أنوار الأصول - ج ٣

أنوار الأصول - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-15-6
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٢٤

والظهور للخبر المخالف للكتاب والسنّة ) فإنّه إذا كان المراد من المخالفة هو المخالفة لظاهر الكتاب فالصدور أو الظهور في الخبر المخالف ممّا لا وجه له ( لوهنه بعد القطع بصدور أخبار كثيرة مخالفة لظاهر الكتاب تخصيصاً كما مرّ بيانه ).

هذا كلّه بالنسبة إلى الأخبار المشتملة على الترجيح بموافقة الكتاب.

وأمّا المشتملة على الترجيح بمخالفة العامّة ( وإليه يرجع الترجيح بمخالفة ميل الحكّام كما مرّ ) فكذلك ليست من قبيل تمييز الحجّة عن اللاّحجّة لأنّه لا ريب في أنّ المراد من الموافقة للعامّة أو المخالفة لهم إنّما هى موافقة بعضهم ، أو مخالفة بعضهم لما ورد في ذيلها من فرض موافقة كلا الخبرين لهم ، حيث لا معنى لأن يكون كلّ من الخبرين المتضادّين موافقاً لجميع العامّة ، ولا إشكال في أنّ الخبر الذي يوافق بعضهم لا يحمل على التقيّة حتّى يكون من قبيل اللاّحجّة.

هذا مضافاً إلى أنّ عدم حجّيته لا يلائم الترتيب الواقع في المقبولة أيضاً.

٧ ـ ما يرجع من جهة إلى التأييد للوجه السابق ، وهو أنّ ما ذكرنا ( من كون أخبار الترجيح في مقام تمييز الحجّة عن اللاّحجّة لا في مقام ترجيح الحجّة عى الحجّة ) ممّا يقتضيه التوفيق بين أخبار الترجيح وبين إطلاقات التخيير ، فإنّ مقتضى الجمع بينهما إمّا حمل أخبار الترجيح على ما ذكرنا أو حملهما على الاستحباب ، لأنّه لو لم نوفّق بينهما هكذا بل وفّقنا بينهما بتقييد إطلاقات التخيير بأخبار الترجيح ( كما فعله المشهور ) لزم التقييد في نفس أخبار الترجيح أيضاً ( لما مرّ من اختلافها على طوائف ) مع أنّها آبية عنه جدّاً ، وكيف يمكن تقييد مثل « ما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله » أو « زخرف » أو « باطل » بما إذا لم يكن أحدهما أشهر روايةً بحيث لو كان أحدهما أشهر أخذنا به ولو خالف الكتاب.

وقد ظهر ممّا ذكرنا في الجواب عن الوجه السابق الجواب عن هذا الوجه أيضاً ، فإنّ هذه التعبيرات ( من الزخرف والباطل ولم أقله ) ليس منها في أخبار الترجيح عين ولا أثر ، وإنّما هى في الأخبار الناهيّة عن الخبر المخالف للكتاب والسنّة ولو لم يكن له معارض ، وأمّا رواية الحسن بن الجهم (١) المشتملة على بعض هذه التعبيرات فهى ضعيفة بالارسال.

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٩ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٤٨.

٥٠١

إلى هنا تمّ الكلام عن الدليل الأوّل على مقالة المشهور ( وجوب اعمال المرجّحات ) وهو في الواقع يرجع إلى ظهور الأمر بالترجيح الوارد في أخبار الترجيح في الوجوب.

الثاني : دعوى الإجماع على لزوم الأخذ بالخبر الراجح

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه‌الله بأنّ « دعوى الإجماع مع مصير مثل الكليني رحمه‌الله إلى التخيير وهو في عهد الغيبة الصغرى ويخالط النوّاب والسفراء ـ قال في ديباجة الكافي ولا نجد شيئاً أوسع ولا أحوط من التخيير ـ مجازفة ».

ولكن الإنصاف أنّ كلام الكليني رحمه‌الله في الديباجة يوافق الإجماع فإنّه قال فيها ما لفظه ( على حكاية صاحب الوسائل ) : اعلم يا أخي أنّه لا يسع أحد تمييز شيء ممّا اختلفت الرواية فيه عن العلماء برأيه إلاّما أطلقه العالم عليه‌السلام بقوله : « اعرضوهما على كتاب الله عزّوجلّ فما وافق كتاب الله عزّوجلّ فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردّوه » وقوله عليه‌السلام : « دعوا ما وافق القوم فإنّ الرشد في خلافهم » وقوله عليه‌السلام : « خذوا بالمجمع عليه فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » ونحن لا نعرف من ذلك إلاّ أقلّه ، ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه‌السلام وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله عليه‌السلام : بأيّهما أخذتم من باب التسليم وسعكم » (١).

ومن المعلوم أنّه ليس مراده من قوله « ونحن لا نعرف من ذلك إلاّ أقلّه » عدم وجوب العمل بما ذكر من أخبار الترجيح ولزوم ردّها إلى أهلها حتّى في تلك الموارد القليلة على نحو السالبة الكلّية ، بل الظاهر أنّ مراده عدم معرفة مصاديق هذه المرجّحات لا عدم وجوب العمل بها عند معرفة مصاديقها ، هذا أوّلاً.

وثانياً : أنّ كلام الكليني هذا صدر منه في الواقع لشبهة حصلت له فإنّا لا نقبل قلّة موارد الترجيح بالمرجّحين المذكورين في كلامه.

فالصحيح في المناقشة أنّ مثل هذا الإجماع مدركيّ لا اعتبار به.

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٩ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ١٩.

٥٠٢

الثالث : حكم العقل بوجوب ترجيح ذي المزيّة

وذلك بدعوى أنّه لو لم يجب ترجيح ذي المزيّة لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح عقلاً بل ممتنع قطعاً.

واجيب عنه أو يمكن أن يجاب عنه أوّلاً : بإشكال صغروي ، وهو إنّا نقبل وجوب ترجيح ذي المزية كبرويّاً ولكن فيما إذا كانت المزية موجبة لتأكّد ملاك الحجّية بنظر الشارع لا مطلقاً ، إذ من الممكن أن تكون المزية بالنسبة إلى ملاك الحجّية هى كالحجر في جنب الإنسان ، ومعه لا يكاد يجب الترجيح ، بل الترجيح بها ترجيح بلا مرجّح ، وهو قبيح عقلاً كترجيح المرجوح على الراجح عيناً.

وثانياً : سلّمنا إيجاب المزيّة تأكّداً في ملاك الحجّية ، ولكنّه فيما إذا أُوجبت التأكّد على حدّ الإلزام لا على حدّ الاستحباب ، وبعبارة اخرى : إنّا لا نقبل قبح ترجيح المرجوح على الراجح مطلقاً ، ولا يخفى أنّ هذا إشكال في كلّية الكبرى.

وثالثاً : بما أورده المحقّق الخراساني رحمه‌الله على إضراب المستدلّ من الحكم بالقبح إلى الامتناع ، وحاصله : أنّ ترجيح المرجوح على الراجح في الأفعال الاختياريّة كاختيار أحد الكأسين لشرب الماء مثلاً مع كونه دون صاحبه في المزايا والجهات المحسنة بلا داع عقلائي هو أمر قبيح عقلاً وليس بممتنع أبداً ، وذلك لجواز وقوعه من غير الحكيم خارجاً بلا إستحالة له أصلاً ، فإنّ الممتنع هو تحقّق الشيء بلا علّة وسبب ، وليس ترجيح المرجوح كذلك ، إذ يكفي إرادة الفاعل المختار علّة له وسبباً ، نعم يستحيل وقوع ذلك من الحكيم تعالى بالعرض بعد فرض كونه حكيماً لا يرتكب القبيح أبداً.

أقول : إنّ كلامه رحمه‌الله هنا أقوى شاهد على بطلان ما ينسب إليه في مبحث الطلب والإرادة ومبحث التجرّي من الميل إلى إعتقاد الجبر ، فتدبّر.

بقي هنا امور :

الأمر الأوّل : الاقتصار على المرجحات المنصوصة وعدمه

( وهى الشهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامّة كما مرّ ) أو يتعدّى منها إلى غيرها

٥٠٣

( كموافقة الأصل أو موافقة الإجماع المنقول )؟ فيه قولان :

١ ـ جواز التعدّي وهو ما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمه‌الله ومن تبعه ، بل إنّه قال : ادّعى بعضهم ظهور الإجماع وعدم ظهور الخلاف فيه بعد أن حكى الإجماع عليه عن جماعة.

٢ ـ عدم جواز التعدّي وهو ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية ، وتبعه المحقّق النائيني وبعض الأعاظم في رسائله.

واستدلّ القائلون بالتعدّي بوجوه أربعة :

الوجه الأوّل : التعليل الوارد في ذيل المقبولة في مقام الترجيح بالشهرة بالأخذ بالمشهور وترك الشاذّ النادر بقوله عليه‌السلام « فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ».

بأن يقال : إنّ تعليله بعدم الريب في المشهور يدلّ على مرجّحية كلّ شيء يكون موجباً لأقلّية الريب فيما له المزية بالنسبة إلى مقابله سواء كان من المرجّحات المنصوصة أو لم يكن ، وذلك من جهة أنّه لا يمكن أن يكون المراد نفي الريب بقول مطلق حتّى يكون مساوقاً للعلم بالصدور ، فيكون خارجاً عن محلّ البحث وداخلاً في تمييز الحجّة عن اللاّحجّة ، بل يكون خلاف مفروض السائل في ذيل الرواية من كون كليهما مشهورين ، لأنّه لا معنى لأن يكون كلّ من الخبرين المتعارضين ممّا لا ريب فيه بقول مطلق أي قطعي الصدور ، فالمراد بنفي الريب نفيه بالنسبة إلى الآخر بواسطة شهرته بين المحدّثين والأصحاب ولا إشكال في أنّ هذا المعنى إذا كان هو التعليل للترجيح يمكن أن يوجد مثله في المزايا والمرجّحات غير المنصوصة فيجب التعدّي إليه.

واجيب عنه : بأنّ الظاهر من هذه الكلمة ( بمقتضى ظهور لا النافية للجنس في نفي الجنس والطبيعة ) هو نفي الريب بقول مطلق ، أي الريب مطلقاً وبجميع مراتبه منفي ، فإنّ الخبر إذا كان مشهوراً بين الرواة في الصدر الأوّل وكان مجمعاً عليه عندهم فهو ممّا يطمئن بصدوره على نحو صحّ أن يقال عرفاً أنّه ممّا لا ريب فيه ، ولا بأس بالتعدّي عن مثل هذه المزيّة إلى كلّ مزيّة توجب ذلك عيناً ولا نأبى عن ذلك.

إن قلت : إنّ هذا موجب للخروج عن محلّ الكلام ومخالف لفرضهما مشهورين.

قلنا : غاية ما يستفاد من الشهرة هنا نفي الريب في صدور الرواية ، ولا مانع من تعارضهما بعد كون الدلالة أو جهة الصدور فيهما ظنّياً ، فمثل هاتين الروايتين غير خارجتين عن محلّ الكلام.

٥٠٤

الوجه الثاني : الترجيح بالأصدقية في المقبولة والأوثقية في المرفوعة فإنّ اعتبار هاتين الصفتين ليس إلاّلترجيح الأقرب إلى مطابقة الواقع ، أي مناط الترجيح بهما هو الأقربيّة إلى الصدور ، ففي كلّ مورد تحقّق هذا المناط يكون موجباً للترجيح سواء كان من المرجّحات المنصوصة أو لم يكن.

واجيب عنه أوّلاً ، بأنّ هذا ليس إلاّ الظنّ بأنّ المناط هى الأقربيّة إلى الصدور ( وتنقيح المناط ما لم يكن قطعيّاً لا اعتبار به ) لأنّه من الممكن أن يكون الترجيح بهما لخصوصية فيهما لا لصرف كونهما أقرب إلى الصدور ، وبعبارة اخرى : أنّ مجرّد جعل شيء ( فيه جهة الإراءة والكشف ) حجّة كخبر الصادق أو الثقة أو جعله مرجّحاً كالأصدقيّة والأوثقيّة ، لا دلالة فيه على أنّ الملاك فيه بتمامه جهة إراءته على نحو نقطع بذلك ونتيقّن به حتّى يكون من باب تنقيح المناط القطعي ويجوز التعدّي عن مورد النصّ ، وذلك لاحتمال دخل خصوصيّة ذلك الشيء في حجّيته أو مرجّحيته لا جهة إراأته فقط.

وثانياً : بأنّه سلّمنا إحراز أنّ المناط هو الأقربيّة إلى الصدور ، ولكنّه لا ريب في أنّ للأقربيّة مراتب مختلفة ، ولعلّ جعل الأصدقيّة والأوثقيّة مرجّحاً للخبر كان لأجل أنّ لهما درجة خاصّة من الأقربيّة التي لا يمكن إحرازها في غيرهما.

وثالثاً : أنّ الترجيح بهاتين الصفتين لا يوجد إلاّفي المقبولة والمرفوعة ، وقد مرّ أنّ المرفوعة لا سند لها ، وأمّا المقبولة فهذا المرجّح فيها ناظر إلى حال القضات لا الرواة لأنّها تقول : « الحكم ما حكم به ... » وهذا مختصّ بباب الحكومة والقضاء ، ولا ربط له بباب تعارض الخبرين.

الوجه الثالث : التعليل الوارد في الأخذ بما يخالف العامّة بأنّ « الرشد في خلافهم » حيث إنّه يدلّ على وجوب ترجيح كلّ ما كان معه أمارة الحقّ والرشد ، وترك ما فيه مظنّة خلاف الحقّ والصواب.

ويمكن أن يجاب عنه : بأنّه لم ترد هذه الفقرة بصورة التعليل في روايات الباب ، فإنّ الوارد في المقبولة هو قوله « ما خالف العامّة ففيه الرشاد » ومن الواضح أنّ هذا ليس من قبيل

٥٠٥

منصوص العلّة ، نعم وروده بصورة التعليل إنّما هو في مرسلة الكليني (١) في ديباجة الكافي ، والاعتماد عليها مشكل ، لا سيّما بعد احتمال كونها مأخوذة عن المقبولة مع النقل بالمعنى.

هذا مضافاً إلى أنّ المراد من كون الرشد في خلافهم هو الاحتمال الغالب في الخبر الموافق من حيث التقيّة ، ولكن حيث لا يعلم مقدار الغلبة هنا لا يمكن التعدّي إلى غيره ممّا لم يحرز فيه المقدار المذكور.

وذكر المحقّق الخراساني رحمه‌الله احتمالاً آخر في معنى هذا التعليل لا يمكن المساعدة عليه ، وهو أن يكون الرشد في نفس المخالفة لهم لحسنها ورجحانها موضوعياً.

ووجه عدم المساعدة أنّ هذا الاحتمال بعيد عن ظاهر الحديث غاية البعد ، فإنّ معناه أن يكون لمجرّد المخالفة معهم موضوعيّة مع أنّ الرشد في اللغة ما يقابل الغيّ كما في الصحاح ، فهو بمعنى الوصول إلى المقصد والإهتداء في الطريق كما يشهد عليه قولهم للمسافر « راشداً مهدياً » بل قوله تعالى : ( وَهَيِءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً ) (٢) في قصّة أصحاب الكهف.

وأجاب المحقّق النائيني رحمه‌الله عن الاستدلال بهذا الحديث لجواز التعدّي بأنّ « التعليل لا ينطبق على ضابط منصوص العلّة » ولا يصلح أن يكون كبرى كلّية ، لأنّ ضابط منصوص العلّة هو أن تكون العلّة على وجه يصحّ ورودها والقائها إلى المكلّفين إبتداءً بلا ضمّ المورد إليها كما في قوله : « الخمر حرام لأنّه مسكر » فإنّه يصحّ أن يقال « كلّ مسكر حرام » بلا ذكر الخمر ، وهذا بخلاف قوله عليه‌السلام « فإنّ الرشد في خلافهم » فإنّه لا يصحّ أن يقال : « خذ بكلّ ما خالف العامّة » لأنّ كثيراً من الأحكام الحقّة توافق قول العامّة » (٣).

ولكن يرد عليه أيضاً أنّ الكبرى الكلّية المأخوذة من هذا الحديث ليس « خذ بكلّ ما خالف العامّة » حتّى يناقش فيه بما ذكر ، بل المستفاد منه : « كلّ خبرين أحدهما موافق للعامّة والآخر مخالف لهم فخذ بالخبر المخالف » وهذه كبرى كلّية يمكن الالتزام بها بلا ريب.

وأجاب المحقّق الحائري رحمه‌الله عن الاستدلال بهذا الدليل بما حاصله : أنّ هذا التعليل لا يدلّ إلاّعلى أنّ الخبر الذي يكون معه هذا المرجّح يؤخذ به لكونه معه أقرب إلى الواقع في نظر

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٩ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ١٩.

(٢) سورة الكهف : الآية ١٠.

(٣) فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٧٧٧ ، طبعة جماعة المدرّسين.

٥٠٦

الشارع لا في نظر الناظر ، ومن المعلوم أنّه لا يصحّ لنا التعدّي إلى كلّ خبر يكون معه شيء يرجّح في نظرنا مطابقته للواقع (١).

ويمكن الجواب عنه أيضاً بأنّ المدّعى جواز التعدّي إلى كلّ مزية توجب لنا العلم بكون ذيّها أقرب إلى الواقع وهو علم طريقي لا يمكن للشارع مخالفته.

فالصحيح في المناقشة في الحديث ما ذكرنا من الإشكال السندي والدلالي.

الوجه الرابع : ما ذكره الشيخ الأعظم رحمه‌الله في رسائله ولم يأت به المحقّق الخراساني في الكفاية لضعفه عنده ، وهو النبوي المعروف « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » ببيان أنّ من المعلوم كون المراد من عدم الريب هو عدم الريب بالإضافة إلى الآخر لا عدم الريب مطلقاً وإلاّ كان مقابله ممّا لا ريب في بطلانه.

والجواب عنه : أنّ الظاهر من هذا الحديث أيضاً عدم الريب مطلقاً ، وحينئذٍ يخرج عمّا نحن فيه ويدخل في الشبهة البدوية التحريميّة ، ولذلك استدلّ به الأخباريون على وجوب الاحتياط في الشبهات التحريميّة ، ويشهد على هذا المعنى ما ورد في ذيل الحديث على نقل الكراجكي في كنز العمّال ( على ما حكي عنه ) وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فإنّك لن تجد فقد شيء تركته لله عزّوجلّ » حيث إنّ المناسب لهذا التعليل أن يكون المراد من ما يريبك هو الشبهات البدوية ، ومن ما لا يريبك هو الاحتياط في هذه الشبهة برجاء ثوابه تعالى.

هذا ـ مضافاً إلى إرساله.

إلى هنا ظهر عدم تمامية شيء ممّا استدلّ به القائلون لجواز التعدّي.

وأمّا القائلون بعدم جواز التعدّي فاستدلّوا بأنّه هو مقتضى الأصل والقاعدة ، وهى إطلاقات التخيير ، حيث إنّها تقتضي التخيير في كلّ حال إلاّما خرج بالدليل ، وما خرج بالدليل إنّما هو ذو المزيّة بالمزايا المنصوصة فقط.

ويمكن تأييده بما ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله بعنوان الدليل ، وهو أنّه لو وجب التعدّي عن المرجّحات المنصوصة إلى كلّ مزية توجب أقربية ذيّها إلى الواقع لبيّن الإمام عليه‌السلام من الأوّل بنحو الضابطة الكلّية أنّه يجب الأخذ بالأقرب من الخبرين إلى الواقع من دون حاجة إلى ذكر

__________________

(١) درر الاصول : ص ٦٧٣ ، طبعة جماعة المدرّسين.

٥٠٧

تلك المرجّحات المخصوصة واحداً بعد واحد كي يحتاج السائل إلى إعادة السؤال مرّة بعد مرّة.

هذا ـ مضافاً إلى أنّه لو وجب التعدّي لم يأمر الإمام عليه‌السلام في آخر المقبولة بعد ما فرض السائل تساوي الطرفين في جميع ما ذكر من المرجّحات المنصوصة بالأرجاء حتّى تلقى إمامك ، بل كان يأمره بالترجيح بسائر المرجّحات الموجبة لأقربية أحدهما إلى الواقع.

هذا كلّه في الأمر الأوّل.

الأمر الثاني : ميزان التعدى من المرجّحات المنصوصة وعدمه

بناءً على جواز التعدّي من المزايا المنصوصة هل يتعدّى إلى خصوص المزيّة الموجبة للأقربية إلى الواقع ( أي الظنّ بالصدور ) أو الموجبة لإقوائيّة المتن والمضمون ( أي الظنّ بمطابقة المحتوى للواقع ) أو يتعدّى إلى كلّ مزيّة للخبر ولو لم يوجب الإقربيّة أو الإقوائيّة؟

ذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله إلى الثاني استناداً إلى ما ادّعاه من أنّ المزايا المنصوصة على ثلاثة أقسام : قسم منها يوجب الأقربيّة إلى الواقع ، وهو الأصدقية والأوثقية ومخالفة العامّة ، وقسم منها يوجب الإقوائيّة في المضمون ، وهو موافقة الكتاب ، وقسم ثالث لا يوجب شيئاً منهما كالأورعيّة والأفقهيّة ، فإذا كان في المزايا ما لا يوجب شيئاً من الإقوائيّة والأقربيّة فلا وجه للتعدّي إلى خصوص ما يوجب إحديهما بل نتعدّى إلى كلّ مزية ولو لم تكن موجبة لإحديهما أصلاً.

ولكن الصحيح رجوع جميع المزايا إلى الأقربيّة إلى الواقع ، أمّا ما يوجب إقوائيّة المضمون فلأنّه إذا كان مضمون أحد الخبرين أقوى من الآخر ـ كما إذا كان مطابقاً لكلام الله تعالى ـ لكان موجباً لإقوائيّة الظنّ بصدوره عن المعصوم أيضاً ، ولذلك قد يجعل علوّ مضامين الأحاديث دليلاً على صحّة صدورها كما ذكره شيخنا الأنصاري رحمه‌الله في بعض كلماته في حديث « وأمّا من كان من الفقهاء ... » فقال : « إنّه يلوح منه آثار الصدق » وكما أنّ بعض أساتيذنا العظام ( وهو المحقّق البروجردي رحمه‌الله ) أيضاً كان يستدلّ على أقربيّة صدور أدعية الصحيفة السجّادية الشريفة بقوّة محتواها وعلوّ مضامينها ، وكما يقال ذلك في خطب نهج البلاغة ورسائله وأنّ علوّ مضامينها يدلّ على صدورها عن الإمام عليه‌السلام وإن كان كثيراً منها من المراسيل.

٥٠٨

وأمّا القسم الثالث فلأنّ الورع عبارة عن الكفّ عن محارم الله ، ومنها الكذب والإفتراء ، والإنسان الأورع يكون احتياطه ومحافظته على التكلّم أكثر من غيره غالباً ، فيكون أصدق من غيره كذلك ، وهكذا الأفقهيّة فإنّ الأفقه يكون أخذه من الإمام عليه‌السلام أتقن وأحسن من غيره ، هذا مضافاً إلى أنّ كلاً من الأورعيّة والأفقهيّة في المقبولة هى من مرجّحات الحاكم ( كالأعدليّة والأصدقيّة ) لا من مرجّحات الراوي.

وعلى ما ذكرنا إنّما يمكن التعدّي من المزايا المنصوصة ( لو قلنا به ) إلى كلّ مزيّة توجب قوّة ذيّها من حيث دليليته وطريقيّته إلى الواقع.

الأمر الثالث : شمول التخيير أو الترجيح لموارد الجمع العرفي وعدمه

وبعبارة اخرى : هل يجوز إعمال المرجّحات في موارد العام والخاصّ ، والمطلق والمقيّد أيضاً ، أو لا؟ المشهور والمعروف أنّه يختصّ بغير موارد الجمع العرفي ، بل قال الشيخ الأعظم رحمه‌الله : « وما ذكرناه كأنّه ممّا لا خلاف فيه كما استظهره بعض مشايخنا المعاصرين ، ويشهد له ما يظهر من مذاهبهم في الاصول وطريقتهم في الفروع ».

ولكن من العجب أنّه نسب إلى الشيخ الطوسي رحمه‌الله في بعض كلماته في الاستبصار والعدّة ، وإلى المحقّق القمّي في مباحث العام والخاصّ من القوانين أنّ أعمال المرجّحات يقدّم على الجمع العرفي.

والصحيح ما ذهب إليه المشهور ( بل يلزم من العمل بما نسب إلى شيخ الطائفة رحمه‌الله فقه جديد كما سيأتي ) وعمدة الدليل عليه أمران :

الأوّل : أنّه لا تعدّ موارد الجمع العرفي من قبيل المتعارضين ، فلا يصدق عنوان التعارض والاختلاف عليها عند العرف ، فلا يجري عليها أحكام التعارض.

الثاني : أنّ إعمال المرجّحات في موارد العام والخاصّ والمطلق والمقيّد يلزم منه ما لا يلتزم به فقيه ، لمخالفته لضرورة الفقه ، فإنّ من الضروري تخصيص العمومات الكثيرة وتقييد الإطلاقات العديدة في الكتاب والسنّة بالأخبار الخاصّة ، مثلاً قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) تخصّص بجميع أدلّة شرائط صحّة البيع والخيارات وشرائط المتبايعين والعوضين ، وهكذا

٥٠٩

قوله تعالى : ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ ) فإنّه خصّص بأدلّه شرائط التقصير في السفر وهى كثيرة ، وقوله تعالى : ( وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ ). بأدلّة خاصّة لشرائط نشر الحرمة بالرضاع ، إلى غير ذلك من أشباهها ، فلو جوّزنا اعمال المرجّحات بالنسبة إلى العام والخاصّ والمطلق والمقيّد وفرضنا كون العام في مثل هذه الموارد ذا المزيّة كان اللازم رفض جميع هذه المخصّصات ، ولا ريب في استلزامه لفقه جديد غير ما نعرفه.

والإنصاف أنّه لم يقل به شيخ الطائفة أيضاً ، حيث إنّ قوله في أوّل الاستبصار : « وإن كانا متساويين في العدالة والعدد وهما عاريان من جميع القرائن التي ذكرناها نُظر فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر على بعض الوجوه وضرب من التأويل كان العمل به أولى من العمل بالآخر الذي يحتاج العمل به إلى طرح الخبر الآخر لأنّه يكون العامل به عاملاً بالخبرين معاً » (١) ( ونظير هذا عبارته في عدّة الاصول ) (٢) الظاهر في لزوم الجمع بين الخبرين متى أمكن ، وإن وقع في عبارته بعد ذكر المرجّحات من حيث الترتيب ، ولكنّه لا يدلّ على المقصود ، لأنّ مراده من الجمع في هذه العبارة إنّما هو الجمع التبرّعي الذي لا شاهد له من العرف ، فهو في الواقع قدّم الجمع التبرّعي على التخيير بناءً على ما اختاره من المبنى ، فكأنّه يقول : بعد إعمال المرجّحات تصل النوبة إلى الجمع التبرّعي ثمّ إلى التخيير خلافاً لمذهب المشهور حيث لا قيمة لمثل هذا الجمع عندهم فتصل النوبة إلى التخيير بعد عدم المرجّحات.

ويشهد على هذا كلامه في مبحث العام والخاصّ في عدّة الاصول : « قد يستشكل ( في التخصيص ) بأنّ الأخبار قد وردت في تقديم ما هو مخالف العامّة وموافق الكتاب ، وهذا يقتضي تقديم العام لو كان هو الموافق للكتاب أو المخالف للعامّة.

وفيه : أنّ البحث منعقد لملاحظة العام والخاصّ من حيث العموم والخصوص لا بالنظر إلى المرجّحات الخارجيّة إذ قد يصير التجوّز في الخاصّ أولى من التخصيص في العام من جهة مرجّح خارجي » (٣).

__________________

(١) الاستبصار : ج ١ ، ص ٤ ، طبعة دار الكتب الإسلاميّة.

(٢) راجع عدّة الاصول : ج ١ ، ص ٦٠ ، طبعة مؤسسة آل البيت.

(٣) المصدر السابق : ص ٣١٨.

٥١٠

فإنّ ذيل كلامه هذا شاهد على أنّ نظره في تقديم العام على الخاصّ مختصّ بموارد وجود قرينة خارجيّة على تجوّز الخاصّ كما إذا قامت قرينة خارجيّة على حمل الخاصّ على الاستحباب ، ولا إشكال في وجوب تقديم العام وعدم جواز تخصيصه بالخاصّ حينئذٍ.

الفصل الثالث : في انقلاب النسبة

كلّ ما مرّ من أبحاث التعارض كانت فيما إذا كان التعارض بين دليلين ، وأمّا إذا كان بين الزائد عليهما فهو على قسمين :

تارةً لا يوجب تقديم إحدى الخصوصيات إنقلاب النسبة بين العام والخاصّ الآخر ، كما إذا قال : « أكرم العلماء » ثمّ قال : « لا تكرم النحويين » وقال أيضاً : « لا تكرم الصرفيين ».

واخرى يوجب تقديم إحديها انقلاب النسبة ، كما إذا قال : « لا تكرم الفسّاق منهم » وقال أيضاً : « لا تكرم النحويين » حيث إنّ تقديم التخصيص بالأوّل يوجب انقلاب النسبة بين « أكرم العلماء » و « لا تكرم النحويين » من العموم المطلق إلى العموم من وجه ، فإنّ النسبة بين العلماء العدول والنحويين هى العموم من وجه كما لا يخفى.

والبحث هيهنا في انقلاب النسبة السابقة على التخصيص بإحدى الخصوصيّات إلى النسبة اللاحقة به وعدمه ، والمحكي عن المحقّق النراقي أنّه ذهب إلى الانقلاب وقال بلزوم ملاحظة النسبة اللاحقة.

والصحيح أنّ النزاع إنّما يتصوّر فيما إذا كان الخاصّان منفصلين ، وأمّا إذا كان أحدهما متّصلاً فلا إشكال في انقلاب النسبة ، أي لزوم ملاحظة النسبة بين العام المخصّص بالمتّصل والخاصّ الآخر المنفصل ، والظاهر أنّ نظر المحقّق النراقي رحمه‌الله أيضاً إلى هذا القسم ، إذ إنّ مفروض كلامه ( على ما حكي عنه في كلمات الشيخ الأعظم رحمه‌الله ) هو ما إذا كان أحد الخاصّين لبّياً كالإجماع ونحوه الذي هو بمنزلة المخصّص المتّصل.

وكيف كان ، فهل تنقلب النسبة فيكون اللازم ملاحظة تاريخ الخاصّين وتخصيص العام أوّلاً بما هو الأقرب زماناً ثمّ بالأبعد ، أو لا ينقلب فلا حاجة إلى ملاحظة تاريخهما؟ ولابدّ في الجواب من الإشارة إلى أمرين :

٥١١

أحدهما : هل التخصيص يتعلّق بالإرادة الجدّية ، أو الإرادة الاستعماليّة؟ وتوضيحه : أنّ للفظ إرادتين : إرادة استعماليّة وهى ما يستعمل فيه اللفظ ، وإرادة جدّية وهى ما يكون المقصود من الاستعمال ، والسؤال هنا هو أنّ متعلّق التخصيص هل هو الإرادة الجدّية ، أو الإرادة الاستعماليّة؟

المعروف والمشهور أنّه يتعلّق بالإرادة الجدّية ، ولذلك لا يلزم منه مجاز ، لأنّ باب المجاز والحقيقة باب اللفظ وما استعمل فيه اللفظ لا المعنى والمراد ، وقد مرّ البحث عنه تفصيلاً في مباحث العام والخاصّ تحت عنوان « التخصيص بالمنفصل إنّما هو في الإرادة الجدّية لا الإرادة الاستعماليّة » وهو المختار هناك.

ثانيهما : هل المعيار في تعارض الدليلين هو الإرادة الاستعماليّة أو الإرادة الجدّية؟

لا إشكال في أنّ الميزان في التعارض إنّما هو الإرادة الاستعماليّة ، لأنّ الدليلين يتعارضان ويتضادّان في ظهورهما الاستعمالي واللفظي كما هو واضح.

ثمّ بعد ملاحظة هاتين النكتتين يظهر لنا أنّه لا وجه لانقلاب النسبة ، لأنّ تخصيص العام بالخاصّ الأوّل إنّما هو في الإرادة الجدّية ولا ربط له بالإرادة الاستعماليّة ، وحينئذٍ يبقى الظهور الاستعمالي للعام على حاله الذي كان هو المعيار في التعارض ، ولابدّ بعد التخصيص بالخاصّ الأوّل من ملاحظة النسبة بين الخاصّ الثاني وهذا الظهور الاستعمالي للعام الباقي على قوّته.

والذي يؤيّد ذلك هو سيرة الفقهاء العمليّة في الفقه ، فإنّهم لا يلاحظون تاريخ الخصوصيّات ولا يقدّمون التخصيص بأحد الخاصّين على التخصيص بالخاصّ الآخر بل يخصّصون العام بكليهما في عرض واحد.

نعم ، قد يستثنى منه ما إذا كانت المخصّصات بمقدار من الكثرة يوجب الاستهجان عرفاً ، فيكون النسبة بين الخصوصات والعام من قبيل المتباينين ، فربّما يكون طريق الجمع فيه إسقاط العام عن ظهوره في الوجوب أو الحرمة وحمله على الاستحباب أو الكراهة.

ثمّ إنّ جماعة من الأعلام أشاروا إلى أمرين آخرين :

أحدهما : هو البحث عن مسألة الضمان في عارية الذهب والفضّة التي هى من موارد تعارض أكثر من دليلين ومن مصاديقه وتطبيقاته ، ولكننا نتركه إلى محلّه في الفقه لأنّه بحث فقهي خاصّ لا يليق إلاّبالفقه كما لا يخفى على الخبير.

٥١٢

وثانيهما : ما ذكره بعض الأعلام مفصّلاً من الأنواع المختلفة لتعارض أكثر من الدليلين والصور العديدة لكلّ نوع منها ، ولكنّه أيضاً لا طائل تحته بعد قبول عدم انقلاب النسبة مطلقاً كما هو الحقّ.

الفصل الرابع : في ترتيب المرجّحات

هل تعتبر مراعاة الترتيب بين المرجّحات أو لا؟ وعلى فرض لزومها أيّتها تتقدّم وأيّتها تتأخّر؟ فيه ثلاثة أقوال :

١ ـ ما ذهب إليه صاحب الكفاية ، وهو عدم اعتبارها بناءً على القول بالتعدّي من المزايا المنصوصة وإناطة الترجيح بالظنّ أو بالأقربية إلى الواقع ، فإن حصل أحدهما في جانب فهو المتقدّم ، وإن حصل في كليهما فيتخيّر.

نعم ، لو قيل بالاقتصار على المزايا المنصوصة فلها وجه.

٢ ـ ما ذهب إليه شيخنا الأعظم والمحقّق النائيني رحمه‌الله من لزوم مراعاة الترتيب. فإنّ المرجّحات على ثلاثة أقسام : المرجّحات السندية وهى ما ترجع إلى أصل الصدور كالشهرة وأعدليّة الراوي أو أوثقيته ، والمرجّحات الجهتية وهى ما ترجع إلى جهة الصدور ، أي التقيّة وعدمها ، كمخالفة العامّة ، والمرجّحات المضمونيّة ، وهى ما ترجع إلى المضمون كموافقة الكتاب ، فقال شيخنا الأعظم رحمه‌الله بتقديم الأوّل على الثاني والثالث ، وقال المحقّق النائيني رحمه‌الله بتقديم الأوّل على الثاني ، والثاني على الثالث (١).

٣ ـ ما ذهب إليه المحقّق الوحيد البهبهاني رحمه‌الله ، وهو لزوم تقديم المرجّح الجهتي على الصدوري ، فلو كان أحد المتعارضين مخالفاً للعامّة وكان الآخر موافقاً للشهرة قدّم ما يخالف العامّة.

أقول : لابدّ من البحث أوّلاً على ما يقتضيه القواعد الأوّلية ، ثمّ على ما يستظهر من الروايات الخاصّة الواردة في باب المرجّحات ، وكلمات القوم هنا مضطربة.

__________________

(١) راجع فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٧٨٠.

٥١٣

أمّا ما تقتضيه القواعد فحاصل كلام الشيخ الأعظم رحمه‌الله أنّ جهة الصدور متفرّعة على أصل الصدور ، فإذا كان الخبران المتعارضان مقطوعي الصدور كما في المتواترين أو بحكم مقطوعي الصدور فتصل النوبة إلى المرجّح الجهتي ، وأمّا إذا كانا متفاضلين من حيث الصدور فيجب التعبّد حينئذٍ بالراجح صدوراً ، ولا تكاد تصل النوبة إلى المرجوع صدوراً كي يلاحظ رجحانه جهة.

وأورد عليه : بأنّه يستلزم اللغوية ، لأنّ لازمه لزوم التعبّد بصدور الخبر المشهور الموافق للعامّة ، ولا معنى للتعبّد بصدور الخبر مع وجوب حمله على التقيّة ، إذ الحمل على التقيّة يساوق الطرح ، ولا يعقل أن تكون نتيجة التعبّد بالصدور هى الطرح ، فالحقّ أنّه لا ترتيب بين المرجّحات وأنّ الترجيح بجميعها يرجع إلى الصدور.

ولكن يمكن الجواب عنه : بأنّ معنى حجّية الخبر ليس التعبّد والعمل به ، بل معناه هو التعبّد به لولا المزاحم ، وبعبارة اخرى : المراد من حجّية كلا الخبرين هو الحجّية الإقتضائية لا الحجّية الفعليّة ، وهذا المعنى حاصل في المقام.

أقول : الحقّ هو ما اختاره المحقّق الخراساني رحمه‌الله من عدم الترتيب ، وأنّ برهان الفرعيّة في كلام الشيخ الأعظم رحمه‌الله ليس بتامّ لأنّ المرجّحات الجهتيّة أو المضمونيّة وإن كانت متأخّرة عن المرجّحات الصدورية بحسب الوجود الخارجي ( لأنّ جهة الصدور أو المضمون فرع لأصل الصدور وعارض عليه ، ووجود المعروض سابق على وجود العارض ) إلاّ أنّه لا دخل له في ما هو المهم في المقام ، فإنّ محلّ البحث في ما نحن فيه هو الحجّية بمعنى ترتيب الأثر العملي ، ولا ريب في أنّ كلاً من الجهات الثلاثة شرط في الحجّية والعمل ، ومن أجزاء العلّة التامّة له في عرض واحد ، ولا تقدّم لأحدها على غيره من هذه الجهة ، أي من ناحية العمل كما لا يخفى. هذا أوّلاً.

وثانياً : سلّمنا اعتبار الترتيب ولكنّه على مرحلتين لا ثلاث مراحل كما أشار إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله وقد مرّ آنفاً ، فإنّ المرجّح المضموني يرجع إلى المرجّح الصدوري لأنّ الوفاق مع الكتاب دليل على الصدور ، والمخالفة معه دليل على عدم الصدور ولو ظنّاً.

وأمّا القول الثالث : ( وهو ما ذهب إليه المحقّق الوحيد البهبهاني رحمه‌الله ) فاستدلّ له المحقّق الرشتي رحمه‌الله بأنّ التعبّد بالدليل الموافق للعامّة مستحيل ، لدوران أمره بين عدم صدوره من

٥١٤

أصله وبين صدوره تقيّة ، وهو على كلا التقديرين ممّا لا يعقل التعبّد به ، وحينئذٍ كيف يقدّم الأرجح صدوراً إذا كان موافقاً للعامّة على غيره وإن كان مخالفاً للعامّة كما قال به الشيخ الأعظم رحمه‌الله؟ ثمّ قال : فاحتمال تقديم المرجّحات السندية على مخالفة العامّة مع نصّ الإمام عليه‌السلام على طرح موافقهم من العجائب والغرائب التي لم يعهد صدورها من ذي مسكة فضلاً عمّن هو تالي العصمة علماً وعملاً ، ثمّ قال : وليت شعري أنّ هذه الغفلة الواضحة كيف صدرت منه مع أنّه في جودة النظر يأتي بما يقرب من شقّ القمر.

ويمكن الجواب عنه أوّلاً : بأنّ الخبر الموافق للعامّة ليس دائراً بين احتمالين بل الاحتمالات فيه ثلاثة : عدم صدوره من أصله ، وصدوره تقيّة ، وصدوره لبيان حكم الله الواقعي ، وإنّما يدور أمره بين الاحتمالين الأوّلين إذا كان المعارض المخالف للعامّة قطعيّاً من جهاته الثلاث ، أي من جهة السند والدلالة والجهة جميعاً ، وأمّا إذا كان ظنّياً ولو من بعض الجهات كما هو المفروض ( حيث إنّ البحث في المرجّحات الظنّية لا في تمييز الحجّة عن اللاّحجّة ) فلا علم لنا بصدق المخالف بل نحتمل كذبه أيضاً ، كما لا علم لنا ببطلان الموافق وعدم حجّيته على أي حال.

وكأنّ المحقّق الرشتي رحمه‌الله غفل عن هذه النكتة ، أي أنّ البحث هو في المرجّحات الظنّية.

وثانياً : أنّ ما ادّعاه صادق في العكس أيضاً ، لأنّ الإمام عليه‌السلام قال في المرجّحات الصدورية : « فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » ولازمه حصول العلم بعدم صدور غير المشهور.

ولقد أجاد المحقّق الخراساني رحمه‌الله حيث قال في ذيل كلامه هنا : أنّ الغفلة والنسيان كالطبيعة الثانويّة للإنسان.

فقد ظهر أنّ مقتضى القواعد الأوّلية عدم اعتبار الترتيب بين المرجّحات فلابدّ من الرجوع إلى أقوى الدليلين وأظهرهما ، وهو مختلف بحسب اختلاف المقامات ، ولو لم يكن أحدهما أقوى أو أظهر سقطت المرجّحات فتصل النوبة إلى التخيير.

هذا كلّه بحسب القواعد.

وأمّا بحسب الأدلّة الخاصّة النقلية فالمهمّ فيها هو مقبولة عمر بن حنظلة المذكور فيها ثلاث مرجّحات : الشهرة ، موافقة الكتاب والسنّة ، ومخالفة العامّة ( وأمّا مخالفة ميل الحكّام فقد مرّ أنّه يرجع إلى مخالفة العامّة ، كما أنّ الترجيح بالأعدليّة والأفقهيّة والأوثقيّة الواردة في

٥١٥

صدرها من مرجّحات باب الحكومة والقضاء لا الرواية كما مرّ أيضاً ) والإنصاف أنّ ظاهر هذا الحديث هو لزوم الترتيب بين المرجّحات الثلاثة.

ومن الروايات مرفوعة زرارة ، ولكن الترتيب الوارد فيها مخالف للترتيب الوارد في المقبولة ، فإنّ المرجّح الثاني فيها هو صفات الراوي ، والثالث هو مخالفة العامّة ، والرابع هو الأحوطيّة ، وحينئذٍ يقع التعارض بينهما ، مع أنّ المطلوب منها علاج التعارض.

ولكن الذي يسهل الخطب أنّ المرفوعة لا سند لها كما مرّ بيانه.

ومن الروايات ما مرّ من مصحّحة عبدالرحمن بن عبدالله (١) ، ولا إشكال أيضاً في صراحته في لزوم الترتيب مع خصوصيّة ومزيّة له بالنسبة إلى المقبولة ، حيث إنّ الترتيب فيه جاء في كلام الإمام عليه‌السلام نفسه ، بينما الترتيب في المقبولة جاء في كلام السائل ، إلاّ أنّ سكوت الإمام ظاهر في التقرير والامضاء.

وقد يدّعى وجود قرينة على خلاف هذا الظهور ، وهى أنّ في كثير من الروايات لم يذكر إلاّ مرجّح واحد ، ولزوم الترتيب واعتباره يستلزم تقييد اطلاق جميع هذه الروايات بالمقبولة بالنسبة إلى سائر المرجّحات ، وهو مشكل جدّاً.

وبعبارة اخرى : قد مرّ أنّ روايات الترجيح على طوائف عديدة ، والمرجّحات في بعضها أربعة وفي بعضها الآخر ثلاثة ، وفي طائفة ثالثة إثنان ، وفي طائفة رابعة واحد ، والمرجّح الواحد في الطائفة الرابعة أيضاً كان هو مخالفة العامّة في بعض رواياتها وموافقة الكتاب في بعضها الآخر ، فقد يقال : إنّ هذا الاختلاف قرينة على التصرّف في ظهور المقبولة في الترتيب ، وحملها على أنّ الإمام عليه‌السلام فيها كان في مقام بيان مجرّد أنّ هذا مرجّح وذاك مرجّح.

ولكن يمكن الجواب عنه : بأنّه لابدّ من رفع اليد عن الاطلاق المذكور على أيّ حال ، سواء قلنا بالترتيب أو لا ، فإنّ مقتضى اطلاق الطائفة التي جاء فيها مرجّح واحد مثلاً أنّ المعتبر في مقام الترجيح إنّما هو خصوص ذلك المرجّح فقط ، وهذا الظهور لا يعتنى به حتّى القائلين بعدم اعتبار الترتيب.

هذا ـ مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال : إنّ ما تدلّ عليه المقبولة من اعتبار الترتيب على

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٩ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٩.

٥١٦

النحو المذكور فيها موافق للاعتبار أيضاً ، وأنّ الإمام عليه‌السلام كان في مقام بيان ما يوافق الاعتبار ، والأخذ بالأقوى فالأقوى من المرجّحات ، وتطبيق قانون تقديم الأقوى على الأضعف ، إذ إنّ الموافق مع الشهرة أقوى ظهوراً من الخبر غير المشهور الموافق مع كتاب الله ، وهكذا المخالف للعامّة أقوى من الموافق لعموم الكتاب أو إطلاقه.

بقي هنا امور :

١ ـ إنّ ما ادّعاه شيخنا الأعظم رحمه‌الله في رسائله من أنّ المرفوعة منجبرة بعمل الأصحاب حيث قال : « فهى وإن كانت ضعيفة السند إلاّ أنّها موافقة لسيرة العلماء في الترجيح » مبنى على كون عمل الأصحاب مستنداً إلى خصوص المرفوعة ، مع أنّ الظاهر أنّ مستندهم هو المقبولة ، لأنّ فيها أيضاً قدّم الترجيح بالشهرة على الترجيح بسائر المرجّحات ، والشيخ الأعظم رحمه‌الله حيث توهّم أنّ أوّل المرجّحات في المقبولة هو صفات الراوي وأنّ ما قدّم فيه الشهرة على سائر المرجّحات إنّما هو المرفوعة ، كما أشار إليه في ذيل كلامه بقوله « فإنّ طريقتهم مستمرّة على تقديم المشهور على الشاذّ » ذهب إلى أنّ عمل الأصحاب مستند إلى المرفوعة فيجبر ضعف سندها ، مع أنّه قد مرّ أنّ الترجيح بالصفات الواردة فيها من مرجّحات باب الحكومة والقضاء لا الرواية.

٢ ـ قد أشرنا سابقاً إلى أنّ المرجّحات المضمونية ترجع في الواقع إلى المرجّحات السنديّة ( الصدوريّة ) لأنّ موافقة كتاب الله تعالى توجب الظنّ بالصدور وأنّ علوّ المضامين يوجب القوّة في السند ، كما لا يخفى ، وحينئذٍ ترجع المرجّحات إلى قسمين : صدوريّة وجهتيّة ، لا إلى ثلاثة أقسام.

٣ ـ ما أشرنا إليه أيضاً في الجواب عن المحقّق الرشتي رحمه‌الله من أنّه ليس كلّ ما كان موافقاً للعامّة صدر في مقام التقية ، والشاهد على ذلك أنّ الأئمّة عليهم‌السلام كثيراً ما كانوا ينقضون التقيّة ، ويبلّغون أحكام الله الواقعيّة ، سواء كانت موافقة مع آراء العامّة أو مخالفة لها.

توضيح ذلك : أنّ التقيّة على قسمين :

التقيّة في العمل وأكثر روايات التقيّة ناظرة إليها ، وقد ذكرناها بالتفصيل في القواعد

٥١٧

الفقهيّة ، كقوله عليه‌السلام : التقيّة سنّة إبراهيم ، أو سنّة آل فرعون ، أو سنّة أصحاب الكهف ، أو أنّها جنّة المؤمن ، أو ترس المؤمن ، وهكذا قوله تعالى : ( إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) (١) الوارد في شأن عمّار بن ياسر وأبويه ، فلا إشكال في أنّ جميعها ناظراً إلى التقية في مقام العمل كما لا يخفى.

وتقية في مقام الفتوى ، وهى بنفسها على قسمين : أحدهما ما يصدر من الإمام عليه‌السلام حفظاً لنفسه الشريفة ، وثانيهما ما يصدر منه حفظاً لدماء الشيعة ، والمتتبّع في تاريخ الأئمّة وسيرتهم يلاحظ أنّ هذين القسمين من التقيّة لم تكن بتلك الدرجة من الكثرة لكي يتوهّم مثل المحقّق الرشتي رحمه‌الله أنّ كلّ خبر يوافق آراء العامّة فإمّا أن لا يكون صادراً عنهم عليهم‌السلام أو صدر تقية ، سيّما بعد ملاحظة الروايات الناقضة للتقية كأكثر روايات باب الخمس وكثير من روايات أبواب الحجّ وما أشبهها فراجع.

٤ ـ قال المحقّق الخراساني رحمه‌الله أنّ تقدّم الأرجح صدوراً على المخالف للعامّة ( أي تقدّم المرجّح الصدوري على الجهتي ) مبنيّ على كون المخالفة للعامّة من المرجّحات الجهتية ، وأمّا بملاحظة كونها من المرجّحات الدلالية نظراً إلى ما في الموافق للعامّة من احتمال التورية الموجب لضعف ظهوره ودلالته فيكون المخالف للعامّة أقوى منه دلالة وظهوراً لعدم احتمال التورية فيه أصلاً ، فالمرجّح الجهتي حينئذٍ مقدّم على جميع المرجّحات الصدورية لما عرفت من تقدّم المرجّحات الدلالية على ما سواها من المرجّحات.

ثمّ أشكل على نفسه وقال : اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ باب احتمال التورية وإن كان مفتوحاً فيما احتمل فيه التقيّة إلاّ أنّه حيث كان بالتأمّل والنظر لم يوجب أن يكون معارضه أظهر ، بحيث يكون قرينة على التصرّف عرفاً في الآخر من حيث الدلالة.

أقول : إن كان مقصوده ممّا رجع إليه في ذيل كلامه أنّ عمل التورية وأعمالها في محلّها أمر مشكل فهو صحيح لا غبار عليه ، وأمّا إن كان المقصود أنّ تشخيص الأظهر والظاهر بعد فرض انفتاح باب التورية وتحقّقها في الخارج في الروايات الموافقة مشكل فهو ممنوع ، فإنّ الإنصاف أنّ ما لا يحتمل فيه التورية أقوى ظهوراً عند العرف ممّا يحتمل فيه التوراة ، فيقدّم عليه إذا كان أحدهما قرينة على التصرّف في الآخر ، هذا أوّلاً.

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية ٢٨.

٥١٨

وثانياً : قد ذكرنا في محلّه في المكاسب الحرمة في باب الكذب : أنّ التورية لا تجري في كلّ كلام ، بل تجري فيما إذا كان الكلام محتملاً لمعنيين ذاتاً ، غاية الأمر أنّ ذهن السامع ينصرف إلى أحدهما مع أنّ المتكلّم أراد المعنى الآخر ، كما إذا قال صاحب الدار ( في جواب من سئل عنه بقوله « أزيد في الدار » ) : ليس هو هنا ، وأراد منه وراء الباب لا مجموع الدار ، ونظير قول سعيد بن جبير في الجواب عن سؤال الحجّاج ، « أنت عادل قاسط » حيث أراد من « عادل » من عدل عن التوحيد مشيراً إلى قوله تعالى : ( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) (١) فإنّ له معنيين ، ومن « قاسط » معنى الظلم لأنّه من الأضداد ، وإن انصرف الذهن منهما إلى معنى العدالة ، ونظير قول بعض العلماء ( في الجواب عن سؤال : خير الورى بعد النبي من هو؟ في تلك القصّة المعروفة ) :

من بنته في بيته ، فأراد من الضمير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فينطبق على أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، ولعلّه كان المنصرف إلى الذهن في ذلك الزمان رجوع الضمير الثاني إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فينطبق على الخليفة الأوّل.

ويتفرّع على ذلك عدم كون التوراة داخلة في أنواع الكذب ، كما يتفرّع عليه أنّ التورية لا تجري في كلّ كلام وفي كلّ مقام ، بل لها موارد خاصّة ، وحينئذٍ لا يمكن القول باحتمال التورية في جميع موارد التقيّة.

هذا ، وتمام الكلام في محلّه في المكاسب المحرّمة.

الفصل الخامس : في المرجّحات الخارجيّة

جعل الشيخ الأعظم رحمه‌الله مجموع المرجّحات على قسمين : داخليّة وخارجيّة ، فالداخلية عبارة عن كلّ مزية غير مستقلّة بنفسها ، وهى على ثلاثة أقسام مرّ ذكرها تفصيلاً ، والخارجيّة عبارة عن كلّ مزية مستقلّة بنفسها ولو لم يكن هناك خبر أصلاً ، وهى على خمسة أقسام :

١ ـ ما لا تكون معتبرة لتعلّق النهي بها ، وهى الأمارات الظنّية غير المعتبرة المنهي عنها كالقياس.

__________________

(١) سورة الأنعام : الآية ١.

٥١٩

٢ ـ ما لا تكون معتبرة لعدم وجود دليل على اعتبارها لا للنهي عنها ، وهى الأمارات الظنّية التي لا دليل على اعتبارها كالشهرة الفتوائية والإجماع المنقول ونحوها.

٣ ـ ما تكون معتبرة في نفسها ، وهى الأمارات الظنّية المعتبرة كإطلاق الكتاب أو عمومه.

٤ ـ المرجّحات القطعيّة كالإجماع المحصّل ونصوص الكتاب.

٥ ـ الاصول الأربعة العمليّة شرعيّة كانت أو عقليّة.

أمّا القسم الأوّل : وهو مثل القياس فلابدّ فيه من البحث أوّلاً : في شمول الأدلّة الناهيّة عن القياس للقياس في مقام الترجيح ، وثانياً : في التعارض بين هذه الأدلّة على فرض شمولها والأدلّة الآمرة بالأخذ بأقوى الدليلين ، أي التعارض بين اطلاق هذه واطلاق تلك.

أمّا المقام الأوّل : فالصحيح فيه هو الفرق بين الأقسام المختلفة من القياس ، فإنّ له أقساماً ثلاثة : القياس في المسائل الاصوليّة ( كما إذا قيست الشهرة الفتوائية بخبر الواحد في أنّها موجبة للظنّ أيضاً ) ، والقياس في المسائل الفرعية كقياس ديّة أصابع المرأة الوارد في حديث أبان ، والقياس في الموضوعات كقياس حال الصائم من حيث السلامة والمرض في اليوم بما مضى عليه في الأمس.

لا إشكال في أنّ أدلّة النهي عن القياس لا تعمّ القسم الثالث ، لأنّه لو فرضنا كون الموضوع لحرمة الإمساك مثلاً هو الظنّ بالضرر أو الخوف منه فلا فرق فيه بين أن يحصل الظنّ من القياس أو من أمر آخر ، فإنّه ليس من القياس في الدين المنهي عنه ، بل قياس في الموضوعات الخارجيّة.

وأمّا القياس في المسائل الفرعيّة فلا إشكال أيضاً في شمول تلك الأدلّة له ، بل هى القدر المتيقّن منها.

وأمّا القياس في المسائل الاصوليّة فقد يقال أيضاً أنّ الأدلّة شاملة له لأنّ ظاهرها حرمة القياس في دين الله مطلقاً كما ورد في الحديث « أنّ دين الله لا يصاب بالعقول » ولا ريب في أنّ اصول الفقه جزء من الدين وداخلة في الشريعة ، كما لا إشكال في أنّ القياس في ما نحن فيه أي في باب المرجّحات من هذا القسم فلا يجوز وإن أجزنا التعدّي عن المرجّحات المنصوصة إلى غيرها.

٥٢٠