في بعض المسائل الساذجة فلا شكّ في عدم قدرته على الاجتهاد في المسائل الخطيرة المشكلة.

__________________

(١) التنقيح في شرح العروة الوثقى : ج ١ ، ص ٢١ ، طبعة مؤسسة آل البيت.

٥٣٥

الأمر الثاني : الاجتهاد بالمعني العام والاجتهاد بالمعنى الخاصّ

الاجتهاد بالمعنى العام ، والاجتهاد بالمعنى الخاصّ ( وقد مرّ البحث عنهما في مواضع مختلفة من الاصول ، وهيهنا هو المحلّ الأصلي للكلام عنه فلا بأس بإعادته مع بسط وتوضيح ).

أمّا الاجتهاد بالمعنى العام فهو ما مرّ تعريفه في الأمر الأوّل ويكون مقبولاً عند الشيعة والسنّة ، وسيأتي أنّ الأخباري أيضاً يقبله في مقام العمل وإن كان ينكره باللسان.

وأمّا الاجتهاد بالمعنى الخاصّ فهو مختصّ بأهل السنّة ، والمراد منه نوع تشريع وجعل قانون من ناحية الفقيه فيما لا نصّ فيه على أساس القياس بالأحكام المنصوصة أو الاستحسان أو الاستصلاح ( المصالح المرسلة ) أو غير ذلك من مبانيهم (١).

__________________

(١) ولا بأس بالإشارة إلى بعض ما ذكروه في تعريف هذه المباني وتوضيحها :

أمّا القياس فقال بعضهم : « القياس هو إلحاق أمر بآخر في الحكم الشرعي لاتّحاد بينهما في العلّة .. وكلّ مجتهد يقيس بنظره الخاصّ في كلّ حادثة لا نصّ عليها في الكتاب أو السنّة ولا إجماع عليها » ( المدخل الفقهي العام : لمصطفى أحمد الزرقاء ، ج ١ ص ٧٣ ).

وقال في موضع آخر : « ولا يخفى أنّ نصوص الكتاب والسنّة محدودة متناهيّة ، والحوادث الواقعة والمتوقّعة غير متناهيّة فلا سبيل إلى إعطاء الحوادث والمعاملات الجديدة منازلها وأحكامها في الشريعة إلاّطريق الاجتهاد بالرأي الذي رأسه القياس » ( ج ١ ، ص ٧٤ ).

وقال في موضع أخر ( بعد نقل دليل عن الشهرستاني يقرب ممّا ذكره في وجوب الاجتهاد والقياس ) :

« وليس مراده قياس الأولويّة القطعيّة بل الظنّية ، ولذا ذكر في أمثلتها قياس الفقهاء قياس حال المتولّي للوقف على ولي اليتيم وأخذ أحكام الوقف من الوصية ، وقياس أحكام الإجارة بالبيع وقياس تغييره صورة العين المغصوبة ، مثل ما لو جعل الحنطة دقيقاً على التلف ، فقالوا بضمان المثل أو القيمة » ( ج ١ ، ص ٧٩ ).

ثمّ قال : إنّ هناك جماعة من فقهاء بعض المذاهب لم يقبلوا طريقة القياس ، فسمّوا الظاهريّة ، ولم يكن لمذهبهم هذا حياة ووزن لمخالفته ضرورات الحياة التشريعية ، بل القياس هو سرّ سعة الفقه الإسلامي الشاملة لما كان وما يكون من الحوادث » ( ج ١ ، ص ٨١ ) ( أقول : وسيأتي في محلّه إن شاء الله نقل هذا الكلام وبيان ضعفه من شتّى الجهات ).

وأمّا الاستحسان فقد ذكر في تعريفه أنّه « العدول بالمسألة عن حكم نظائرها إلى حكم آخر بوجه أقوى يقتضي هذا العدول » ولعلّ أحسن التعاريف المأثور للاستحسان وأشمله لأنواعه ما حكاه في الكتاب المزبور عن أبي الحسن الكوفي من أئمّة مذهب الحنفي ، وتلخّصه : « أنّ الاستحسان هو قطع المسألة عن نظائرها ، فهو عكس

٥٣٦

ولتوضيح ذلك لابدّ من نقل بعض كلماتهم في هذا المجال :

ففي مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نصّ فيه ( لمؤلّفه عبدالوهّاب الخلاّف ) : « الاجتهاد بذل الجهد للتوسّل إلى الحكم في واقعة لا نصّ فيها بالتفكّر واستخدام الوسائل التي هدى الشارع إليها ( كالقياس والاستحسان ) للاستنباط فيما لا نصّ فيه » (١).

وحكى عن مالك وأحمد : « إنّ الاستصلاح طريق شرعي لاستنباط الحكم فيما لا نصّ فيه ولا إجماع ، وأنّ المصلحة التي لا يوجد من الشرع ما لا يدلّ على اعتبارها ولا على إلغائها

__________________

القياس الذي هو إلحاق المسألة بنظائرها في الحكم ( ومثّل له بعدم ضمان الأمين في الوديعة الذي يقاس عليه كلّ أمانة كمال الشركة والإجارة ) ولكنّهم فرّقوا في الاستحسان بين الأجير الخاصّ كالخادم والأجير العام كالصيّاغ ونحوه فقالوا أنّه ضامن كي لا يتقبّل من أعمال الناس أكثر من طاقته طمعاً في زيادة الربح » ( ج ١ ، ص ٨٣ ـ ٨٩ ).

هذا ـ ولكن الشافعي في كتاب الامّ عقد بحثاً سمّاه بكتاب إبطال الاستحسان ، ويقول فيما يؤثر عنه : ليس للمجتهد أن يشرع ، ومن استحسن فقد شرع ( ج ١ ص ١٢٥ ).

وأمّا المصالح المرسلة فقال في نفس الكتاب أيضاً : والمصالح المرسلة هى كلّ مصلحة لم يرد في الشرع نصّ على اعتبارها بعينها أو بنوعها ... فإذا كانت المصلحة قد جاء بها نصّ خاصّ بعينها ككتابة القرآن صيانة له من الضياع وكتعليم القراءة والكتابة ، أو كانت ممّا جاء نصّ عامّ في نوعها يشهد له الاعتبار كوجوب تعليم العلم ونشره ... فعندئذ تكون من الصالح المنصوص عليها عيناً أو نوعاً لا من المصالح المرسلة ، ويعتبر حكمها ثابتاً بذلك النصّ لا بقاعدة الاستصلاح ( فالمصالح المرسلة تكون مقابلة للمنصوصة ) ( ج ١ ، ص ٩٨ ).

وأمّا سدّ الذرائع فقال : « أنّه من فروع الاستصلاح يمنع شرعاً كلّ طريق أو وسيلة قد تؤدّي عن قصد أو غير قصد إلى المحاذير الشرعيّة ، ويسمّى هذا الأصل في اصطلاح الفقهاء والاصوليين مبدأ سدّ الذرائع » ( ج ١ ، ص ١٠٧ ) وقال في موضع آخر ما حاصله : أنّه عبارة عن منع كلّ ما يمكن أن يكون حيلة لإبطال حكم الشرع ويتسبّب إليه ، ثمّ مثّل له من الشرع بأمثلة كثيرة مثل منع بناء المساجد على القبور والنهي عن الخلوة بالأجنبية ، ثمّ ذكر أحكاماً اجتهادية على هذا المبنى مثل أن يكون من حقّ الزوجة المطلّقة طلاق الفرار من الإرث ، وذكر من مصاديق هذا النوع من الاستصلاح مسألة تغيير الأحكام بتغيّر الزمان وحكى له أمثلة كثيرة : منها أنّ الفقهاء المتقدّمين كانوا يجيزون إيجاد عقارات الواقف مهما كانت مدّة الإيجار طويلة أو قصيرة ، ولكن المتأخّرين لمّا رأوا كثرة غصب المتنفّذين لأملاك الأوقاف وتواطؤ بعض المسؤولين على الأوقاف معهم أفتوا بمنع إيجار عقار الوقف أكثر من سنة واحدة في الدور والحوانيت المبنية ، وثلاث سنين في الأراضي الزراعية خشية أن يدّعي المستأجر في النهاية ملكية العقار ( ج ١ ، ص ١١٠ ).

(١) مصار التشريع الإسلامي : ص ٧ ، حكيناه من الاصول العامّة : ص ٥٦٤.

٥٣٧

مصلحة صالحة لأن يبنى عليها الاستنباط » (١).

بل قد يرى من بعضهم التعدّي عنه والقول به حتّى في مقابل النصّ ، ولعلّ أوّل من أسّسه إنّما هو الخليفة الثاني في قصّة المتعتين المعروفة ، ثمّ إنحصر عند متأخّريهم في خصوص السياسيات والمعاملات ، فذهب جماعة منهم إلى جواز الاجتهاد فيهما حتّى فيما فيه نصّ.

فذهب الطوفي من علماء الحنابلة إلى أنّ المصالح تتقدّم في السياسيات الدنيوية والمعاملات على ما يعارضها من النصوص عند تعذّر الجمع بينهما (٢) ، ( ولكن لم يوافقه على هذا المعنى كثير منهم ).

نعم خالفهم في هذا النوع من الاجتهاد الشافعي بالنسبة إلى الاستصلاح والاستحسان وقال : « إنّه لا استنباط بالاستصلاح ، ومن استصلح فقد شرّع كمن إستحسن ، والاستصلاح كالاستحسان متابعة للهوى » (٣).

وبعضهم كالظاهريين خالفهم في القياس أيضاً وقالوا بأنّه بدعة » (٤).

وقد مرّ أنّ هذا هو منشأ التصويب عند الإمامية لأنّ عليه يكون كل فقيه قد أعطى حقّ التشريع والتقنين بحيث يكون حكم كلّ واحد منهم حكم الله الواقعي ، ولا يخفى أنّه أشدّ قبحاً وأكثر فساداً من المجالس التقنينيّة في يومنا هذا ، حيث إنّ أمر التشريع فيها إنّما هو بيد جماعة تسمّى بشورى التقنين الذين يمثّلون بلداً واحداً وقطراً عظيماً ، لا كل فرد من علمائهم ومتخصّصيهم.

هذا مضافاً إلى ما يترتّب عليه من التوالي الفاسدة في مختلف أجواء العالم الإسلامي.

ولبعض المعاصرين رحمه‌الله كلام في هذا المقام نحبّ إيراده مع تلخيص منّا ، وهو أنّ لهذا المذهب آثار سوء في مختلف مجالات الفكر يمكن أن تلخيصها في ثلاث مجالات :

الأوّل : في المجال الفقهي حيث صار منشأ لظهور المذهب الظاهري على يد داود بن علي بن خلف الإصبهاني في أواسط القرن الثالث ، إذ كان يدعو إلى العمل بظاهر الكتاب والسنّة

__________________

(١) الاصول العامّة : ص ٣٨٤.

(٢) المصدر السابق : ص ٣٨٤ ـ ٣٨٥.

(٣) الاصول العامّة : ص ٣٨٥.

(٤) المصدر السابق : ص ٣٢١.

٥٣٨

والاقتصار على البيان الشرعي ، ويشجب الرجوع إلى العقل.

الثاني : في المجال العقائدي والكلامي فصار سبباً لظهور الأشعري الذي عطّل العقل وزعم أنّه ساقط بالمرّة عن إصدار الحكم حتّى في المجال العقائدي. فبينما كان المقرّر عادةً بين العلماء : أنّ وجوب المعرفة بالله والشريعة ليس حكماً شرعياً وإنّما هو حكم عقلي ، لأنّ الحكم الشرعي ليس له قوّة دفع وتأثير في حياة الإنسان إلاّبعد أن يعرف الإنسان ربّه وشريعته ، فيجب أن تكون القوّة الدافعة إلى معرفة ذلك من نوع آخر غير نوع الحكم الشرعي ( أي من نوع الحكم العقلي ) ـ بينما كان هذا هو المقرّر عادةً بين المتكلّمين ـ خالف في ذلك الأشعري ، إذ عزل العقل عن صلاحية إصدار أي حكم وأكّد أنّ وجوب المعرفة بالله حكم شرعي كوجوب الصوم والصّلاة.

الثالث : في علم الأخلاق ( وكان وقتئذٍ يعيش في كنف علم الكلام ) فأنكر الأشاعرة قدرة العقل على تمييز الحسن من الأفعال عن قبيحها حتّى في أوضح الأفعال حسناً أو قبحاً ، فالظلم والعدل لا يمكن للعقل أن يميّز بينهما ، إنّما صار الأوّل قبيحاً والثاني حسناً بالبيان الشرعي ولو جاء البيان الشرعي يستحسن الظلم ويستقبح العدل لم يكن للعقل أي حقّ للإعتراض على ذلك.

ولا إشكال في أنّ هذه النتائج الفاسدة الشنيعة مشتملة على خطر كبير والرجوع عن الإسلام إلى الجاهلية الذي قد لا يقلّ عن الخطر الذي كان يستبطنه مصدر تلك النتائج أي مذهب الرأي والاجتهاد لأنّها حاولت القضاء على العقل بشكل مطلق وتجريده عن كثير من صلاحياته وايقاف النحو العقلي في الذهنيّة الإسلاميّة بحجّة التعبّد بنصوص الشارع والحرص على الكتاب والسنّة ، ولهذا كانت تختلف اختلافاً جوهرياً عن موقف مدرسة أهل البيت التي كانت تحارب مذهب القياس والاستحسان وتؤكّد في نفس الوقت أهميّة العقل وضرورة الإعتماد عليه في الحدود المشروعة واعتباره ضمن تلك الحدود بعنوان أداة رئيسية أصلية لإثبات الأحكام الشرعيّة حتّى جاء في نصوص أهل البيت عليهم‌السلام : « إنّ لله على الناس حجّتين حجّة ظاهرة وحجّة باطنة فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة ، وأمّا الباطنة

٥٣٩

فالعقول » (١) ، وهكذا جمعت مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام بين حماية الشريعة من فكرة النقص وحماية العقل من مصادرة الجامدين ( انتهى ) (٢).

ومن هنا يتّضح أنّهم لماذا سدّوا باب الاجتهاد في النهاية فإنّ هذا التفريط من نتائج ذلك الإفراط ولوازمه القهرية كما لا يخفى.

وكيف كان ، لابدّ من تحديد نظر علماء الإماميّة في هذا المجال وأنّهم لماذا ردّوا هذا النوع من الاجتهاد بل حملوا عليه حملة شديدة فنقول : إنّه يمكن الاستناد في بطلانه إلى وجوه شتّى :

الأوّل : ما يدلّ من آيات الكتاب العزيز على أنّه لا واقعة إلاّولها حكم وبيان في القرآن الكريم نظير قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) (٣) وقوله تعالى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) (٤) ( والمراد من « كلّ شيء » كلّ ما له دخل في هداية نفوس الإنسان وتربيتها ).

الثاني : الأخذ بحديث الثقلين فإنّ أحدهما هو عترة الرسول عليهم‌السلام ، ومع وجودهم لا يحسّ فقدان نصّ ، لأنّ ما كان يصدر منهم كان من جانب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لا من عند أنفسهم فكان البيان الشرعي لا يزال مستمرّاً باستمرار الأئمّة ، وفقهاء العامّة حيث إنّهم كانوا يعتقدون بأنّ البيان الشرعي متمثّل في الكتاب والسنّة النبويّة المأثورة عن الرسول فقط ، وهما لا يفيان إلاّ بشيء قليل من حاجات الإستنباط ـ بل حكي عن أبي حنيفة ( الذي كان على رأس مذهب الاجتهاد بالمعنى الخاصّ أو من روّاده الأوّلين ) أنّه لم يكن عنده من الأخبار الصحيحة المنقولة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّخمسة وعشرون حديثاً ـ التجأوا لرفع هذه الحاجات إلى هذا النوع من الاجتهاد لإحساسهم خلأً قانونياً في الشريعة ونقصاناً في الأحكام الفرعية لابدّ في رفعه إلى التمسّك بذيل القياس ونحوه.

الثالث : روايات متواترة تدلّ على أنّه ما من شيء تحتاج إليه الامّة إلى يوم القيامة إلّإ

__________________

(١) اصول الكافي : ج ١ ، ص ١٣ ح ١٢.

(٢) المعالم الجديدة للمحقّق الشهيد محمّد باقر الصدر قدّس الله نفسه الزكية وشكر الله مساعيه الجميلة : ص ٤١.

(٣) سورة المائدة : الآية ٣.

(٤) سورة النحل : الآية ٨٩.

٥٤٠