أنوار الأصول - ج ٣

أنوار الأصول - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-15-6
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٢٤

الماء الخارجي أيضاً معلوم وعدم إنطباق الأوّل على الثاني أيضاً واضح ، وأمّا إذا لم يكن الموضوع المأخوذ في لسان الدليل واضحاً مفهوماً ، فالمرجع في تشخيص المفهوم وحدوده إنّما هو العرف لأنّ المفاهيم الواردة في لسان الأدلّة والموضوعات المأخوذة فيها نازلة على المتفاهم العرفي كما مرّ آنفاً ، وليس هذا من قبيل المسامحات.

بقي هنا شيء :

وهو الثمرة التي تترتّب على هذا البحث.

( قد مرّت الإشارة إلى أنّه إن كان الميزان في تشخيص الموضوع ما يدركه العقل فلا يجري الاستصحاب في شبهة من الشبهات الحكميّة ، لأنّ الشبهة فيها فرع لإحتمال تغيّر في الموضوع ، ومع هذا الاحتمال لا يحرز بقاء الموضوع بالدقّة العقليّة ، ومعه لا يجوز الاستصحاب لأنّه يعتبر في جريان الاستصحاب إحراز الموضوع بتمام قيوده وأجزائه.

وإن شئت قلت : إنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، وبقاء المصالح أو المفاسد فرع بقاء الموضوع ، والشكّ في بقاء الحكم ينشأ من الشكّ في بقاء المصلحة أو المفسدة ، وهو ناشٍ من احتمال تغيّر في الموضوع ، وإلاّ فلا وجه للشكّ.

هذا إذا كانت المصلحة أو المفسدة في نفس الفعل كما هو الغالب ، وأمّا إذا كانت في نفس الإنشاء فاحتمال تغيّر المصلحة أو المفسدة لا ينشأ من احتمال تغيّر في الموضوع ، بل يمكن بقاء الموضوع على حاله مع تغيّر المصالح أو المفاسد فإذا كان الموضوع باقياً يجري الاستصحاب وإن احتملنا عدم وجود مصلحة في الإنشاء.

ولكن وجود المصلحة في الإنشاء أمر نادر لا نعرف له مصداقاً في القوانين الكلّية الشرعيّة ، ومن هنا يظهر الحال بالنسبة إلى عدم جريان استصحاب عدم النسخ في الأحكام الكلّية أيضاً ( لو قلنا بكون الموضوع مأخوذاً من العقل ) لأنّه في مثل هذه الموارد أيضاً يحتمل تغيّر الموضوع لأنّ النسخ دفع للحكم لا رفع له ، ويكون بمعنى انتهاء أمد المصلحة وهو لا يكون إلاّبتغيّر في الموضوع.

ومن هنا يظهر الإشكال فيما ذكره الشيخ رحمه‌الله من أنّه لو أخذ الموضوع من العقل لكان

٤٢١

جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة مختصّاً بموارد الشكّ في الرافع ، ومراده من الرافع ( بناءً على توجيه المحقّق النائيني رحمه‌الله لكلامه ) ما يمنع عن تأثير المقتضي في البقاء بعد تأثيره في الحدوث ، فهو عبارة عمّا أخذ عدمه في بقاء شيء بعد حدوثه كالطلاق بالنسبة إلى علاقة الزوجية ، لا ما أخذ عدمه في حدوث شيء ، وحينئذٍ الرافع في المقام ما يكون خارجاً عن دائرة الموضوع ولا دخل لعدمه في حدوث الحكم.

والوجه في عدم تماميّته أنّ قياس الأحكام الشرعيّة بالامور التكوينيّة مع الفارق كما مرّ كراراً ، لأنّ جميع الشرائط والموانع في الأحكام الشرعيّة ترجع بالأخرة إلى قيود في موضوع الحكم ، فالشكّ في بقاء الحكم الشرعي بعد العلم بحدوثه ينشأ من الشكّ في طروّ تغيّر في موضوعه ، ومعه لا مجال لجريان الاستصحاب بناءً على أخذ الموضوع بالدقّة العقليّة.

التنبيه السابع عشر : تقدّم الأمارات على الاستصحاب

اتّفقت كلمات الأصحاب على تقدّم الأمارة على الاستصحاب ، وإنّما الكلام في وجهه ، فهل هو من باب الورود ، أو الحكومة ، أو التخصيص الذي هو توفيق عرفي بين دليل اعتبار الأمارة وخطاب الاستصحاب ، فإن قلنا بالورود فمعناه عدم بقاء شكّ حقيقة بعد مجيء الأمارة ، وإن قلنا بالحكومة فمعناه عدم بقاء الشكّ تعبّداً وحكماً كذلك ، وإن قلنا بالتخصيص فلازمه أنّ دليل الأمارة أخصّ من دليل الاستصحاب ، ( وسيأتي توضيح الفرق بين هذه الثلاثة في أبواب التعادل والترجيح إن شاء الله ).

ذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله إلى أنّه من باب الورود ، وذهب الشيخ الأعظم رحمه‌الله إلى أنّه من باب الحكومة ، واحتمل بعض كونه من باب التخصيص ، ففي المسألة ثلاثة احتمالات أو ثلاثة أقوال.

واستدلّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله لمختاره بقوله : « إنّ رفع اليد عن اليقين السابق بسبب أمارة معتبرة على خلافه ليس من نقض اليقين بالشكّ بل باليقين ، وعدم رفع اليد عنه مع الأمارة

٤٢٢

على وفقه ليس لأجل أن لا يلزم نقضه به بل من جهة لزوم العمل بالحجّة » (١).

وأورد عليه المحقّق الأصفهاني رحمه‌الله في تعليقته على الكفاية بما حاصله : أنّ الأمارة « إمّا أن تكون حجّة من باب الموضوعيّة والسببيّة وإمّا أن تكون حجّة من باب الطريقيّة ، فإن كانت حجّة من باب الموضوعيّة ( أي توجب الأمارة حصول مصلحة في موردها وإن لم تكن لها مصلحة واقعاً ) فحينئذٍ وإن كان الحكم الفعلي هو مؤدّى الأمارة ولكنّه لا ينافي انحفاظ الحكم الفعلي المطلق ( الحكم الإنشائي ) بقوّته ، فاحتمال وجود حكم مخالفٍ لمؤدّى الأمارة في الواقع باقٍ على حاله ، ومعه لا ورود ، إذ كما يكون الاحتمال محفوظاً مع حكم نفسه كذلك مع الحكم المجعول بسبب الأمارة ، وإن كانت حجّة من باب الطريقيّة ، فأيضاً لا يرتفع احتمال الحكم الواقعي ، سواء كانت الحجّية حينئذٍ بمعنى جعل الحكم المماثل أو بمعنى منجّزية الأمارة للواقع ، لأنّه على الأوّل يكون الحكم مقصوراً على صورة الموافقة للواقع ، فلا يقين بالحكم ليرتفع احتمال الحكم الواقعي ، وعلى الثاني لا حكم مماثل مجعول أصلاً ليكون اليقين به رافعاً لاحتمال الحكم » (٢).

أقول : الصحيح ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، وأنّ ما أورده عليه المحقّق الأصفهاني رحمه‌الله ممّا لا يمكن المساعدة عليه من جهتين :

الاولى : ما مرّ سابقاً من أنّ الأمارة أيضاً توجب حصول العلم واليقين العرفي ، ولعلّ هذا هو مراد المحقّق الخراساني رحمه‌الله حيث عبّر عمّا يحصل بالأمارة باليقين ، والشاهد عليه أنّ أكثر القضايا المتيقّنة السابقة نتيقّن بها من طريق الأمارات.

وإن شئت قلت : كما أنّه لا فرق في حصول اليقين السابق بين الحاصل من طريق الأمارة أو العلم القطعي الوجداني ، كذلك لا فرق في نقضه بيقين آخر بين ما يحصل من الوجدان وما يحصل من الأمارة.

الثانية : أنّ مفاد الأمارة وإن كان ظنّياً ولكنّه ينتهي إلى اليقين ، حيث إنّ دليل حجّيته قطعي ، فنقض اليقين السابق ورفع اليد عنه بالأمارة يكون بالمآل من مصاديق نقض اليقين باليقين لا نقض اليقين بالشكّ ، فتأمّل.

__________________

(١) الكفاية : ص ٤٢٩ ، طبع مؤسسة آل البيت.

(٢) راجع نهاية الدراية : ج ٥ ـ ٦ ، ص ٢٣٨ ، طبع مؤسسة آل البيت.

٤٢٣

ويمكن تبيين هذا المعنى من طريق آخر وهو أنّ المراد من الشكّ في أدلّة حجّية الاستصحاب هو الحيرة الحاصلة من عدم وجود طريق إلى الواقع ، فإذا قامت عنده الأمارة التي هى من الطرق المعتبرة لم تبق له حيرة ولا يصدق عليه أنّه سالك بلا طريق ، فكأنّ معنى الشكّ عند العرف في أمثال المقام أضيق من الشكّ الفلسفي ، كما أنّ اليقين عندهم أوسع من اليقين الفلسفي ، وحينئذٍ لا يصدق على رفع اليد عن اليقين بالأمارة أنّه نقض اليقين بالشكّ بل يصدق عليه عند العرف أنّه نقض لليقين باليقين.

ويؤيّد ما ذكرنا ما مرّ من أنّ من أدلّة حجّية الاستصحاب هو بناء العقلاء ، ولا إشكال في أنّهم يعتمدون على الاستصحاب في خصوص موارد التردّد والحيرة ، وأمّا إذا قامت أمارة على تقنين قانون جديد مثلاً أو على عزل الوكيل عن وكالته فلا يجرون استصحاب بقاء القانون السابق أو استصحاب الوكالة كما لا يخفى.

فظهر أنّ الحقّ كون الأمارات واردة على الاستصحاب ، ولو تنزّلنا عن ذلك فلا أقلّ من الحكومة ( وهى أن يكون أحد الدليلين ناظراً إلى دليل آخر إمّا إلى موضوعه أو إلى متعلّقه أو إلى حكمه ، توسعة أو تضييقاً بالدلالة المطابقيّة أو التضمّن أو الالتزام البيّن ، وذلك لأنّ أدلّة حجّية خبر الواحد مثلاً عند الدقّة والتحليل ناظرة إلى أدلّة الاصول ، فإنّ مقتضى مفهوم آية النبأ ( أي عدم لزوم التبيّن في خبر العادل ) مثلاً إنّ ما أخبر به العادل مبيّن ( ولذلك لا يحتاج إلى التبيّن ) ولا إشكال في أنّ معناه عدم ترتيب آثار الشكّ ، وهكذا بالنسبة إلى قوله عليه‌السلام « ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان » إذ إنّ معناه لزوم معاملة العلم مع ما أخبر عنه الثقة وعدم ترتيب آثار الشكّ ، ولعلّ تسمية الشاهدين العدلين باسم البيّنة كانت من هذه الجهة ، أي إذا شهدت البيّنة على شيء فرتّب عليه آثار العلم تعبّداً ولا ترتّب آثار الشكّ ، وليس هذا إلاّمن باب أنّ أدلّة هذه الأمارات حاكمة على أدلّة الاصول وناظرة إليها ومضيّقة لدائرتها بغير موارد قيام الأمارة ، فظهر ممّا ذكرنا أنّ إنكار المحقّق الخراساني للحكومة هنا في غير محلّه.

ولو تنزّلنا عن ذلك فيمكن أن يقال بالتخصيص في الجملة ، أي التوفيق العرفي بين أدلّة الأمارات وأدلّة الاستصحاب بتخصيص عموم الاستصحاب بموارد قيام الأمارة ، والإنصاف أنّه يتصوّر بالنسبة إلى بعض الأمارات قطعاً ، نظير موارد قيام قاعدة اليد ، حيث إنّه لو لم تكن اليد مقدّمة على الاستصحاب ومخصّصة لأدلّته ، لما بقي لقاعدة اليد مورد ، وذلك لأنّها في جميع

٤٢٤

مواردها مزاحمة لإستصحاب عدم التملّك ، وهكذا في أصالة الصحّة وقاعدة الفراغ حيث أنّهما معارضتان مع استصحاب عدم إتيان العمل صحيحاً في جميع الموارد.

نعم ، إنّ هذا لا يجري بالنسبة إلى بعض الأمارات كخبر الواحد ، فإنّه قد يكون معارضاً مع الاستصحاب وقد لا يكون ، كما لا يخفى.

هذا كلّه في الأمارات المخالفة مع الاستصحاب.

أمّا الأمارات الموافقة كما إذا قامت البيّنة على طهارة شيء كان طاهراً سابقاً ففيها أيضاً يأتي ما مرّ من ورود أدلّة الأمارات على أدلّة الاستصحاب بنفس البيان السابق ، وهو أنّ مورد الاستصحاب هو الشكّ في الحكم الواقعي بمعنى الحيرة والتردّد ، والأمارة تزيلها.

وبعبارة اخرى : إنّ لليقين في أدلّة الاستصحاب معنىً يعمّ ما يحصل من الأمارة قطعاً ، وحينئذٍ مع وجود الأمارة لا تصل النوبة إلى الاستصحاب ، وأمّا استدلال الفقهاء بالاصول ومنها الاستصحاب في جنب سائر الأدلّة فهو بعد الفحص عن وجود الأمارة.

ولو تنزّلنا عن الورود فلا أقلّ من الحكومة أيضاً كالأمارات المخالفة ، لأنّ أدلّة الأمارات مفادها في الواقع « نزّله منزلة اليقين ولا ترتّب آثار الشكّ » ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّها منصرفة عن الاصول الموافقة.

نعم ، لا سبيل إلى التخصيص هنا ، لأنّه فرع مخالفة العام مع الخاصّ بلا إشكال ، ولذا لا يخصّص قولك « أكرم العلماء » بقولك « أكرم زيداً العالم » عند العرف.

التنبيه الثامن عشر : النسبة بين الاستصحاب وسائر الاصول العمليّة

والكلام فيه أيضاً يكون في وجه تقديم الاستصحاب على سائر الاصول ، وإلاّ لا إشكال في أصل تقدّمه عليها بل ادّعى اتّفاق الأصحاب عليه.

وقد قرّر في محلّه أنّ الاصول العمليّة على قسمين : عقلية وشرعية ، أمّا العقليّة فهى ثلاثة : البراءة العقليّة ( قبح العقاب بلا بيان ) والاحتياط العقلي ( في أطراف العلم الإجمالي وشبهه ) والتخيير العقلي ( في دوران الأمر بين الواجب والحرام ) نعم قد مرّ في مبحث البراءة أنّ المختار أنّها عقلائيّة لا عقليّة ، لأنّ العقل كما يحكم في موارد العلم الإجمالي بالاحتياط يحكم في

٤٢٥

موارد الشبهات البدوية أيضاً به ، لما مرّ هناك من أنّ مقاصد المولى لا تكون أقلّ أهمية من مقاصد العبد نفسه ، فكما أنّ العقل يحكم بالاحتياط فيما إذا احتمل العبد كون هذا الطعام مثلاً مضرّاً ضرراً معتدّاً به حفظاً لمقاصده الشخصية ، كذلك يحكم به فيما إذا احتمل كون هذا الشيء مبغوضاً لمولاه.

وعلى هذا فالاصول العقليّة إثنان لا ثلاثة ، نعم إنّ بناء العقلاء قام على البراءة ، فلا يؤاخذون العبيد والمأمورين بشيء قبل البيان الواصل إليهم ، وقد أمضاه الشارع أيضاً.

ولكن لا يخفى أنّه ليس فارقاً فيما هو المهمّ في المقام ، لأنّ موضوع البراءة سواء كانت عقليّة أو عقلانيّة هو عدم البيان ، وبعد قيام الاستصحاب يتبدّل عدم البيان إلى البيان.

وكيف كان ، لا إشكال في أنّ الاستصحاب وارد على الاصول العقليّة لأنّ موضوعها يرتفع به ، أمّا البراءة العقليّة ( أو العقلائيّة ) فلما عرفت آنفاً ، وأمّا الاحتياط العقلي فلأنّ موضعه عدم الأمن من العقوبة فيما إذا علم إجمالاً بخمريّة أحد الإنائين مثلاً ، ومع استصحاب خليّة أحدهما ينحلّ العلم الإجمالي من أصله ويحصل الأمن من العقاب ، وهكذا في التخيير العقلي ، فإنّ موضوعه عدم الترجيح بين المحذورين والاستصحاب مرجّح.

هذا في الاصول العقليّة.

وأمّا الاصول الشرعيّة المنحصرة في البراءة الشرعيّة فقد وقع النزاع في وجه تقديم الاستصحاب عليها فذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله إلى أنّ الاستصحاب وارد (١) على البراءة الشرعيّة بمعنى كونه رافعاً لموضوعها ( أي الشكّ ) بعد قيامه.

وقال في توضيح مرامه ما حاصله : إن قلت : هذا لو أخذ بدليل الاستصحاب في مورد الاصول ، ولكن لماذا لا يؤخذ بدليلها ويلزم الأخذ بدليله؟

قلنا : لأنّه لو أخذنا بدليل الاستصحاب لم يلزم منه شيء سوى ارتفاع موضوع سائر الاصول بسببه ، وهذا ليس بمحذور ، وأمّا لو أخذنا بدليل البراءة الشرعيّة دون الاستصحاب فيلزم منه إمّا التخصيص بلا مخصّص إن رفعنا اليد عن الاستصحاب الجاري في مورد البراءة الشرعيّة بدون مخصّص لدليله ، وإمّا التخصيص على وجه دائر إن رفعنا اليد عنه لأجل كون

__________________

(١) إنّه لم يعبّر بالورود في كلامه ، ولكنّه حيث قال : « فالنسبة بينها وبينه هى بعينها النسبة بين الأمارة وبينه » وكان مبناه هناك الورود فليكن هنا أيضاً كذلك.

٤٢٦

البراءة الشرعيّة مخصّصة لدليله ، فإنّ مخصّصيتها له ممّا يتوقّف على اعتبارها معه ، واعتبارها معه ممّا يتوقّف على مخصّصيتها له ، وهو دور محال ( انتهى كلامه مع شرح وتوضيح ).

ولكن يرد عليه : أنّ موضوع البراءة الشرعيّة إنّما هو الشكّ في الحكم الواقعي ، وهو باقٍ على حاله واقعاً حتّى بعد قيام الاستصحاب ، لأنّ المفروض أنّ الاستصحاب ليس أمارة حتّى يحصل به الاطمئنان بالواقع ، أضف إلى ذلك أنّه يجري عين هذا البيان ( لزوم التخصيص بلا مخصّص أو التخصيص على وجه دائر ) في الطرف المقابل أيضاً ، لأنّهما في عرض واحد ولسانهما واحد.

وذهب المحقّق النائيني رحمه‌الله إلى أنّه حاكم على البراءة الشرعيّة من باب « أنّها من الاصول غير التنزيلية ( غير المحرزة ) فيكون الاستصحاب المتكفّل للتنزيل رافعاً لموضوعها بثبوت التعبّد به شرعاً فيكون حاكماً عليها » (١).

ولكن يرد عليه أيضاً :

أوّلاً : ما مرّ سابقاً من أنّه لا فرق من هذه الجهة بين الأمارة والأصل ، فإنّ الشكّ مأخوذ في موضوع كليهما ، حيث إنّ الوارد في دليل حجّية الأمارة أيضاً ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) ( أي عند الشكّ وعدم العلم ) ، نعم كأنّه قال : « اسألوا حتّى تعلموا » فالغاية هو العلم بالواقع والوصول إلى الواقع ، بخلاف الأصل فإنّه لمجرّد رفع الحيرة في مقام العمل ، وبه لا يصل المكلّف إلى الواقع.

ثانياً : أنّ مفاد دليل الاستصحاب إنّما هو النهي عن نقض اليقين السابق حيث يقول : لا تنقض اليقين ( أي اليقين السابق ) بالشكّ ، ولا يقول : لا تنقض لأنّك على يقين من الحكم المتيقّن سابقاً حتّى يكون مفاده تنزيل المؤدّى منزلة الواقع.

ثمّ إنّ للشيخ الأعظم رحمه‌الله بياناً آخر للحكومة أي حكومة الاستصحاب على البراءة الشرعيّة بالنسبة إلى بعض أدلّتها مثل قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » ونحوه ، وإليك نصّ كلامه : « إنّ دليل الاستصحاب بمنزلة معمّم للنهي السابق بالنسبة إلى الزمان اللاحق فقوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » يدلّ على أنّ النهي الوارد لابدّ من إبقائه وفرض

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ٢ ، ص ٤٩٤ ، طبعة مؤسسة مطبوعات ديني.

٤٢٧

عمومه ، فمجموع الرواية المذكورة ( كلّ شيء مطلق ... ) ودليل الاستصحاب بمنزلة أن يقول : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه النهي ، وكلّ نهي ورد في شيء فلابدّ من تعميمه لجميع أزمنة احتماله » فتكون الرخصة في الشيء وإطلاقه ( المستفاد من قوله كلّ شيء مطلق ) مغيّى بورود النهي المحكوم عليه بالدوام وعموم الأزمان ( بدليل الاستصحاب ) فكان مفاد الاستصحاب نفي ما يقتضيه الأصل الآخر ( البراءة الشرعيّة ) في مورد الشكّ لولا النهي ، وهذا معنى المحكومة » ( انتهى ).

وحاصل كلامه أنّ دليل البراءة الشرعيّة يقول : كلّ شيء مطلق ومرخّص حتّى يرد فيه نهي ، ودليل الاستصحاب يقول : إنّ النهي السابق نهي في الزمان اللاحق أيضاً ، فيرتفع به موضوع أصالة البراءة وهو عدم وجود النهي فيكون حاكماً عليه.

ولكن يرد عليه : أنّ المستفاد من دليل الاستصحاب إنّما هو عدم ترتّب آثار الشكّ في مقام العمل ولزوم ترتّب آثار اليقين السابق كذلك ، لا أنّ النهي السابق موجود في الآن اللاحق ، لأنّه ليس حاكياً عن بقاء النهي بحسب الواقع ، وإلاّ يلزم كونه من الأمارات.

وبعبارة اخرى : إمّا أن تلتزموا بكون الاستصحاب من الأمارات كما التزم به بعض الأعلام (١) ونتيجته أنّه مقدّم على البراءة الشرعيّة بالورود أو الحكومة ، أو تجعلونه من الاصول العمليّة فلا وجه حينئذٍ لكونه مقدّماً من جهة الورود أو الحكومة ، بل إنّه يعارض البراءة الشرعيّة ولابدّ حينئذٍ من ملاحظة الترجيح بين أدلّتهما. فنقول : أنّ وجه التقديم كون أدلّة الاستصحاب بعد ملاحظة التأكيدات الكثيرة والعبارات المترادفة المتعدّدة فيها أقوى وأظهر دلالة من أدلّة البراءة كما لا يخفى ، فالمرجّح إنّما هو الأظهريّة والأقوائيّة في الدلالة ، ويؤيّده ما قد يقال : من أنّ ألسنة بعض رواياته كقوله عليه‌السلام : « فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ » في الصحيحة الثانية لزرارة وقوله عليه‌السلام : « فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين » في رواية محمّد بن مسلم آبٍ عن التخصيص لا سيّما بعد كون التعليل بأمر إرتكازي عقلي.

إلى هنا تمّ الكلام عن التنبيه الثامن عشر.

__________________

(١) في مصباح الاصول.

٤٢٨

التنبيه التاسع عشر : تعارض الاستصحابين

وقد قسّمه المحقّق الخراساني رحمه‌الله إلى قسمين ، فإنّها تارةً يكونان من قبيل المتزاحمين ( وقد مرّ في مبحث اجتماع الأمر والنهي أنّ التزاحم عبارة عن كون كلا الدليلين ذا مصلحة واقعيّة ولكن المكلّف لا يقدر على إتيانهما معاً ) كما في غريقين نحتمل حياة كلّ منهما ، فمقتضى استصحاب حياتهما وجوب إنقاذ كليهما ولكن المكلّف لا يقدر إلاّعلى إنقاذ واحد منهما.

واخرى يكونان من قبيل المتعارضين كما إذا علمنا بطهارة أحد الإنائين اللذين كانا نجسين سابقاً فيجري استصحاب نجاسة كلّ واحد منهما مع العلم بمخالفة أحدهما للواقع ، وكذلك العكس وهو ما إذا كان الإناءان طاهرين سابقاً ثمّ علمنا بنجاسة أحدهما من غير تعيّن ، فإستصحاب طهارة كلّ واحد منهما يعارض استصحاب طهارة الآخر للعلم بكذب أحدهما.

أمّا القسم الأوّل : فقد ذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله في هامش الكفاية إلى أنّ حكمه التخيير إلاّ أن يكون أحدهما أهمّ من الآخر فيقدّم ، كما إذا دار الأمر بين إنقاذ النبي وغيره ، أو دار الأمر بين انقاذ مسلم وذمّي ( بقاءً على وجوب إنقاذ الذمّي أيضاً ).

لكن الصحيح أنّه على أقسام أربعة :

فتارةً تكون النسبة بينهما التساوي ولا ترجيح لأحدهما على الآخر لا من ناحية المحتمل ولا من ناحية الاحتمال ، فالحكم حينئذٍ التخيير بلا إشكال.

واخرى يكون أحدهما أكثر احتمالاً من الآخر مع تساويهما في جانب المحتمل ، كما إذا كانت درجة احتمال نجاة أحدهما ثمانين في المائة ودرجة احتمال نجاة الآخر عشرين في المائة مع عدم ترجيح بينهما فيقدّم الأوّل على الثاني طبقاً لقاعدة الأهمّ والمهمّ.

وثالثة يكون أحدهما أهمّ في جانب المحتمل مع تساويهما في جانب الاحتمال ، ومثاله يظهر ممّا ذكرنا فيقدّم الأهمّ أيضاً على المهمّ.

ورابعة يكون أحدهما أكثر احتمالاً والآخر أهمّ محتملاً ، فلابدّ حينئذٍ من الكسر والانكسار وتشخيص ما يكون أهمّ في المجموع وتقديمه على الآخر.

وأمّا القسم الثاني : ( وهو المتعارضان ) فهو بنفسه على قسمين :

فتارةً يكون الاستصحابان طوليين بأن كان الشكّ في أحدهما مسبّباً عن الشكّ في الآخر

٤٢٩

على نحو لو ارتفع الشكّ في السبب ارتفع الشكّ في المسبّب ، أي يكونان من قبيل أصلي السببي والمسبّبي ، كما إذا شككنا في بقاء نجاسة الثوب المغسول بماء شكّ في بقاء طهارته.

واخرى يكونان عرضيين كالمثال المذكور آنفاً ( استصحاب طهارة الإنائين مع العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما بملاقاته للنجس أو العكس ).

أمّا القسم الأوّل فلابدّ من التكلّم فيه أوّلاً : في ميزان كون أحد الأصلين سببيّاً والآخر مسبّبياً ، وثانياً : في وجه تقديم الأصل السببي على المسبّبي.

أمّا المقام الأوّل فالصحيح ما اشير إليه آنفاً من أنّ المعيار كون الشكّ في أحدهما مسبّباً عن الشكّ في الآخر ، وإن شئت قلت : كون أحدهما من الآثار الشرعيّة للآخر ففي المثال المزبور تكون طهارة الثوب المغسول من الآثار الشرعيّة لطهارة الماء بخلاف العكس ، فليست نجاسة الماء من الآثار الشرعيّة لنجاسة الثوب المغسول بل إنّها من لوازمها العقليّة كما لا يخفى.

والمحقّق النائيني رحمه‌الله ذكر لحكومة كلّ أصل سببي على كلّ أصل مسبّبي شرطين : أحدهما : أن يكون الترتّب بينهما شرعياً لا عقلياً ، بأن يكون أحدهما من الآثار الشرعيّة للآخر ، فالشكّ في بقاء الكلّي لأجل الشكّ في حدوث الفرد الباقي خارج عن محلّ الكلام ، لأنّ بقاء الكلّي ببقاء الفرد عقلي.

ثانيهما : أن يكون الأصل السببي رافعاً للشكّ المسبّبي ، فالشكّ في جواز الصّلاة في الثوب لأجل الشكّ في اتّخاذه من الحيوان المحلّل خارج عن محلّ الكلام ، فإنّ أصالة الحلّ في الحيوان وإن كانت تجري ، إلاّ أنّها لا تقتضي جواز الصّلاة في الثوب ، لأنّ أصالة الحلّ لا تثبت كون الثوب متّخذاً من الأنواع المحلّلة (١) ( فإنّ جواز الصّلاة مترتّب على كون الثوب متّخذاً من عناوين خاصّة كعنوان الغنم والشاة والإبل ونحوها من سائر الحيوانات المحلّلة ).

أقول : إذا عرّفنا الأصل السببي والمسبّبي بكون الشكّ في أحدهما مسبّباً عن الشكّ في الآخر شرعاً فلا حاجة إلى ذكر هذين الشرطين مستقلاً لأنّهما مفهومان من نفس التعريف ولا زمان له ، أمّا الشرط الأوّل فلأنّه يفهم من قيد « شرعاً » الوارد في ذيل التعريف ، وأمّا الشرط الثاني فلأنّه أيضاً من لوازم التسبّب الشرعي التعبّدي الموجود في التعريف ، لأنّه إذا

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٦٨٢ ، طبعة جماعة المدرّسين.

٤٣٠

إرتفع السبب الذي هو بمنزلة العلّة شرعاً ارتفع المسبّب الذي هو بمنزلة المعلول كذلك ، وإلاّ يلزم تخلّف المعلول عن علّته.

وأمّا ما ذكره من المثال ، ففيه : أنّ إرتفاع الشكّ في جواز الصّلاة مع ارتفاع الشكّ في الحلّية بجريان أصالة الحلّية فيه ، ناشٍ عن عدم كونه مسبّباً عنه شرعاً ، لأنّ الشكّ في جواز الصّلاة ليس مسبّباً عن الشكّ في الحلّية حتّى يرتفع بارتفاعه ، بل مسبّب عن الشكّ في أنّه من العناوين الخاصّة المحلّلة أو لا؟ وهو لا يرتفع بإجراء أصالة الحلّية كما ذكره.

هذا كلّه في المقام الأوّل.

أمّا المقام الثاني : وهو الوجه في تقديم الأصل السببي على المسبّبي ، فإستدلّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله لتقديم السببي على المسبّبي بعين ما استدلّ به لتقديم الأمارة على الاستصحاب من الورود ، فقال : إنّ رفع اليد عن اليقين السابق بنجاسة الثوب في المثال المذكور مع استصحاب طهارة الماء المغسول به ليس من نقض اليقين بالشكّ بل باليقين ، وقال في مقام الجواب عن إشكال عدم وجود مرجّح لتقديم جانب السببي على المسبّبي : إنّ الأخذ بجانب السببي ممّا لا يلزم منه شيء سوى نقض اليقين باليقين وهو ليس بمحذور بخلاف الأخذ بجانب المسبّبي فيلزم منه إمّا التخصيص بلا مخصّص أو التخصيص على وجه دائر.

أقول : يرد عليه عين ما أوردناه عليه هناك فلا نعيده ، مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال بالحكومة هنا أيضاً من باب أنّ طهارة الثوب من اللوازم الشرعيّة لطهارة الماء ، بخلاف العكس لأنّ نجاسة الماء ليس من اللوازم الشرعيّة لنجاسة الثوب بل إنّها من لوازمها العقليّة.

إن قلت : إنّ الحكومة تتوقّف على تعدّد الدليل ليكون أحد الدليلين ناظراً إلى الآخر ومفسّراً لمدلوله ، فلا يعقل أن يكون دليل واحد بالنسبة إلى تطبيقه على فرد منه ناظراً إلى نفسه بالنسبة إلى تطبيقه على فرد آخر كما في ما نحن فيه.

قلنا : قد أجاب عن هذا المحقّق النائيني رحمه‌الله بأنّه « نشأ من خلط الحكومة الواقعيّة بالظاهريّة ، فإنّ الحكومة إذا كانت واقعيّة كحكومة أدلّة الغاء شكّ كثير الشكّ بالقياس إلى أدلّة المشكوك فلا مناصّ عن تعدّد الدليل حتّى يكون أحدهما مخصّصاً للآخر لبّاً بعنوان

٤٣١

الحكومة ، وأين هذا من الحكومة الظاهريّة التي لا يعتبر فيها إلاّكون الحاكم رافعاً لموضوع الآخر في عالم التشريع؟ فإنّ الدليل الواحد إذا كان له افراد كثيرة بعضها في طول الآخر ومسبّب عنه فلا محالة يكون شمول هذا الدليل للسبب رافعاً لما هو في طوله تشريعاً. وهذه الحكومة هى المدعاة في المقام دون الحكومة الواقعيّة المعتبر فيها نظر أحد الدليلين بمدلوله اللفظي إلى الدليل الآخر » (١).

أقول : الإنصاف أنّه ليس هناك إلاّقسم واحد من الحكومة ، وهو أن يكون أحد الدليلين ناظراً إلى الآخر ومفسّراً له إمّا بمدلوله المطابقي أو التضمّني أو الالتزامي ، ولا إشكال في أنّ هذا المعنى قد يحصل في دليل واحد إذ انحلّ إلى أحكام متعدّدة ، فإذا كان الماء المشكوك طهارته داخلاً في عموم لا تنقض كان معناه ترتيب آثار الماء الطاهر عليه ، فإذا سئل من آثاره يمكن أن يقال : إنّ من آثاره رفع النجاسة عن الثوب المغسول به ، وهذا معنى النظر إلتزاماً.

والحاصل : أنّه لا يعتبر في حكومة دليل على دليل آخر أن يكون الدليل الحاكم ناظراً إلى الدليل المحكوم بمدلوله المطابقي ، بل يكفي فيها النظر بمدلوله الالتزامي ، ولا إشكال في أنّ هذا المقدار من النظر لازم انحلال دليل واحد إلى أحكام متعدّدة ، حيث إنّ المقصود من النظر ( كما اعترف المحقّق النائيني رحمه‌الله نفسه ) أن يكون أحدهما رافعاً لموضوع الآخر تعبّداً ، وهذا حاصل بعد حصول الانحلال كما لا يخفى.

أمّا القسم الثاني : وهو ما إذا كان أحدهما في عرض الآخر كاستصحاب طهارة الإنائين مع العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، فله أيضاً صورتان :

الاولى : ما إذا كانا في أطراف علم إجمالي بتكليف فعلي ، فيلزم منهما المخالفة القطعيّة.

الثانية : ما إذا لم يكونا في أطراف علم إجمالي بتكليف فعلي ، بحيث إذا جرى الاستصحاب في كليهما لم يلزم مخالفة قطعيّة.

أمّا الصورة الثانية : فالأقوال فيها ثلاثة :

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ٢ ، ص ٤٩٦ ، طبعة مؤسسة مطبوعات ديني.

٤٣٢

١ ـ ما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمه‌الله من عدم شمول أدلّة الاستصحاب لهما مطلقاً.

٢ ـ ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله من أنّها تشمل المقام ، أي أنّ المقتضي تامّ والمانع مفقود ، وهو المخالفة العمليّة القطعيّة ( وما ذكراه يجري في أصالة الحلّية أيضاً ).

٣ ـ تفصيل المحقّق النائيني رحمه‌الله بين الاستصحاب وسائر الاصول العمليّة ، فذهب في الاستصحاب إلى نفس ما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمه‌الله وفي غيره إلى مقالة المحقّق الخراساني رحمه‌الله.

واستدلّ الشيخ الأعظم رحمه‌الله بأنّ جريان الاستصحاب في ما نحن فيه يلزم منه التناقض في دليل الاستصحاب بين صدره وذيله ، لأنّ صدره يقول : « لا تنقض اليقين بالشكّ » وهذا يشمل كلا الطرفين ، بينما الذيل يقول : « انقضه بيقين آخر » وهو شامل لأحدهما إجمالاً ، لأنّ أحدهما معلوم ومتيقّن ، كما يلزم هذا في أدلّة بعض الاصول الاخر كقاعدة الحلّية ، فإنّ الصدر فيها يقول : « كلّ شيء لك حلال » فهو شامل لكلا الطرفين من العلم الإجمالي ، والذيل يقول : « حتّى تعلم أنّه حرام » وهو أيضاً شامل لأحدهما المعلوم بالإجمال.

ولكن قد اجيب عنه بجوابين :

أحدهما : أنّ المناقضة بين الصدر والذيل على فرض كونها مانعة عن اطلاق الخطاب وعن شموله لأطراف العلم الإجمالي فهى موجودة في بعض أخبار الباب ممّا فيه الذيل المذكور ، وليست موجودة في جميع الأخبار ، وعليه فإطلاق الخطاب وشموله لأطراف العلم الإجمالي في سائر الأخبار محفوظ على حاله.

ويرد عليه : أنّ الوجدان العرفي يحكم بأنّ الروايات المطلقة تقيّد وتفسّر بالروايات المذيّلة بذلك الذيل ، حيث إنّا نقطع بأنّ جميع هذه الروايات في مقام بيان حكم واحد على موضوع واحد لا حكمين مختلفين.

الثاني : ما أجاب به بعض الأعلام من « أنّ الظاهر كون المراد من اليقين في قوله عليه‌السلام : « ولكن تنقضه بيقين آخر » هو خصوص اليقين التفصيلي لا الأعمّ منه ومن الإجمالي ، إذ المراد نقضه بيقين آخر متعلّق بما تعلّق به اليقين الأوّل ، وإلاّ لا يكون ناقضاً له ، فحاصل المراد هكذا : كنت على يقين من طهارة ثوبك فلا تنقضه بالشكّ في نجاسة الثوب بل انقضه باليقين بنجاسته ،

٤٣٣

فلا يشمل اليقين الإجمالي لعدم تعلّقه بما تعلّق به اليقين الأوّل ، بل تعلّق بعنوان أحدهما » (١).

أقول : بل يمكن أن يقال : إنّ الذيل لا يراد منه إلاّنفس ما اريد من الصدر ، فهو توضيح وتفسير للصدر ، حيث إنّه يفهم من نفس الصدر بقرينة المقابلة.

وإن شئت قلت : كما أنّ الشكّ هنا تفصيلي فالعلم المقابل له أيضاً تفصيلي فالعلم الإجمالي خارج عن نطاقه.

أضف إلى ذلك أنّه يمكن أن يقال : بإنصراف أدلّة الاستصحاب عن موارد العلم الإجمالي ، فهى مختصّة بموارد الشكّ البدوي الخالص فإنّ الشكّ في أطراف العلم الإجمال ليس شكّاً خالصاً بل شكّاً مشوب بالعلم.

واستدلّ المحقّق النائيني للتفصيل بين الاصول المحرزة وغير المحرزة وجريان الثاني ( الاصول غير المحرزة ) في أطراف العلم الإجمالي دون الأوّل بأنّ المجعول في الاصول المحرزة ( كالاستصحاب وقاعدة الفراغ والتجاوز وأصالة الصحّة ) هو البناء العملي على ثبوت الواقع في أحد طرفي الشكّ وتنزيله عملاً منزلة الواقع ، ولا يخفى أنّ التعبّد ببقاء الواقع في كلّ واحد من أطراف العلم الإجمالي ينافي العلم الوجداني بعدم بقاء الواقع في أحدها ، وكيف يعقل الحكم ببقاء النجاسة مثلاً في كلّ واحد من الإنائين مع العلم بطهارة أحدهما؟ ومجرّد أنّه لا يلزم من الاستصحابين مخالفة عملية لا يقتضي صحّة التعبّد ببقاء النجاسة في كلّ منهما فإنّ الجمع في التعبّد ببقاء مؤدّى الاستصحابين ينافي ويناقض العلم الوجداني بالخلاف ، وهذا بخلاف الاصول غير المحرزة فإنّه لمّا كان المجعول فيها مجرّد تطبيق العمل على أحد طرفي الشكّ فلا مانع من التعبّد بها في أطراف العلم الإجمالي إذا لم يلزم منها مخالفة عملية (٢).

ويرد عليه أوّلاً ما مرّ كراراً من أنّا لا نقبل تقسيم الاصول إلى المحرزة وغير المحرزة ولا نفهم له معنىً محصّلاً ، فإنّ مفاد الدليل إذا كان هو التنزيل منزلة الواقع فهو أمارة ( سواء أخذ الشكّ ظاهراً في موضوعه أم لم يؤخذ ) وإن لم يكن مفاده كذلك فهو أصل عملي.

وثانياً : سلّمنا ، ولكن المقتضي وهو إطلاقات أدلّة الاستصحاب تامّ في كلا القسمين إذ إنّ المفروض عنده أنّ اليقين في الاستصحاب يقين تعبّدي لا حقيقي ، واليقين التعبّدي بكلا طرفي

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ٢٥٩ ، طبعة مطبعة النجف.

(٢) راجع فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٦٩٢ و ٦٩٣.

٤٣٤

الشكّ لا ينافي العلم الإجمالي الحقيقي بكذب أحدهما ، فهو نظير البيّنتين المتعارضتين أو الخبرين المتعارضين اللذين يجريان كلاهما ثمّ يتساقطان بالتعارض بحسب القاعدة.

فظهر أنّ الصحيح ما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمه‌الله من عدم جريانهما رأساً ، ولكن لا لتناقض صدر الحديث مع ذيله كما ذكره ، بل من باب الإنصراف كما ذكرنا.

بقي هنا شيء :

وهو بيان الثمرة في هذه المسألة :

إنّ ثمرة هذه المسألة تظهر في الملاقي لأحد الأطراف إذا كان كلّ واحد مسبوقاً بالنجاسة ثمّ علم بطهارة أحدهما إجمالاً ، فإنّه حينئذ طاهر بناءً على عدم جريان الاستصحاب ( وقد ثبت في محلّه أنّ ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة طاهر وإن كان يجب الإجتناب عن نفس الأطراف لمكان العلم الإجمالي ) ولكنّه نجس بناءً على جريان الاستصحاب ، لأنّه حينئذٍ يكون كلّ طرف من الأطراف نجساً بالتعبّد الاستصحابي ، والمفروض عدم سقوط الاستصحاب بعد الجريان لعدم لزوم المخالفة العمليّة ، وإذا كان الطرف بنفسه نجساً بالتعبّد كان ملاقيه أيضاً نجساً كذلك.

وممّا ذكرنا ظهر الحال فيما إذا كان أحد الاستصحابين ذا أثر شرعي دون الآخر ، كما إذا كان الماء في أحد الطرفين كرّاً وفي الآخر قليلاً ، فيجري الاستصحاب في خصوص الماء القليل بلا معارض وتترتّب عليه آثاره حتّى عند من يقول بعدم جريان الاستصحاب في القسم الأوّل.

هذا كلّه في هو الصورة الثانية ، أي ما إذا لم يلزم من جريانهما مخالفة عملية.

وأمّا الصورة الاولى : أي ما إذا لزم من جريان الاستصحابين المخالفة العمليّة ، فالاستصحابان غير جاريين إمّا لعدم المقتضي كما أفاده الشيخ الأعظم رحمه‌الله أو للتعارض كما أفاده صاحب الكفاية.

٤٣٥

التنبيه العشرون : النسبة بين الاستصحاب والقواعد الجارية في الشبهات الموضوعيّة

وقد أشار المحقّق الخراساني رحمه‌الله إلى خمسة منها : قاعدة التجاوز ، قاعدة الفراغ ( بناءً على الفرق بينهما ) ، أصالة الصحّة ، قاعدة اليد ، قاعدة القرعة.

ولا إشكال في وجوب تقديم هذه القواعد على الاستصحاب ، وإنّما الكلام في وجهه.

قال المحقّق الخراساني رحمه‌الله بأنّ الوجه أخصّية دليلها من دليل الاستصحاب ، وكون النسبة بينه وبين بعضها عموماً من وجه لا يمنع عن تخصيصه بها ، وذلك لوجهين :

أحدهما : الإجماع على عدم التفصيل في جريان هذه القواعد بين موارد جريان الاستصحاب وغيرها ، فكما أنّه يعمل باليد مثلاً فيما إذا لا يكون في موردها استصحاب ، فكذلك يعمل بها فيما إذا كان هناك استصحاب على خلافها.

ثانيهما : أنّ مورد افتراق اليد ( مثلاً ) عن الاستصحاب نادر قليل جدّاً ، فلو خصّصنا اليد بالإستصحاب وجعلنا مورد الاجتماع تحت الاستصحاب لزم التخصيص المستهجن بلا إشكال ، بخلاف ما إذا خصّصنا الاستصحاب باليد وجعلنا مورد الاجتماع تحت قاعدة اليد.

أقول : الصحيح من هذين الوجهين هو الوجه الثاني لأنّ الإجماع في مثل هذه الموارد لا أقلّ من كونه محتمل المدرك.

إن قلت : إن كانت النسبة العموم من وجه ، فما هو موضع إفتراق هذه القواعد عن الاستصحاب؟

قلنا : قد ذكر له موردان : أحدهما : موارد توارد الحالتين ، فلا يجري الاستصحاب فيما إذا توارد الحدث والطهارة على مكلّف واحد مثلاً وشكّ في السابق منهما بعد إتيان الصّلاة ، بل تجري قاعدة الفراغ بلا معارض.

ثانيهما : موارد الشكّ في طروّ المانع فيما إذا كان الاستصحاب موافقاً لأصالة الصحّة أو قاعدة الفراغ والتجاوز ، كما إذا شككنا في إتيان ركوع زائد بعد التجاوز عن المحلّ أو بعد إتمام الصّلاة ، فإنّ استصحاب عدم إتيانه بركوع زائد موافق لقاعدة الفراغ في إثبات صحّة الصّلاة ، فتجري قاعدة الفراغ بلا جريان استصحاب معارض ، بل الاستصحاب موافق له.

إن قلت : يجري استصحاب بقاء إشتغال الذمّة بالصلاة الصحيحة وهو يعارض أصالة الصحّة.

٤٣٦

قلنا : أوّلاً : لا تصل النوبة إلى استصحاب الاشتغال مع جريان قاعدة الإشتغال ( الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة ) في جميع موارد الشكّ في براءة الذمّة ، كما قرّر في محلّه ، ولا يخفى الفرق بينهما ، فإنّ قاعدة الاشتغال ليست محدودة بموارد سبق الحالة السابقة للاشتغال.

وثانياً : أنّ استصحاب عدم إتيان الركوع الزائد حاكم على استصحاب الاشتغال ، لكونه سبباً واستصحاب الإشتغال مسبّبياً ، فالشكّ في بقاء الاشتغال ينشأ من الشكّ في إتيانه بالركوع الزائد وعدمه ، فإذا ارتفع هو باستصحاب عدمه ارتفع الشكّ في بقاء الاشتغال أيضاً.

فظهر ممّا ذكر أنّ الوجه في تقديم القواعد على الاستصحاب قلّة موارد الافتراق فتقدّم عليه من باب تقديم الخاصّ على العام.

أقول : والصحيح في منهج البحث في المقام تعيين كون هذه القواعد من الأمارات أو الاصول أوّلاً ، حيث إنّها إذا كانت من الأمارات كان وجه تقديمها على الاستصحاب نفس وجه تقديم سائر الأمارات عليه ، وهو كون أدلّتها واردة على أدلّة الاستصحاب أو حاكمة عليها ببيان مرّ تفصيله ، ولا إشكال في أمارية هذه القواعد فتكون واردة على الاستصحاب ، ولا أقلّ من كونها حاكمة عليها كما هو مقتضى بعض أدلّتها كقوله عليه‌السلام في مورد قاعدة التجاوز : « بلى قد ركعت » (١) أي أنّك على يقين من إتيان الركوع فلا تعتن بشكّك وامض.

هذا كلّه في بيان النسبة بين الاستصحاب والقواعد الخمسة غير القرعة.

وأمّا القرعة فحاصل ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله في وجه تقديم الاستصحاب عليها وبيان النسبة بينهما وجوه ثلاثة :

الوجه الأوّل : أنّ دليل الاستصحاب أخصّ من دليل القرعة لأنّ الاستصحاب ممّا يعتبر فيه سبق الحالة السابقة دون القرعة.

إن قلت : إنّ النسبة بين الاستصحاب والقرعة هى العموم من وجه لا العموم المطلق ، فكما أنّ الاستصحاب أخصّ من القرعة لاعتبار سبق الحالة السابقة فيه فكذلك القرعة تكون أخصّ من الاستصحاب لاختصاصها بالشبهات الموضوعيّة بالإجماع بل بالضرورة.

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ١٣ ، من أبواب الركوع ، ح ٣.

٤٣٧

قلنا : المدار في النسبة بين الدليلين هو نسبتهما بحسب أنفسهما قبل تخصيص أحدهما بشيء ، فتخصيص القرعة بالشبهات الموضوعيّة بالإجماع والضرورة لا يوجب خصوصية في جانبها بعد عموم دليلها بحسب اللفظ.

الوجه الثاني : أنّ عموم دليل القرعة موهون بكثرة تخصيصه حتّى صار العمل به في مورد محتاجاً إلى الجبر بعمل الأصحاب بخلاف الاستصحاب فيكون عمومه باقياً على قوّته فيقدّم على عمومها.

الوجه الثالث : أنّ الموضوع في جريان القرعة كون الشيء مشكلاً بقول مطلق ( واقعاً وظاهراً ) لا في الجملة ، وعليه يكون دليل الاستصحاب وارداً على دليل القرعة ، رافعاً لموضوعه ( أي الإشكال ) ولو تعبّداً وظاهراً ، لا حقيقة وواقعاً.

أقول : الحقّ عدم تمامية الوجه الأوّل والثاني ( وقد أخذهما صاحب الكفاية عن الشيخ الأعظم رحمه‌الله ).

أمّا الوجه الأوّل فإنّ دليل القرعة ليس عاماً من أوّل الأمر ، لأنّ الإرتكاز العقلائي والمتشرّعي الموجود على اختصاصها بالشبهات الموضوعيّة يوجب انصرافها إلى الشبهات الموضوعيّة كما لا يخفى ، وحينئذٍ لا يلزم انقلاب النسبة ، بل النسبة بين دليلها ودليل الاستصحاب عموم مطلق من الأوّل.

وأمّا الوجه الثاني ، فيرد عليه : أيضاً أنّ القرعة لم تخصّص في مورد فضلاً عن كونها موهونة بكثرة التخصيصات ، لأنّ موضوعها كلّ أمر مجهول ، وهو لا يعني كلّ أمر مشكوك ، بل إنّما هو بمعنى سدّ جميع الأبواب والطرق ، كما هو كذلك في مثال ولد الشبهة أو الغنم الموطوءة وغيرهما ممّا ورد في أحاديث الباب ، ففي مورد المثال الأوّل لا بيّنة تعيّن بها خصوص الموطوءة ، ولا استصحاب لعدم سبق الحالة السابقة ، ولا تجري أصالة الاحتياط للزوم الضرر العظيم ، وفي مثال ولد الشبهة لا طريق لإحراز أمر الولد وتخيير القاضي مظنّة التشاحّ والتنازع ، فلا يبقى طريق إلاّ القرعة.

والحاصل : أنّ القرعة إنّما تجري في موارد سدّ الأبواب جميعاً من الأمارات والاصول.

فالصحيح في المقام هو الوجه الثالث ، وهو أنّ أدلّة الاستصحاب واردة على أدلّة القرعة لأنّ بها يرتفع المجهول موضوعاً ، كما أنّها كذلك بالنسبة إلى أدلّة سائر الاصول وجميع الأمارات والقواعد.

٤٣٨

ثمّ إنّ شيخنا الأعظم رحمه‌الله قد فرّق بين الاصول الشرعيّة كالاستصحاب وبين الاصول العقليّة ، فقال بورود الاصول الشرعيّة على القرعة خلافاً للُاصول العقليّة كالبراءة العقليّة فإنّ القرعة واردة عليها لأنّ موضوعها « لا بيان » والقرعة بيان.

وبما ذكرنا ظهر ضعف هذا الكلام لأنّ موضوع القرعة ـ كما قلنا ـ هو المجهول المطلق ، وهو ليس حاصلاً حتّى في موارد البراءة والاحتياط العقليين ، ولذلك لا يتمسّك حتّى الشيخ رحمه‌الله نفسه بذيل القرعة في أطراف العلم الإجمالي ، مع أنّ وجوب الاحتياط فيها من الاصول العقليّة.

وتمام الكلام في مسألة القرعة وتحقيق مثل هذه المباحث يحتاج إلى رسم امور ( وإن كان استيفاء البحث فيها موكولاً إلى محلّ آخر ) (١).

الأمر الأوّل : في أدلّة حجّية القرعة

وقد يدلّ عليها الأدلّة الأربعة من الكتاب والسنّة والإجماع وبناء العقلاء ( لا دليل العقل ) :

أمّا الكتاب : فهو آيتان إحديهما : قوله تعالى في قصّة زكريا وولادة مريم : ( وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) (٢) فإنّه بعد ما وقع التشاّح بين الأحبار لتعيين من يكفل مريم حتى بلغ حدّ الخصومة ولم يجدوا طريقاً لرفعه إلاّ القرعة تقارعوا بينهم ، فوقعت القرعة على زكريّا.

ثانيهما : قوله تعالى : ( وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ ) (٣) وقصّة يونس ( إباقه من قومه ثمّ وروده في سفينة ووقوع القرعة عليه ثلاث مرّات ) معروفة.

إن قلت : إنّ الآيتين وردتا في الشرائع السابقة ، وقد مرّ أنّ الأقوى عدم حجّية استصحابها للشريعة اللاحقة.

قلنا : إنّ تمسّكنا بهما في المقام ليس مبنيّاً على حجّية استصحاب الشرائع السابقة ، بل مبنى

__________________

(١) راجع كتابنا القواعد الفقهيّة : المجلّد الأوّل من الطبعة الثانية ، القاعدة السادسة.

(٢) سورة آل عمران : الآية ٤٠.

(٣) سورة الصافات : الآية ١٣٩ ـ ١٤١.

٤٣٩

على أنّ نقل القرآن الكريم قد يكون ظاهراً في الامضاء.

وأمّا الروايات : فهى على طائفتين : طائفة عامّة تعمّ جميع موارد القرعة ، وقد نقلنا منها إثنا عشرة رواية في كتابنا القواعد الفقهيّة (١) ، وطائفة خاصّة تختصّ بقضايا خاصّة كالتي وردت في الغنم الموطوءة أو ولد الشبهة أو النذر ، وقد نقلنا منها عشر طوائف في القواعد الفقهيّة أيضاً (٢) ، ولا إشكال في أنّها بمجموعها بلغت حدّ التواتر ولذلك نعدّها عمدة أدلّة القرعة.

وأمّا بناء العقلاء : فلا إشكال أيضاً في أنّ سيرة العقلاء جرت على القرعة في الامور المشكلة عليهم التي تنجرّ إلى التنازع والتشاحّ ، فراجع لتفصيل البيان والموارد المختلفة في تداول القرعة بينهم كتاب القواعد الفقهيّة أيضاً (٣).

وأمّا الإجماع : فلا ريب أيضاً في أنّ إتّفاق الأصحاب قام على حجّية القرعة ، نعم لا أقلّ من أنّه محتمل المدرك فلا يمكن الركون إليه خاصّة.

الأمر الثاني : في موارد القرعة

وهى عند العقلاء منحصرة بموارد مظنّة التنازع والتشاحّ ، ولكن مواردها عند الشارع المقدّس أوسع منها ( وهذا ممّا وسّع الشارع فيه ما بنى عليه العقلاء ) فلا إشكال في جريان القرعة في الغنم الموطوءة مثلاً عند فقهاء الأصحاب ، وقد وردت روايات عديدة تدلّ عليه.

ثمّ إنّ المستفاد من روايات الباب جريان القرعة في المجهول المطلق مطلقاً سواء كان له واقع محفوظ اشتبه علينا فتكون القرعة أمارة وكاشفة عنه كما في ولد الشبهة والغنم الموطوءة ، أو لم يكن له واقع مجهول فتجري القرعة ، لمجرّد رفع التنازع والتشاحّ كما في موارد تزاحم الحقوق أو المنازعات ، ويمكن أن يقال : إنّ مورد قصّة زكريا وولادة مريم من هذا القبيل ( كما أنّه لا ريب في أنّ مورد قصّة يونس عليه‌السلام من قبيل القسم الأوّل ) حيث إنّ الرجوع إلى القرعة فيها كان لرفع تشاحّ أحبار بني إسرائيل في كفالة مريم ، اللهمّ إلاّ أن يقال : أنّ جريان القرعة فيها أيضاً كان لتعيين الواقع ، أي تعيين من هو أفضل وأولى لكفالة مريم وتربيتها ، ولذا وقعت

__________________

(١) راجع القواعد الفقهيّة : ج ٢ ، ص ١٢٦ ـ ١٣٢.

(٢) المصدر السابق : ص ١٣٣ ـ ١٤٨.

(٣) المصدر السابق : ص ١٥٠.

٤٤٠