أنوار الأصول - ج ٣

أنوار الأصول - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-15-6
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٢٤

القرعة باسم زكريا الذي لا ريب في كونه أفضل من غيره في ذلك الزمان ، نعم أنّه كان بملاك رفع التنازع بين الأحبار أيضاً ، فاجتمع الملاكان فيه ولا منافاة بينهما.

الأمر الثالث : الروايات في الفرعة

إنّ روايات القرعة على طائفتين : طائفة يستفاد منها أنّ ملاك حجّية القرعة هو أماريتها وكاشفيتها عن الواقع وهى رواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام (١) ورواية زرارة (٢) ورواية العياشي عن أبي جعفر في حديث يونس (٣) ورواية عبّاس بن هلال عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام (٤) ورواية سماعة (٥) ، وطائفة يستفاد منها بالصراحة إنّ ملاكها حفظ العدالة.

ويمكن الجمع بينهما بأنّ الطائفة الاولى ناظرة إلى الموارد التي يكون الواقع فيها مجهولاً ، والطائفة الثانية ناظرة إلى ما لا واقع لها ، وحينئذٍ تكون القرعة أمارة في الموارد الاولى كما يشهد بها لسان ما وردت من الأدعية في الطائفة الاولى ، نظير ما ورد في حديث سماعة : « اللهمّ ربّ السموات السبع وربّ الأرضين السبع وربّ العرش العظيم ، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم ، أيّهما كان صاحب الدابّة وهو أولى بها فأسألك أن يقرع ويخرج سهمه » وما ورد في بعض الروايات : « اللهمّ أنت الله لا إله إلاّ أنت عالم الغيب والشهادة ... وبيّن لنا أمر هذا المولود » (٦) وفي بعضها الآخر : « ما من قوم فوّضوا أمرهم إلى الله عزّوجلّ وألقوا سهامهم إلاّخرج السهم الأصوب » (٧).

الأمر الرابع : القرعة لكلّ أمر مشكل

إنّا لم نظفر بما إشتهر في ألسنة المعاصرين من التعبير بـ « القرعة لكلّ أمر مشكل » في ما

__________________

(١) من الروايات التي نقلناها في القواعد ، المجلّد الثاني ، تحت عنوان الروايات العامّة ، ح ١.

(٢) المصدر السابق : ح ٣.

(٣) المصدر السابق : ح ٧.

(٤) المصدر السابق : ح ٨.

(٥) ح ١ ، من الطائفة الاولى من الروايات التي نقلناها في القواعد تحت عنوان الروايات الخاصّة.

(٦) وهى صحيحة الفضيل بن يسار المروية في الكافي والتهذيب فراجع عوائد الأيّام : ص ٢٢٥.

(٧) حديث عبّاس بن هلال.

٤٤١

تتبّعناه من الروايات ، بل الوارد في ما رواه الصدوق في الفقيه والشيخ في التهذيب عن محمّد بن حكيم عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام : « كلّ مجهول ففيه القرعة » (١) ولذلك لابدّ من البحث في أنّ المراد من المجهول هل هو المجهول واقعاً : أو واقعاً وظاهراً؟ فإن كان المراد هو الثاني فلازمه أنّ القرعة أمارة حيث لا أمارة ولا أصل ، وإن كان المراد هو الأوّل فيقع التعارض بينه وبين سائر الاصول والأمارات ، وقد مرّ أنّ الصحيح هو الثاني فلا نعيد.

إن قلت : أنّ رواية محمّد بن حكيم ( كلّ مجهول ففيه القرعة ) غير وافٍ لإثبات هذه المسألة المهمّة.

قلنا : الدليل على كون القرعة للأمر المجهول المطلق ليس منحصراً في هذه الرواية بل قد عرفت أنّ بناء العقلاء الذي أمضاه الشارع ( مع توسعة قد عرفتها ) أيضاً على الرجوع إلى القرعة في خصوص هذه الموارد.

أضف إلى ذلك ما يستفاد من الروايات الخاصّة الكثيرة الواردة في موارد مختلفة ، فإنّ جميعها وردت فيما هو مجهول مطلقاً لا أمارة فيها ولا أصل ، ويمكن اصطياد العموم منها فيكون دليلاً برأسه في هذه المسألة المهمّة.

الامر الخامس : ما المراد من المجهول

ممّا يترتّب على كون المراد من المجهول هو المجهول المطلق عدم لزوم تخصيص في أدلّة القرعة فضلاً عن كونها موهونة بكثرته كما أشرنا إليه سابقاً.

إلى هنا قد ظهر أوّلاً : وجه تقديم الاستصحاب على القرعة ووروده عليها ، وثانياً : عدم تخصيصها بمورد فضلاً عن كونها موهونة بكثرة التخصيص ، وثالثاً : إنّها أمارة حيث لا أمارة ولا أصل فيما كان له واقع مجهول.

تمّ الكلام عن مبحث الاستصحاب ، وبه تمّ الكلام عن المقصد السابع من مباحث الاصول.

والحمد لله ربّ العالمين.

__________________

(١) القواعد الفقهيّة : المجلّد الأوّل ، ص ٣٣٠ ، الطبعة الثانية.

٤٤٢

المقصد الثامن

في تعارض الأدلّة والتعادل والتراجيح

ـ مقدّمة :

١ ـ عنوان المسألة

٢ ـ تعريف التعارض

٣ ـ التخصيص والتخصّص والحكومة والورود

٤ ـ عدم وجود التعارض بين العناوين الأوّلية والعناوين الثانوية

٥ ـ موارد الجمع العرفي ليست من التعارض :

ضوابط الجمع الدلالي العرفي

٦ ـ الفرق بين التعارض والتزاحم

٧ ـ موارد التعارض

الفصل الأوّل : في مقتضى الأصل الأوّلي في المتعارضين

الفصل الثاني : في مقتضى الأصل الثانوي في المتعارضين :

المقام الأوّل : في أخبار التعادل وحكم المتعارضين بعد التعادل

المقام الثاني : في أخبار التراجيح ولزوم أعمال المرجّحات قبل التعادل :

الإقتصار على المرجّحات المنصوصة وعدمه

ميزان التعدّي من المرجّحات المنصوصة بناءً على جوازه

شمول التخيير أو الترجيح لموارد الجمع العرفي وعدمه

الفصل الثالث : في إنقلاب النسبة

الفصل الرابع في ترتيب المرجّحات

الفصل الخامس في المرجّحات الخارجيّة

أقسام الشهرة : الروائية والفتوائية والعمليّة

لماذا تكون مخالفة العامّة من المرجّحات

التعارض بين العامين من وجه

٤٤٣
٤٤٤

٨ ـ في تعارض الأدلّة والتعادل والتراجيح

المقدمة :

تعارض الأدلّة من أهمّ المسائل الاصوليّة ، أمّا كونه مسألة اصوليّة فلأنّ موضوع علم الاصول إمّا أن يكون هو الأدلّة بذواتها فلا إشكال في أنّ التعادل أو التراجيح وصفان عارضان على ذوات الأدلّة لأنّ المراد من التعادل هو تعادل الدليلين وتساويهما ، والمراد من الترجيح هو الترجيح بين الدليلين ، وإمّا أن يكون الموضوع مطلق الحجّة في الفقه كما ذهب إليه بعض الأساتذة الأعلام ، فكذلك لا إشكال في أنّ البحث عن تعادل الدليلين أو الترجيح بينهما بحث عن عوارض الحجّة ، وهكذا لو قلنا أنّ الموضوع هو الأدلّة بوصف حجّيتها ، فإنّ البحث عن التعادل والترجيح إنّما هو بعد ثبوت الحجّية لكلّ من الدليلين في نفسه ومع قطع النظر عن التعارض ، وإلاّ فلو لم يكن الدليل حجّة في ذاته لا تصل النوبة إلى مسألة التعارض ، وعلى هذا يكون ما نحن فيه من المسائل الاصوليّة حتّى عند من يرى البحث عن حجّية خبر الواحد من المبادىء.

وأمّا كونه من أهمّ المسائل الاصوليّة فلجريانه وسريانه في جلّ الأبواب الفقهيّة ، ولذلك اعترض بعض الأعلام في مصباح الاصول على جعله خاتمة لعلم الاصول بزعم أنّه مشعر بكونه خارجاً عنه كمبحث الاجتهاد والتقليد ، ولكن الصحيح أنّه لا إشعار له بهذه الجهة ، لأنّ المراد من عنوان الخاتمة أنّه يختم مسائل الاصول ويكون أخرها ، كما أنّه كذلك في سائر موارد استعماله كخاتم الأنبياء وخاتم المجتهدين والفقهاء.

وكيف كان لابدّ في المقدّمة من رسم امور :

الأمر الأوّل : عنوان المسألة

وهو في كلمات بعضهم « التعادل والترجيح » ( بصيغة المفرد ) وفي كلمات بعض آخر

٤٤٥

« التعادل والتراجيح » ( بصيغة الجمع ) ولا يخفى أنّ وجه هذا التفاوت في خصوص الجزء الثاني أنّ التعادل يكون بمعنى التساوي وهو قسم واحد لا يتصوّر فيه التعدّد ، وأمّا الترجيح فحيث أنّ له أنواعاً مختلفة وجهات عديدة ( كالترجيح من ناحية السند والترجيح من ناحية الدلالة وهكذا الترجيح بالمرجّحات الخارجيّة ) فتارةً يؤتى بلفظ المفرد ويراد منه جنس الترجيح حتّى يعمّ جميع أنواعه ، واخرى بلفظ الجمع ، والأمر سهل.

الأمر الثاني : تعريف التعارض

وهو في اللغة من التعرّض بمعنى البروز والظهور ، تعارضاً أي تظاهراً وتبارزاً ، ومنه المبارزة والتعبير بـ « برز إليه » ، حيث إنّ المبارزة والنزاع في ميدان الحرب يلازم بروز المقاتل وظهوره في مقابل عدوّه.

وأمّا في الاصطلاح فقد عرّفه المحقّق الخراساني رحمه‌الله بـ « تنافي الدليلين أو الأدلّة بحسب الدلالة ، وفي مقام الإثبات على وجه التناقض أو التضادّ حقيقة أو عرضاً بأن علم بكذب أحدهما إجمالاً مع عدم امتناع اجتماعهما أصلاً ».

والتضادّ الحقيقي مثل ما إذا أمر أحد الدليلين بصلاة الجمعة ونهى الآخر عن إتيانها ، والتضادّ العرضي مثل ما إذا أمر أحدهما بصلاة الجمعة والآخر بصلاة الظهر في يوم الجمعة فإنّ وجوب كلّ من الظهر والجمعة وإن لم يمتنع اجتماعهما ذاتاً ولكن حيث نعلم بالإجماع بل الضرورة بعدم وجوب أكثر من خمس صلوات في اليوم والليلة فيتنافيان بالعرض.

والمراد من التناقض أن يقول أحدهما بوجوب صلاة الجمعة ، والآخر بعدم وجوبها ، ومن التضادّ أن يقول أحدهما بوجوب صلاة الجمعة والآخر بحرمتها مثلاً.

والمراد من قوله « بحسب الدلالة ومقام الإثبات » نفس ما جاء في تعريف الشيخ الأعظم رحمه‌الله ، وهو « تنافي الدليلين بحسب مدلولهما » ، وليس هذا عدولاً عن تعريف الشيخ رحمه‌الله من هذه الجهة كما ذهب إليه بعض الشرّاح للكفاية ، حيث إنّه من الواضح أنّ التعارض عبارة عن تنافي مدلولي الدليلين ( أي الوجوب والحرمة ) وإنّه لا تعارض بين الدلالتين.

أقول : ومع ذلك كلّه يرد على تعريف المحقّق الخراساني رحمه‌الله أوّلاً : أنّ قيد « بحسب الدلالة ومقام الإثبات » إضافي ومن قبيل توضيح الواضح ، لأنّ من الواضح أنّ التعبير بتعارض الأدلّة

٤٤٦

ناظر إلى الدليل بما هو دليل وفي مقام الإثبات ، ولا ربط للتعارض بمقام الثبوت لأنّه لا يصحّ للمولى الحكيم إنشاء حكمين متضادّين أو متناقضين في الواقع.

ثانياً : التعبير بالتضادّ لا يناسب الامور الاعتباريّة فإنّه إنّما يتصوّر في الامور التكوينيّة لأنّ الاعتبار سهل المؤونة ، فيمكن في عالم الاعتبار أن يعتبر وجوب شيء مع اعتبار حرمته ، نعم أنّه لا يصدر من المولى الحكيم لكونه لغواً وقبيحاً.

وبعبارة اخرى : التضادّ فيها مستحيل بالغير لا بالذات ، ولذلك نعبّر عنه بشبه التضادّ.

وثالثاً : التضادّ بالعرض في مثل وجوب صلاة الجمعة بالنسبة إلى وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة يرجع إلى التضادّ الحقيقي لأنّ التضادّ فيه حقيقة يكون بين ثلاث أدلّة ( لا دليلين ) وإن كان إثنان منها في جانب ( وهما الدليلان المذكوران في المثال ) ودليل واحد في جانب آخر ، وهو الإجماع أو الضرورة الدالّة على عدم جواز الجمع بينهما ، فإنّ مدلولهما الالتزامي جواز الجمع ، ومدلول الإجماع أو الضرورة عدم جواز الجمع ، فيتضادّان.

فالأولى في تعريف التعارض أن يقال : التعارض هو تنافي الدليلين أو الأدلّة بحيث لا يمكن الجمع بينهما ، فعلى هذا يخرج منه موارد التخصيص والتخصّص والورود والحكومة وجميع موارد الجمع العرفي.

الأمر الثالث : التخصيص والتخصّص والحكومة والورود وبيان الفرق بينها

إعلم أنّ التخصص عبارة عن خروج شيء عن موضوع حكم آخر تكويناً كخروج زيد الجاهل عن قولك « أكرم العلماء » وكخروج العلم الوجداني عن أدلّة الاصول العمليّة.

والتخصيص عبارة عن خروج شيء عن حكم دليل آخر مع حفظ موضوعه كخروج زيد العالم عن قولك « أكرم العلماء ».

وأمّا الورود فهو عبارة عن خروج شيء عن موضوع حكم آخر حقيقة ولكن بعد ورود دليل شرعي ، نظير خروج غسل الجمعة فيما إذا دلّ على وجوبه خبر الثقة ، عن موضوع قبح العقاب بلا بيان ، فإنّه خرج عن موضوع اللاّبيان حقيقة ولكن بالتعبّد الشرعي.

والحكومة عبارة عن أن يكون دليل ناظراً إلى دليل آخر ومفسّراً له وموجباً للخروج

٤٤٧

عن الموضوع ( أو المتعلّق أو الحكم ) ولكن تعبّداً لا حقيقة ، كقولك : « زيد ليس بعالم » بالنسبة إلى قولك : « أكرم العلماء » ، وكذلك دخول موضوع في أحدهما توسعة بالتعبّد.

فنلاحظ أنّ الورود شبيه التخصّص في كون كلّ منهما خروجاً عن الموضوع حقيقة ، والفرق بينهما أنّ الخروج في أحدهما تكويني وفي الآخر بعد ورود الدليل الشرعي ، كما أنّ الحكومة شبيه التخصيص في كون كلّ منهما إخراجاً للموضوع تعبّداً إلاّ أنّ أحدهما ( وهو التخصيص ) إخراج للموضوع بلسان المعارضة ، بينما الحكومة إخراج له بلسان التوضيح والتفسير ، نعم هذا في ما إذا كان لسان الدليل الحاكم لسان تضييق لا توسعة ، وإلاّ فلا ربط بينهما.

ثمّ إنّ تعابير الأصحاب في تفسير الحكومة مختلفة فقال شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه‌الله أنّها عبارة عن أن يكون أحد الدليلين شارحاً ومفسّراً للدليل الآخر بمدلوله اللفظي.

وقال المحقّق الخراساني رحمه‌الله : هى أن يكون أحدهما ناظراً إلى بيان كميّة ما اريد من الآخر.

وقال المحقّق النائيني رحمه‌الله : هى أن يكون أحدهما بمدلوله المطابقي ناظراً إلى التصرّف في الآخر إمّا في عقد وضعه إثباتاً أو نفياً ، أو عقد حمله.

أقول : أحسنها هو تعبير الشيخ الأعظم رحمه‌الله إذا إنضمّ إليه قيد ، بأن نقول : الحكومة أن يكون أحد الدليلين شارحاً ومفسّراً للدليل الآخر بالدلالة اللفظيّة المطابقيّة أو التضمّنيّة أو الالتزاميّة ، وبهذا التعميم في الدلالة اللفظية لا يرد إشكال المحقّق النائيني رحمه‌الله عليه بأن لا يعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي مفسّراً لمدلول الآخر وشارحاً له بحيث يكون مصدّراً بأحد أداة التفسير أو ما يلحق بذلك ، فإنّ غالب موارد الحكومات لا ينطبق على هذا الضابط.

وممّا ذكرنا من التعميم يظهر عدم ورود هذا الإيراد ، إذ إنّه وارد بناءً على انحصار الدلالة اللفظيّة في المطابقية كما لا يخفى.

وبما ذكرنا يتّضح أيضاً أنّ في تمام موارد الحكومة يوجد للدليل الحاكم نظر إلى الدليل المحكوم ويكون هو مفسّراً له ولو في حدّ الدلالة الالتزامية كما في أدلّة الأمارات كمفهوم آية البناء بالنسبة إلى أدلّة الاصول كما مرّ في بعض الأبحاث السابقة.

كما يتّضح وجه تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم ، حيث إنّه مفسّر للدليل المحكوم ،

٤٤٨

ولا إشكال في أنّ المفسّر ( بالكسر ) يقدّم على المفسَّر ( بالفتح ).

وظهر بما ذكرنا أيضاً أنّ الحكومة على أقسام : فتارةً يكون الدليل الحاكم ناظراً إلى التصرّف في موضع الدليل المحكوم توسعة أو تضييقاً ، ومثال الأوّل قول المولى : « العادل عالم » ، ومثال الثاني قوله : « إنّ العالم الفاسق ليس عندي بعالم ».

واخرى يكون ناظراً إلى التصرّف في متعلّق الدليل المحكوم نظير قول المولى في مثال « أكرم العلماء » : « إنّ الإطعام ليس بإكرام » وقوله : « السلام إكرام ».

وثالثة يكون ناظراً إلى التصرّف في حكم الدليل المحكوم كما إذا قال : « إنّما عنيت من وجوب إكرام العلماء وجوب إكرام الفقهاء خاصّة ».

ورابعة يكون ناظراً إلى التصرّف في النسبة كقوله « إكرام الفاسق ليس بإكرام العالم ».

بقي هنا شيء :

وهو أنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله قسّم الحكومة إلى قسمين : ظاهريّة وواقعيّة ، وقال في توضيحه ما حاصله : أنّ الدليل الحاكم قد يكون في مرتبة الدليل المحكوم فتكون الحكومة واقعيّة ، كما في حكومة قوله عليه‌السلام : « لا شكّ لكثير الشكّ » على أدلّة الشكوك ، حيث إنّه يوجب اختصاص الأحكام المجعولة للشاكّ بغير كثير الشكّ في الواقع ، وقد لا يكون في مرتبته بل يكون موضوع الدليل الحاكم متأخّراً رتبةً عن موضوع الدليل المحكوم ، فتكون الحكومة حينئذٍ ظاهريّة ، كما في حكومة الأمارات على الأدلّة الواقعيّة ، فإنّها لا توجب اختصاص الأحكام الواقعيّة بغير من قامت عنده الأمارة على خلافها ، بل غايتها هو الاختصاص في مقام الظاهر.

ثمّ يستنتج في ذيل كلامه أنّه لا يعتبر في الحكومة تأخّر تشريع الدليل الحاكم عن تشريع الدليل المحكوم بحيث يلزم لغوية التعبّد بدليل الحاكم لولا سبق التعبّد بدليل المحكوم فإنّ من أوضح أفراد الحكومة حكومة الأمارات على الاصول ، مع أنّه يصحّ التعبّد بالأمارات

٤٤٩

ولو لم يسبق التعبّد بالاصول ، بل ولو مع عدم التعبّد بها رأساً (١).

أقول : في كلامه مواقع للنظر :

أوّلاً : أنّ الحكومة لها قسم واحد من دون فرق بين مواردها فإنّها واقعيّة في جميع الموارد ، وجميعها ترجع إلى التخصيص واقعاً وحقيقة ، غاية الأمر الدليل المحكوم قد يكون من الأحكام الواقعيّة ، وقد يكون من الأحكام الظاهريّة ، وهذا غير كون الحكومة ظاهرياً في بعض الموارد وواقعياً في بعض الموارد الاخرى ، وبعبارة اخرى : التخصيص واقعي وإن كان المخصّص أو المخصِّص ظاهرياً.

ثانياً : أنّ رتبة الدليل الحاكم والدليل المحكوم واحدة في جميع موارد الحكومة ، وإلاّ لم يكن توضيحاً وتفسيراً ، وأمّا في مورد الأمارات بالنسبة إلى الأحكام الواقعيّة فالصحيح أنّه لا معنى لحكومة الأمارات على الأحكام الواقعيّة ، بل إنّها طرق إلى الواقع ، وكما أنّ العلم طريق إليه تكويناً تكون الأمارات طرقاً إليه تشريعاً.

وثالثاً : أنّا نعترف بلغوية التعبّد بدليل الحاكم لولا سبق التعبّد بدليل المحكوم ، لأنّ الدليل الحاكم ناظر إلى الدليل المحكوم ومفسّر له ، ومن الواضح أنّه لا معنى للتفسير مع عدم سبق دليل بعنوان المفسّر ( بالفتح ) ، وهذا صادق حتّى بالنسبة إلى حكومة الأمارات على الاصول ، لما مرّ من أنّها ناظرة إليها ومفسّرة لها ولو في حدّ الدلالة الإلتزامية اللفظية.

ومن هنا يظهر حال الأمارات في مقابل الاصول وأنّ الصحيح كونها واردة عليها.

توضيح ذلك : يحتمل في وجه تقديم الأمارات على الاصول أربعة وجوه : حكومتها عليها ، ورودها عليها ، إمكان الجمع والتوفيق العرفي بينهما ، وتخصيص الاصول بالأمارات.

ذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله هنا إلى الوجه الثالث ( التوفيق العرفي ) مع أنّه صرّح في أواخر الاستصحاب بالورود ، وأراد من التوفيق العرفي ما يقابل الحكومة.

ولكنّه في غير محلّه ، لأنّ المراد من الجمع العرفي إمّا كون الأمارات خاصّة بالنسبة إلى الاصول مطلقاً فقد مرّ عدم كونها كذلك ، أو أنّ أدلّتها أظهر من أدلّة الاصول ، ولا دليل عليه.

وبهذا ينتفي الوجه الثالث والرابع ، ويدور الأمر بين الحكومة والورود ، وقد مرّ أنّ الحقّ

__________________

(١) راجع أجود التقريرات : ج ٢ ، ص ٥٠٧ ، طبعة مؤسسة مطبوعات ديني.

٤٥٠

ورود الأمارات على الاصول لأنّ الأمارة طريق إلى الواقع فيوجب رفع الحيرة والتردّد الذي هو معنى الشكّ المأخوذ في موضوع الاصول ، ولو تنزّلنا عن ذلك فلا أقلّ من الحكومة ، لما مرّ أيضاً من أنّ أدلّة الأمارات ناظرة إلى أدلّة الاصول ولو بمدلولها الالتزامي.

الأمر الرابع : عدم وجود التعارض بين العناوين الأوّلية والعناوين الثانويّة

لا إشكال في تقديم العناوين الثانويّة على العناوين الأوّلية وأنّه لا تعارض بينهما كما أشار إليه الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني رحمه‌الله في كلماتهما ، وهو متفرّع على التعريف المذكور للتعارض ، إذ إنّه بمعنى التنافر والتضادّ ، ولا ريب في أنّه لا تضادّ بين أدلّة العنوانين ، إنّما الكلام في وجه تقدّم الثاني على الأوّل.

فظاهر كلمات الشيخ الأعظم رحمه‌الله أنّه من باب الحكومة ، بينما ظاهر كلمات المحقّق الخراساني رحمه‌الله أنّه من باب الجمع العرفي حيث قال : « أو كانا على نحو إذا عرضا على العرف وفّق بينهما بالتصرّف في خصوص أحدهما كما هو مطّرد في مثل الأدلّة المتكفّلة لبيان أحكام الموضوعات بعناوينها الأوّلية ، مع مثل الأدلّة النافية للعسر والحرج والضرر والإكراه والاضطرار ممّا يتكفّل لأحكامها بعناوينها الثانوية ».

وفصّل بعض المحشّين على الكفاية بين العناوين الثانويّة فقال في مثل الضرر والحرج بالحكومة ، وفي مثل الشروط والنذور بالجمع العرفي ، فالأقوال في المسألة ثلاثة.

ولابدّ قبل الورود في أصل البحث من تعريف الأحكام الأوّليّة والأحكام الثانويّة ( وقد بحثناه تفصيلاً في كتاب المكاسب مبحث ولاية الفقيه ) ، فنقول : الأحكام الأوّليّة أحكام ترد على الموضوعات الخارجيّة مع قطع النظر عن الطوارىء والعوارض الخارجة عن طبيعتها كحكم الحرمة العارضة على عنوان الدم أو الميتة في قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ).

والأحكام الثانوية ما يرد على الموضوعات الخارجيّة مع النظر إلى الطوارىء الخارجة عن ذاتها كحكم الحلّية العارضة على الميتة بما أنّها مضطرّ إليها.

وعلى هذا ليست نجاسة الماء في صورة تغيّر أحد أوصافه الثلاثة من الأحكام الثانويّة

٤٥١

لأنّ عنوان التغيّر يكون من الإنقسامات الأوّلية للماء ، فالماء بما هو ماء على قسمين : ماء متغيّر وماء غير متغيّر ، كما أنّه يقسّم بذاته إلى الماء المضاف والماء المطلق أو إلى الكثير والقليل ، بخلاف الاضطرار فلا يقال أنّ الماء على قسمين : ماء مضطرّ إلى شربه وماء غير مضطرّ إلى شربه.

ولذلك فإنّ من علامات العناوين الثانوية وخصوصياتها جريانها في كثير من الأبواب الفقهيّة والموضوعات المختلفة ، بخلاف العناوين الأوّلية التي تجري في موضوعات خاصّة كعنوان التغيّر بالنسبة إلى الماء.

كما يظهر ممّا ذكرنا أنّ العناوين الثانوية ليست منحصرة بعنوان الضرورة والاضطرار بل لها مصاديق كثيرة نذكر هنا أحد عشر عنواناً :

١ ـ العسر والحرج

٢ ـ الضرر

٣ ـ الإكراه

٤ ـ الاضطرار

٥ ـ التقيّة

٦ و ٧ و ٨ ـ النذر والعهد والقسم

٩ ـ أمر الوالد أو نهيه

١٠ ـ المقدّمية للواجب أو الحرام

١١ ـ الأهم والمهمّ

إذا عرفت هذا فنقول : الحقّ في وجه تقديم العناوين الثانويّة على الاوليّة ما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمه‌الله وهو الحكومة ، كما يظهر هو من ما ذكرنا من التعريف ، حيث قلنا : أنّ العناوين الثانويّة تكون طارئة وعارضة على العناوين الأوّليّة ، ولازمه النظر والتفسير وأنّه لا معنى للعناوين الثانويّة بدون العناوين الأوّلية ، كما لا معنى لقوله تعالى : ( مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) إذا لم يكن في الرتبة السابقة جعل وتشريع.

وأمّا تفصيل بعض المحشّين على الكفاية فيرد عليه : أنّ الشرط لا يكون من العناوين الثانويّة بتاتاً حتّى يقال بأنّها حاكمة أو واردة ، لأنّ الشرط مثل البيع والإجارة نوع معاقدة

٤٥٢

ومعاهدة ، فكما أنّ قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) يشمل البيع بالعنوان الأوّلي يشمل أيضاً الشروط التي في ضمنه كذلك.

وأمّا ما ذكره صاحب الكفاية من أنّه من باب التوفيق العرفي فإن كان مراده أنّ الجمع بينهما على وزان الجمع بين العام والخاصّ والظاهر والأظهر ، فهذا أمر لا يمكن المساعدة عليه ، لما عرفت من كون أحدهما حاكماً على الآخر ، وإن كان المراد ما يشمل الحكومة ( وإن كان خلاف مصطلح القوم ) فلا مانع منه ، ولكنّه لا يوافق ظاهر كلامه.

الأمر الخامس : موارد الجمع العرفي ليست من التعارض

إذا كان أحد الدليلين أظهر من الآخر أو كان أحدهما نصّاً والآخر ظاهراً فلا إشكال في أنّ العرف يوفّق بينهما بتقديم الأظهر على الظاهر ( إذا كان الأظهر قرينة على التصرّف في الظاهر ) والنصّ على الظاهر ، فهما ليسا متعارضين عندهم إلاّفي النظر البدوي.

وهذا ممّا لا إشكال فيه كبروياً ، إنّما الإشكال فيما مثّلوا له بالعام والخاصّ والمطلق والمقيّد ، أمّا المطلق والمقيّد فلأنّه إذا فهمنا الاطلاق من مقدّمات الحكمة ( لا من اللفظ ) كما هو مذهب المحقّقين من المتأخّرين ، فمن المقدّمات عدم البيان في مقام البيان ، ولا ريب أنّه بعد ورود المقيّد يتبدّل إلى البيان فيكون وارداً على المطلق.

وأمّا العام والخاصّ فلما مرّ في مبحث العام والخاصّ ( إذا كان منفصلاً كما هو موضوع البحث في المقام ) من أنّهما من قبيل المتعارضين المتضادّين عند العرف سواء صدر العام على نهج الجملة الخبريّة أو الجملة الإنشائيّة ، فإذا قال الولي لعبده : « بع جميع أفراد الغنم » ثمّ قال غداً : « لا تبع هذه وهذه » يحمله العرف على التناقض والتضادّ أو على الغفلة أو الندم والبداء ، وكذلك إذا سأل المشتري من البائع « هل يوجد عندك شيء من ذلك الثوب؟ » وقال البائع : « بعتها كلّها » ثمّ قال في ساعة اخرى : « بعتها إلاّهذا المقدار » فلا إشكال في تكذيب المشتري إيّاه ، وهكذا في المراسلات وفي المحاكم عند سؤال القاضي عن المتّهم فلو أجاب بالعام في مجلس والخاصّ في مجلس الآخر أو في مجلس واحد مع عدم اتّصال الخاصّ بالعام ، لعُدّ كلامه متناقضاً ، كما لا يخفى على من راجع العرف وصرف النظر عمّا إنغرس في الأذهان من كلام الاصوليين.

٤٥٣

ويمكن أن يستشهد على ذلك بفهم القدماء من المفسّرين حيث إنّهم كانوا يعاملون الخاصّ الوارد في القرآن الكريم معاملة الناسخ فيعدّونه ناسخاً للعام.

كما يمكن الاستشهاد أيضاً بما رواه الطبرسي رحمه‌الله في كتاب الإحتجاج في جواب مكاتبة محمّد بن عبدالله بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان عليه‌السلام يسألني : بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهّد الأوّل إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبّر فإن بعض أصحابنا قال : لا يجب عليه التكبير ويجزيه أن يقول : بحول الله وقوّته أقوم وأقعد ، فكتب عليه‌السلام في الجواب : أنّ فيه حديثين : أمّا أحدهما فإنّه إذا إنتقل من حالة إلى حالة اخرى فعليه التكبير ، وأمّا الآخر فإنّه روي إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى ، وبأيّهما أخذت من جهة التسليم كان صواباً » (١) حيث إنّه حكم بالتخيير بين الروايتين مع أنّ أحدهما خاصّ والآخر عام كما هو ظاهر ، لكنه عاملهما معاملة المتعارضين.

ولكن الإنصاف أنّ ما ذكرنا مختصّ بالعرف العام ، وأمّا العرف الخاصّ فقد يكون على خلاف ذلك إذا علمنا أنّ سيرة المقنّن والشارع فيه جرت على بيان أحكامه وقوانينه تدريجيّاً كما أنّه كذلك في الشريعة الإسلاميّة ، فالعرف بعد ملاحظة هذه السيرة لا يحكم بالتعارض في موارد العام والخاصّ وإن كانا منفصلين ، ولذلك يحمل ما مرّ من معاملة القدماء من المفسّرين على غفلتهم عن هذه السيرة وعدم التفاتهم إلى هذه النكتة.

نعم ، إنّ هذا جارٍ بالنسبة إلى الواجبات أو المحرّمات ، وأمّا في المستحبّات فللشارع سيرة اخرى ، وهى بيان سلسلة مراتب الاستحباب ودرجات المطلوبيّة ، فيحمل العام فيها على بيان درجة منها والخاصّ على بيان درجة اخرى ، ونتيجته عدم كونهما فيها من باب التخصيص ولا من باب التعارض ، حيث إنّهما يجريان في خصوص موارد إحراز وحدة المطلوب لا تعدّده كما قرّر في محلّه.

ومن هنا يظهر الجواب عن الشاهد الثاني ، وهو حديث الإحتجاج فإنّ مورده من المستحبّات ، فالتخيير الوارد فيها ليس من سنخ التخيير بين المتعارضين بل من قبيل تعدّد

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٤ ، الباب ١٣ ، من أبواب السجود ، ح ٨.

٤٥٤

المطلوب والتخيير بين مراتب الاستحباب فهى خارجة عمّا نحن بصدده.

الضوابط الكلّية للجمع الدلالي العرفي

لا إشكال في أنّ الاصول لا تبحث عن القرائن الخاصّة الجزئيّة للجمع الدلالي بين المتعارضين التي لا تدخل تحت ضابطة كلّية ، بل إنّما تبحث عن القرائن الكلّية التي تشكّل قاعدة عامّة وقانوناً كلّياً للجمع الدلالي ، وهذه الضوابط والقرائن كثيرة نذكر منها أهمّها وهى :

١ ـ إذا تعارض عام ومطلق ، أي دار الأمر بين تخصيص عام وتقييد مطلق كما إذا قال المولى : أكرم عالماً ثمّ قال : لا تكرم الفسّاق ، ووقع التعارض في العالم الفاسق ( فالعالم مطلق يشمل العادل والفاسق منه ، والفسّاق جمع محلّى باللام يدلّ على عموم الحكم لجميع أفراد الفاسق ، فالنسبة بينهما عموم من وجه فيتعارضان في مادّة الإجتماع وهى العالم الفاسق ) ، ومثاله الشرعي تعارض قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) رواية « نهي النبي عن الغرر » ( لو فرضنا كون الرواية بهذا النحو ، حيث إنّ المعروف بل المأثور « نهي النبي عن بيع الغرر » (١) ) فإنّهما يتعارضان في العقود الغررية كما لا يخفى ، فقد يقال بترجيح ظهور العموم على الاطلاق أي تقديم التقييد على التخصيص ، واستدلّ له بوجهين :

الأوّل : أنّ ظهور الاطلاق تعليقي أي معلّق على عدم بيان التقييد بحيث كان عدم البيان جزءاً من مقتضى الاطلاق ، بخلاف ظهور العام فإنّه تنجيزي مستند إلى الوضع ، فيكون ظهور العام بياناً للتقييد وليس للمطلق ظهور في ذاته.

الثاني : أنّ التقييد أغلب من التخصيص.

أقول : أمّا الوجه الثاني فواضح الفساد فإنّ التخصيص أيضاً كثير ، وكثرته بمثابة حتّى قيل : « ما من عام إلاّوقد خصّ ».

وأمّا الوجه الأوّل فأورد عليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله بأنّه مبنى على كون الاطلاق معلّقاً

__________________

(١) وسائل الشيعة : أبواب آداب التجارة ، الباب ٤ ، ح ٣.

٤٥٥

على عدم البيان إلى الأبد ، بينما هو معلّق على عدم البيان في مقام التخاطب كما تقدّم تحقيقه في مبحث المطلق والمقيّد ، فإذا لم يأت من جانب المتكلّم بيان في مقام التخاطب كما هو المفروض إنعقد ظهور الاطلاق وتنجّز.

وذهب المحقّق النائيني رحمه‌الله في فوائد الاصول (١) إلى اشتراط عدم البيان إلى الأبد في انعقاد ظهور الاطلاق ثمّ نقل من المحقّق الخراساني رحمه‌الله في بعض فوائده الاصوليّة أنّه قال : « إنّ اللازم علينا جمع كلمات الأئمّة عليهم‌السلام المتفرّقة في الزمان ، ونفرض أنّها وردت في زمان ومجلس واحد ، ويؤخذ ما هو المتحصّل منها على فرض الاجتماع » وقال : إنّ هذا الكلام منه ينافي ما ذهب إليه من أنّ العبرة على عدم البيان في مقام التخاطب لا مطلقاً.

وعلّق عليه المحقّق العراقي رحمه‌الله بأنّ الحقّ مع استاذنا المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، وأنّ ما أفاده في بعض فوائده لا ربط له بما نحن فيه ، بل مراده منه أنّ كلمات المعصومين يفسّر بعضه بعضاً ، فلو جمعا في كلام واحد لكان أحدهما قرينة على التصرّف في الآخر ، وهذا لا ينافي ما أفاده من أنّ قوام ظهور المطلق بعدم إقامة القرينة على مرامه متّصلاً بكلامه.

أقول : أنّ العلمين وإن لم يذكرا هنا دليلاً على مدّعاهما ، ولكن الإنصاف أنّ أقوى الدليل على عدم صحّة مقالة المحقّق الخراساني رحمه‌الله ( وهى أنّ الاطلاق معلّق على عدم البيان إلى الأبد ) هو أنّ لازم ما ذهب إليه عدم انعقاد الظهور لمطلق من المطلقات إلى آخر أزمنة الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ، وهو كما ترى ، فإنّه لا ريب في صدور مطلقات كثيرة من جانب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة الهادين عليهم‌السلام عمل بظهورها أصحابهم.

وعلى هذا فلا إشكال في أنّ ظهور الاطلاق أيضاً منجّز ، ولكن ظهور العام أقوى منه في الجملة ، فإذا إنضمّت إليه بعض القرائن الاخر قدّم عليه ، فلابدّ حينئذٍ من ملاحظة المقامات المختلفة والخصوصيات والقرائن الموجودة في كلّ مقام ، فإن أحرزنا من مجموع ذلك كون ظهور العموم أقوى من ظهور الاطلاق قدّمناه عليه ، وإلاّ يقع التعارض بينهما وتصل النوبة إلى المرجّحات الاخر.

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٧٣١ ، طبعة جماعة المدرّسين.

٤٥٦

٢ ـ إذا تعارض الاطلاق الشمولي ( الذي هو بمنزلة العطف بالواو ) مع الاطلاق البدلي ( الذي هو بمنزلة العطف بـ « أو » ) كقوله « أكرم عالماً » و « لا تكرم الفاسق » ( فإنّ النسبة بينهما عموم من وجه ومحلّ التلاقي هو العالم الفاسق ) فقد يقال أنّ اطلاق الشمولي يقدّم على الاطلاق البدلي.

واستدلّ له المحقّق النائيني رحمه‌الله بأنّ « مقدّمات الحكمة في الاطلاق الشمولي تمنع عن جريان مقدّمات الحكمة في الاطلاق البدلي ، لأنّ من مقدّمات الحكمة في الاطلاق البدلي كون الافراد متساوية الأقدام ، ومقدّمات الحكمة في الاطلاق الشمولي يمنع عن ذلك ، ولا يمكن العكس » (١).

ويمكن أن يستدلّ له أيضاً بأنّ تقديم الاطلاق الشمولي يجتمع مع امتثال الاطلاق البدلي وعدم طرده ، بخلاف العكس ، فإنّه يوجب نفي بعض مصاديق المطلق الشمولي وترك العمل به.

٣ ـ إذا دار الأمر بين النسخ والتخصيص ، كما إذا قال المولى « لا تكرم زيداً » وفرضنا مجيء وقت العمل به ، ثمّ قال : « أكرم العلماء » فورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاصّ ، فيدور الأمر بين أن يكون الخاصّ مخصّصاً أو يكون العام ناسخاً ، وهكذا إذا ورد الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعام ، فيدور الأمر بين أن يكون الخاصّ ناسخاً للعام أو مخصّصاً له.

ومثاله الشرعي ما إذا فرضنا صدور النهي عن بيع الغرر في إبتداء الهجرة ونزول ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) بعد سنين ، أو العكس ، ففي الصورة الاولى إن قلنا بالتخصيص كانت النتيجة عدم وجوب الوفاء بالبيع الغرري ، وإن قلنا بأنّ العام يكون ناسخاً للخاصّ كانت النتيجة وجوب الوفاء حتّى في البيع الغرري ، وفي الصورة الثانية ( وهى ما إذا كان نزول ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) قبل صدور النهي عن بيع الغرر ) إن قلنا بالتخصيص لم يجب الوفاء بالبيع الغرري من الأوّل ، وإن قلنا بالنسخ ( أي نسخ الخاصّ للعامّ ) لم يجب الوفاء به من حين ورود الخاصّ لا من الأوّل.

وكيف كان ، فقد ذهب المشهور إلى تقديم التخصيص على النسخ مطلقاً ، ولكن ذهب بعض إلى تقديم النسخ مطلقاً ، ومال إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله ( خلافاً لما ذهب إليه في مبحث العام والخاصّ ).

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ٤ ص ٧٣٢ ، طبعة جماعة المدرّسين.

٤٥٧

واستدلّ المشهور على مقالتهم بأنّ النسخ قليل والتخصيص كثير بمثابة حتّى يقال : « ما من عام إلاّوقد خصّ » فيوجب شيوع التخصيص وندرة النسخ أن يكون ظهور الخاصّ في الدوام أقوى من ظهور العام في العموم.

واستدلّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله في مقابل المشهور بأنّ هذا البحث من صغريات البحث السابق ، أي دوران الأمر بين التقييد والتخصيص ، فإنّ النسخ هنا يرجع إلى تقييد الاطلاق الزماني للخاصّ ، والتقييد مقدّم على التخصيص ، لأنّ تقديم التخصيص أي تقديم الخاصّ متوقّف على ظهوره في الدوام والاستمرار الزماني ، وهو يستفاد من الاطلاق ومقدّمات الحكمة ، فيكون معلّقاً على عدم البيان ، والعموم الإفرادي للعام تنجيزي مستند إلى الوضع فيكون بياناً له.

وأجاب عن الوجه المعروف في ترجيح التخصيص على النسخ من غلبة الأوّل وندرة الثاني ، بأنّ هذا ممّا لا يوجب إقوائيّة ظهور الكلام في الاستمرار الأزماني من ظهور العام في العموم الإفرادي ، إذ ليست غلبة التخصيص مرتكزة في أذهان أهل المحاورة بمثابة تعدّ من القرائن المكتنفة بالكلام وتوجب اقوائيّة الظهور.

أقول : التحقيق في المسألة يستدعي تحليل ماهية النسخ أوّلاً ، فنقول : الصحيح أنّ النسخ ابطال للإنشاء كالفسخ.

توضيح ذلك : أنّ للحكم مرحلتين : مرحلة الإنشاء ومرحلة الفعليّة ، وبعبارة اخرى : مرحلة الإرادة الاستعماليّة ومرحلة الإرادة الجدّية ، والتقييد بالمنفصل إنّما هو تصرّف في الإرادة الجدّية وهكذا التخصيص ، وأمّا الإرادة الإستعماليّة فهى باقية بقوّتها بخلاف النسخ ، فإنّه إبطال للإنشاء من حين وروده نظير الفسخ فإنّ الفاسخ في خيار الفسخ يبطل إنشاء البيع حين الفسخ ، وهذا ممّا ندركه بوجداننا العرفي وإرتكازنا العقلائي في القوانين الجديدة العقلائيّة ، فكما أنّ فيها تخصيصات وتقييدات يدرجونها تحت عنوان التبصرة ، وهى تمسّ بإرادتهم الجدّية في القوانين السابقة ، كذلك لهم نواسخ تتعلّق بإرادتهم الإستعمالية بالنسبة إلى القوانين الماضية ، وبالجملة أنّ النسخ هو الفسخ يتعلّق بالإنشاء ( إلاّ أنّ النسخ في القانون والفسخ في المعاملات والعقود ) فلا يكون من قبيل التقييد الذي يتعلّق بالإرادة الجدّية.

هذا مضافاً إلى أنّ الإنشاء في القوانين كالإيجاد ، ويكون بذاته باقياً في عالم الاعتبار إلى

٤٥٨

الأبد ، فدوامه واستمراره لازم لذاته وماهيّته ، لا أنّه يستفاد من الاطلاق اللفظي لأدلّته حتّى نتكلّم عن تقييده وعدمه ، وأمّا ما ورد في الحديث الشريف « حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه ... » فهو ناظر إلى خاتمية الشريعة المقدّسة لا إلى الاطلاق اللفظي لأدلّة قوانينها.

فقد ظهر إلى هنا عدم تمامية ما استدلّ به على تقديم النسخ ، والحقّ ما ذهب إليه المشهور وهو تقديم التخصيص ، لأنّ النسخ يحتاج إلى دليل قطعي بخلاف التخصيص الذي يثبت حتّى بخبر الواحد الثقة.

هذا ـ مضافاً إلى أنّ سيرة الفقهاء في الفقه على تقديم التخصيص كما يشهد عليها عدم السؤال والفحص عن تاريخ صدور العام والخاصّ ، فإنّ النسخ لابدّ فيه من الفحص عن التاريخ حتّى يتبيّن المقدّم منهما والمتأخّر فيكون المتأخّر ناسخاً والمتقدّم منسوخاً ، فعدم فحصهم عن تواريخ صدور الأحاديث من أقوى الدليل على ترجيحهم التخصيص على النسخ.

بقي هنا شيء :

وهو إنّا بعد ملاحظة العمومات والتخصيصات الواردة في الكتاب والسنّة والأحاديث الصادرة عن الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم نرى أنّ هناك مخصّصات وردت بعد حضور العمل بالعمومات ، فورد مثلاً عام في الكتاب أو السنّة النبوية مع أنّ خاصّه ورد في عصر الصادقين عليهما‌السلام ، فإن قلنا بكونه مخصّصاً للعام يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وإن قلنا بكونه ناسخاً يلزم كون الإمام عليه‌السلام مشرّعاً ، مع أنّه حافظ للشريعة ، ولو قبلنا إمكان تشريعه ونسخه بعد توجيهه بإرادة كشف ما بيّنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن غاية الحكم الأوّل وابتداء الحكم الثاني لم يمكن قبوله هنا ، لأنّ غلبة هذا النحو من التخصيصات تأبى عن هذا التوجيه ، فما هو طريق حلّ هذه المشكلة؟

وقد ذكر لحلّها وجوه :

١ ـ أن يكن الخاصّ ناسخاً ، ولكنّه قد نزل في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم تكن هناك مصلحة في إبرازه فأودع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر إبرازه بيد الإمام عليه‌السلام ، وبعبارة اخرى : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أودع عندهم علم أجل الحكم وانتهائه ، فهم يبيّنون غاية الحكم وأمده بعد حلول أجله.

٤٥٩

٢ ـ أن يكون الخاصّ مخصّصاً ( لا ناسخاً ) ولكنّه كاشف عن صدوره في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ووقت الحاجة به ، فخفي علينا بأسباب مختلفة فظهر بيد الإمام عليه‌السلام فلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ويشهد على إمكان هذا ما ثبت في التاريخ من منع كتابة الحديث في عصر بعض الخلفاء زعماً منهم أنّه يمسّ كرامة كتاب الله والإكتفاء به ، كما تشهد عليه روايات تدلّ على أنّ كلّ ما قال به الأئمّة الهادون من أهل البيت عليهم‌السلام فإنّها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهى كثيرة ، وقد جمعها في مقدّمة جامع أحاديث الشيعة فراجع.

٣ ـ أن نلتزم بجواز تأخير البيان عن وقت الحاجة إذا كان لمصلحة أهمّ ، وهى مصلحة تدريجية بيان الأحكام ، فكان تكليف السابقين هو العمل بالعموم ظاهراً مع إرادة الخصوص واقعاً.

ولقد أجاد المحقّق الحائري رحمه‌الله في درره حيث قال ( في مقام الجواب عن أنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيح عقلاً ) : أنّ « تأخير البيان عن وقت العمل ليس علّة تامّة للقبح كالظلم حتّى لا يمكن تخلّفه عنه ، وإذا لم يكن كذلك فقبحه فعلاً منوط بعدم جهة محسّنة تقتضي ذلك » (١).

أقول : يرد على الوجه الأوّل أنّ كثيراً من هذه التخصيصات من أخبار الآحاد ، مع أنّ النسخ يحتاج إلى دليل قطعي كما قرّر في محلّه.

وعلى الوجه الثاني بأنّه من البعيد جدّاً صدور هذه المخصّصات الكثيرة غاية الكثرة من جانب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يصل إلينا شيء منها ، وما دلّ على أنّ رواياتهم عليهم‌السلام كلّها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يمكن أن يكون ناظراً إلى العلم الذي ورثوه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لا أنّ جميع ذلك صدر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بمرأى من الناس ومسمع منهم.

فيتعيّن الوجه الثالث وهو تأخيرها عن وقت الحاجة لمصلحة أهمّ.

نعم ، هيهنا وجه رابع بالنسبة إلى كثير من هذه التخصيصات والتقييدات ، يحتاج للدقّة ، وهو أنّ كثيراً منها في الواقع تطبيقات لكبريات الكتاب والسنّة على مصاديقها ( نظير التفريعات والمسائل العمليّة الواردة في الرسائل العمليّة التي لم يرد كثير منها في آية ولا رواية ، ولكنّها من قبيل تطبيق الكبرى على الصغرى من جانب المجتهد ) أو بيانات لتوضيح

__________________

(١) درر الاصول : ص ٦٨١ ، طبعة جماعة المدرّسين.

٤٦٠