أنوار الأصول - ج ٣

أنوار الأصول - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-15-6
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٢٤

العلم الإجمالي بالحدث فلا تكون حالة سابقة متيقّنة للحدث ، ولكن استصحاب الطهارة لا مانع منه ... وإذا جهل تاريخ الطهارة مع العلم بالحدث سابقاً وعلم تاريخ الحدث فإستصحاب المعلوم التاريخ يعارض استصحاب الطهارة المعلومة بالإجمال ونحكم بلزوم التطهّر عقلاً لقاعدة الاشتغال » (١).

أقول : وكأنّ منشأ الإشتباه في هذا الكلام هو مسألة فعليّة تأثير سبب الحدث وشأنية سببيته ، والحال أنّه لا أثر لها في المقام فإنّا نعلم علماً قطعيّاً أنّ المكلّف كان محدثاً مقارناً للحدث الثاني بأي سبب كان ( الحدث السابق أو الحدث اللاحق ) والكلام إنّما هو في أصل وجود المسبّب ، وهو قطعي في تلك الحالة ، ثمّ نشكّ في إرتفاع هذا الحدث ، فأركان الاستصحاب فيه تامّة.

وإن شئت قلت : التردّد في سبب وجود الشيء بعد القطع بوجوده لا يوجب تعدّد وجود الشيء أو الشكّ في أصل وجود المسبّب.

بقي هنا امور :

الأوّل : في مقتضى الأصل العملي بعد تعارض الاستصحابين وتساقطهما.

وهو مختلف باختلاف المقامات ، فإذا كانت الحالتان الطهارة والحدث ، فالمرجع هو أصالة الاشتغال لأنّ الواجب إتيان الصّلاة مع الطهارة ، والمفروض عدم وجودها لا بالوجدان ولا بالأصل لسقوطه بالمعارضة ، وإذا كانت الطهارة ، عن الخبث والنجاسة فيكون المرجع أصالة الطهارة ( قاعدة الطهارة المأخوذة من قوله عليه‌السلام كلّ شيء طاهر ... ) ولا يخفى أنّ أصالة الطهارة غير استصحابها ، وإن كانتا الكرّية والقلّة فالمرجع بعد تعارض أصالة عدم الكرّية وأصالة عدم القلّة إنّما هو استصحاب الطهارة الثابتة قبل الملاقاة بالنسبة إلى الملاقى ( بالفتح ) واستصحاب النجاسة الثابتة قبل الملاقاة بالنسبة إلى الملاقي ( بالكسر ).

الثاني : أنّ ما ذكرنا من جريان الاستصحاب أو عدم جريانه في المقام كان مختصّاً بمفاد كان التامّة ، أو ليس التامّة ، أي أصل وجود الحدث أو الوضوء أو عدمهما ، ولا يجري بالنسبة إلى مفاد كان الناقصة ( كان النوم متقدّماً على الوضوء أو بالعكس مثلاً ) أو مفاد ليس الناقصة

__________________

(١) الرسائل : ج ١ ، ص ٢٠٠ ـ ٢٠٣.

٤٠١

( لم تكن الطهارة متقدّمة على الحدث أو بالعكس مثلاً ) لأنّه ليس له حالة سابقة متيقّنة كما لا يخفى.

الثالث : في كلام للمحقّق النائيني رحمه‌الله حيث يرجع إلى مسألة فقهية في باب الطهارة ، وهى ما إذا كان هناك ماءان مشتبهان قليلان وكان الماء منحصراً بهما ، فجاء في الحديث : « ويهريقهما ويتيمّم » سواء كان للإهراق موضوعيّة أو لم تكن فوقع البحث في أنّه هل هو حكم على القاعدة ، أو يكون من التعبّد المحض؟

فيمكن أن يقال : أنّه تعبّد محض لأنّ مقتضى القاعدة الاحتياط بالتوضّي بكلّ واحد منهما ، ثمّ إتيان الصّلاة به نظير إتيان الصّلاة في أربع جهات في مشتبه القبلة.

وقال بعض أنّه حكم على القاعدة في الجملة لأنّه بمجرّد وقوع القطرة الاولى من الماء الثاني موضع إصابة الماء الأوّل قبل انفصال الغسالة يحصل له العلم التفصيلي بنجاسة اليد ثمّ يشكّ في زوال النجاسة وحصول الطهارة بعد انفصالها ( لأنّه إن كان النجس هو الماء الأوّل كانت الغسالة طاهرة وإن كان النجس هو الماء الثاني كانت الغسالة نجسة ) فيستصحب بقاء النجاسة فتبقى يده نجسة لا يمكن معها إتيان كلّ ما يشترط فيه الطهارة ، والشارع المقدّس حذراً من وقوع المكلّف في هذه المحاذير أمر بإهراقهما والتيمّم.

المحقّق النائيني رحمه‌الله تصدّى لدفع هذه المشكلة وإثبات عدم تنجّس اليد في صورة عدم الإهراق ، وبالمآل إثبات أنّ هذا الحكم ليس على القاعدة بل هو تعبّد محض ، وذلك بتطبيق ما تبنّاه في مسألة توارد الحالتين على هذه المسألة فقال : « ومن هنا يظهر الحال في المغسول بمائين مشتبهين بالنجاسة ولو كان الغسل ثانياً بماء قليل ، فإنّ نجاسة المغسول عند ملاقاة الماء الثاني وإن كانت معلومة تفصيلاً إمّا من جهة تنجّسه بملاقاته أو من جهة بقاء نجاسته السابقة من جهة ملاقاة الماء الأوّل ، ومشكوك الارتفاع بانفصال الغسالة عنه ، إلاّ أنّ غاية ذلك هو جريان الاستصحاب في طرف النجاسة شخصياً ، وهذا لا ينافي جريان الاستصحاب في طرف الطهارة كلّياً ، ضرورة أنّ وجود الطهارة مع قطع النظر عن خصوصية كونه بعد الغسل بالماء الثاني أو قبله معلوم تفصيلاً ومشكوك بقاؤه وجداناً ، فغاية الأمر هو وقوع المعارضة بين استصحاب الكلّي والشخصي ( فيتعارضان ويتساقطان والمرجع أصالة الطهارة فيكون الحكم

٤٠٢

بالإهراق تعبّد من الشارع ) » (١).

أقول : يرد عليه ما مرّ آنفاً من أنّ تسمية هذا باسم استصحاب الكلّي لا يدفع المحذور ، أي شبهة انفصال زمان اليقين عن زمان الشكّ بسبب القطع بوجود آنٍ معيّن في عمود الزمان محكوم بالنجاسة قطعاً.

التنبيه الثالث عشر : استصحاب الكتابي

وهو نزاع وقع بين السيّد محمّد باقر القزويني رحمه‌الله ( حينما قدم إلى قرية ذي الكفل من القرى الواقعة بين النجف وكربلاء وفي مسير زيارته ) والعالم اليهودي بعد أن ادّعى جريان استصحاب نبوّة موسى وأجاب عنه القزويني بجواب اقتبسه ممّا روي عن الإمام الرضا عليه‌السلام (٢) في جواب جاثليق العالم المسيحي ، وهو « أنا مقرّ بنبوّة كلّ موسى أخبر بنبوّة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله وكافر بنبوّة كلّ موسى لم يقرّ بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابه ». ولم يرتضه اليهود نظراً إلى أنّ موسى جزئي حقيقي لا كلّي يكون له مصاديق مختلفة.

أقول : لابدّ قبل الورود في أصل البحث من بيان مقدّمة ، وهى أنّ هذا النزاع متفرّع على كون الإيمان أمراً وراء العلم واليقين ، أي يمكن التفكيك بينهما ، وإلاّ لو كان الإيمان عين اليقين ولا يمكن التفكيك بينهما فلا فائدة في هذا النزاع ، لأنّه لا يترتّب حينئذٍ على هذا الاستصحاب أثر علمي ، نعم لو كان الإيمان أمراً وراء اليقين وهو فعل القلب أمكن جريان الاستصحاب فيه من جهة هذا الأثر لأنّه لا فرق هنا بين فعل الجوانح والجوارح.

والحقّ أنّ النسبة بين الإيمان واليقين العموم من وجه ، فقد يحصل اليقين بشيء من دون حصول الإيمان به ، كما صرّح به في قوله تعالى : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ) (٣) ، وقد ورد في اصول الكافي في ذيل هذه الآية عن الصادق عليه‌السلام في تفسير كفر الجحود ( بعد أن قسّم الكفر على خمسة وجوه ) « هو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حقّ قد استقرّ عنده » (١).

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ٢ ، ص ٤٣٤ ، طبع مؤسسة مطبوعات ديني.

(٢) راجع بحار الأنوار : ج ١٠ ، ص ٣٠٢ ح ١.

(٣) سورة النمل : الآية ١٤.

٤٠٣

وكذا العكس ، كما يشهد به قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ) (٢) وقوله تعالى : ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ) (٣) ، وقد ورد عن ابن أبي محمود عن الرضا عليه‌السلام : « فإنّ أدنى ما يخرج به الرجل عن الإيمان أن يقول للحصاة : هذه نواة. ثمّ يدين بذلك ويبرأ ممّن خالفه » (٤).

وبالجملة أنّ حقيقة الإيمان هى الإقرار في القلب والتسليم القلبي ( عقد القلب ) وهو ممّا يمكن إنفكاكه عن العلم واليقين ، فقد يحصل التسليم بشيء في القلب مع أنّه لا يقين له به ، كما في قضية الإيمان بالجبت والطاغوت في الآية ، بل قد يكون اليقين بضدّه ، كما في قضية الحصاة الواردة في الرواية ، وقد يكون بالعكس كما في قضية فرعون وقومه.

إذا عرفت هذا فنقول : أنّ استصحاب الكتابي نبوّة موسى عليه‌السلام أو عيسى عليه‌السلام مختلّ من جهات شتّى :

١ ـ إنّ منشأ حجّية الاستصحاب إن كان هو الأخبار الواردة من ناحية أئمّتنا عليهم‌السلام التي ترجع بالمآل إلى نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله فحجّية الاستصحاب تكون متوقّفة على قبول رسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله فكيف يمكن أن يكون الاستصحاب دليلاً على عدم نبوّته؟ فليس هذا إلاّمن قبيل ما يلزم من وجوده عدمه ، وهو محال ، وإن كان هو بناء العقلاء فكذلك ، لأنّ حجّية هذا النبأ متوقّف على امضائه من جانب الأئمّة عليهم‌السلام فيعود المحذور ، أو من جانب موسى عليه‌السلام ولا دليل عليه ، أي لا دليل على عدم ردع هذا البناء في شريعة موسى عليه‌السلام لأنّها ليست مضبوطة ، بل دخلت أيادي التحريف فيها ، فلا يمكن أن يقال : أنّه لو صدر من جانب موسى عليه‌السلام ردع بالنسبة إلى هذا البناء لبان ولوصل إلينا.

٢ ـ نّ جريان الاستصحاب فرع لوجود يقين سابق بنبوّة موسى عليه‌السلام ولا يقين لنا بها إلاّ من طريق أخبار أئمّتنا أو الآيات الواردة في القرآن الكريم ، وكلتاهما تلازم ثبوت نبوّة نبيّنا ونسخ شريعة موسى عليه‌السلام وعيسى عليه‌السلام.

إن قلت : إنّ شريعة موسى أو عيسى عليه‌السلام ثابتة بالتواتر من التاريخ الموجب لليقين.

__________________

(١) اصول الكافي : ج ٢ ، ص ٣٨٩.

(٢) سورة النساء : الآية ٥١.

(٣) سورة النجم : الآية ٢٣.

(٤) وسائل الشيعة : ج ١٨ ، الباب ١٠ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ١٣.

٤٠٤

قلنا : كلاّ ، هذا غير ثابت ، وإن كان مشهوراً في كثير من الأعصار لأنّ مجرّد الشهرة غير كافية ، وإن هو إلاّمثل ما ادّعي من نبوّة زردشت مع أنّها مشكوكة ، ومعاملة المجوس معاملة أهل الكتاب ( كما ورد في رواياتنا ) لا يدلّ على كون زردشت نبيّاً لولا تلك الروايات ، بل ومع تلك الروايات أيضاً لأنّ زردشت لم يثبت كونه نبي المجوس.

٣ ـ من شرائط جريان الاستصحاب في مثل المقام هو الفحص إلى حدّ اليأس لأنّه وإن كان من الشبهات الموضوعيّة ولكنّه من الامور الإعتقاديّة بل هو أساس الأحكام ومنشأها ومبناها ، فإذا كان الاستصحاب في حكم واحد مشروطاً بالفحص فما ظنّك بأساس الأحكام الإلهيّة كلّها؟

وبعبارة اخرى : يعتبر الفحص أيضاً في الموضوعات الإعتقاديّة كالشبهات الحكميّة كما صرّح به المحقّق الأصفهاني رحمه‌الله في تعليقته ، وحينئذٍ نقول : إنّا بعد الفحص عن نبوّة نبيّنا لم يبق لنا شكّ في ثبوتها ونسخ شريعة موسى وعيسى عليهما‌السلام فليس الاستصحاب جارياً بالنسبة إلينا.

وبعبارة اخرى : إن كان المراد من الشكّ في كلام الكتابي هو الشكّ قبل الفحص فلا اعتبار به ، وإن كان المراد به الشكّ بعد الفحص فهو منتفٍ.

٤ ـ لابدّ في المسائل الإعتقاديّة واصول الدين ( كما أشرنا إليه في طليعة البحث ) من تحصيل الجزم واليقين ، وهو لا يحصل من طريق الاستصحاب ولو سلّمنا حجّيته.

٥ ـ إنّ ما ورد في كلام الإمام الرضا عليه‌السلام جواب صحيح في محلّه ، ولكنّه وقع في مناظرة اليهودي مورداً للمناقشة ، لإشكال وقع في نقل السيّد القزويني رحمه‌الله ، حيث إنّ المتيقّن المستصحب في نقله هو نبوّة كلّ عيسى عليه‌السلام أو موسى عليه‌السلام الذي أخبر عن نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأجابه الكتابي بأنّ المتيقّن هو وجود موسى عليه‌السلام وهو جزئي حقيقي لا يصدق على غير واحد ، وهو معلوم لكم ولنا ، وجعله كلّياً خلاف التحقيق ، مع أنّ الوارد في كلام الرضا عليه‌السلام : « أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به امّته وأقرّت به الحواريون » (١) أي نبوّة شخص عيسى عليه‌السلام وكتابه وما بشّر به ، لا نبوّة كلّ عيسى ، فهو عليه‌السلام يقول : « إنّ المتيقّن لنا ليس هو خصوص نبوّة عيسى فحسب ، بل هى وما بشّر به امّته ، أي كما إنّا نعلم بنبوّة عيسى عليه‌السلام نعلم أيضاً بأنّه بشّر

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٠ ص ٣٠٢.

٤٠٥

بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحينئذٍ لا يبقى لنا شكّ بالنسبة إلى نبوّة نبيّنا إذا لاحظنا العلامات التي ذكرها عيسى عليه‌السلام لتشخيص نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا يمكن التفكيك بين نبوّة عيسى عليه‌السلام ونبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ودعوى اليقين بأحدهما دون الآخر.

نعم ، قد ورد في ذيل الكلام المزبور : « وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد وكتابه » ولكنّه محمول على صدره ويفسّر به ، فالمراد من هذه العبارة كون الاعتراف بنبوّة عيسى عليه‌السلام ( وهو وجود شخصي ) مقيّداً بإخباره عن نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يمكن العكس بأن يجعل الذيل تفسيراً للصدر لما هو المعلوم من الخارج أنّ عيسى عليه‌السلام كان جزئياً حقيقياً.

بقي هنا شيء :

وهو تحقيق في كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله في المقام ، الذي يتلخّص في ثلاث مقامات :

الأوّل : في أنّه لا فرق في جريان الاستصحاب وحجّيته بين أن يكون المستصحب من الأحكام الفرعيّة أو الموضوعات الخارجيّة أو اللغويّة ( إذا كانت ذات أحكام شرعيّة ) وبين أن يكون من الامور الإعتقاديّة التي كان المهمّ فيها شرعاً هو الانقياد والتسليم والإعتقاد ( بمعنى عقد القلب عليها ) أي من الأعمال القلبيّة الاختياريّة ، لأنّ ذاك من أعمال الجوارح وهذا من أعمال الجوانح ، فلا إشكال في جريان استصحاب في كليهما موضوعاً وحكماً فيما إذا كان هناك يقين سابق وشكّ لاحق.

إن قلت : إنّ الاستصحاب أصل عملي فيجب إجراءه في الفروع العمليّة ولا معنى لإجرائه في الامور الإعتقاديّة.

قلنا : أنّ معنى كونه أصلاً عملياً أنّه وظيفة للشاكّ تعبّداً في ظرف شكّه وتحيّره في قبال الأمارات الحاكيّة عن الواقع الرافعة للشكّ ولو تعبّداً لا أنّه يختصّ بالفروع العمليّة المطلوب فيها عمل الجوارح ، بل يعمّ عمل الجوانح أيضاً إذا تمّ فيها أركانه.

نعم ، في الامور الإعتقاديّة التي كان المهمّ فيها شرعاً وعقلاً هو القطع بها ومعرفتها ( لا خصوص الانقياد والتسليم القلبي ) فلا مجال للاستصحاب موضوعاً بل يجري حكماً ، فلو كان متيقّناً بوجوب تحصيل القطع بشيء ( كتفاصيل القيامة ) في زمان وشكّ في بقاء وجوبه ، يستصحب بقاء الوجوب ، وأمّا لو شكّ في حياة إمام زمانه مثلاً فلا يستصحب ، لأنّ الواجب

٤٠٦

فيه تحصيل القطع والمعرفة به ، ومن المعلوم أنّ الاستصحاب ممّا لا يجدي في حصولها. وحينئذٍ لابدّ لجريانه في هذا القسم من ترتّب أثر شرعي عليه ، فهذا القسم من الامور الإعتقاديّة كسائر الموضوعات لابدّ في جريانه فيها من أن يكون في المورد أثر شرعي.

الثاني : فيما ينقدح ممّا ذكر في المقام الأوّل ، وهو أنّه لا مجال للاستصحاب في نفس النبوّة إذا كانت ناشئة من كمال النفس بمثابة يوحى إليها ، لعدم الشكّ في بقائها ، لكونها ممّا لا تزول بعد اتّصاف النفس بها لعدم كونها مجعولة شرعاً بل إنّها من الصفات الخارجيّة التكوينيّة ، ولو فرضنا إمكان زوالها وعروض الشكّ عليها فلا يترتّب عليها أثر شرعي مهمّ حتّى نستصحبها ، نعم لو كانت من المناصب المجعولة كالوكالة كانت بنفسها مورداً للاستصحاب ، ولكن يحتاج الاستصحاب حينئذٍ إلى دليل غير منوط بتلك النبوّة وغير مأخوذ من ذلك الشرع ، وإلاّ لزم الدور كما لا يخفى ، وهكذا إذا كان المراد من استصحابها استصحاب بعض أحكام شريعة من اتّصف بالنبوّة السابقة فلا إشكال في جريانه أيضاً.

الثالث : فيما يترتّب على المقامين الأوّلين ، وهو أنّه لا موقع لتشبّث الكتابي باستصحاب نبوّة موسى عليه‌السلام أو عيسى عليه‌السلام أصلاً ، لا الزاماً للمسلم ولا إقناعاً به.

أمّا إلزاماً للمسلم فلعدم شكّه في بقاء نبوّة موسى عليه‌السلام أو عيسى عليه‌السلام بل هو متيقّن بنسخها وإلاّ فليس بمسلم ، وبعبارة اخرى : أنّ المسلم ما لم يعترف بأنّه كان على يقين سابق فشكّ لم يلزم به.

وأمّا إقناعاً فلوجهين : أحدهما : لزوم معرفة النبي عقلاً بالفحص والنظر في حالاته ومعجزاته ، لما عرفت من أنّ النبوّة هى من الامور الإعتقاديّة التي يجب فيها بحكم العقل تحصيل القطع والمعرفه به يقيناً ، ومن المعلوم أنّ استصحاب النبوّة هو ممّا لا يجدي في حصولها.

ثانيهما : أنّه لا دليل على التعبّد ببقائها عند الشكّ فيه لا عقلاً ولا شرعاً ، أمّا عقلاً فواضح ، إذ ليس الحكم بالبقاء عند اليقين بالحدوث من مستقلاّت العقل ، وأمّا شرعاً فلأنّ الدليل الشرعي إن كان هو من الشريعة السابقة فاستصحاب النبوّة السابقة بسببه ممّا يستلزم الدور ، وإن كان من الشريعة اللاحقة فيستلزم الخلف ( انتهى كلامه بتوضيح منّا ).

أقول : أوّلاً : كان ينبغي أن يشير المحقّق الخراساني رحمه‌الله إلى الوجه الصحيح من بين الوجوه الثلاثة التي ذكر في تفسير النبوّة ، وحيث إنّه لم يذكر مختاره فيه فنقول : أمّا المعنى الأوّل ( وهو

٤٠٧

أن تكون النبوّة ناشئة من كمال النفس ) فلا ريب في عدم صحّته لما سيأتي في بيان وجه المختار ، وهكذا الوجه الثالث ( وهو أن يكون المراد من النبوّة أحكام شريعة من اتّصف بها واستصحابها هو استصحاب بعض أحكامها ) لما سيأتي أيضاً بل الصحيح إنّما هو المعنى الثاني ( وهو كون النبوّة من المناصب المجعولة ) كما يشهد عليه قوله تعالى : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) (١) حيث إنّ النبوّة والإمامة فيما يهمّنا في المقام على وزان واحد ، وقوله تعالى : ( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) (٢) ، وقوله تعالى : ( وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ) (٣) فإنّ هذه الآيات ونظائرها صريحة أو كالصريحة في كون النبوّة منصباً من المناصب المجعولة من ناحية الشارع فإنّ التعبير بالجعل والاختيار كالصريح في هذا المعنى ، نعم هذا مقام لا يعطيه الحكيم إلاّلمن تمّت القابلية فيه.

ثانياً : هيهنا وجه رابع في المراد من النبوّة وهو أن يكون المراد منها مجموع الأحكام والتعاليم الموجودة في تلك الشريعة السابقة ، وهذا هو الصحيح المختار لأنّ من المسلّم أنّ انقضاء شريعة موسى وعيسى عليهما‌السلام ليست بمعنى عزلهما عن ذلك المنصب الإلهي أو بمعنى تنزّلهما عن تلك المرتبة من كمال النفس ، بل إنّها بمعنى إنقضاء أمد شريعتهما وخروجها عن كونها ديناً رسميّاً للعباد ، ولا يخفى أنّ هذا المعنى أيضاً لا يمكن استصحاب بقائه عند الشكّ فيه ، لما مرّ من عدم وجود الدليل على الاستصحاب من غير ناحية الشريعة الإسلاميّة ولغيّره ممّا مرّ ذكره ، ولو فرضنا وجود الدليل على الاستصحاب في نفس الشريعة السابقة فأيضاً لا يمكن التمسّك به لإثبات بقاء أحكام تلك الشريعة ، لما أفاده بعض الأعلام من « أنّ حجّية الاستصحاب من جملة تلك الأحكام فيلزم التمسّك به لإثبات بقاء نفسه وهو دور ظاهر » (٤).

ثالثاً : لو فرضنا كون النبوّة أمراً تكوينياً فلا يمكن الإيراد على جريان الاستصحاب فيه بعدم ترتّب أثر عملي شرعي عليه لأنّ وجوب الإعتقاد القلبي به وعقد القلب عليه أثر عملي جانحي شرعي ، وإن كان الكاشف عنه هو العقل ، نظير وجوب المقدّمة.

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٢٤.

(٢) سورة الأنعام : الآية ١٢٤.

(٣) سورة طه : الآية ١٣.

(٤) مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ٢١٤ ، طبع مطبعة النجف.

٤٠٨

التنبيه الرابع عشر : استصحاب حكم المخصّص

إذا خصّص العام وخرج منه بعض الأفراد في بعض الأزمنة ولم يكن لدليل الخاصّ اطلاق أزماني إمّا لكونه لبّياً كالإجماع ، أو لكونه لفظيّاً لا اطلاق له ، وتردّد الزمان الخارج بين الأقل والأكثر ، فهل يرجع عند الشكّ أي بعد انقضاء الزمان الأقل إلى عموم العام أو إلى استصحاب حكم المخصّص؟ فإذا قال مثلاً أكرم كلّ عالم وقام الإجماع على حرمة إكرام زيد العالم في يوم الجمعة ، ووقع الشكّ في حرمة إكرامه يوم السبت فهل يرجع في يوم السبت إلى عموم العام من وجوب الإكرام ، أو إلى استصحاب حكم الخاصّ من حرمة الإكرام؟

ومثاله الشرعي اوفوا بالعقود ، فإنّه لا شكّ في أنّ له عموماً افرادياً لأنّ « العقود » جمع معرّف باللام ، وهو من صيغ العموم ، فإذا جاء دليل خيار الغبن وأخراج المعاملة الغبنية مثلاً عن تحت هذا العموم وعلمنا بخروجها عن تحت هذا العام في الآن الأوّل من الالتفات إلى الغبن والضرر ، وشككنا في خروجها في الأزمنة المتأخّرة عن الآن الأوّل فهل المرجع هو عموم العام والحكم باللزوم في سائر الأزمنة حتّى يكون الخيار فورياً ، أو استصحاب حكم المخصّص حتّى يكون الخيار على التراخي؟ ( ولا يخفى أنّ هذا النزاع جارٍ بناءً على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة ).

وهو ممّا لم يعنون بوضوح في كلمات قدماء الأصحاب ، ولعلّ أوّل من عنونه تفصيلاً هو الشيخ الأعظم في رسائله ، فإنّه فصّل فيه بين ما إذا كان للعام عموم أزماني كعمومه الإفرادي فيرجع إلى عموم العام ، وبين ما إذا لم يكن له عموم كذلك وإن كان الحكم فيه للاستمرار والدوام إمّا بالنصوصيّة أو بالإطلاق فيرجع إلى استصحاب حكم المخصّص.

قد يقال في مقام توضيح هذا التفصيل : أنّه إذا كان العام بحسب عمومه الأزماني أيضاً انحلالياً مثل عمومه الافرادي بمعنى كون كلّ قطعة من الزمان موضوعاً مستقلاً لحكم العام بحيث لا يكون إمتثال الحكم أو عصيانه في تلك القطعة مربوطاً بالإمتثال والعصيان في سائر القطعات ، بل يكون لكلّ قطعة إمتثاله وعصيانه ، ففي هذه الصورة خروج قطعة من الزمان عن تحت العموم الأزماني لا يضرّ بوجود أصالة العموم بالنسبة إلى القطعات الاخر ، إذ حال أصالة العموم بناءً على هذا بالنسبة إلى الأزمان حال أصالة العموم بالنسبة إلى الافراد ، وأمّا إذا لم يكن كذلك ، أي لم تكن كلّ قطعة من الزمان موضوعاً مستقلاً بل كان مجموع القطعات

٤٠٩

موضوعاً واحداً ، فلا يبقى مجال للتمسّك بعموم العام ، فإن شكّ في حكم هذا الفرد بقاءً بعد خروجه عن تحت العام فلا مفرّ عن الرجوع إلى الاستصحاب.

وأمّا المحقّق الخراساني رحمه‌الله فقد إفترض للمسألة أربع صور ، وحكم في صورتين منها بأنّ المرجع عموم العام وهما ما إذا كان للعام عموم أزماني وكان الزمان في الخاصّ قيداً لموضوعه ، أو كان الزمان في الخاصّ ظرفاً لثبوت حكمه.

وحكم في صورة ثالثة منها بأنّ المرجع استصحاب حكم الخاصّ ، وهى ما إذا كان الزمان ظرفاً لثبوت الحكم في كلّ واحد من العام والخاصّ.

ثمّ استدرك بأنّه لو كان الخاصّ غير قاطع لاستمرار حكم العام كما إذا كان الخاصّ مخصّصاً له من الأوّل لما ضرّ بالتمسّك بالعام حينئذٍ في غير مورد دلالة الخاصّ بل يكون أوّل زمان استمرار حكم العام بعد زمان دلالة الخاصّ ، فإذا قال مثلاً اوفوا بالعقود وخصّص أوّله بخيار المجلس في الجملة على نحو تردّد الخيار بين أن يكن هو في المجلس الحقيقي عيناً أو فيه وما يقرب منه صحّ التمسّك بعموم اوفوا بالعقود لإثبات اللزوم في غير المجلس الحقيقي ولو كان ممّا يقرب منه ، بخلاف ما إذا قال اوفوا بالعقود وخصّص وسطه بخيار الغبن أو العيب ونحوهما وتردّد الخيار بين الزمان الأقل والأكثر ، فلا يصحّ التمسّك بعموم اوفوا بالعقود لإثبات اللزوم بعد انقضاء الزمان الأقل.

وحكم في صورة رابعة بأنّ المرجع سائر الاصول ، وهى ما إذا كان الزمان ظرفاً لثبوت حكم العام وقيداً لموضوع الخاصّ ، لأنّ المفروض عدم العموم الأزماني للعام حتّى يرجع إليه ، وأنّ الزمان قيد لموضوع الخاصّ فلا يمكن الاستصحاب فيه لتبدّل الموضوع ( انتهى كلامه ).

أقول : هيهنا امور تجب الإشارة إليها :

الأوّل : أنّه لا يصحّ التفكيك بين العام والخاصّ بجعل الزمان في أحدهما قيداً وفي الآخر ظرفاً ، لأنّ المفروض أنّ الخاصّ بعض افراد العام وداخل فيه ثمّ خرج ، فإن لم يكن قيداً ودخيلاً في المصلحة أو المفسدة ففي كليهما ، وإن كان قيداً ودخيلاً فيها ففي كليهما أيضاً ، وحينئذٍ تصير الصور المتصوّرة في المسألة اثنتين لا أربعة.

٤١٠

الثاني : أنّه لا مانع من استصحاب حكم الخاصّ حتّى في الصورة الرابعة لأنّ الزمان فيها وإن كان قيداً ولكنّه ليس قيداً للموضوع حتّى يتبدّل الموضوع بمضيّه ، بل إنّه قيد للحكم في أمثال المقام غالباً ، فلا إشكال في أنّ يوم الجمعة في مثال ، لا تكرم زيداً يوم الجمعة لا يكون قيداً لا لزيد الذي يكون موضوعاً لوجوب الإكرام ولا للإكرام الذي يكون متعلّقاً للوجوب ، بل إنّه قيد لنفس الوجوب ، وحينئذٍ يكون الموضوع السابق باقٍ على حاله ويستصحب حكمه.

الثالث : إنّ ما ذكره من الاستدراك في القسم الثالث من إمكان الرجوع إلى العام فيما إذا كان التخصيص من الأوّل لا يمكن المساعدة عليه ، لأنّ المفروض أنّ الحكم في العام واحد مستمرّ ولا ينحلّ ولا يفرّد بالزمان ، وحينئذٍ إذا انقطع هذا الحكم بالتخصيص ولو كان من الأوّل يحتاج إثباته بعد الانقطاع إلى دليل.

ثمّ إنّ بعض الأعلام بعد أن فسّر تفصيل الشيخ الأعظم رحمه‌الله ( بين ما إذا كان للعام عموم أزماني وما إذا لم يكن له عموم أزماني ) بأنّ العموم الأزماني تارةً يكون على نحو العموم الاستغراقي واخرى يكون على نحو العموم المجموعي ، إستشكل عليه بأنّه مخالف لما نقّحناه في بحث العام والخاصّ من عدم الفرق في جواز الرجوع إلى العام بين كونه استغراقياً أو مجموعياً ، فكما لا فرق بينهما في الأفراد العرضيّة ويرجع إلى العموم في غير ما علم خروجه بمخصّص سواء كان بنحو العموم الاستغراقي ( كما في مثال أكرم العلماء ) أو كان بنحو العموم المجموعي ( كما في مثال أكرم هذه العشرة ، فيما إذا كان المراد إكرام مجموع العشرة من حيث المجموع ثمّ علمنا بخروج زيد منها ) لأنّ التخصيص ( تخصيص مجموع العشرة بزيد ) لا يمنع شمول العام للاجزاء الاخر ، كذلك لا فرق بين العموم الاستغراقي والعموم المجموعي بالنسبة إلى الأفراد الطوليّة في جواز الرجوع إلى العام مع الشكّ في التخصيص ، غاية الأمر أنّه يثبت بالرجوع إلى العموم الاستغراقي حكم استقلالي ، وبالعموم المجموعي حكم ضمني للجزء المشكوك فيه (١).

__________________

(١) راجع مصباح الاصول : ج ٣ ص ٢١٦ ـ ٢٢٤ ، طبع مطبعة النجف.

٤١١

أقول : الحقّ هو وجود الفرق بين العام الاستغراقي والعام المجموعي في المقام ، وما أرسله إرسال المسلّم في باب العام والخاصّ في غير محلّه ، وذلك لأنّ العام في العموم الاستغراقي كلّي له أفراد كثيرة ويتعدّد الحكم فيه بتعدّد افراده فإذا خرج فرد واحد بقيت سائر الافراد على حالها.

بخلاف العموم المجموعي فإنّ العام فيه وجود واحد مستمرّ له أمر واحد ، وتعلّق هذا الأمر بالمجموع بما هو مجموع ، فإذا خرج جزء منه سقط الأمر المتعلّق بالمجموع ، ولا أمر آخر يثبت الحكم به ، ولذلك يكون مقتضى القاعدة في صيام شهر رمضان سقوط الصيام عن الوجوب إذا اضطرّ المكلّف بالأكل أو الشرب ولو في ساعة ، إلاّ أن يدلّ دليل خاصّ على بقاء الوجوب كما في ذي العطاش على قوله ، وكما أنّه قد يقال بذلك في باب الصّلاة في فاقد الطهورين لأنّ المفروض أنّ الصّلاة والطهارة كأمر واحد لا يمكن التفكيك بينهما.

ولذلك لا يتمسّك الفقهاء لإثبات بقاء الوجوب بعموم العام في هذه الموارد بل يستدلّون بقاعدة الميسور.

نعم إذا كان الخاصّ في العام المجموعي متّصلاً كما إذا قال : « أكرم مجموع العشرة إلاّزيداً » كان العموم بعد إخراج الفرد المخصّص باقياً على حاله ، لأنّ العام ينعقد ظهوره في الباقي من الأوّل.

وخلاصة الكلام أنّ هيهنا أقساماً ثلاثة من العموم :

١ ـ العموم الاستغراقي ، كما إذا قال اوفوا بالعقود في كلّ يوم.

٢ ـ العموم المجموعي ، كما إذا قال : اوفوا بالعقود في مجموع الأيّام.

٣ ـ العموم المستفاد من مقدّمات الحكمة ومن طريق الاطلاق ، كما أنّه كذلك في قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ).

وقد ظهر ممّا ذكر ما هو الصحيح في القسم الأوّل والثاني ، وأمّا الثالث فلا يمكن الرجوع فيه إلى العام ، وذلك لأنّ العموم الأزماني هنا متفرّع على العموم الأفرادي فإذا دخل فرد من العقود تحت « اوفوا بالعقود » أمكن دعوى الاطلاق فيه من حيث الأزمان بمقدّمات الحكمة ، وأمّا إذا خرج فرد منه ولو على بنحو الإبهام كما في خيار الغبن فلا يمكن دعوى الاطلاق فيه بعد ذلك ، لأنّ دعوى الاطلاق فرع بقاء هذا العقد ( العقد الغبني ) تحت اوفوا بالعقود ، فإذا خرج

٤١٢

منه بالتخصيص لا يبقى مجال للأخذ بالإطلاق ، فتأمّل.

التنبيه الخامس عشر : في المراد من الشكّ في المقام

هل المراد من الشكّ الوارد في أخبار الاستصحاب خصوص تساوي الطرفين ، أو المراد منه الأعمّ منه ومن الظنّ والوهم؟ فقد ذكر لإثبات المعنى الثاني وجوه :

منها : ما يستفاد من نفس أخبار الباب ، ففيها إشارات كثيرة تدلّ على العموم ، كما ذكره شيخنا العلاّمة الأنصاري :

١ ـ مقابلة الشكّ باليقين في جميع أخبار الباب فإنّ ظاهرها عدم وجود شقّ ثالث في البين.

٢ ـ قوله عليه‌السلام « ولكن ينقضه بيقين آخر » فإنّه ظاهر أنّ ناقض اليقين منحصر في اليقين فقط.

٣ ـ قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة الاولى : « فإن حرّك إلى جنبه شيء وهو لا يعلم به ... » فإنّ ظاهره فرض السؤال فيما كان معه أمارة النوم.

٤ ـ قوله عليه‌السلام : « لا حتّى يستيقن أنّه قد نام » حيث جعل غاية وجوب الوضوء اليقين بالنوم ومجيء أمر بيّن منه.

٥ ـ قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة الثانية : « فلعلّه شيء أوقع عليك ... » لأنّ كلمة لعلّ ظاهرة في مجرّد الاحتمال ، ولا أقلّ أنّها أعمّ من الشكّ والوهم الذي يلازم الظنّ بالخلاف.

٦ ـ قوله عليه‌السلام : « صم للرؤية وافطر للرؤية » حيث إنّه فرّع على قوله عليه‌السلام : « اليقين لا يدخله الشكّ » فهو ظاهر في حصر ناقض اليقين في الرؤية واليقين.

ومنها : شهادة كلمات اللغويين ، فعن الصحاح أنّه خلاف اليقين ، ولكن في المفردات : « الشكّ اعتدال النقيضين عند الإنسان وتساويهما ».

وعليه يشكل الركون إلى ما نقل عن الصحاح.

نعم ، يؤيّده موارد استعماله في كتاب الله الكريم فإنّه ورد في خمسة عشر مورداً منه كلّها

٤١٣

استعملت في المعنى الأعمّ كقوله تعالى : ( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ) (١) حيث إنّ المراد منه « إن كنت لا تعلم » كما لا يخفى ، وقوله تعالى : ( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (٢) من الواضح أنّه أيضاً أعمّ.

ومنها : الإجماع : فإنّ جميع القائلين بحجّية الاستصحاب اتّفقوا على أنّ المراد من الشكّ في أخبار الاستصحاب إنّما هو المعنى الأعمّ.

لكن فيه أوّلاً : أنّه لا أقلّ من كونه محتمل المدرك ، وثانياً : أنّه من قبيل الإجماع المركّب حيث إنّه في الواقع يرجع إلى أنّ الفقهاء بين قائل بعدم حجّية الاستصحاب وقائل بحجّيته في المعنى الأعم ، ولا دليل على حجّية الإجماع المركّب.

ومنها : أنّ الظنّ غير المعتبر لا يخلو من وجهين : أمّا الظنّ القياسي الذي قام الدليل على عدم حجّيته وبطلانه فلا يعتنى به في جريان الاستحباب ، أو الظّن غير القياسي الذي يكون مشكوك الحجّية فهو ينتهي إلى الشكّ فلا يمكن نقض اليقين به.

ولكنّه أيضاً غير تامّ بكلا شقّيه ، أمّا بالنسبة إلى شقّه الأوّل ( أي الظنّ القياسي ) فلأنّ أدلّة بطلان القياس ليست ناظرة إلى أدلّة الاستصحاب أصلاً ، بل إنّ مفادها أنّ الظنّ لا يكون كاشفاً عن الواقع ، وأمّا بالنسبة إلى شقّه الثاني فكذلك ، لأنّ المراد من عدم الحجّية عدم الكشف عن الواقع.

التنبيه السادس عشر : اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب

وهو ممّا ذكر في كلمات الأصحاب بعنوان الخاتمة ، مع أنّه لا فرق بينه وبين سائر الامور التي ذكرت تحت عنوان التنبيهات ، ولذا ألحقناه بها ، وكذا ما يليه من الامور المذكورة في الخاتمة.

وكيف كان ، فقد ذهب أكثر المحقّقين إلى أنّ جريان الاستصحاب فرع لبقاء موضوع المستصحب وإحرازه في الزمان اللاحق ، ثمّ تكلّموا بعد ذلك عن أنّه هل اللازم كون ذلك

__________________

(١) سورة يونس : الآية ٩٤.

(٢) سورة إبراهيم : الآية ١٠.

٤١٤

بالنظر الدقيق العقلي أو يكفي بقاءه عند العرف أو لابدّ من ملاحظة ما أخذ موضوعاً في لسان الدليل؟

ولكن بعضهم كالمحقّق الخراساني رحمه‌الله عبّر عن هذا باتّحاد القضيتين المتيقّنة والمشكوكة ، ولازمه وحدة كلّ من الموضوع والمحمول فيهما.

واستدلّ لذلك بأنّه ظاهر أدلّة الاستصحاب ولازم قوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » حيث إنّه لو لم يكن موضوع القضيتين متّحداً كاتّحادهما محمولاً لم يكن رفع اليد عن اليقين في محلّ الشكّ نقضاً لليقين بالشكّ ، بل لا يكون نقضاً أصلاً ، فإذا تيقّن مثلاً في السابق بعدالة زيد وشكّ فعلاً في عدالة عمرو لا يكون الشكّ حينئذٍ في بقاء ما كان ، كما لا يكون رفع اليد عن اليقين بعدالة عمرو نقضاً لليقين بالشكّ ، وكذا إذا علم بعدالة زيد ثمّ شكّ في وكالته مثلاً عن عمرو.

هذا مضافاً إلى أنّه لو لم يكن موضوع القضيتين متّحداً كاتّحادهما محمولاً لم يصدق الشكّ في البقاء كما لا يخفى.

أقول : الصحيح في المقام أن يقال : إنّ المراد من بقاء الموضوع في كلمات القوم إنّما هو وجود الموضوع في الزمان اللاحق ، أي يعتبر في الاستصحاب أن يكون الموضوع موجوداً حينما يكون الحكم مشكوكاً ، مضافاً إلى اعتبار وحدة القضيتين ، ولا ريب في أنّ أحدهما غير الآخر.

والشاهد على اعتبار وجود الموضوع نفس أخبار الباب حيث إنّ المشكوك في موردها إنّما هو بقاء الحكم ( كبقاء الوضوء في حديث زرارة ) مع فرض بقاء الموضوع ووجوده حين الشكّ.

إن قلت : إنّه ينتقض باستصحاب وجود الأشياء عند الشكّ في بقائها ، حيث إنّ الشكّ حينئذٍ إنّما هو في وجود الموضوع في الزمان اللاحق على نحو مفاد كان التامّة ، ومع إحراز وجود الموضوع في الزمان اللاحق لا معنى لهذا الشكّ.

قلنا : إنّ معنى وجود الموضوع هو تحقّق الموضوع في اللاحق على نحو تحقّقه في السابق ، فإن كان تحقّقه في السابق تحقّقاً ماهوياً كما في مفاد كان التامّة ، نحو « زيد كان موجوداً » بأن كان الموضوع ( وهو زيد في المثال ) بتقرّره الماهوي موضوعاً للاستصحاب كان المعتبر تحقّقه في

٤١٥

الزمان اللاحق كذلك ، وإن كان تحقّقه في السابق خارجياً بأن كان بوجوده الخارجي موضوعاً للاستصحاب ، كما في مثل قولك : « كان زيد عادلاً » وشككنا الآن في عدالته فيعتبر وجوده في اللاحق خارجاً ، وإن كان تحقّقه في السابق في عالم الاعتبار كالملكيّة والزوجيّة فيعتبر وجوده في اللاحق في عالم الاعتبار أيضاً.

وكيف كان ، يعتبر في حجّية الاستصحاب بقاء الموضوع بمعنى وجوده في الزمان اللاحق على نحو وجوده في الزمان السابق ، والدليل عليه ظاهر أخبار الباب كما مرّ ، فإنّ المشكوك فيها هو الحكم بعد إحراز وجود الموضوع.

ثمّ إنّ الشكّ قد يكون من قبيل الشبهات الموضوعيّة وقد يكون من قبيل الشبهات الحكميّة ، والشبهات الموضوعيّة قد تكون على نحو مفاد كان التامّة ، كما إذا كان الشكّ في وجود زيد ، وقد تكون على نحو مفاد كان الناقصة ، كما إذا كان الشكّ في بقاء كرّية الماء ، والشبهات الحكميّة أيضاً على قسمين : تارةً يكون الشكّ في الحكم بوجوه الإنشائي ، واخرى يكون الشكّ فيه بوجوده الفعلي.

هذه أقسام أربعة.

ولا إشكال في جريان الاستصحاب في القسم الأوّل ، ولا يتصوّر فيه دعوى تبدّل الموضوع كما لا يخفى ، بخلاف القسم الثاني ، حيث يتصوّر فيه دعوى تبدّل الموضوع ، فإذا أخذنا من الكرّ مقداراً من الماء وشككنا في بقاء كرّيته أمكن أن يدّعي أنّ هذا الماء ليس هو الماء السابق بالدقّة العقليّة ، فيجري فيه ما سيأتي من المدار في بقاء الموضوع هل هو العقل أو العرف أو غيرهما؟ فانتظر.

وأمّا الشبهات الحكميّة ففي القسم الأوّل منها ، أي ما إذا كان الشكّ في بقاء الحكم الإنشائي وبالمآل في نسخه وعدمه فقد يقال : لا يتصوّر فيه أيضاً تبدّل الموضوع نظراً إلى رجوع إلى الشكّ في وجود الإنشاء وعدمه ( ولكنّه غير خالٍ عن الإشكال كما سيأتي ) كما في القسم الأوّل من الشبهات الموضوعيّة ، بخلاف القسم الثاني منها ، نظير ما إذا شككنا في بقاء نجاسة الماء المتغيّر الذي زال عنه التغيّر ، فيجري فيه أيضاً ـ كالقسم الثاني من الشبهات

٤١٦

الموضوعيّة ـ ما سيأتي من النزاع في ميزان التبدّل كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم الأنصاري استدلّ لإعتبار وجود الموضوع بإستحالة إنتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر ( للزوم الطفرة ، وهى مستلزمة لكون العرض بلا معروض ولو آناً مّا في حال الانتقال والتحوّل ) وذلك في المقام من باب إنّ الموضوع بمنزلة معروض للحكم فيلزم من انتقال الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ـ كانتقال الحرمة من الماء المتغيّر إلى الماء الذي زال عنه التغيّر ـ انتقال العرض من معروض إلى معروض آخر.

ولكن يرد عليه : أوّلاً : أنّ هذا أيضاً من قبيل الخلط بين الحقائق والاعتباريات ، فإنّ إستحالة انتقال العرض إنّما يتصوّر في الامور التكوينيّة لا الاعتباريّة كالوجوب والحرمة لأنّها ليست من الأعراض في الحقيقة.

وثانياً : أنّه لا دليل على هذه الإستحالة بل أنّه من قبيل الشبهة في البديهيات ، حيث إنّا نجد بوجداننا إنتقال الأعراض من معروض إلى معروض آخر كانتقال الحرارة من الماء إلى الإناء ، وكذلك انتقال البرودة من أحدهما إلى الآخر ، مثلاً قد يكون مقدار حرارة الماء عشرين درجة ثمّ يصبّ في إناء يكون درجته على حدّ الصغر فتنخفض درجة الماء إلى عشرة ، حينما بلغت درجة حرارة الإناء أيضاً عشرة ، فمن أين جاءت هذه العشرة؟ وإلى أين ذهبت تلك العشرة؟ وهل هى إلاّبانتقالها من أحدهما إلى الآخر ، بل المنظومة الشمسيّة لا تزال محلاً لهذا الانتقال في جميع آنات الليل والنهار ، فكيف يكون إنتقال العرض محالاً؟

ثالثاً : سلّمنا ، ولكنّه أخصّ من المدّعى لأنّ جميع موارد الاستصحاب ليست من قبيل العرض والمعروض ، بل قد تكون من قبيل الوجود والماهيّة ، كما في مفاد كان التامّة ( كان زيد ) ولا إشكال أنّ الوجود ليس من عوارض الماهيّة.

إلى هنا قد ظهر ممّا ذكرنا أنّه يعتبر بقاء الموضوع ( إمّا بمعنى وجود الموضوع أو بمعنى اتّحاد القضيتين كما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله أو كليهما كما هو المختار ) في جريان الاستصحاب.

٤١٧

المعيار في بقاء الموضوع :

ثمّ إنّه هل اللازم بقاء الموضوع العقلي الدقّي أو الموضوع المأخوذ في لسان الدليل ، أو الموضع العرفي؟ ففيه وجوه ثلاثة.

إن قلت : لا معنى للتردّد بين هذه الامور الثلاثة فانّ من الواضح لزوم التبعية عن لسان الدليل ، وإنّما العقل كاشف عن حكم الشرع وليس مشرّعاً ، وكذلك العرف ، فلا يصحّ جعلهما في عرض لسان الدليل.

قلنا : ليس المراد من هذا الترديد كون العقل والعرف في مقابل الشرع ، بل المقصود منه إنّا إذا أردنا تطبيق ما ورد من جانب الشارع ( أي قوله : لا تنقض ... ) على مورد الاستصحاب كان المعتبر فيه هل الجمود على ظاهر الدليل ، أو ملاحظة ما يراه العقل بالنظر الدقّي ، أو ما يفهمه العرف؟

فإذا ورد من الشارع مثلاً « الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شيء » وشككنا في أنّ هذا الماء كرّ أم لا ( على نحو الشبهة الموضوعيّة ) مع أنّه كان في السابق كرّاً ، فهل الميزان في بقاء موضوع الكرّية أي عنوان « هذا الماء » نظر العرف حتّى يصدق قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشكّ » لأنّ هذا الماء نفس ما كان سابقاً بنظر العرف ولا يضرّ أخذ مقدار من الماء بصدق عنوان « هذا » ، فيكون الموضوع باقياً فيجري الاستصحاب ، أو الميزان بقاء « هذا » بنظر العقل فلا ينطبق عليه قوله عليه‌السلام : « لا تنقض ... » لأنّ هذا الماء غير ما كان سابقاً بالنظر العقلي الدقّي فلا يكون الموضوع باقياً فلا يجري الاستصحاب؟

وهكذا فيما إذا كان الشبهة حكميّة كما إذا صار الماء نجساً بالتغيّر ، والآن زال عنه التغيّر ، فإن كان المعيار نظر العقل فلا يكون الموضوع باقياً ، وإن كان هو نظر العرف يكون باقياً ، وإن كان الميزان الجمود على ما ورد في لسان الدليل وفرضنا أنّ الوارد فيه « أنّ الماء المتغيّر نجس » فقد تبدّل الموضوع بزوال التغيّر ، وإن فرضنا أنّ الوارد فيه « الماء نجس إذا تغيّر » فالموضوع باقٍ على حاله كما لا يخفى.

وإن شئت قلت : ( كما قاله بعض الأعلام ) : أنّ المقصود من هذا الترديد أنّه هل المرجع في بقاء الموضوع هو الدليل الأوّل ( الدالّ على المتيقّن سابقاً ) أي ما يدلّ على نجاسة الماء حين التغيّر ، حتّى يلاحظ ما ورد في لسانه من الموضوع وإنّه هل هو « الماء المتغيّر » أو « الماء » مطلقاً ،

٤١٨

بأن كان جريان الاستصحاب تابعاً لبقاء الموضوع المأخوذ في لسانه ، أو المرجع هو الدليل الثاني الدالّ على الإبقاء في ظرف الشكّ أي قوله « لا تنقض اليقين بالشكّ » حتّى يكون جريان الاستصحاب تابعاً لصدق النقض والمضيّ في نظر العرف أو نظر العقل؟

نعم الترديد بين الثلاث إنّما هو في الشبهات الحكميّة ، وأمّا في الشبهات الموضوعيّة فالترديد ثنائي بين العقل والعرف لأنّ الموضوع الجزئي لا يؤخذ من لسان الدليل (١).

وقد ظهر ممّا ذكرنا ثمرة هذه المسألة حيث عرفنا أنّه إذا كان المعيار نظر العرف فكثيراً ما يكون الموضوع في مفاد كان الناقصة باقياً إلى زمان الشكّ فيجري الاستصحاب ، وأمّا إذا كان الميزان نظر العقل فلا يجري الاستصحاب فيه أصلاً ، لأنّ حصول الشكّ فرع حصول تغيير في الموضوع ، ومعه لا يكون الموضوع باقياً في الآن اللاحق عقلاً ، وإن كان الميزان هو الجمود على ظاهر الدليل الدالّ على ثبوت الحكم سابقاً فلابدّ من الرجوع إليه.

إذا عرفت هذا فنقول : لا ريب أنّ الميزان في بقاء الموضوع إنّما هو نظر العرف ، أي صدق النقض وعدم النقض عرفاً ، كما أنّه كذلك في جميع الموضوعات الواردة في لسان الأدلّة ، وذلك لأنّ المفاهيم الموجودة في أدلّة الأحكام نازلة على المتفاهم العرفي.

وتوضيحه : أنّ القيود المأخوذة في الموضوع في لسان الأدلّة على قسمين :

قيود تكون في نظر العرف من المقوّمات كميعان الماء ، فلا يجري استصحاب النجاسة إذا صار الماء بخاراً ، وهذا إذا صار الكلب الواقع في المملحة ملحاً ، أو صار الخشب النجس رماداً ودخاناً ، وذلك لعدم صدق النقص على رفع اليد عن الحكم السابق.

وقيود تكون من الحالات كالتغيّر في الماء المتغيّر بالنجس ، فإنّ الموضوع للنجاسة مطلق الماء فيجري استصحاب النجاسة لصدق نقض اليقين بالشكّ على رفع اليد عن حكم النجاسة ، ولقد أجاد من نظّر هذا بما ثبت في الفقه في باب الخيارات بأنّه لو قال البائع : « بعتك هذا الفرس العربي » فبان كونه حماراً يكون البيع باطلاً ، لكون الصورة النوعية مقوّمة المبيع ، ولكن لو بان كونه فرساً غير عربي فالبيع صحيح مع خيار تخلّف الوصف ، لعدم كون الوصف مقوّماً للمبيع بنظر العرف ، وهكذا وصف الصحّة المبنيّ عليها العقد فإنّ تخلّفها لا يوجب الخيار.

__________________

(١) وقد أشار بذلك في مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ٢٣٥ ، طبع مطبعة النجف.

٤١٩

وإن شئت قلت : بيع الموصوف مع الوصف في أمثال هذه المقامات من قبيل تعدّد المطلوب عرفاً ( والمعيار كونه كذلك في نظر نوع الناس دون الأشخاص ) فإذا تخلّف أحد المطلوبين لم يضرّ بالآخر وإن كان الخيار ثابتاً لتخلّف بعض المطلوب ، نعم قد يكون الوصف أيضاً مقوّماً في نظر نوع الناس نظير وصف الصحّة في الشاة المبتاعة في منى في مناسك الحجّ ، فإذا باع شاة وانكشف كونها معيوبة يحتمل كون البيع باطلاً ( لا أنّه صحيح مع خيار العيب ) فإنّه لا يتعلّق غرض غالباً بالمعيب هناك فتأمّل.

إن قلت : من أين نعلم أنّ هذا الوصف مقوّم أو من الحالات؟

قلنا : نفهمه من مناسبات الحكم والموضوع ، ففي باب الطهارة والنجاسة يحكم العرف بأنّ موضوع النجاسة إنّما هو مطلق الماء من دون دخل للون والطعم أو لاريح فيها بل إنّهما من الحالات ، وفي باب التقليد عن العالم يحكم بأنّ العلم من المقوّمات ، فإذا عارضه النسيان لا يمكن استصحاب جواز تقليده لأنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي أنّ موضوع جواز التقليد إنّما هو زيد بما أنّه عالم ، ومن هنا قد يكون شيء واحد من الحالات بالنسبة إلى حكم ، ومن المقوّمات بالنسبة إلى حكم آخر. كوصف العلم فإنّه مقوّم في المثال المذكور وغير مقوّم بالنسبة إلى جواز الإقتداء به.

إن قلت : ما هو المرجع فيما إذا شككنا في كون وصف من المقوّمات أو من الحالات؟ كما إذا صار الخمر خلاًّ وشككنا في بقاء نجاسته مع قطع النظر عمّا ورد في باب الانقلاب فهل الخمرية من مقوّمات موضوع النجاسة أو أنّها من الحالات؟

قلنا : لا يجوز الاستصحاب حينئذٍ لأنّه لابدّ فيه من إحراز بقاء الموضوع ، وبعبارة اخرى : أنّه من موارد الشبهة المصداقيّة لدليل « لا تنقض » فلا يمكن الرجوع إلى عموم أدلّة الاستصحاب بل المرجع سائر الاصول.

إن قلت : أليس ما ذكرت من قبيل الرجوع إلى العرف في المسامحات العرفيّة التي لا تتّبع؟

قلنا : كلاّ ، لأنّ الرجوع إلى المسامحات العرفيّة ممنوع فيما إذا كان المفهوم واضحاً ومع ذلك يتسامح العرف في تطبيقه على مصداقه ، فيطلق على « ثمانية فراسخ إلاّعشرة أذرع » مثلاً أنّه ثمانية فراسخ ، أو على مقدار « كرّ من الماء إلاّغرفة » أنّه كرّ مع كون مقدار الكرّ معلوماً ، كما أنّ

٤٢٠