أنوار الأصول - ج ٣

أنوار الأصول - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-15-6
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٢٤

التسليم وسعك » حيث إنّه يستشمّ منه أنّ نفس التسليم في مقابل الأئمّة وسلوك الطريق الذي فتحوه أمامنا يكون ذا مصلحة.

ولكن هذا التعبير ورد في ثلاث روايات :

إحديها : مكاتبة محمّد بن عبدالله بن جعفر الحميري.

وثانيها : ما رواه أحمد بن الحسن الميثمي عن الرضا عليه‌السلام.

وثالثها : مرسلة الكليني ، وقد مرّ أنّ الأوّليين واردتان في المستحبّات وهى خارجة عن محلّ الكلام ، والثالثة مرسلة.

هذا ـ مضافاً إلى ما ورد في صدر بعضها ( وهو رواية الميثمي ) من لزوم أعمال المرجّحات أوّلاً : حيث إنّ أعمال المرجّح بين الخبرين إنّما يتصوّر فيما إذا كان خصوص أحدهما طريقاً إلى الواقع وأردنا تعيينه من بينهما بالمرجّح ، وإلاّ إذا كان لسلوك كلّ منها مصلحة فلا حاجة إلى ترجيح أحدهما على الآخر والأخذ بخصوصه ، فإذا كان الصدر كذلك يحمل عليه الذيل أيضاً ، بل الإنصاف أنّ قوله « من باب التسليم » ليس له ظهور في السببيّة وإن كان له دلالة عليها ، فهى في حدّ الإشعار ، فلا تكون دليلاً على شيء.

ووجه الاحتمال الثالث : إنّا نعلم بصدور أحد الخبرين وصدقه ، ولا إشكال في أنّ مقتضى القاعدة في موارد دوران الأمر بين المحذورين مع العلم بصدق أحدهما هو التخيير.

وفيه : أنّه مبنى على حصول العلم بصدور أحدهما ، وأنّى لنا بإثباته؟

بل المفروض العلم بكذب أحدهما فقط ، وأمّا الآخر فهو دليل ظنّي في نفسه يحتمل الكذب أيضاً ، وقد عرفت أنّ أدلّة الحجّية لا تشمل شيئاً منهما بعد فرض التعارض.

الأمر الثاني : في أنّ التخيير في المقام واقعي أو ظاهري؟

فإن كان واقعياً كان نظير التخيير بين خصال الكفّارات والتخيير بين الحمد والتسبيحات الأربعة في الركعتين الأخيرتين ، وإن كان ظاهرياً كان نظير التخيير بين الوجوب والحرمة عند دوران الأمر بين المحذورين في الحكم الظاهري.

والصحيح في ما نحن فيه هو الثاني ، لأنّ المختار فيه هو مبنى الطريقيّة والعلم بكذب أحد الخبرين لأنّ المصلحة حينئذٍ لو كانت فإنّما هى في واحد منهما ، فلا يتصوّر حينئذٍ التخيير الواقعي لأنّه إنّما يتصوّر فيما إذا وجدت المصلحة في كلّ من الأطراف.

٤٨١

الأمر الثالث : في أنّ التخيير في المقام هل يكون في المسألة الاصوليّة ، أو في المسألة الفقهيّة؟ وبعبارة اخرى : هل التخيير يكون للمجتهد فقط في اختيار الأدلّة ، أو له وللمقلّد في العمل؟

قال شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه‌الله : « المحكي عن جماعة بل قيل أنّه ممّا لا خلاف فيه أنّ التعادل إن وقع للمجتهد في عمل نفسه كان مخيّراً في عمل نفسه ، وإن وقع للمفتي لأجل الإفتاء فحكمه أن يخيّر المستفتي فيتخيّر في العمل كالمفتي ... ( إلى أن قال ) : ويحتمل أن يكون التخيير للمفتي فيفتي بما اختار ... ( إلى أن قال ) والمسألة بعد محتاجة إلى التأمّل وإن كان وجه المشهور أقوى » انتهى.

واستدلّ لقول المشهور أي القول الأوّل بوجهين :

الأوّل : أنّ خطابات الأمارات عامّة تشمل المجتهد والمقلّد ، إلاّ أنّ المقلّد عاجز عن القيام بشروط العمل بالأدلّة من حيث تشخيص مقتضاها ودفع موانعها ، فإذا ثبت للمجتهد جواز العمل بكلّ من الخبرين المتكافئين المشترك بين المقلّد والمجتهد تخيّر المقلّد كالمجتهد.

الثاني : إنّ إيجاب مضمون أحد الخبرين على المقلّد تعييناً لا دليل عليه ، فهو تشريع محرّم.

واستدلّ للقول الثاني أوّلاً : بما ورد في مرفوعة زرارة قلت : « إنّهما معاً موافقان للاحتياط ومخالفان فكيف أصنع؟ فقال عليه‌السلام : إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر » حيث إنّه وارد بعد اعمال المرجّحات ولا إشكال في أنّه من عمل المجتهد لا المقلّد مضافاً إلى أنّ قوله : « فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر » كالصريح في اختيار أحد الحجّتين ورفض الآخر ، وليس ذلك إلاّ للمجتهد.

وبعبارة اخرى : لم يخيّره الإمام بين مضمون الخبرين بل أمره بالأخذ بأحد الدليلين تخييراً.

وثانياً : بأنّ التخيير حكم للمتحيّر والمتحيّر ، إنّما هو المجتهد لا المقلّد.

أقول : الأولى في المقام ملاحظة روايات التخيير ، ولا إشكال في أنّها ظاهرة فيما ذهب إليه المشهور فإنّ من جملتها ما رواه سماعة عن أبي عبدالله عليه‌السلام « قال : سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه ، أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه كيف

٤٨٢

يصنع؟ قال : فهو في سعة حتّى يلقاه » (١).

ولا إشكال في أنّه ظاهر في التخيير بين مدلولي الخبرين في العمل.

ومنها : مرسلة الكليني المذكورة سابقاً ( فإنّه قال : « وفي رواية اخرى بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك » (٢) ).

وهكذا رواية الحسن بن الجهم (٣). ورواية الحارث بن المغيرة (٤) المذكورتان في السابق أيضاً.

نعم المستفاد من مرفوعة زرارة كما عرفت هو التخيير في المسألة الاصوليّة ، ولكن الكلام بعد في سندها.

وأمّا الاستدلال للقول بكون التخيير في المسألة الاصوليّة بأنّ التحيّر حاصل للمجتهد فقط ، فيمكن الجواب عنه بأنّ الموضوع في روايات التخيير هو الخبران المتعارضان لا المتحيّر ، فإنّه لم يرد هذا العنوان في شيء من هذه الروايات ، فإذن الأظهر هو ما ذهب إليه المشهور.

ثمّ إنّه لو شككنا في المسألة ولم نعلم أنّه هل التخيير للمجتهد أو للمقلّد فمقتضى الأصل هو الأوّل ببيانين :

أحدهما : أنّه من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، لأنّ لازم كون التخيير في المسألة الاصوليّة أن يفتي المجتهد بأحد الخبرين تعييناً ، ولازم التخيير في المسألة الفقهيّة أن يفتي بالتخيير بينهما ، فعلى القول بأنّ مقتضى القاعدة في دوران الأمر بينهما هو التعيين تكون النتيجة كون التخيير في المسألة الاصوليّة.

ثانيهما : إنّا نعلم بحجّية ما اختاره المجتهد منهما قطعاً ونشكّ في حجّية الآخر ، وقد ثبت في محلّه أنّ مجرّد الشكّ في الحجّية كافٍ لإثبات عدمها.

الأمر الرابع : هل التخيير بدوي أو استمراري؟ والمراد من التخيير البدوي أنّه لو اختار

__________________

(١) وسائل الشعية : الباب ٩ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٥.

(٢) المصدر السابق : ح ٦.

(٣) المصدر السابق : ح ٤٠.

(٤) المصدر السابق : ح ٤١.

٤٨٣

مثلاً وجوب صلاة الجمعة ( عند تعارض الأخبار ) لابدّ من العمل بها ما دام عمره ، ومعنى التخيير الاستمراري أنّ له في المثال المذكور اختيار الجمعة في كلّ جمعة أراد ، واختيار صلاة الظهر كذلك طول عمره.

والأقوال في المسألة ثلاثة :

١ ـ ما حكي عن جماعة من المحقّقين من أنّ التخيير استمراري.

٢ ـ ما يظهر من بعض كلمات شيخنا الأعظم رحمه‌الله من أنّه بدوي.

٣ ـ بناء المسألة على المسألة السابقة ، فإن قلنا بأنّ التخيير في المسألة الاصوليّة يكون التخيير هنا بدوياً ، وإن قلنا بأنّ التخيير في المسألة الفقهيّة يكون التخيير هنا استمرارياً ، وهذا ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله في فوائد الاصول.

واستدلّ للقول الأوّل بوجهين :

أحدهما : إطلاقات أخبار التخيير ، فإنّ التعبير بـ « فموسّع عليك » أو « إذن فتخيّر » ظاهر في السعة الاستمراري والتخيير الدائمي.

ثانيهما : استصحاب التخيير الثابت في بدو الأمر على فرض الشكّ.

واستدلّ للقول الثاني أيضاً بوجهين ( وهما في الواقع جواب عن ما استدلّ به للقول الأوّل ) :

أحدهما : أنّ الموضوع في أخبار التخيير هو التحيّر ، وهو يرتفع بعد إختيار أحد الخبرين فلا يكون بعده مشمولاً لها ، كما أنّه لا يجوز حينئذٍ استصحاب التخيير لتبدّل الموضوع.

ثانيهما : لزوم المخالفة القطعيّة التدريجية العمليّة من استمرار التخيير فإنّ المفروض كون التخيير ظاهرياً فيكون أحدهما مخالفاً للواقع قطعاً.

أقول : يمكن المناقشة في الوجه الأوّل بأنّ الموضوع في أخبار التخيير ليس هو عنوان المتحيّر بل الموضوع وجود خبرين متعارضين ، ولا إشكال في أنّ التعارض دائمي.

وأمّا الوجه الثاني فهو تامّ في محلّه ، وقد ذكرنا في محلّه أنّ المخالفة القطعيّة العمليّة للعلم الإجمالي حرام سواء كانت دفعيّة أو تدريجيّة ، ولازم هذا الوجه كون التخيير بدوياً كما تشهد به مرفوعة زرارة لأنّها تأمر بالأخذ بأحد الخبرين وطرد الآخر حيث تقول « فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر » ولا إشكال في أنّ ظاهر طرد الآخر طرده مطلقاً ، كما أنّ ظاهر الأخذ بأحدهما أخذه دائماً.

٤٨٤

وأمّا القول الثالث فاستدلّ المحقّق النائيني رحمه‌الله له بأنّ التخيير إذا كان في المسألة الفقهيّة كان كالتخيير بين القصر والإتمام في المواطن الأربعة ، فللمكلّف أن يعمل بمضمون أحد المتعارضين تارةً ، وبمضمون الآخر اخرى ، إلاّ أن يقوم دليل على خلاف ذلك ، وأمّا إذا كان التخيير في المسألة الاصوليّة فإنّ معناه هو التخيير في جعل أحد المعارضين حجّة شرعية وأخذ أحدهما طريقاً محرزاً للواقع ، ولازم ذلك وجوب الفتوى بما اختاره أوّلاً وجعل مؤدّاه هو الحكم الكلّي الواقعي المتعلّق بأفعال المكلّفين فلا معنى لإختيار الآخر بعد ذلك (١).

أقول : الحقّ أنّه لا ملازمة بين القول بالتخيير في المسألة الاصوليّة وكونه بدويّاً ، لإمكان جعل المجتهد مخيّراً في هذه المسألة مستمرّاً ، كما أنّ الأمر في المسألة الفرعية أيضاً كذلك ، إنّما الكلام بحسب مقام الإثبات وظواهر أدلّة التخيير ، فإن كانت هى إطلاقات السعة فهى ظاهرة في الاستمرار ، وإن كانت هى مرفوعة زرارة فهى ظاهرة في التخيير البدوي ، ولو شكّ في ذلك فقاعدة الاحتياط حاكمة بالتخيير البدوي لعين ما مرّ في المسألة السابقة التي دار أمرها بين التعيين والتخيير ، هذا كلّه مع قطع النظر عمّا عرفت من لزوم المخالفة القطعيّة العمليّة التدريجية من التخيير الاستمراري.

المقام الثاني : في أخبار التراجيح

المشهور والمعروف وجوب أعمال المرجّحات قبل أن تصل النوبة إلى التخيير وذهب بعض كالمحقّق الخراساني رحمه‌الله إلى عدم وجوبه ، والأقوى هو ما ذهب إليه المشهور ، ويدلّ على ذلك امور :

الأوّل : الأخبار

فإنّها تأمر بالترجيح ، والأمر ظاهر في الوجوب وهى على طوائف :

الطائفة الاولى : ما يدلّ على أنّ المرجّحات أكثر من مرجّحين وهى عديدة :

__________________

(١) راجع فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٧٦٨ ، طبعة جماعة المدرّسين.

٤٨٥

منها : مقبولة عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحلّ ذلك؟ قال : من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً له ، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يكفر به ، قال الله تعالى : ( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) ، قلت : فكيف يصنعان؟ قال : ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما إستخفّ بحكم الله وعلينا ردّ ، والرادّ علينا رادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله ، فإن كان كلّ واحد اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكون الناظرين في حقّهما واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم ( حديثنا ) فقال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. قال : فقلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضّل ( ليس يتفاضل ) واحد منهما على صاحبه؟ قال : فقال : ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عيه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الامور ثلاثة أمر بيّن رشده فيتّبع وأمر بيّن غيّه فيجتنب وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله وإلى رسوله ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات ومن أخذ بالشبهات إرتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم ، قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال : ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة ، قلت : جعلت فداك إن رأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة والآخر مخالفاً لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ فقال : ما خالف العامّة ففيه الرشاد ، فقلت : جعلت فداك فإن وافقها الخبران جميعاً؟ قال : ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر ، قلت : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعاً قال : إذا كان ذلك فارجه حتّى تلقى إمامك فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الإقتحام في الهلكات » (١).

__________________

(١) الوافي : ج ١ ، أبواب العقل والعلم ، باب اختلاف الحديث والحكم ، ص ٢٨٥ ـ ٢٩٠ ح ١٣ ، طبعة مكتبة الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام.

٤٨٦

فإنّ هذه الرواية تأمر بالترجيح بالشهرة وبموافقة الكتاب ومخالفة العامّة ومخالفة ميل الحكّام ، ولكنّه إستشكل فيها سنداً ودلالة :

أمّا السند فلعمر بن حنظلة حيث إنّه لم يوثّق في كتب الرجال ، نعم نقل المحقّق المامقاني رحمه‌الله لتوثيقه روايتين :

إحديهما : ما رواه يزيد بن خليفة قال : قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام أنّ عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت فقال أبو عبدالله عليه‌السلام « إذاً لا يكذب علينا ... قال : صدق » (١).

ثانيهما : ما رواه عمر بن حنظلة نفسه عن أبي عبدالله عليه‌السلام في جواب السؤال عن القنوت يوم الجمعة قال عليه‌السلام « أنت رسولي إليهم ... » (٢) ، حيث إنّ رسالته عن الصادق عليه‌السلام دليل على أنّ له شأناً من الشأن.

هذا ـ مضافاً إلى حكاية المجلسي رحمه‌الله في روضة المتّقين (٣) عن الشهيد الثاني رحمه‌الله أنّه وثّقه في الدراية.

ولكن مع ذلك كلّه لا يتمّ السند بعد ، لأنّ يزيد بن خليفة مجهول الحال في علم الرجال ، والرواية الثانية راويها نفس عمر بن حنظلة فالاستدلال به دوري ، وأمّا توثيق الشهيد الثاني رحمه‌الله فلعلّ مبناه هاتان الروايتان نفسهما ، فمن البعيد أنّه وصل إليه ما لم يصل إلى غيره ، مضافاً إلى أنّه نفسه صرّح في درايته ، بوجود مجاهيل اخرى في الرواية منه محمّد بن عدي وداود بن حسين ، والعجب منه أنه قال : عمر بن حنظلة لم ينصّ الأصحاب فيه بجرح ولا تعديل لكن أمره عندي سهل لأنّي حقّقت توثيقه من محلّ آخر وإن كانوا قد أهملوه » (٤).

وياليته أشار إلى طريقه فإنّه لا يصحّ لنا الحكم بالمجهول.

إن قلت : « إنّ الصحيح بناءً على القاعدة المختارة في الرجال ( من توثيق من ينقل عنه أحد الثلاثة ) صحّة سندها ، وذلك باعتبار أنّه يمكن توثيق يزيد بن خليفة بهذه القاعدة حيث قد

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٥ ، من أبواب مواقيت الصّلاة ، ح ٦.

(٢) المصدر السابق : الباب ٥ ، من أبواب القنوت ، ح ٥.

(٣) روضة المتّقين : ج ٦ ، ص ٢٧ ، طبعة مطبعة العلمية.

(٤) كتاب الدراية : ص ٤٤ ، طبعة مطبعة النعمان ـ النجف.

٤٨٧

روى عنه صفوان بن يحيى ( وهو أحد الثلاثة ) بسند معتبر في باب كفّارة الصوم من الكافي (١) فنثبت بذلك وثاقته ، وبروايته نثبت وثاقة عمر بن حنظلة أيضاً فالمقبولة صحيحة سنداً » (٢).

قلنا : هذه القاعدة غير ثابتة عندنا لأنّ أحد هؤلاء الثلاثة هو ابن أبي عمير ، وقد روى عن علي بن حديد وقد ضعّفه الشيخ رحمه‌الله في مواضع من كتابه وبالغ في تضعيفه وقد روى هو أيضاً وصفوان ( فرد آخر من الأعلام الثلاثة ) عن يونس بن ظبيان وهو من أضعف الضعاف إلى غير ذلك من الضعاف الذين روى هؤلاء عنهم (٣) وكيف يصحّ مع ذلك الاعتماد على تلك القاعدة وأنّ الأعلام الثلاثة لا يروون إلاّعن الثقات؟

فظهر أنّه لا يمكن توثيق عمر بن حنظلة بهاتين الروايتين ، نعم لا أقلّ من تأييدهما لوثاقته ، كما يمكن التأييد بأنّه نقلها المشايخ الثلاثة في ثلاث من الكتب الأربعة ، والمهمّ في المقام إنّما هو عمل الأصحاب بهذه الرواية فتلقّوه بالقبول حتّى سمّيت مقبولة.

وأمّا الدلالة فقد نوقش فيها من جهات شتّى :

١ ـ من أنّ ظاهرها جواز كون القاضي إثنين مع أنّه ممنوع في فقهنا.

٢ ـ سلّمنا ولكن من البعيد جدّاً وقوع قضائهما في آنٍ واحد بل أحدهما يتقدّم على الآخر غالباً ، وحينئذٍ لا إشكال في عدم جواز نقض المتأخّر قضاء المتقدّم وإن كان أعلم منه مع أنّ ظاهر هذه الرواية جوازه.

٣ ـ إنّ ظاهره أنّ أحدهما إعتمد في قضائه على الخبر الشاذّ وغفل عن المعارض المشهور ، وهذا دليل على نقصان فحصه أو عدم فحصه عن الأدلّة رأساً ، ومعه كيف يتمّ له القضاء؟

٤ ـ ظاهر قوله عليه‌السلام : ينظر إلى ما كان من روايتهما ... وكذلك قوله عليه‌السلام : « ينظر فما وافق ... » وقوله عليه‌السلام : « ينظر إلى ما هم إليه أميل ... » جواز نظر أرباب الدعوى ودخالتهم في القضاء وهو ممنوع بلا ريب.

٥ ـ إنّ ظاهرها تقدّم الترجيح بصفات القاضي على الترجيح بموافقة الكتاب مع أنّ المشهور خلافه.

__________________

(١) فروع الكافي : ج ٤ ، باب كفّارة الصوم ، ص ١٤٤.

(٢) بحوث في علم الاصول : تقريرات الشهيد الصدر ، ج ٧ ، ص ٣٧٠.

(٣) وإن شئت مزيد التوضيح في ذلك فراجع معجم الرجال : ج ١ ، ص ٦٣ ـ ٦٩.

٤٨٨

٦ ـ الظاهر جواز الترجيح في صفات القاضي بأحد الصفات المذكورة في هذه الرواية ( وهى الأعدليّة والأفقهيّة والأصدقيّة والأورعيّة ) مع أنّ ظاهرها بقرينة واو الجمع لزوم اجتماعها.

٧ ـ إنّ الاحتجاج بها على وجوب الترجيح في مقام الفتوى لا يخلو عن إشكال لقوّة احتمال الترجيح بها بمورد الحكومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة كما هو موردها ولا وجه معه للتعدّي منه إلى غيره.

توضيح ذلك : أنّ الإمام عليه‌السلام بعد ما ذكر مرجّحات القاضيين وإن كان قد ذكر مرجّحات الخبرين أيضاً ولكن الترجيح في الخبرين إنّما يكون لدفع خصومة المتخاصمين فلا يمكن الاحتجاج بها لوجوب الترجيح في مقام الفتوى أيضاً ، وذلك لقوّة احتمال اختصاص الترجيح بتلك المزايا المنصوصة بمورد الحكومة والقضاء فقط ، فإنّ قطع الخصومة عند اختلاف القاضيين لاختلاف ما استند إليه من الخبرين لا يكاد يمكن إلاّبالترجيح ، بخلاف مقام العمل والفتوى فيمكن الأخذ فيه بأيّهما شاء من باب التسليم.

٨ ـ إنّها مختصّة بزمان الحضور والتمكّن من لقاء الإمام عليه‌السلام بقرينة أمره في آخرها بالإرجاء حتّى تلقى إمامك.

٩ ـ إنّ صدرها معارض لذيلها لأنّ الصدر ظاهر في أنّ أرباب الدعوى كانوا مقلّدين والذيل ظاهر في اجتهادهم بقرينة قوله عليه‌السلام : « ينظر ... » فإنّ النظر والدقّة من عمل المجتهد لا المقلّد.

هذه هى جهات تسعة في المناقشة من ناحية الدلالة.

ولابدّ لحلّها والجواب عنها من البحث في أنّ هذه الرواية هل هى واردة في باب القضاء أو في باب الفتوى أو الحكومة والولاية ، أو أنّ صدرها وارد في باب الحكومة وذيلها في باب الفتوى ، أو أنّ صدرها وارد في باب القضاء وذيلها في باب الفتوى ، أو أنّ صدرها وارد في باب القضاء ووسطها في باب الاجتهاد والتقليد وذيلها في باب تعارض الخبرين والافتاء؟ فالاحتمالات فيه ستّة ، أظهرها هو الأخير.

والشاهد على أنّ صدرها مخصوص بباب القضاء أوّلاً : التعبير بـ « المنازعة في دَين أو ميراث » فإنّ رفع المنازعة من شؤون القاضي وهو المرجع فيها ، بل الرجوع إلى وليّ الأمر في

٤٨٩

مثل ذلك إنّما يكون بما هو قاضٍ لا بما هو حاكم.

وثانياً : الجمع بين تعبيري « إلى السلطان » و « إلى القضاة » بواو الجمع ، حيث إنّ ظاهره كون التحاكم إلى السلطان من باب أنّه قاضٍ لا بما أنّه حاكم.

ثالثاً : التعبير بالحكم في قوله عليه‌السلام : « وما يحكم به ... » ، فإنّ الحكم من شؤون القاضي لا الحاكم بما هو حاكم ، حيث إنّ مقام الحكومة والولاية مقام الإجراء لا مقام إصدار الحكم.

رابعاً : الاستدلال بقوله تعالى : ( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) لأنّ هذه الآية إنّما وردت في مورد القضاء في قصّة يهودي ومسلم منافق رضي اليهودي بقضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يرض المسلم المنافق به ).

خامساً : التعبير بقوله عليه‌السلام : « كلاهما اختلفا في حديثكم » لما مرّ من أنّ وظيفة الحاكم الشرعي بما هو حاكم إجراء الأحكام لا ملاحظة أدلّة الأحكام والبحث عن تعارضها والاختلاف فيها.

سادساً : اعمال المرجّحات فيها لأنّه أيضاً ليس من شؤون الحاكم.

فظهر أنّ هذه الرواية قد وردت في الشبهة الموضوعيّة ومورد القضاء ، غاية الأمر حيث إنّ الأمر فيها إنتهى إلى الشبهة الحكميّة والاختلاف في الأحاديث في الأثناء وصلت النوبة في الذيل إلى مسألة التعارض واعمال المرجّحات.

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى الجواب عن الإشكالات التسعة فنقول ومن الله التوفيق والهداية :

أمّا الإشكال الأوّل فجوابه : أنّ تعدّد القاضي ممنوع في المنصوب منه لا في التحكيم.

وأمّا الإشكال الثاني فجوابه أيضاً : أنّ عدم جواز نقض حكم القاضي لا يأتي في قاضي التحكيم فإنّ من لوازم جواز تعدّده نقض أحد القاضيين حكم الآخر ، فتأمّل.

وأمّا الإشكال الثالث فجوابه : أنّه لا منافاة بين طرد رواية وكونها مشهورة لأنّ المراد من الشهرة إنّما هى الشهرة الروائية لا الفتوائية.

وظهر ممّا ذكرنا من المقدّمة الجواب عن الإشكال الرابع ( وهو عدم جواز دخالة أرباب الدعوى في القضاء ) حيث إنّ المسألة تبدّلت من القضاء إلى الفتوى ، ومنها إلى منبع الفتوى أي الخبرين ، وفيه لابدّ من النظر إلى المرجّحات فرجوعهما إلى المرجّحات إنّما يكون لاستنباط

٤٩٠

الحكم من ناحيتهما لا بما أنّهم أرباب الدعوى.

وهكذا الجواب عن الإشكال الخامس ( وهو عدم جواز تقديم الترجيح بالصفات على الترجيح بموافقة الكتاب ) ، لأنّ الرجوع إلى الصفات إنّما هو لتقديم حاكم على حاكم أو مفتٍ على مفتٍ لا تقديم إحدى الروايتين على الاخرى ، ولذا قال : « الحكم ما حكم به أعدلهما ... » وقال بعده : « ينظر إلى ما كان من روايتهما ... » فالأوّل مزيّة للحاكم أو المفتي ، والثاني مزيّة للرواية.

وأمّا الإشكال السادس : ( وهو أنّ ظاهر المقبولة لزوم اجتماع الصفات الأربعة ) فجوابه : أنّ الواو فيها بمعنى « أو » ، والشاهد عليه ما ورد في الذيل من قول عليه‌السلام السائل : « لا يفضل واحد منهما على صاحبه » فإنّ ظاهره لزوم ترجيح من يفضّل بواحدة من هذه الصفات وأنّه هو المراد من ما قبله بقرينة المقابلة.

وظهر ممّا ذكرنا في المقدّمة أيضاً الجواب عن الإشكال السابع ( وهو احتمال اختصاص الترجيح بها بمورد الحكومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة ) لأنّ الوارد في باب الحكومة وفصل الخصومة إنّما هو صدر الرواية لا ذيلها ، فإنّه وارد في باب تعارض الخبرين في مقام الفتوى.

وأمّا الإشكال الثامن : ( وهو اختصاص الرواية بزمن الحضور ) فجوابه أوّلاً : إنّ مقتضى قاعدة الاشتراك في التكليف عدم الفرق بين الزمنين ما لم تقم قرينة على الخلاف ، وثانياً : إذا كان الحكم في زمن الحضور مع إمكان لقاء الإمام عليه‌السلام هكذا ، ففي زمن الغيبة وعدم التمكّن من الإمام يكون كذلك بطريق أولى.

وأمّا الإشكال التاسع : ( وهو وجود تناقض بين الصدر والذيل ، فإنّ الصدر ظاهر في التقليد والذيل في الاجتهاد ) فجوابه أنّه فرق بين الاجتهاد في عصر الحضور والاجتهاد في أعصارنا فإنّ قواعد الفقه والاصول وفروعاتهما في أعصارنا متشعّبة معقّدة على خلاف تلك الأعصار فإنّها كانت بسيطة جدّاً يمكن الوصول إليها لكثير من آحاد الناس ، ولا مانع من صيرورة المقلّد بعد الحصول عليها إجمالاً مجتهداً ولو في بعض المسائل.

هذا كلّه في الرواية الاولى من الطائفة الاولى من أخبار الترجيح.

٤٩١

ومنها : مرفوعة زرارة وقد رواها محمّد بن علي بن إبراهيم بن أبي جمهور الأحسائي في كتابه غوالي اللئالي عن العلاّمة رحمه‌الله مرفوعاً إلى زرارة قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام فقلت : « جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال : يازرارة خذ بما إشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر. فقلت : ياسيّدي إنّهما معاً مشهوران مرويّان مأثوران عنكم. فقال : خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك. فقلت : إنّهما معاً عدلان مرضيّان موثّقان. فقال : انظر إلى ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه وخذ بما خالفهم فإنّ الحقّ فيما خالفهم ، قلت : ربّما كانا معاً موافقين لها أو مخالفين فكيف أصنع؟ فقال : إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط. فقلت : إنّهما معاً موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ فقال : إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به ودع الآخر » (١).

وقد نقلها الشيخ الأعظم رحمه‌الله في رسائله ولكن بتفاوت مع ما ورد في غوالي اللئالي في مواضع كثيرة ( عشرة مواضع ) لكنّها غير مؤثّرة في المقصود.

والمهمّ إشكالها السندي أوّلاً : من ناحية عدم كون الإحسائي معاصراً للعلاّمة رحمه‌الله فلابدّ أنّه نقله من كتابه مع أنّه قد يقال : إنّه لم يجدها المتتبّعون في كتب العلاّمة رحمه‌الله ، واحتمال أخذه من بعض تلاميذه أيضاً لا يفيدنا لأنّه مجهول لنا.

وثانياً : من ناحية الارسال بين العلاّمة رحمه‌الله وزرارة بسقوط وسائط كثيرة لفصل طويل بينهما.

قال صاحب الحدائق ( فيما حكى عنه ) : أنّ الرواية لم نقف عليها في غير كتاب العوالي مع ما عليها من الارسال وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار والاهمال وخلط غثّها بسمينها وصحيحها بسقيمها كما لا يخفى على من لاحظ الكتاب المذكور ( انتهى ).

وقد ذكر شيخنا الأنصاري رضوان الله عليه في بعض كلماته في مباحث الشهرة : ( في مباحث الظنّ ) « أنّه قد أشكل في سند هذا الخبر من ليس دأبه الإشكال ... » والظاهر أنّه ناظر إلى كلام الحدائق.

__________________

(١) غوالي اللئالي : ج ٤ ، ص ١٣٣ ؛ وفي المستدرك : ج ١٧ ، ص ٣٠٣.

٤٩٢

نعم يستفاد من بعض الكلمات عمل المشهور بها ، فقال الشيخ الأعظم رحمه‌الله في مباحث التعادل والترجيح : « فإنّه وإن كانت ضعيفة السند إلاّ أنّها موافقة لسيرة العلماء في باب الترجيح فإنّ طريقتهم مستمرّة على تقديم المشهور على الشاذّ ، والمقبولة وإن كانت مشهورة بين العلماء حتّى سمّيت مقبولة إلاّ أنّ عملهم على طبق المرفوعة وإن كانت شاذّة من حيث الرواية حيث لم توجد مرويّة في شيء من جوامع الأخبار المعروفة ولم يحكها إلاّ ابن أبي جمهور عن العلاّمة مرفوعاً » ( انتهى ).

ثمّ أورد عليها بما حاصله : أنّ العمل بالمرفوعة يقتضي عدم العمل بها حيث إنّها معارضة مع المقبولة في تقديم الشهرة على الصفات وتأمر بالأخذ بالمشهور من الروايتين المتعارضتين لأنّ ولا إشكال في أنّ المشهور بينهما إنّما هى المقبولة.

أقول : ولكنّه متوقّف على وجود التعارض بينهما مع أنّه ليس كذلك ، لأنّ صدر المقبولة وارد في باب الحكم والفتوى لا الخبرين المتعارضين كما مرّ ، وإنّما المتعلّق منها بباب تعارض الخبرين قوله عليه‌السلام : « ينظر إلى ما كان من روايتهما المجمع عليه ... » ولا يخفى أنّ أوّل المرجّحات حينئذٍ الشهرة كما في المرفوعة.

نعم ، يبقى إشكال ضعف السند على حاله لأنّ استناد عمل الأصحاب بها غير معلوم فلعلّ مدركهم هو المقبولة بناءً على ما ذكرنا.

فتحصّل أنّ المرجّحات الواردة في كلّ واحدة من هاتين الروايتين أربعة ، أمّا ما ورد في المقبولة فهى : الشهرة ، وموافقة الكتاب ، ومخالفة العامّة ، ومخالفة ما هو أميل إليه حكّامهم وقضاتهم ، وما ورد في المرفوعة فهى : الشهرة ، وصفات الراوي ، ومخالفة العامّة ، والموافقة مع الاحتياط.

ومنها : مرسلة الكليني فإنّه قال في أوّل الكافي : « إعلم يا أخي أنّه لا يسع أحد تمييز شيء ممّا اختلفت الرواية فيه عن العلماء برأيه إلاّما أطلقه العالم عليه‌السلام بقوله : أعرضوهما على كتاب الله عزّوجلّ فما وافق كتاب الله عزّوجلّ فخذوه وما خالف كتاب الله فردّوه ، وقوله عليه‌السلام : دعوا ما وافق القوم فإنّ الرشد في خلافهم ، وقوله عليه‌السلام : خذوا بالمجمع عليه فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » (١).

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٩ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ١٩.

٤٩٣

فالمرجّحات الواردة فيها ثلاثة : موافقة كتاب الله ، ومخالفة العامّة ، والشهرة ، ولكن المظنون بالظنّ القوي أنّها ليست إلاّضمّ روايات بعضها ببعض فليست رواية مستقلّة غير ما مرّ عليك.

هذا كلّه في الطائفة الاولى وهى ما تدلّ على أنّ المرجّحات أكثر من إثنين.

الطائفة الثانية : فهى ما تدلّ على أنّ المرجّحات اثنان ( وهما الموافقة مع كتاب الله والمخالفة مع العامّة ) وهى رواية واحدة رواها عبدالرحمن بن أبي عبدالله قال : قال الصادق عليه‌السلام : « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فأعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردّوه ، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فأعرضوهما على أخبار العامّة ، فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه » (١).

الطائفة الثالثة : ما تدلّ على مرجّح واحد ( وهو الموافقة مع الكتاب والسنّة القطعيّة ) وهى ثلاثة :

إحديها : ما رواه أحمد بن الحسن الميثمي أنّه سأل الرضا عليه‌السلام يوماً ... قلت : « فإنّه يرد عنكم الحديث في الشيء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّا ليس في الكتاب وهو في السنّة ثمّ يرد خلافه فقال : كذلك فقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أشياء ... فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فأعرضوهما على كتاب الله فما كان في كتاب الله موجوداً حلالاً أو حراماً فاتّبعوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فأعرضوه على سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ... » (٢). ( ومن الواضح أنّ المراد من السنّة فيها هو السنّة القطعيّة ).

ثانيها : ما رواه الحسن بن الجهم عن الرضا عليه‌السلام قال : قلت له : « تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة فقال : ما جاءك عنّا فقس على كتاب الله عزّوجلّ وأحاديثنا فإن كان يشبهها فهو منّا

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٩ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٩.

(٢) المصدر السابق : ح ٢١.

٤٩٤

وإن لم يكن يشبهها فليس منّا » (١) ( فالأحاديث القطعيّة عنهم بمنزلة السنّة النبوية القطعيّة ).

ثالثها : ما رواه الحسن بن الجهم عن العبد الصالح عليه‌السلام قال : « إذا جاءك الحديثان المختلفان فقسهما على كتاب الله وأحاديثنا فإن أشبهها فهو حقّ وإن لم يشبهها فهو باطل » (٢).

الطائفة الرابعة : ما تدلّ على مرجّح واحد ، وهو مخالفة العامّة وهى أربعة :

١ ـ ما رواه الحسين بن السرّي قال : قال أبو عبدالله عليه‌السلام : « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم » (٣).

٢ ـ ما رواه الحسن بن الجهم قال : قلت للعبد الصالح عليه‌السلام : « هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إلاّ التسليم لكم؟ فقال : لا والله لا يسعكم إلاّ التسليم لنا فقلت : فيروى عن أبي عبدالله عليه‌السلام شيء ويروى عنه خلافه فبأيّهما نأخذ؟ فقال : خذ بما خالف القوم ، وما وافق القوم فاجتنبه » (٤).

٣ ـ ما رواه محمّد بن عبدالله قال : قلت للرضا عليه‌السلام : « كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ فقال : إذا ورد عليكم خبران مختلفان فانظروا إلى ما يخالف منهما العامّة فخذوه وانظروا إلى ما يوافق أخبارهم فدعوه » (٥).

٤ ـ ما رواه سماعة بن مهران عن أبي عبدالله عليه‌السلام قلت : « يرد علينا حديثان : واحد يأمرنا بالأخذ به ، والآخر ينهانا عنه قال : لا تعمل بواحد منهما حتّى تلقى صاحبك فتسأله ، قلت : لابدّ أن نعمل بواحد منهما ، قال : خذ بما فيه خلاف العامّة » (٦).

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٩ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٤٠.

(٢) المصدر السابق : ح ٤٨.

(٣) المصدر السابق : ح ٣٠.

(٤) المصدر السابق : ح ٣١.

(٥) المصدر السابق : ح ٣٤.

(٦) المصدر السابق : ح ٤٢.

٤٩٥

الطائفة الخامسة : ما تدلّ على الترجيح بالموافقة مع الشهرة وهى رواية واحدة رواها في الإحتجاج مرسلاً ، قال : وروي عنهم عليهم‌السلام أنّهم قالوا : إذا إختلف أحاديثنا عليكم فخذوا بما اجتمعت عليه شيعتنا فإنّه لا ريب فيه » (١).

ولكن لا يبعد أن تكون مأخوذة من مقبولة عمر بن حنظلة.

الطائفة السادسة : ما تدلّ على ترجيح الأحدث ، وهى أربعة ، مرّت ثلاثة (٢) منها في المقام الأوّل ، والرابعة ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : قلت له : « ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يتّهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه؟ قال : إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن ».

ولا يخفى أنّه لا يمكن الأخذ بظاهر هذا الحديث ( وهو أنّ الإمام عليه‌السلام يمكن له نسخ ما روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لأنّ الإمام حافظ للشريعة لا مشرّع ، فليكن المراد منه إمّا أنّ الإمام عليه‌السلام يبرز ويبيّن ما كان منسوخاً في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم تساعد الظروف على تبيينه ، وحينئذٍ يخرج الحديث عن محلّ البحث لأنّ البحث في ما نحن فيه عن الأخبار الظنّية ، والناسخ يعتبر فيه أن يكون قطعيّاً.

أو المراد منه الأخذ بالأحدث ، أي بما يكون ناسخاً للحكم الظاهري ( لا للحكم الواقعي كما في الاحتمال الأوّل ) فيكون الحديث دالاً على الترجيح بالأحدثيّة.

هذه هى الطوائف الستّة الواردة في المرجّحات.

ولكن الإنصاف أنّ الطائفة السادسة بجميع رواياتها خارجة عن محلّ الكلام لأنّها واردة في باب التقيّة كما لا يخفى ، ومحلّ البحث ما إذا كان الخبران كلاهما في مقام بيان حكم الله الواقعي.

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٩ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٤٣.

(٢) المصدر السابق : ح ٧ و ٨ و ١٧.

٤٩٦

فتبقى خمس طوائف اخرى لابدّ من علاجها ورفع التعارض بينها.

والعجب من المحقّق الخراساني رحمه‌الله حيث إنّه رفضها من دون ذكرها جميعاً وتبيين معانيها ونسبها ، مع أنّ اللازم في جميع هذه الأبواب ذكر جميع ما ورد عنهم عليهم‌السلام واحداً بعد واحد والدقّة في مضامينها ، وقد جرت عادة شيخنا الأنصاري رحمه‌الله على هذه الطريقة ، ولكن مع الأسف تغيّرت عادة كثير من المتأخّرين والمعاصرين من الاصوليين إلى غير هذا ، حفظنا الله تعالى من مزال الإقدام.

وعلى أي حال الاشكال الأول الذي يرد على هذه الروايات هو أنّها معارضة مع أخبار التخيير التي مرّ تفصيلها في المقام الأوّل.

ويجاب عنه : بحمل المطلق على المقيّد ، حيث إنّ تلك الروايات مطلقة تعمّ موارد وجود المرجّحات وعدمها فتقيّد بهذه الروايات وتحمل على موارد تساوي الخبرين.

والإشكال الثاني : تعارض نفس هذه الطوائف بعضها مع بعض ، فإنّ بعضها يدلّ على ثلاث مرجّحات أو أربعة ، وبعضها على إثنين ، وبعضها الآخر على أنّها واحدة ، والتي تدلّ على مرجّح واحد أيضاً مختلفة كما مرّ آنفاً.

ولكن هذا الإشكال أيضاً يندفع بحمل المطلق على المقيّد ، فإنّ ما تدلّ على مرجّح واحد مثلاً تكون مطلقة بالنسبة إلى سائر المرجّحات كما يتّضح بالتأمّل فيها.

والإشكال الثالث : في المقام إشكال الترتيب الموجود بين المرجّحات ، فإنّ الترتيب الموجود في المقبولة مثلاً يخالف الترتيب الموجود في المرفوعة.

وسيأتي الجواب عنه إن شاء الله تعالى عند الجواب عن إشكالات المحقّق الخراساني رحمه‌الله على وجوب الترجيح فانتظر.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله بعد أن اعتبر المقبولة والمرفوعة أجمع خبر للمزايا المنصوصة في الأخبار حاول أن يناقش في دلالتهما على وجوب الترجيح فأورد على الإحتجاج بهما بامور :

١ ـ ما يختصّ بالمرفوعة فقط ، وهو ضعف سندها ، وقد مرّ الكلام فيه فلا نعيد.

٢ ـ ما يختصّ بالمقبولة فقط ، وهو ما مرّ تفصيله من أنّها مختصّه بباب القضاء ورفع الخصومة فلا ربط لها للترجيح في مقام الفتوى ، وقد مرّ توضيح إشكاله هذا والجواب عنه أيضاً.

٤٩٧

٣ ـ ما يختصّ بالمقبولة أيضاً وهو اختصاصها بزمان الحضور والتمكّن من لقاء الإمام عليه‌السلام بقرينة أمره في آخرها بالإرجاء حتّى تلقى إمامك ، ووجوب الترجيح في زمان الحضور لا يلازم وجوبه في زمان الغيبة ، وقد مرّ الجواب عن هذا الإشكال أيضاً فراجع.

٤ ـ أنّ تقييد جميع إطلاقات التخيير الواردة في مقام الجواب عن سؤال حكم المتعارضين بلا استفصال عن كونهما متعادلين أو متفاضلين بأخبار الترجيح من المقبولة والمرفوعة وغيرها وحمل الإطلاقات المذكورة جميعاً على موارد تساوي الخبرين مع ندرتها بعيد قطعاً.

ولكن الإنصاف أنّ هذا الاستبعاد يزول بعد ملاحظة أخبار التخيير وقلّة إطلاقاتها ، فقد لاحظت في المقام الأوّل أنّ روايات التخيير التامّة دلالة هى رواية الحسن بن الجهم ( وهى الرواية الاولى من ذلك المقام ) ورواية الحارث بن المغيرة ( وهى الرواية الثانية ) ومرفوعة زرارة ( وهى الرواية الثامنة ) ومرسلة كليني.

أمّا مرفوعة زرارة فإنّ الأمر بالتخيير فيها ورد بعد الأمر بالترجيح فلا تعدّ من المطلقات ، وأمّا مرسلة الكليني فقد احتملنا كونها مأخوذة من سائر الروايات ، فتبقى الرواية الاولى والثانية ، ولا إشكال في أنّ حملهما على موارد التساوي ليس ببعيد.

٥ ـ وجود الاختلاف الكثير في نفس أخبار الترجيح ، فإنّه شاهد على الحمل على مراتب الاستحباب والفضل ( كما فعله الأصحاب بالنسبة إلى الروايات المختلفة الواردة في باب منزوحات البئر ).

وهذا أيضاً يرتفع بعد التأمّل في الأخبار والنسبة الموجودة بينها ، فإنّ المهمّ من الطائفة الاولى إنّما هى المقبولة ( لعدم اعتبار المرفوعة سنداً كما مرّ ) والمرجّحات الواردة فيها عبارة عن الشهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامّة ( وأمّا المخالفة مع ميل حكّامهم فهى من مصاديق مخالفة العامّة فترجع إليها كما لا يخفى ) ولا إشكال في أنّ الطائفة الثانية وهى ما تدلّ على إثنين من هذه الثلاثة ( وهما الثاني والثالث منها ) مطلقة بالنسبة إلى المرجّح الأوّل منها ، وهكذا كلّ من الطائفة الثالثة والرابعة التي غ تدلّ على مرجّح واحد من الثلاثة مطلقة بالنسبة إلى مرجّحين آخرين فيجمع بينها بالتقييد.

٦ ـ ما يختصّ بالأخبار المشتملة على الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة فقط أو الترجيح

٤٩٨

بمخالفة العامّة فقط ، أو الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة معاً ، وحاصله : أنّها ليست من أخبار الباب ، أي ترجيح الحجّة على الحجّة ، وإنّما هى في مقام تمييز الحجّة عن اللاّحجّة ، أمّا بالنسبة إلى الخبر المخالف للكتاب والسنّة فلقوّة احتمال أن يكون مثله في نفسه غير حجّة ولو لم يكن له معارض أصلاً ، وذلك بشهادة ما ورد في شأنه من أنّه زخرف أو باطل أو أنّه لم نَقُله ، أو أمر بطرحه على الجدار ، مضافاً إلى أنّ الصدور أو الظهور في مثله يكون موهوناً بحيث لا يعمّه أدلّة اعتبار السند أو الظهور.

وأمّا بالنسبة إلى الخبر الموافق للقوم فلأنّه بملاحظة الخبر المخالف له مع الوثوق بصدوره ( المخالف ) لو لم ندع القطع بصدوره تقيّة فلا أقلّ من عدم جريان أصالة الجدّ فيه.

ولكن الإنصاف أنّ هذا أيضاً نشأ من عدم التأمّل في أخبار الباب ، أمّا المشتملة على الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة فلأنّها على قسمين : قسم لا ربط له بما نحن فيه ، أي بباب التعارض ، بل إنّه وارد في مطلق ما يكون مخالفاً للكتاب ، وقسم آخر ورد في خصوص باب التعارض ، والتعبير بـ « أنّه زخرف » أو « باطل » أو غيرهما ورد في خصوص القسم الأوّل لا الثاني.

فإنّ من القسم الأوّل : ما رواه السكوني عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه » (١).

ومنها : ما رواه أيّوب بن راشد عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف » (٢).

ومنها : ما رواه أيّوب بن الحرّ قال : سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول : كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة ، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف » (٣).

ومنها : ما رواه هشام بن الحكم وغيره عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « خطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمعنى وقال : أيّها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته ، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله » (٤).

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٩ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ١٠.

(٢) المصدر السابق : ح ١٢.

(٣) المصدر السابق : ح ١٤.

(٤) المصدر السابق : ح ١٥.

٤٩٩

ومنها : ما ورد في تفسير العياشي عن سدير قال : « قال أبو جعفر وأبو عبدالله عليهما‌السلام : لا تصدّق علينا إلاّما وافق كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله » (١).

فتلاحظ أنّ جميعها واردة في كلّ خبر يكون مخالفاً للكتاب والسنّة ولا ربط لها بباب الخبرين المتعارضين ، وحينئذٍ يكون المراد من المخالفة فيها هى المخالفة على نحو التباين لا العموم والخصوص أو الاطلاق والتقييد ، فإنّا نقطع بورود مخصّصات أو مقيّدات كثيرة لعمومات الكتاب وإطلاقاتها في الأخبار الظنّية المعتبرة.

ومن القسم الثاني ( الذي هو خالٍ عن تلك التعبيرات ) المقبولة والمرفوعة. وما رواه عبدالرحمن بن أبي عبدالله عن الصادق عليه‌السلام ( وقد مرّ ذكرها في الطائفة الثانية من أخبار المرجّحات ).

وليس في شيء منها واحد من تلك التعبيرات الظاهرة في عدم الحجّية ، فيكون المراد من المخالفة فيها المخالفة لظهور الكتاب لا لنصّه وصريحه.

وممّا يشهد عليه وقوع الترجيح بموافقة الكتاب في المقبولة بعد الترجيح بالشهرة أنّ معنى تقديمه عليه هو الأخذ بالخبر المشهور المجمع عليه وإن كان مخالفاً للكتاب والسنّة ، فلو كان المراد من المخالف للكتاب والسنّة هو المخالف لنصّهما وصريحهما لم يجز الأخذ به ولو فرض كونه مشهوراً مجمعاً عليه عند الأصحاب كما لا يخفى.

كما يشهد عليه أيضاً فرض الراوي في المقبولة موافقة كلا الخبرين للكتاب بقوله : « إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة » فإنّه إذا كان المراد من المخالفة المخالفة على نحو التباين فلا معنى لأن يكون كلّ من الخبرين المتعارضين المتباينين موافقاً لكتاب الله.

ويشهد عليه ثالثاً وقوع الترتيب بين الترجيح بموافقة الكتاب والترجيح بمخالفة العامّة في المقبولة أيضاً ، فإنّ اعتبار الترتيب لا يلائم عدم الحجّية كما لا يخفى. وبالجملة ليس المراد من المخالفة للكتاب في أخبار الترجيح هى المخالفة لنصّ الكتاب وصريحه ، بل المراد منها بقرينة هذه الشواهد الثلاثة هى المخالفة لظهوره.

وبهذا يظهر الجواب عن الأمر الثاني في كلامه ( وهو عدم شمول أدلّة اعتبار السند

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٩ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٤٧.

٥٠٠