أنوار الأصول - ج ٣

أنوار الأصول - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-15-6
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٢٤

نطلب الحجّة بيننا وبين الله تعالى سواء قبل الخصم أو لم يقبل.

وثانياً : بأنّ عدم وجود الملازمة بين الأمرين أمر واضح ، ضرورة أنّ ما شكّ في وجوبه أو حرمته ليس عند الخصم بأعظم ممّا علم بحكمه ، فإذا لم تكن ملازمة بينهما في المخالفة القطعيّة فعدمها في المخالفة الاحتماليّة بطريق أولى.

أقول : يمكن الجواب عنه بأنّ ما يهمّنا في الفقه إنّما هو الأمن من العذاب ، وهو حاصل بنفي الفعليّة سواء لزمه نفي الاستحقاق أم لا.

الأمر الثاني والثالث : ما أفادهما الشيخ الأعظم رحمه‌الله من أنّ ظاهر الآية الإخبار بوقوع العذاب سابقاً بعد البعث فيختصّ بالعذاب الدنيوي الواقع في الامم السابقة ، فمحصّل كلامه : أوّلاً : أنّ الآية مختصّة بالامم السابقة ، وثانياً : أنّ الله تعالى قد أخبر بنفي خصوص العذاب الدنيوي ، وليس في الآية دلالة على أنّه تعالى لم يعذّبهم لعدم استحقاقهم له كي يكون دليلاً على نفي العقاب قبل البيان مطلقاً ، أي الدنيوي والاخروي جميعاً بل لعلّه لم يفعل ذلك منّة منه تعالى في خصوص الدنيا.

والجواب عنهما واضح ، أمّا بالنسبة إلى الأوّل منهما فلأنّ لحن الآية الشريفة إنّما هو لحن قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ) (١) ، فيدلّ على أنّه لا يكون العذاب من دون بعث الرسول لائقاً بشأنه تعالى ، ولا معنى لاختصاص هذا المفهوم بالامم السابقة كما تشهد عليه الفقرتان السابقتان على هذه الفقرة ( أي قوله تعالى ( مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ) وقوله تعالى : ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ) حيث إنّه لا إشكال في عدم اختصاصهما بالامم السابقة.

وأمّا بالنسبة إلى الثاني منهما فلأنّه إذا لم يعذّبهم في الدنيا فعدم تعذيبه في الآخرة بطريق أولى ، وهو عذاب يدوم بقاؤه ولا يخفّف عن أهله ، والشاهد عليه الآية اللاحقة وهى قوله تعالى : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ).

الأمر الرابع : « إنّ أقصى ما تدلّ عليه الآية المباركة هو أنّ المؤاخذة والعقوبة لا تحسن إلّإ

__________________

(١) سورة مريم : الآية ٦٤.

٢١

بعد بعث الرسل وإنزال الكتب وتبليغ الأحكام والتكاليف إلى العباد ، وهذا لا ربط له بما نحن فيه من الشكّ في التكليف بعد البعث والإنزال والتبليغ وعروض اختفاء التكليف لبعض الموجبات التي لا دخل للشارع فيها » (١).

والجواب عنه : أنّ بعث الرسل في الآية كناية عن إتمام الحجّة كما مرّ ، فتدلّ على نفي العذاب ما لم تتمّ الحجّة بعد البعث ، والشاهد عليه قوله تعالى في الآية اللاحقة : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ... ) فهى تدلّ على أنّ الميزان في العذاب هو صدور الأمر ووقوع الفسق بعده ، كما يشهد عليه أيضاً ما مرّ من قوله تعالى في سورة القصص : ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ... ) لأنّها تصرّح بأنّ الملاك هو تلاوة الآيات لا مجرّد البعث.

الخامس : النقض بالمستقلاّت العقليّة ، فإنّه لا إشكال ( كما مرّ في بعض الأبحاث السابقة ) في تعذيبه تعالى على ترك المستقلاّت العقليّة ، كقبح قتل النفس المحترمة والسرقة والخيانة وغيرها من المعاصي التي يحكم بقبحها العقل مستقلاً ، ولو وقعت قبل بعث الرسل.

والجواب عنه : أنّ الآية منصرفة إلى أحكام تحتاج إلى البيان ، ولا حاجة إلى البيان في المستقلاّت العقليّة التي لا يصحّ فيها الإعتذار بقولهم : ( لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ) ، ولذلك يقال في مباحث العقائد أنّ من فوائد وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تأكيده المستقلاّت العقليّة والتأسيس بالنسبة إلى غيرها.

فتلخّص ممّا ذكر أنّ جميع الإشكالات الواردة مندفعة ، وإنّ الآية صالحة للاستدلال على أصالة البراءة في الشبهات الحكميّة التحريميّة.

نعم إنّ النسبة بين هذه الآية والأخبار التي استدلّ بها الأخباريون على الاحتياط هى نسبة الورود ، فهى مورودة بتلك الأخبار لأنّ لسانها لسان قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو بلا حجّة ، وتلك الأخبار على فرض دلالتها بيان وحجّة ، لكن تظهر ثمرتها في تأسيس الأصل الأولي في المسألة وأنّ الأصل هو البراءة ، فيرجع إليها إذا ناقشنا في دلالة تلك الأخبار على الاحتياط.

__________________

(٢) فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٣٣٣.

٢٢

ومنها : قوله تعالى : ( لَايُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا ) (١) ، وتقريب الاستدلال بها أنّ « ما آتاها » بمعنى « ما أعلمها » أي لا يكلّف الله نفساً إلاّما آتاها من العلم ، فدلالتها على البراءة واضحة.

وقد يناقش في الاستدلال بها بأنّ المراد من الموصول فيها إنّما هو المال بقرينة ما ورد في صدرها من قوله تعالى : ( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَايُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا ) فيكون المعنى حينئذٍ : لا يكلّف الله نفساً إلاّمالاً آتاها ، أي أعطاها ، وهو أجنبي عن البراءة كما هو واضح.

ولكن في اصول الكافي عن عبدالأعلى قال : قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : أصلحك الله هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة؟ قال : فقال « لا » ، قلت : فهل كلّفوا المعرفة؟ قال « لا ، على الله البيان ، لا يكلّف الله نفساً إلاّوسعها ، ولا يكلّف الله نفساً إلاّما آتاها » ، قال : وسألته عن قوله : ( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ ) ، قال : « حتّى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه » (٢).

فهذه الرواية تؤكّد أنّ الآية ناظرة إلى العلم والمعرفة ، ولا يخفى أنّ المراد من المعرفة فيها ليست معرفة أصل وجود الله تبارك وتعالى ، لأنّه لا ريب في أنّ أحسن الأدلّة على وجوده تعالى وأوّلها هو العقل من دون اعتماد عى البيان ، فليكن المراد معرفة الصفات التي لا تصاب بالعقول ، ولذا اشتهر بين العلماء أنّ أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية.

فلابدّ حينئذٍ من الجمع بين مورد الآية وهذه الرواية ، فنقول : يحتمل في المراد من الموصول في الآية ثلاثة وجوه :

أحدها : أن يكون المراد المال.

ثانيها : أن يكون المراد المعارف والتكاليف.

ثالثها : الجامع بين المعنيين ، فاستعمل الموصول في مطلق الاعطاء أعمّ من الاعطاء المالي واعطاء الحجّة والعلم.

__________________

(١) سورة الطلاق : الآية ٧.

(٢) اصول الكافي : ج ١ ، باب « البيان والتعريف ولزوم الحجّة » من كتاب الحجّة.

٢٣

فقد يقال : إنّ الموصول استعمل في المعنى الثالث ، فيكون كلّ واحد من الموردين ( مورد الآية ومورد الرواية ) من مصاديق هذا المعنى الجامع فتكون دلالته على المراد تامّة.

لكن أورد عليه أوّلاً : بأنّ « إرادة الأعمّ منه ( من الإعلام بالحكم والتكليف ) ومن المورد ( مورد الآية ) يستلزم استعمال الموصول في معنيين ، إذ لا جامع بين تعلّق التكليف بنفس الحكم وبالفعل المحكوم عليه » (١).

وإن شئت قلت : « المفعول المطلق هو المصدر أو ما في معناه المأخوذ من نفس الفعل ، والمفعول به ما يقع عليه الفعل المباين معه ولا جامع بين الأمرين حتّى يصحّ الإسناد » (٢).

والجواب عنه : أنّ الموصول في الآية يكون مفعولاً به في كلتا الصورتين ، أي سواء اريد منه نفس التكليف أو اريد منه الأمر الخارجي الذي يقع عليه التكليف ، لأنّ المراد من التكليف في الصورة الاولى معناه اسم المصدري ، أي ما كلّف به ( لا المعنى المصدري ) ، فيكون المعنى : « لا يكلّف الله نفساً بتكليف كمعرفة صفات الله أو الإمام أو الأحكام كما ورد في سؤال الراوي في الرواية : « هل كلّف الناس بالمعرفة ».

فعلى أي تقدير يكون الموصول مفعولاً به ويصير المعنى : « لا يكلّف الله نفساً إلاّتكليفاً أو مالاً آتاها » فاستعمل الموصول في القدر الجامع بينهما ، وهو مطلق المعطى أعمّ من الامور المادّية كالمال أو المعنوية كالمعرفة ، ويكون هذا الجامع هو المفعول به ، كما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله بما نصّه : « لكن الإنصاف أنّه يمكن أن يراد من الموصول الأعمّ من التكليف وموضوعه ، وإيتاء كلّ شيء إنّما يكون بحسبه ، فإنّ إيتاء التكليف إنّما يكون بالوصول والإعلام ، وإيتاء المال إنّما يكون بإعطاء الله تعالى وتمليكه ، وإيتاء الشيء فعلاً أو تركاً إنّما يكون بإقدار الله تعالى عليه فإنّ للإيتاء معنىً ينطبق على الاعطاء وعلى الاقدار ، ولا يلزم أن يكون المراد من الموصول الأعمّ من المفعول به والمفعول المطلق ، بل يراد منه خصوص المفعول به » (٣).

وثانياً : بما مرّ في آية البعث من المحقّق النائيني رحمه‌الله أيضاً من أنّ أقصى ما تدلّ عليه الآية هو

__________________

(١) أورده الشيخ الأعظم رحمه‌الله في رسائله.

(٢) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ١٤٣ ، طبع جماعة المدرّسين.

(٣) فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٣٣٢ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢٤

أنّ المؤاخذة والعقوبة لا تحسن إلاّبعد تبليغ الأحكام والتكاليف إلى العباد ، وهذا لا ربط له بما نحن فيه من الشكّ في التكليف بعد التبليغ وعروض اختفاء التكليف ببعض الموجبات التي لا دخل للشارع فيها.

والجواب عنه : هو الجواب من أنّ المراد من الإيتاء هو إتمام الحجّة ، فتدلّ الآية على نفي العذاب ما لم تتمّ الحجّة بعد التبليغ ، وهو المطلوب.

وثالثاً : بأنّ المقصود في الآية وكذلك في الرواية التكليف بما لا يطاق ، فإنّ معرفة صفاته تعالى مثلاً خارجة عن طاقة البشر ، ولا يمكن حصولها له إلاّمن ناحية البيان ، فالآية تنفي التكليف بما لا يطاق لا التكليف بالاحتياط في مثل التدخين الذي يكون ممكناً للإنسان ، وليس خارجاً عن طاقته ، والشاهد على ذلك أنّ الإمام عليه‌السلام ذكر هذه الآية في جنب قوله تعالى : ( لَايُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ) التي لا إشكال في أنّ المقصود منها التكليف بما لا يطاق ، فالآية حينئذٍ أجنبية عمّا نحن فيه.

ورابعاً : بأنّ سند الرواية ضعيف من ناحية عبدالأعلى المجهول في كتب الرجال ، اللهمّ إلاّ أن يقال : بأنّه وقع بعد حمّاد وهو من أصحاب الإجماع ، ولكن المختار عندنا عدم تماميّة هذه القاعدة.

وبهذا يظهر أنّ الآية غير صالحة للاستدلال بها في المقام.

ومنها : قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (١) ، ودلالتها على المدّعى تتمّ إذا كانت « يضلّ » بمعنى « يعذّب » لأنّ مفادها حينئذٍ عدم العقاب بلا بيان ، فالمهمّ في المقام تعيين معنى « يضلّ » بعد عدم تصوّر معناها اللغوي المعروف بالنسبة إلى الباري تعالى ، فنقول : يحتمل فيها أربعة وجوه :

١ ـ أن يكون بمعنى التعذيب كما مرّ آنفاً.

٢ ـ أن يكون بمعنى الحكم بالضلال.

٣ ـ أن يكون بمعنى الخذلان أي ترك العون والإمداد وسلب التوفيق.

٤ ـ أن يكون بمعناه الحقيقي مع حقيقة الإسناد بالنسبة إليه تعالى من باب إنّه مسبّب

__________________

(١) سورة التوبة : الآية ١١٥.

٢٥

الأسباب وسبب في تأثير عمل العبد في ضلالته ، فهو الذي جعل العمل السيّيء والذنوب الكبار سبباً للضلالة عن طريق الحقّ ، فيصحّ إسناده إليه تعالى حقيقة كما يصحّ إسناده كذلك إلى الفاعل بلا واسطة ، وهذا نظير من قتل نفسه بشرب السمّ حيث يصحّ إسناد القتل إليه حقيقة لأنّه شرب السمّ باختياره ، وإلى الباري تعالى كذلك لأنّه خلق السمّ بحيث يوجب القتل.

ولا يخفى أنّ الإسناد في الوجوه الثلاثة الاول مجازاً ، فلا وجه للذهاب إليها مع إمكان حفظ الكلمة على معناه الحقيقي بالوجه الأخير ، كما أنّه كذلك في الآيات المشابهة التي استند الاضلال فيها إلى الله تعالى.

منها : قوله تعالى : ( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ ) (١).

ومنها : قوله تعالى : ( كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ) (٢) فاستناد الاضلال إليه تعالى أمر مأنوس في القرآن الكريم ، ولا ريب في عدم مجازيته ، لأنّ كلّ فعل يصدر من العباد يصحّ إسناده إليه تعالى حقيقة « لأنّه المالك لما ملّكك والقادر على ما عليه أقدرك » كما ورد في حديث الإحتجاج (٣).

وبالجملة الآية تدلّ على عدم اضلال الله تعالى للعباد حتّى يبيّن لهم الحلال والحرام لقوله تعالى فيها : ( حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ ) وبما أنّ الاضلال منشأ للعذاب بل هو نوع من العذاب الإلهي فدلالة الآية على عدم العذاب من دون البيان تكون بالأولوية أو بإلغاء الخصوصيّة.

وممّا ذكرنا يظهر الجواب عمّا أورده بعض على دلالة الآية من أنّها تدلّ على نفي العذاب الدنيوي لا الاخروي ، وذلك لأنّ دلالتها على نفي العذاب الاخروي ـ وهو عذاب تطول مدّته ويدوم بقاؤه ـ بطريق أولى كما مرّ ذلك بالنسبة إلى آية البعث.

بقي هنا شيء :

وهو أنّ جميع هذه الآيات إنّما تأسّس لنا الأصل الأوّلي وتدلّ على عدم العذاب بلا بيان ،

__________________

(١) سورة إبراهيم : الآية ٢٧.

(٢) سورة المؤمن : الآية ٣٤.

(٣) راجع تفسير الميزان : ج ١ ، ص ١٠١.

٢٦

وحينئذٍ تكون أدلّة الأخباري على فرض تماميتها واردة عليها ، لأنّها حينئذٍ تكون بمنزلة البيان ، لكن سيأتي عدم تماميتها فالمرجع هو ما يستفاد من هذه الآيات.

هذا كلّه في الآيات التي استدلّ بها على البراءة.

الثاني : الروايات

وهى عديدة :

١ ـ حديث الرفع

وهو أهمّها ، والبحث فيه يقع في مقامين :

١ ـ إسناد الحديث.

٢ ـ كيفية دلالته على المطلوب.

المقام الأوّل : في إسناد الحديث

أمّا المقام الأوّل فقد روي هذا الحديث من طريقين :

أحدهما : ما ورد في توحيد الصدوق وخصاله بسند معتبر عن حريز بن عبدالله عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رفع عن امّتي تسعة أشياء : الخطأ والنسيان وما اكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ، وما لم ينطقوا بشفة » (١).

وقد تؤيّد هذه الرواية بمرفوعة محمّد بن أحمد النهدي عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وضع عن امّتي تسع خصال : الخطأ ، والنسيان ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، وما استكرهوا عليه ، والطيّرة ، والوسوسة في التفكّر في الخلق ، والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد » (٢).

وبين الروايتين فرق بالنسبة إلى ما جاء في ذيلهما ، فورد في الرواية الاولى « والتفكّر في

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١ ، أبواب جهاد النفس ، الباب ٥٦ ، ح ٣.

(٢) المصدر السابق.

٢٧

الوسوسة في الخلق » وفي الثانية « والوسوسة في التفكّر في الخلق » وبما أنّ من المستبعد جدّاً كونهما روايتين مستقلّتين نستكشف وقوع خطأ من جانب الراوي في إحديهما ، ولكن الذي يسهل الخطب عدم كون الذيل مورداً للاستناد في المقام.

ثانيهما : معتبرة إسماعيل الجعفي عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « سمعته يقول : وضع عن هذه الامّة ستّ خصال : الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه » (١).

فقد وردت فيها ستّ خصال بدلاً عن التسع الوارد في الرواية الاولى ، ولكن لا ضير فيه ولا منافاة بينهما بعد كونهما من قبيل المثبتين.

فتحصّل من ما ذكرنا أنّ السند في الجملة معتبر يجوز الإسناد إليه.

المقام الثاني : في كيفية دلالة الحديث على المطلوب

ويقع الكلام فيه في عدّة امور :

الأمر الأوّل : في المراد من الموصول في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما لا يعلمون » فهل يشمل الشبهات الحكميّة أيضاً ، وهل تكون الرواية صالحة للاستدلال بها في ما نحن فيه أو لا؟

استدلّ الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله في بعض كلماته لاختصاص الموصول بالشبهة الموضوعيّة بوحدة السياق ، إذ إنّ المراد بالموصول في غير فقرة « ما لا يعلمون » هو الفعل الإكراهي والاضطراري ونحوهما ، إذ لا معنى لتعلّق الإكراه والاضطرار بنفس الحكم ، فليكن المراد بالموصول في « ما لا يعلمون » أيضاً هو الفعل المجهول لا الحكم.

وقال المحقّق الخراساني رحمه‌الله : إنّ المراد منها مطلق الإلزام المجهول سواء كان في الشبهة الحكميّة كحرمة شرب التتن أو الموضوعيّة كحرمة المايع الخارجي المشكوك كونه خمراً.

والأعلام المتأخّرون عن هذين العلمين كلٌّ أخذ جانباً ، فبعض تبع الشيخ الأعظم رحمه‌الله وبعض آخر ذهب إلى مقالة المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، والتحقيق في المقام يستدعي تحليل المراد من المرفوع في « ما لا يعلمون » فهل هو الفعل المتعلّق به الحكم كشرب الخمر مثلاً في مثال المايع

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٦ ، أبواب كتاب الإيمان ، الباب ١٦ ، ح ٣.

٢٨

المشكوك ، أو المرفوع هو الموضوع الخارجي ، أي نفس الخمر في المثال ، أو الحكم ، أي الحرمة؟

ولابدّ للجواب عن هذا السؤال من ملاحظة التعبيرات الواردة في الآيات والروايات بالنسبة إلى صيغة الوضع ، حيث إنّها تقابل الرفع وتضادّه ، والأشياء تعرف بأضدادها ، فإذا عرفنا ما هو الموضوع في التكاليف الشرعيّة في الكتاب والسنّة عرفنا المرفوع فيها بالتبع.

وبعبارة اخرى : ما هو الثقل والكلفة التي يشتقّ منها كلمة التكليف ، ومن أين يجيء ويوضع على عهدة المكلّف حتّى يكون هو المرفوع؟

فنقول في الجواب : إنّ الموضوع والمحمول على المكلّف في لسان الآيات إنّما هو الفعل كالرزق ( بمعناه المصدري ) والكسوة الموضوعين على عهدة الأب في قوله تعالى : ( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (١) ، فالموضوع في هذه الآية فعل الرزق وفعل الكسوة كما هو واضح ، وكالفدية في قوله تعالى : ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) (٢) ، والصيام في قوله تعالى ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) وحجّ البيت في قوله تعالى : ( وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ).

وهكذا في الروايات كقوله عليه‌السلام : « عليك القضاء » أو « عليك الإعادة » أو « عليك الحجّ من قابل » فالموضوع على عهدة المكلّف إنّما هو القضاء أو فعل الإعادة أو الحجّ ، فكأنّ للأفعال ثقلاً في عالم التشريع يضعه الشارع على عاتق المكلّفين ، نعم إنّه كناية عن الإيجاب ، وهى غير تقرير الوجوب ، ولا يلزم فيها مجاز ، بل يستعمل كلّ لفظ في معناه الموضوع له ، ففي قولك : « زيد كثير الرماد » استعمل كلّ واحد من « زيد » و « كثير الرماد » في معناه الموضوع له وإن لم يكن المستعمل فيه مراداً جدّياً للمتكلّم ، فوضع فعل كالصيام والحجّ والإعادة والقضاء على عاتق المكلّف كناية عن وجوبه.

فإذا كان متعلّق الوضع هو الفعل فليكن متعلّق الرفع أيضاً كذلك ، ففي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « رفع ما لا يعلمون » إنّما رفع الفعل المجهول كما أنّ المرفوع في « ما اضطرّوا إليه » و « ما استكرهوا عليه » هو الفعل الاضطراري أو الإكراهي الذي كان يثقل على عاتق المكلّف لولا حديث الرفع ، لا أن يكون المرفوع هو الحكم حتّى نحتاج إلى تقدير.

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٣٣.

(٢) سورة البقرة : الآية ١٨٤.

٢٩

وإذن يختصّ الحديث بالشبهات الموضوعيّة لأنّ شموله للشبهات الحكميّة يحتاج إلى تقدير الحكم ، أي رفع ما لا يعلمون حكمه ، والأصل عدم التقدير.

فظهر أنّ طريق إثبات اختصاص الرواية بالشبهات الموضوعيّة لا ينحصر في ما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمه‌الله من قضية وحدة السياق ، بل يمكن إثباتها من طريق تحليل معنى الرفع وملاحظة موارد استعمال ما يقابله من كلمة الوضع.

ثمّ إنّ هذا ( أي اختصاص حديث الرفع بالشبهة الموضوعيّة ) قد يؤيّد بالرجوع إلى عصر صدور هذا الحديث من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث لم تكن الشبهة الحكميّة محلاً للابتلاء في ذلك العصر إلاّقليلاً لأنّهم كانوا مستغنين بأرباب الشريعة ، يأخذون منهم الأحكام مشافهة ، ويعرفون ما يريدون بالسؤال عن نفس المعصوم بلا واسطة ، فالحديث منصرف إلى ما كان محلاً للابتلاء.

الأمر الثاني : قد ظهر ممّا ذكرنا عدم تقدير شيء في الحديث لا الحكم ولا المؤاخذة ، ولا الأثر المناسب ولا جميع الآثار ، بل المرفوع هو نفس الفعل في عالم الاعتبار ، وهو كناية عن عدم حرمته ، وإذا ارتفعت الحرمة ارتفعت جميع آثارها ، وحينئذٍ لا تصل النوبة إلى ما ذكره الأعلام واختلفت فيه الآراء من أنّ المقدّر في الحديث ماذا؟

كما ظهر أيضاً أنّ الرفع إخبار عن الواقع ( كما أنّ الوضع في مثل قوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ ) إخبار عن الوضع في الواقع ) لا إنشاء من جانب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا تصل النوبة إلى البحث عن إمكان التشريع للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وعدمه ، ولو فرض كونه إنشاء من جانبه صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا إشكال فيه أيضاً لما أثبتناه في البحث عن ولاية الفقيه في الفقه من صدور تشريعات جزئية من ناحية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وإمضائه من جانب الباري تعالى ، فما ذهب إليه في تهذيب الاصول من عدم وجود هذا الحقّ للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام مطلقاً في غير محلّه.

الأمر الثالث : في شمول حديث الرفع للأحكام الوضعيّة وعدمه ، فإذا تحقّق بيع عن إكراه مثلاً فهل يكون نافذاً شرعاً أو لا؟ فقد يقال بعدم نفوذه لأجل هذا الحديث بل هو ممّا استدلّ به على اعتبار الاختيار في باب المعاملات ، وكيف كان فقد ذكر للعموم والشمول وجوه :

الأوّل : اطلاق الرفع ، إمّا بناءً على وجود تقدير في الحديث ، فلأنّ المقدّر هو جميع الآثار ، وإمّا بناءً على ما إخترناه من كون الرفع كناية فلأنّه كناية عن رفع الحكم الجزئي ، وهو في مثل

٣٠

المقام عبارة عن نفوذ البيع.

الثاني : معتبرة صفوان بن يحيى وأحمد بن محمّد بن أبي نصر جميعاً عن أبي الحسن عليه‌السلام في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال : « لا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وضع عن امّتي ما اكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطأوا » (١).

فلا إشكال في أنّ هذه الرواية تشير إلى حديث الرفع ، وحينئذٍ إذا كانت إحدى فقراته شاملة للأحكام الوضعيّة تكون سائر الفقرات أيضاً شاملة لها بمقتضى وحدة السياق.

إن قلت : إنّ التمسّك بهذا الحديث لإثبات كون المرفوع بحديث الرفع جميع الآثار حتّى الوضعيّة ضعيف لأنّ الحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك باطل عندنا من الأساس حتّى مع الاختيار فكيف مع الإكراه؟ ، فمقتضى القاعدة أن يبيّن الإمام عليه‌السلام بطلانه مطلقاً ولم يفعل ، فيكون الجواب حينئذٍ مبنيّاً على التقيّة ، فكأنّ الإمام عليه‌السلام لم يتمكّن من إظهار الحقّ وهو بطلان الحلف بتلك الامور مطلقاً ولو مع الاختيار ، فاقتصر على بيان بطلانه في مورد السؤال فقط ، وهو الإكراه من باب التقيّة لا من باب أنّ الإكراه رافع للأثر الوضعي واقعاً.

قلت : إنّه كذلك أي الإمام كان في مقام التقيّة ، لكنّه غاية ما يقتضيه كون تطبيق الكبرى ( أعني عموم حديث الرفع ) على مورد السؤال ( أي الحلف بالطلاق والعتاق ) تقيّة لكون المورد باطلاً من الأساس وإن لم يكن عن إكراه ، ولا دليل على كون أصل الكبرى من باب التقيّة ، إذن فالحديث تامّ سنداً ودلالة.

الثالث : ما ذكره الشيخ الأعظم رحمه‌الله من أنّ مقتضى كون الحديث في مقام الإمتنان على امّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شموله للأحكام الوضعيّة ، لأنّ الأحكام التكليفيّة كانت مرفوعة في الامم السابقة أيضاً.

ولكن يرد عليه : أنّ المستفاد من بعض الأخبار اختصاص رفع المؤاخذة في الأحكام التكليفيّة أيضاً بامّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، منها ما رواه عمرو بن مروان عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رفع عن امّتي أربع خصال : خطؤها ونسيانها وما اكرهوا عليه وما لم يطيقوا ، وذلك قول الله عزّوجلّ : ( رَبَّنَا لَاتُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٦ ، أبواب كتاب الإيمان ، الباب ١٢ ، ح ١٢.

٣١

كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَاطَاقَةَ لَنَا بِهِ ) وقوله : ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) » (١).

فالظاهر من هذا الحديث والآيات التي استشهد بها فيه اختصاص رفع المؤاخذة أيضاً بهذه الامّة.

إن قلت : العقل حاكم بقبح المؤاخذة على الخطأ والإكراه والاضطرار والنسيان وغيرها ممّا هو خارج عن طاقة الإنسان من دون فرق بين الامم.

قلنا : المعروف في الجواب عن هذا الإشكال أنّ الخطأ والنسيان مثلاً على قسمين : قسم لا يكون الإنسان قادراً على الإجتناب عنه بوجه من الوجوه ، فهذا القسم مرفوع عن جميع الامم ، وقسم آخر يمكن التحفّظ عنه بالمراقبة وإن كان ذات مشقّة ، فهذا القسم لا تكون المؤاخذة عليه قبيحاً ، ورفع المؤاخذة عنه إمتناناً مختصّ بهذه الامّة ، وهو المراد في حديث الرفع كما يدلّ عليه نفس طلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إيّاه في ليلة المعراج ، وإلاّ كان طلبه صلى‌الله‌عليه‌وآله تحصيلاً للحاصل.

بقي هنا شيء :

وهو أنّه هل يشمل حديث الرفع الأجزاء والشرائط والموانع أو لا؟ فإذا طرأ النسيان على السورة مثلاً فلم يأت بها فهل تكون الصّلاة صحيحة بمقتضى حديث الرفع أو لا؟

التحقيق في الجواب أن يقال : إنّ الشبهة تارةً تكون بنحو الشبهة الموضوعيّة كما إذا نسى السورة مع علمه بوجوبها ، واخرى تكون بنحو الشبهة الحكميّة كما إذا كان المكلّف حديث العهد بالإسلام فنسى أصل وجوب السورة ، فإن كانت الشبهة موضوعيّة فشمول الحديث لها مبنى على جريانه في الأحكام الوضعيّة إذ إنّ الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة من الأحكام الوضعيّة ، وقد مرّ جريانه فيها ، وإن كانت حكميّة فشمول الحديث لها مبنى على جريانه في الشبهات الحكميّة ، وقد مرّ عدمه بناءً على ما اخترناه من أنّ المراد من الموصول في « ما لا يعلمون » الفعل المجهول ، فلابدّ في شموله للشبهة الحكميّة من تقدير الحكم ( أي ما لا يعلمون حكمه ) وهو خلاف الظاهر.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١١ ، أبواب جهاد النفس ، الباب ٥٦ ، ح ٢.

٣٢

نعم لا ينبغي الإشكال في شموله لها بناءً على مذاق المشهور من أنّ المراد من الموصول هو الحكم حيث لا حاجة حينئذٍ إلى تقديره.

إن قلت : إنّ الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة من الأحكام الوضعيّة الإنتزاعيّة التي ينتزعها العقل من الأمر المتعلّق بالكلّ أو المتعلّق بنفس الجزء أو الشرط ، أو النهي المتعلّق بالمانع ، وليست من الأحكام الوضعيّة المجعولة الاعتباريّة التي تعتبر من جانب الشارع أو العقلاء ، كالضمان والملكية فإذا لم تكن قابلة للوضع والاعتبار لم تكن قابلة للرفع أيضاً.

قلنا : يمكن للشارع رفعها باعتبار أنّ جعل منشأ انتزاعها ( أي الأمر بالأجزاء والشرائط والنهي عن الموانع ) بيد الشارع.

نعم هنا إشكال آخر بالنسبة إلى الشبهات الموضوعيّة ، وهو أنّه لا يمكن التمسّك فيها بحديث الرفع لتصحيح الصّلاة ، مثلاً لأنّ الإعادة ليست من آثار النسيان حتّى ترفع برفعه ، بل هى من آثار الأمر بالكلّ ، وهو لم يمتثل ، فتجب الإعادة لأن يحصل الإمتثال.

هذا كلّه بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط ، وأمّا الموانع فيمكن أن يقال برفع أثرها وهو البطلان بمقتضى حديث الرفع ، والقول بأنّ المانع يرجع إلى شرطيّة عدمه كما ترى.

الأمر الرابع : أنّ حديث الرفع حيث ورد في مقام الإمتنان فلا يجري فيما لم يكن في رفعه منّة على المكلّف كما إذا اضطرّ إنسان إلى بيع داره لإنجاء ولده المريض ، فعدم صحّة بيعه هذا ـ لأنّه ممّا اضطرّ إليه ـ لا يكون منّة عليه بل هو خلاف الإمتنان وهذا واضح ، وإنّما الكلام في منشأ هذا الاستظهار ، فمن أيّ شيء يستفاد أنّ الحديث في مقام الإمتنان؟

قد يقال : أنّه يستفاد من التعبير بـ « عن امّتي » الوارد في الحديث ، حيث لا إشكال في ظهوره في الإمتنان عرفاً ، لكن يمكن أن يستفاد ذلك أيضاً من نفس التعبير بالرفع فإنّ الرفع يستعمل في الموارد التي رفع فيها ثقل وكلفة عن المكلّف لا ما إذا وضع ثقل على عاتقه ، ولا يخفى أنّ بطلان المعاملة في المثال المذكور ممّا يوجب وضع ثقل على أثقاله لا رفعه.

الأمر الخامس : ربّما يستشكل في رفع المؤاخذة بحديث الرفع بأنّ المؤاخذة من الأحكام العقليّة لا من القوانين والأحكام المجعولة من ناحية الشرع حتّى يمكن رفعها بيد الشارع.

ويجاب عنه : بأنّها وإن كانت من الأحكام العقليّة ، ولكن بما أنّ حكم العقل هذا ينشأ من وجوب الاحتياط هو ناشٍ من الحكم الواقعي المجعول من ناحية الشارع فيمكن له رفعها

٣٣

برفع منشأها ، وهو الوجوب الواقعي.

ويمكن أن يقال أيضاً : أنّ حكم العقل في المقام إنّما هو استحقاق المؤاخذة لا فعليتها إذ إنّ الفعليّة من شؤون الشارع والمقنّن ، ولذا نرى صدور أحكام العفو من الولاة والحكّام ومن بيده رحى التشريع والتقنين في كثير من الأحايين والشارع المقدّس أولى منهم بذلك.

الأمر السادس : الآثار المترتّبة على الخطأ والنسيان وسائر العناوين الواردة في الحديث الشريف على قسمين : منها ما يترتّب عليها بما هى هى ، أي يترتّب على العناوين الثانوية كعنوان الخطأ والنسيان ، ومنها ما يترتّب على متعلّقاتها الخارجيّة أي على العناوين الأوّلية ، فإنّ الآثار المترتّبة على نسيان السورة مثلاً على قسمين : قسم يترتّب على نفس السورة كبطلان الصّلاة بتركها ، وقسم يترتّب عليه بما أنّها متعلّقة للنسيان كسجدتي السهو ، والمقصود من الآثار المرفوعة بحديث الرفع إنّما هو القسم الأوّل لا الثاني ، وإلاّ يلزم التناقض في كلام الشارع المقدّس ، لأنّ المفروض كون السهو كالسبب لتشريع سجدتي السهو فكيف يكون رافعاً لهما؟

الأمر السابع : في شمول الحديث للُامور العدميّة وعدمه ، كما إذا نذر أن يشرب من ماء الفرات فاضطرّ إلى تركه أو اكره عليه فلو قلنا بالشمول لم تتحقّق مخالفة النذر فلا حنث ولا كفّارة.

وقد وقع البحث فيه بين الأعلام ، والظاهر من كلمات المحقّق النائيني رحمه‌الله اختصاصه بالامور الوجوديّة ، واستدلّ لذلك « بأنّ شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم ، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود ، لأنّ تنزيل المعدوم منزلة الموجود إنّما يكون وضعاً لا رفعاً » (١).

وأجاب عنه في تهذيب الاصول : « بأنّ ترك الشرب بعد ما تعلّق به النذر وصار ذات أثر يكون له ثبوت في عالم الاعتبار ، إذ ما لا ثبوت له ولو بهذا النحو من الثبوت لا يقع تحت دائرة الحكم ولا يصير موضوعاً للوفاء والحنث ... وبعد الثبوت الاعتباري لا مانع من تعلّق الرفع عليه بما له من الآثار » (٢).

أقول : وإن شئت قلت في الجواب : قد وقع الخلط في كلام المحقّق النائيني رحمه‌الله بين عالم

__________________

(١) راجع فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٣٥٣ ، طبع جماعة المدرّسين.

(٢) راجع تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ١٥٩ ، طبع جماعة المدرّسين.

٣٤

التكوين وعالم التشريع ، وكون ترك الشرب أمراً عدميّاً إنّما هو بلحاظ عالم التكوين ، وأمّا في عالم التشريع فلا إشكال في أنّ لترك الشرب أثراً وثقلاً وكلفة لولا حديث الرفع بلحاظ ترتّب الكفّارة عليه ، فيمكن للشارع رفعه بهذا الحديث.

الأمر الثامن : قد ورد في ذيل الحديث ثلاثة عناوين ينبغي فهمها وتوضيحها وإن كانت خارجة عن موضوع البراءة ، وهى : الحسد ، والطيرة ، والوسوسة في التفكّر في الخلق ( بناءً على ما ورد في مرفوعة محمّد بن أحمد الهندي المذكورة سابقاً ) أو التفكّر في الوسوسة في الخلق ( بناءً على ما ورد في معتبرة حريز بن عبدالله المذكورة سابقاً أيضاً ).

أمّا الحسد فلا إشكال في أنّ المراد منه في الحديث تلك الحالة النفسانية التي توجب عدم تحمّل الإنسان نعمة أعطاها الله تعالى أخاه المؤمن قبل إظهارها عملاً ، وأمّا إذا أقدم على عمل لإزالتها فلا إشكال أيضاً في كونه معصية ولا يكون حينئذٍ مشمولاً للحديث الشريف.

إن قلت : هذه الحالة النفسانيّة قبل إبرازها في مقام العمل أمر غير اختياري فلا معنى لحرمتها لولا الحديث حتّى ترفع إمتناناً.

قلنا : يمكن عادةً رفع هذه الحالة بالمجاهدات والرياضات النفسانيّة والتفكّر في أنّها ملكة رذيلة توجب خسّة النفس ودنائتها فيكون رفعها تحت اختيار الحاسد ، ويمكن للشارع عدم رفعها بوجوب تهذيب النفس فيكون رفعه للوجوب منّة على العباد.

أمّا الطيرة فهى من مادّة الطير ، بمعنى التشأّم وقراءة الطالع بالطيّور ، ثمّ توسّع في ذلك حتّى عمّت سائر طرق التشأّم ، فإنّ العرب في الجاهلية كانت تلتزم وتعتني بما يتشأّم بالطيور وغيرها ، وكانت الطيور تسدّهم عن مقاصدهم ، فللشارع المقدّس أن يمضي تلك الالتزامات ، ولكنّه ردع عنها إمتناناً حتّى لا يتعطّل حياتهم لُامور لا واقع لها.

وأمّا الوسوسة في التفكّر في الخلق ( أو التفكّر في الوسوسة في الخلق ) فالمراد من الخلق في هذه الجملة يمكن أن يكون على أحد معنيين :

الأوّل : أن يكون بمعنى الخالق ، أي خالق الله عزوجل ، فيتفكّر في أنّه مَن خَلَقَ الباري تعالى؟

وهو سؤال يشكل جوابه على العوام ( وإن كان واضحاً عند المحقّقين لأنّ الحاجة إلى الخالق تتصوّر بالنسبة إلى كلّ حادث أو ممكن الوجود ، والله تبارك وتعالى لا يكون حادثاً أو

٣٥

ممكناً ) ومع ذلك كان أمراً شايعاً في عصر صدور الحديث وكانوا يتوهّمون حصول الكفر به فرفع الشارع أثره المتوهّم إمتناناً.

الثاني : أن يكون في مقابل الخالق ، والمراد منه حينئذٍ الوسوسة في التفكّر في البلايا والشرور ، وتكرار القول بـ « لِمَ » بالنسبة إليها ، أي القول بأنّ الله تعالى لِمَ خلق الشيء الفلاني ، ولِمَ خلق العالم كذا وكذا ، فرفع الشارع حرمة هذه الوساوس إمتناناً.

وإن قيل : بعض هذه الامور مرفوع من جميع الامم.

قلنا : نعم ولكن الإمتنان إنّما هو بالمجموع من حيث هو المجموع.

الأمر التاسع : لا يخفى أنّ النسبة بين هذا الحديث وأدلّة الأخباريين نسبة التعارض لا الحكومة لأنّ تلك الأدلّة مثل قوله عليه‌السلام : « أخوك دينك فاحتط لدينك » تدلّ بزعم الأخباري على وجوب الاحتياط وعدم إرتفاع الإلزام المجهول المحتمل ، بينما حديث الرفع يدلّ على رفعه وعدم وجوب الاحتياط ، فهو حينئذٍ يعارض تلك الأدلّة حتّى بعد فرض تماميتها ، فتصل النوبة إلى محاولة المرجّحات وأنّه أي الدليلين أقوى؟ خلافاً لما مرّ من الآيات إذ إنّ أدلّة الأخباري كانت واردة عليها كما ذكرنا.

٢ ـ حديث الحجب :

وهو ما رواه أبو الحسن زكريا بن يحيى عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (١).

وهو من حيث السند تامّ حيث إنّ رجاله معروفون ، والظاهر أنّ المراد من ابن فضّال فيه هو علي بن فضّال الثقة الذي ينقل عن داود بن فرقد وكان معاصراً له ، وداود ثقة بتوثيق علماء الرجال ، وهكذا زكريا بن يحيى.

وأمّا الدلالة فتقريب الاستدلال به أنّ الإلزام المجهول ممّا حجب الله علمه عن العباد فيكون موضوعاً عنهم.

__________________

(١) وسائل الشيعة : أبواب صفات القاضي ، الباب ١٢ ، ح ٢٨.

٣٦

لكن إستشكل عليه الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني والمحقّق النائيني رحمهما الله بامور عديدة نلخّصها في أمرين :

أحدهما : أنّ الحديث أسند الحجب إلى الله تعالى ، وهو حينئذٍ ظاهر فيما سكت الله عنه ولم يأمر نبيّه بالإبلاغ ، لا ما بيّنه واختفى عنهم بعروض الحوادث الذي هو المبحوث عنه في المقام.

ثانيهما : أنّ كلمة « العباد » ظاهرة في العموم المجموعي ، أي جميع المكلّفين والحجب عن العباد صادق في الموارد التي يكون الحكم محجوباً عن مجموع المكلّفين لا عن بعضهم دون بعض ، ومحلّ النزاع في ما نحن فيه من النوع الثاني كما لا يخفى.

لكن في تهذيب الاصول يصرّ على تمامية الدلالة ، والمعتمد في كلامه كلمة « موضوع عنهم » فيقول : « إنّ الظاهر المتبادر من قوله « موضوع عنهم » هو رفع ما هو المجهول ، لا رفع ما لم يبيّن من رأس ولم يبلغ ، بل لم يأمر الرسل بإظهاره فإنّ ما كان كذلك غير موضوع بالضرورة ، ولا يحتاج إلى البيان مع أنّه مخالف لظاهر « موضوع عنهم » (١).

وقال في مقام الجواب عن الإشكال الأوّل : « إنّ الظاهر من الحجب هو الحجب الخارج عن اختيار المكلّف لا الحجب المستند إلى تقصيره وعدم فحصه ... وعندئذٍ يكون إسناد الحجب إليه على سبيل المجاز ، ومثله كثير في الكتاب والسنّة ، فإنّ مطلق تلك الأفعال يسند إليه تعالى بكثير من دون أن يكون خلاف الظاهر في نظر العرف ».

وفي مقام الجواب عن الإشكال الثاني قال : « إنّ المطابق للذوق السليم هو أن يكون المراد : كلّ من حجب الله على شيء عنه فهو مرفوع عنه سواء كان معلوماً لغيره أو لا ( لا أن يكون المراد ما حجب الله علمه عن مجموع المكلّفين ولا أن يكون المراد ما حجب الله علمه عن كلّ فرد فرد من أفراد المكلّفين ) كما هو المراد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث الرفع : « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » على أنّ مناسبة الحكم والموضوع يقتضي ذلك ، فإنّ الظاهر أنّ المناط للرفع هو الحجب عن المكلّف ، وحجبه عن الغير وعدمه لا دخل له لذلك كما لا يخفى » (٢).

لكن الحقّ أنّ ظهور كلمة العباد في العموم الاستغراقي وظهور الحجب في الإسناد الحقيقي مقدّم على ظهور كلمة « موضوع عنهم » في رفع ما هو المجعول ( لا رفع ما لم يبيّن من رأس ولم

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ١٧٣ ، طبع جماعة المدرّسين.

(٢) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ١٧٢ ـ ١٧٣ ، طبع جماعة المدرّسين.

٣٧

يبلغ ) لأنّ استعمال كلمة الوضع في ما لم يكن مجعولاً من رأس كثير ، كما أنّ كلمة الرفع استعمل في حديث الرفع في معنى الرفع وعدم الجعل من أصله ( لا ما وضع أوّلاً ثمّ رفع ثانياً ) وهذا نظير ما إذا قيل : هذا البلاء وضع عن هذه الامّة ، فإنه استعمل حينئذٍ في بلاء لم ينزل من رأس لا ما نزل ثمّ رفع.

أضف إلى ذلك أنّ الوضع إذا تعدّى بـ « عن » ( خلافاً لما إذا تعدّى بـ « على » ) يكون بمعنى الرفع ، فيأتي حينئذٍ في هذا الحديث كلّ ما قلناه في حديث الرفع ، وكيف كان : الأمر دائر مدار إرتكاب أحد الأمرين : رفع اليد من ظهورين ( ظهور العباد في العموم المجموعي وظهور الحجب في الإسناد الحقيقي ) ورفع اليد من ظهور واحد ( ظهور كلمة « موضوع عنهم » في رفع ما هو المجعول ) ولا يخفى أنّ الثاني أهون من الأوّل.

مضافاً إلى أنّ الأوّل يستلزم كون الإسناد إلى العباد مجازاً لأنّ العباد حينئذٍ يستعمل في بعض العباد كما هو واضح.

٣ ـ حديث الحلّ :

وهو ما رواه عبدالله بن سنان بسند معتبر عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه » (١).

ونظيره ما رواه مسعدة بن صدقة عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال سمعته يقول : « كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه ، أو خدع فبيع قهراً أو امرأة تحتك وهى اختك أو رضيعتك والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة » (٢) وكذلك ما رواه عبدالله بن سنان قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن فقال لي : « لقد سألتني عن طعام يعجبني ثمّ أعطى الغلام درهماً فقال ياغلام ابتغ لنا جبناً ، ثمّ دعا بالغداء فتغدّينا معه فأتى بالجبن فأكل وأكلنا فلمّا فرغنا من الغداء قلت : ما تقول في الجبن؟ قال : أو لم ترني آكله؟

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، أبواب ما يكتسب به ، الباب ٤ ، ح ١.

(٢) المصدر السابق : ح ٤.

٣٨

قلت : بلى ولكنّي أُحبّ أن أسمعه منك فقال : ساخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه » (١).

والبحث في هذه الروايات تارةً يقع في السند واخرى في الدلالة :

أمّا السند فلا إشكال في اعتبار رواية عبدالله بن سنان كما أشرنا إليه آنفاً ، وأمّا رواية عبدالله بن سليمان فالمراد من عبدالله بن سليمان هو عبدالله بن سليمان النخعي بقرينة نقله عن عبدالله بن سنان ، وهو مجهول في كتب الرجال ، وأمّا رواية مسعدة بن صدقة فهى أيضاً ضعيفة من ناحية السند لأنّ مسعدة مجهول ، فإن وجدت فيها خصوصية لم توجد في الأوليين لا تكون حجّة ، والعجب من المحقّق الخراساني رحمه‌الله حيث استند إلى هذه الرواية لما فيها من بعض الخصوصيات من دون اعتنائه بسندها كما هو دأبه في كتابه الكفاية.

فالمعتبر من هذه الروايات الثلاثة إنّما هو الرواية الاولى ، وهى رواية عبدالله بن سنان.

أمّا الدلالة : فلا إشكال في أنّ رواية عبدالله بن سنان ظاهرة في خصوص الشبهات الموضوعيّة لمكان فقرة « فيه حلال وحرام » حيث إنّها تتصوّر في الموضوعات كالمايع الذي بعض افراده خمر وبعضها الآخر غير خمر فاشتبه الخمر فيه بغير الخمر ، لا في الأحكام ، فلا معنى لأن يقال مثلاً : « في شرب التتن حلال وحرام » بل لابدّ فيها حينئذٍ من تقدير كلمة الاحتمال ، أي فيه احتمال الحرمة واحتمال الحلّية ، وهو تكلّف وخلاف للظاهر.

وبعبارة اخرى : المقصود من كلمة « الشيء » في قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام » هو الشيء الخارجي والموضوع الخارجي المشكوك ، أي متعلّق الشيء إنّما هو الموضوع الخارجي لا الحكم ، بينما متعلّق الشكّ في مثل شرب التتن إنّما هو حكم الشرب لا نفس الشرب الخارجي.

وأمّا رواية مسعدة فالتعبير الوارد فيها « كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه » فليس فيها التعبير بـ « فيه حلال وحرام » حتّى تكون من هذه الجهة ظاهرة في الشبهات الموضوعيّة ، نعم كلمة « بعينه » الواردة في ذيلها ظاهرة في الشبهة الموضوعيّة لأنّها بمعنى التشخّص والتعيّن الخارجي ، لكن يمكن التوجيه بأنّها تأكيد لقوله عليه‌السلام : « تعرف » أي حتّى تعلم

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٧ ، أبواب الأطعمة المباحة ، الباب ٦ ، ح ١.

٣٩

علماً قطعيّاً ، وسيأتي بيان الخصوصية الموجودة في « تعرف » بدل « تعلم » في هذه الرواية.

وبهذا تكون الرواية تامّة من حيث الدلالة ، ولكنّها ضعيفة من ناحية السند كما مرّ ، مضافاً إلى أنّ الظاهر سوق الروايات الثلاثة على مساق واحد ، أي بيان الحلّية في الشبهة الموضوعيّة ، وذلك لوجود قرائن عديدة فيها :

منها : الأمثلة الواردة في رواية مسعدة فإنّ جميعها من الشبهة الموضوعيّة كما هو واضح.

ومنها : كون مورد بعضها وهى رواية عبدالله بن سنان الجبن المشكوك حلّيته من ناحية الأنفحة التي تعقد اللبن جبناً حيث إنّ وجه ترديد الراوي وتأمّله في أكل الجبن في هذه الرواية هو احتمال وجود الميتة فيه لأنّ الأنفحة التي تعقد اللبن جبناً ربّما كانت تؤخذ في ذلك العصر من الميتة.

منها : التعبير بـ « تعرف » بدل « تعلم » فإنّه يستعمل غالباً في الشبهات الموضوعيّة لأنّ التعريف بمعنى تشخيص المصداق وتعيينه ، بخلاف « تعلم » التي تستعمل في كلا الموردين.

ومنها : كلمة « بعينه » الواردة في رواية عبدالله بن سليمان أيضاً فإنّها أيضاً ظاهرة في الشبهة الموضوعيّة كما مرّ.

ومنها : كلمة « منه » الواردة في رواية عبدالله بن سنان فهى على وزان كلمة « بعينه » كما لا يخفى.

ولو تنزّلنا عن هذه القرائن فإنّ المهمّ في المقام أنّ ما يكون من هذه الروايات تامّة دلالة ـ ليست صالحة من ناحية السند ، وما تكون تامّة من حيث السند لا تكون صالحة من ناحية الدلالة.

٤ ـ حديث السعة :

والمعروف منه في كتب الأعلام « الناس في سعة ما لا يعلمون » ولكنّا لم نظفر به بهذا التعبير في الجوامع الروائيّة بل الوارد فيها تعبيران آخران :

أحدهما : ما ينتهي سنده إلى النوفلي والسكوني عن أبي عبدالله عليه‌السلام : « إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكّين

٤٠