أنوار الأصول - ج ٣

أنوار الأصول - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-15-6
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٢٤

استصحاب بقاء رمضان في يوم الشكّ ، لعدم جريان الاستصحاب بالنسبة إلى كون الغد عيداً ، فلا يمكن إثباته إلاّمن طريق استصحاب بقاء عدم دخول هلال شوّال في يوم الشكّ.

الثالث : وجود الأصل المعارض في موارد خفاء الواسطة دائماً ، لأنّ استصحاب بقاء الرطوبة في الذباب لإثبات نجاسة الثوب مثلاً معارض مع استصحاب بقاء الطهارة في الثوب.

وفيه : أيضاً أنّ الاستصحاب الثاني محكوم للأوّل ، لأنّه من قبيل الأصل المسبّبي في مقابل الأصل السببي ، حيث إنّه بعد جريان استصحاب بقاء الرطوبة لا يبقى شكّ في نجاسة الثواب تعبّداً حتّى تصل النوبة إلى استصحاب طهارته.

فظهر أنّ الوارد من هذه الإشكالات إنّما هو إشكال المحقّق الأصفهاني رحمه‌الله في خصوص المتضايفين وأشباهه.

هذا كلّه في المقام الثالث.

المقام الرابع : الفرق بين مثبتات الاصول والأمارات

المشهور بين المتأخّرين من الاصوليين حجّية مثبتات الأمارات مطلقاً ، فيثبت بالأمارة مؤدّيها وملزومها ولوازمها وملازماتها ولو بالف واسطة ، وهذا بخلاف مثبتات الاصول.

والقول الثاني : ما ذهب إليه بعض أساتذتنا العظام وهو عدم الحجّية مطلقاً في كلتيهما.

والثالث : التفصيل بين الموارد المختلفة ، وهو المختار وسيأتي بيانه وشرحه.

أمّا القول الأوّل فإستدلّ عليه ببيانات أربع :

البيان الأوّل : ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله وهو : « أنّ الأمارة كما تحكي عن المؤدّي ونشير إليه ، كذلك تحكي عن أطرافها من ملزومها ولوازمها وملازماتها ، لأنّ مقتضى اطلاق دليل اعتبارها لزوم تصديقها في حكايتها في جميع ذلك ».

وتوضيحه : أنّ الأمارة تنحلّ إلى حكايات متعدّدة مطابقية والتزامية ، فهى كما تحكي عن المؤدّي بالمطابقة فكذلك تحكي عن أطرافه بالالتزام ( فتخرج في الواقع عن كونها مثبتة على تعبير بعض محشّي الكفاية ).

٣٨١

ويمكن أن يناقش فيه :

أوّلاً : بأنّ كلامه وإن كان صادقاً في مثل خبر الواحد ، لأنّ له الحكاية ، والحكاية عن الشيء حكاية عن لوازمه ( وكذا الإقرار والبيّنة ) ولكنّه لا يصدق في مثل أصالة اليد ، حيث إنّها لا تحكي ولا تخبر عن شيء ، وليس لها لسان حتّى تنحلّ إلى حكايات عديدة.

وثانياً : أنّه يقبل في نفس خبر الواحد أيضاً في الجملة لا بالجملة ، لأنّ انحلاله إلى إخبارات عديدة مبنى على التفات المخبر باللوازم والملازمات ، وأمّا اللوازم التي ليس المخبر عالماً بها ولا متوجّهاً إليها فلا يصحّ أن يكون الإخبار عن الملزوم إخباراً عن تلك اللوازم.

البيان الثاني : أنّ حجّية الأمارة هى من باب أنّها توجب حصول الظنّ نوعاً ، والظنّ بشيء ظنّ بلوازمه.

وفيه : أنّه المبني مخدوش ، لأنّ مناط الحجّية ليس هو حصول الظنّ النوعي ، وإلاّ يلزم حجّية الظنّ مطلقاً ، وهو ـ على الظاهر ـ ممّا لا يلتزم به المستدلّ نفسه.

البيان الثالث : ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله من « أنّ الأمارة إنّما تكون محرزة للمؤدّي وكاشفة عنه كشفاً ناقصاً ، والشارع بأدلّة اعتبارها قد أكمل جهة نقصها ، فصارت الأمارة ببركة اعتبارها كاشفة ومحرزة كالعلم ، وبعد إنكشاف المؤدّى يترتّب عليه جميع ما للمؤدّى من الخواصّ والآثار على قواعد سلسلة العلل والمعلولات واللوازم والملزومات » (١).

أقول : إنّ كلامه هذا أيضاً من آثار مبناه المعروف من أنّ معنى الحجّية جعل صفة المحرزية والكاشفيّة واليقين ، فكأنّ الشارع يقول : أنّ لمفهوم الحجّة قسمين من المصداق : قسم تكويني ، وقسم اعتباري يحتاج إلى جعل واعتبار ممّن بيده الاعتبار ، فبعد جعل الحجّية يصير مصداقاً واقعياً للعلم فيترتّب عليها لوازمها وملازماتها كالعلم التكويني.

ولكن قد مرّ كراراً أنّ صفة اليقين أمر تكويني لا يمكن جعلها في عالم الاعتبار ، وينبغي أن نشير هنا إلى ما أفاد المحقّق العراقي رحمه‌الله في تعليقته على فوائد الاصول ، فإنّه قال : « الطريقيّة بمعنى تتميم الكشف وتماميّة الانكشاف المساق لإلغاء الاحتمال بحقيقته يستحيل أن تناله يد الجعل تشريعاً » (٢).

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٤٨٧ ، طبع جماعة المدرّسين.

(٢) المصدر السابق : ص ٤٨٤ ، طبع جماعة المدرّسين.

٣٨٢

البيان الرابع : ما أفاده بعض الأعاظم في رسائله حيث قال : « أمّا وجه حجّية مثبتات الأمارات فهو أنّ جميع الأمارات الشرعيّة إنّما هى أمارات عقلائيّة أمضاها الشارع ، وليس فيها ما تكون حجّيتها بتأسيس من الشرع كظواهر الألفاظ وقول اللغوي على القول بحجّيته وخبر الثقة ... ومعلوم أنّ بناء العقلاء على العمل بها إنّما هو لأجل إثباتها الواقع لا للتعبّد بالعمل بها ، فإذا ثبت الواقع بها تثبت لوازمه وملزوماته وملازماته بعين الملاك الذي لنفسه فكما أنّ العلم بالشيء موجب للعلم بلوازمه وملزوماته وملازماته مطلقاً فكذلك الوثوق به موجب للوثوق بها ... ولو حاولنا إثبات حجّية الأمارات بالأدلّة النقليّة لما أمكن لنا إثبات حجّية مثبتاتها ، بل ولا لوازمها الشرعيّة إذا كانت مع الواسطة الشرعيّة » (١).

وفيه : أوّلاً : أنّا نمنع الصغرى ، وهى كون جميع الأمارات إمضائيّة ، لأنّ بعض الأمارات كالقرعة لا إشكال في أنّها تأسيسيّة فيما إذا كان هناك واقع في البين ولم تكن القرعة لمجرّد حسم مادّة النزاع ، كما هو كذلك غالباً ، فإنّ المنساق من أدلّة حجّية القرعة في الشرع أنّها كاشفة عن الواقع غالباً أو دائماً إذا اجتمع فيها شرائطها ، فقد ورد في الحديث النبوي : « ليس من قوم تقارعوا ثمّ فوّضوا أمرهم إلى الله إلاّخرج السهم الأصوب » وكذا ما ورد في الدعاء المأثور عند إجراء القرعة : « اللهمّ ربّ السموات السبع أيّهم كان الحقّ له فأدّه إليه » وفي رواية اخرى : « اللهمّ أنت الله لا إله إلاّ أنت عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون فبيّن لنا أمر هذا المولود » وكذا ما ورد في قضيّة يونس وقضيّة عبدالمطّلب وغير ذلك من القرائن التي يغني تظافرها عن ملاحظة إسنادها ، فمن جميع ذلك يعلم أنّ القرعة أمارة شرعيّة حيث لا أمارة ، ويؤيّده ما ورد في أمر الاستخارة فإنّها نوع من القرعة يطلب منها الكشف عن المصالح الواقعيّة لا مجرّد رفع الحيرة (٢).

إن قلت : إذا كانت القرعة من الأمارات فلابدّ من تقديمها على الاصول العمليّة مع أنّه لا يقول به أحد.

قلنا : المستفاد من ظواهر أدلّة القرعة أو صريحها أنّ كاشفيتها منحصرة بما إذا أشكل الأمر وسدّت أبواب الحلّ وطرق الفتح ، وهذا لا يصدق إلاّفيما إذا لم توجد في البين أمارة ولا

__________________

(١) الرسائل : ج ١ ، ص ١٧٨.

(٢) وإن شئت توضيح الحال في جميع ذلك فارجع إلى القواعد الفقهيّة ، القاعدة السادسة ( قاعدة القرعة ).

٣٨٣

أصل ، فالقرعة أمارة تكشف عن الواقع حيث لا أمارة ولا أصل.

هذا كلّه في القرعة.

وهكذا سوق المسلمين ، فهو أيضاً لا أثر له عند العقلاء ، بل هو أمارة إخترعها الشارع المقدّس ، وجعلها كاشفة عن طهارة ما يشتريه المكلّف من سوق المسلمين أو حلّيته من الذبائح وشبهها.

ثانياً : لو سلّمنا وجود جميع الأمارات بين العقلاء لكنّا لا نقبل إمضاء جميعها من جانب الشارع بل فيه تفصيل سيأتي توضيحه عند بيان المختار.

هذا كلّه في القول الأوّل.

أمّا القول الثاني : فهو ما ذهب إليه بعض الأعلام في مصباح الاصول من عدم الفرق بين الأمارات والاستصحاب وعدم حجّية المثبتات في المقامين ، لأنّ عمدة الدليل على الفرق في نظره إنّما هو ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله ( من أنّ العلم الوجداني شيء يقتضي ترتّب جميع الآثار حتّى ما كان منها بتوسّط اللوازم العقليّة أو العادية ولو بالف واسطة ، فكذا العلم التعبّدي ، بخلاف الاستصحاب ، فإنّ المجعول فيه هو الجري العملي على طبق اليقين السابق ، وحيث إنّ اللازم لم يكن متيقّناً فلا وجه للتعبّد به ) ولكنّه أجاب عنه بأنّ « ما ذكره غير تامّ لأنّ العلم الوجداني إنّما يقتضي ذلك لأنّه من العلم بالملزوم يتولّد العلم باللازم بعد الالتفات إلى الملازمة ، فترتّب آثار الملزوم ليس من جهة العلم بالملزوم ، بل من جهة العلم بنفس اللازم المتولّد من العلم بالملزوم ، ولذا يقولون : أنّ العلم بالنتيجة يتولّد من العلم بالصغرى والعلم بالكبرى ... بخلاف العلم التعبّدي بالمجعول ، فإنّه لا يتولّد منه العلم الوجداني باللازم ـ وهو واضح ـ ولا العلم التعبّدي به لأنّ العلم التعبّدي تابع لدليل التعبّد ، وهو مختصّ بالملزوم دون لازمه ، لما عرفت من أنّ المخبر إنّما أخبر عنه لا عن لازمه ».

ثمّ استثنى باب الأخبار وقال : « نعم تكون مثبتات الأمارة حجّه في باب الأخبار فقط لأجل قيام السيرة القطعيّة من العقلاء على ترتيب اللوازم على الأخبار بالملزوم ولو مع الوسائط الكثيرة ، ففي مثل الإقرار والبيّنة وخبر العادل يترتّب جميع الآثار ولو كانت بوساطة

٣٨٤

اللوازم العقليّة أو العادية » (١).

ولكن يرد عليه أيضاً : أنّ كلامه مبنى على انحصار وجوه الفرق بين مثبتات الأمارات والاصول فيما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله ، وهو ممنوع لما مرّ من الوجوه المختلفة ، وسيأتي عند بيان المختار مزيد توضيح للمقام.

أمّا القول الثالث : ( وهو المختار ) فهو التفصيل بين اللوازم الذاتية للأمارة فتكون حجّية ، وبين اللوازم الإتّفاقية فلا تكون حجّة ، ولإثباته لابدّ من ذكر مقدّمة في بيان الفرق بين الأمارة والأصل فنقول.

المشهور بينهم أنّ الفرق بين الأمارة والأصل أنّ الجهل بالواقع والشكّ فيه مأخوذ في موضوع الأصل دون الأمارة فإنّ الشكّ إنّما هو موردها لا موضوعها.

ولكنّه ممّا لا وجه ولا أصل له ، والصحيح أنّ الجهل بالواقع والشكّ فيه أخذ في كليهما ، والوجه في ذلك ما جاء في بعض الكلمات من « أنّ الاهمال بحسب مقام الثبوت غير معقول فلا محالة تكون حجّية الأمارات إمّا مطلقة بالنسبة إلى العالم والجاهل ، أو مقيّدة بالعالم والجاهل ، أو مختصّة بالجاهل ، ولا مجال للالتزام بالأوّل والثاني فإنّه لا يعقل كون العمل بالأمارة واجباً على العالم بالواقع فبقى الوجه الأخير ، وهو كون الأمارة مختصّة بالجاهل وهو المطلوب ( هذا بالنسبة إلى مقام الثبوت ).

مضافاً إلى أنّه في مقام الإثبات أيضاً مقيّد به في لسان بعض الأدلّة كقوله تعالى : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ ) » (٢) ( وقد استدلّ القوم بالآية في مباحث حجّية خبر الواحد تارةً في مباحث الاجتهاد والتقليد اخرى ).

والصحيح في الفرق بينهما أنّ للأمارة كاشفية عن الواقع وإن كان كشفاً ظنّياً غير تامّ ، بخلاف الأصل فليس فيه كشف عن الواقع أصلاً ، ولا فرق في ذلك بين أن نأخذ الأمارة والاصول من الشارع المقدّس أو من بناء العقلاء ، فإنّ لهم أيضاً أمارات واصول ، بل الأمارات الموجودة في الشرع متّخذة منهم غالباً كما عرفت آنفاً ، وكذا الاصول الأربعة فإنّ جميعها موجودة بين العقلاء من أهل العرف. ومنها الاستصحاب فإنّهم يجرون الاستصحاب في

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ١٥٥ ، طبع مطبعة النجف.

(٢) المصدر السابق : ص ١٥٢.

٣٨٥

القوانين والمناصب كالوكالة ومقام القضاء والولاية وغيرها بعنوان الأصل لا الأمارة ، فهم ما دام لم يصل بأيديهم حكم جديد يعملون بما سبق.

إذا عرفت هذا فنقول : الحقّ في المسألة هو التفصيل بين اللوازم الذاتيّة واللوازم الاتّفاقية في باب الأمارات ، وإنّ الأولى تثبت بالأمارة دون الثانية من دون فرق بين ما كانت مخترعة بيد الشارع وما كان عليه سيرة العقلاء ، ومن دون فرق بين أن تكون الأمارة من الأخباريات أو لا ، فإذا ثبت بالقرعة أنّ هذا المولود لزيد مثلاً فلا إشكال في ترتّب لوازمه الذاتيّة عليه من كون فلان خاله وكون فلان عمّه ، مع أنّ القرعة ليست من الأخباريّات ، بخلاف اللوازم العرضية الإتّفاقية ، كما إذا أثبتنا بالبيّنة أو بمقتضى اليد أنّ هذه الدار لزيد وعلمنا من الخارج أنّ دار زيد كانت قبال القبلة ، فلا يثبت بهما جهة القبلة ، مع أنّ خبر الواحد من الأمارات الموجودة فيما بين العقلاء ، ويكون من الأخباريات أيضاً ، وهكذا إذا قامت أمارة كأذان العارف الثقة على دخول الوقت وعلمنا من الخارج وجود ملازمة اتّفاقية بين جهة القبلة وبين وقوع الشمس بين العينين حين دخول الوقت ، في مكان خاصّ ، فلا يمكن إثبات جهة القبلة من ناحية إثبات دخول الوقت ، وكذا العكس ، فإذا قامت أمارة على ثبوت القبلة ( كقبور المؤمنين ) فلا يمكن إثبات دخول الوقت من مواجهة القبلة في بعض الأمكنة لملازمة اتّفاقية بينهما.

التنبيه التاسع : بعض تطبيقات الأصل المثبت

وهو في الواقع تتمّة للتنبيه السابق وتكميل له ، والبحث فيه يقع في ثلاثة امور :

١ ـ في أنّه لا فرق في اللازم العادي أو العقلي بين كونه مبايناً مع المستصحب رأساً وبين كونه متّحداً معه وجوداً بحيث لا يتغايران إلاّمفهوماً ، فالأصل مثبت في كليهما.

ولتوضيح المقام والتحقيق في البحث لابدّ من الإشارة إلى الأقسام المختلفة للكلّي ، فنقول :

تارةً يكون الكلّي منتزعاً من مرتبة ذات الشيء كما في الحيوان والإنسان والناطق ونحو ذلك.

٣٨٦

واخرى ينتزع من الشيء بملاحظة إتّصافه بأمر ليس بحذائه شيء في الخارج ، ويكون من الخارج المحمول لا بضميمة شيء كوصف الممكن للإنسان.

وثالثاً : ينتزع من الشيء بملاحظة اتّصافه بعرض من الأعراض بحيث يكون من الامور الحقيقيّة المتأصّلة التي بحذائها شيء في الخارج غير معروضها ، وإن كان وجوده في ضمن وجود معروضه وكان من المحمول بالضميمة ، كما في الأسود والأبيض والقاعد والقائم ونحو ذلك.

هذه أقسام ثلاثة للكلّي.

ثمّ نقول : قد يتوهّم أنّه لا يجوز استصحاب الفرد وإجراء أحكام الكلّي عليه في جميع الأقسام الثلاثة حتّى القسم الأوّل الذي يكون من الذاتيات ، لأنّ حيثية زيدٍ المستصحب مثلاً غير حيثية كونه إنساناً ، فيكون الجميع من الأصل المثبت.

وقد يقال : بأنّ الاستصحاب مثبت في الأخيرين لا في الأوّل ، لاتّحاد الكلّي فيه مع المستصحب اتّحاداً ذاتياً ، فأثر الكلّي أثر للمستصحب حقيقة.

ويمكن أن يقال بأنّه مثبت في خصوص الأخير ، لأنّ الأثر في كلّ واحد من القسمين الأوّلين يكون لنفس المستصحب واقعاً ، حيث لا يكون بحذاء ذلك العنوان الكلّي ( المتّحد مع المستصحب وجوداً ) شيء آخر في الخارج غير المستصحب ، بخلاف القسم الثالث لأنّ الأثر فيه ليس لنفس المستصحب واقعاً بل لما هو من اعراضه وهو السواد والبياض والقيام والقعود ونحو ذلك.

أقول : أوّلاً : أنّه لا فائدة في هذا النزاع لأنّه لا حاجة في إثبات آثار الكلّي في هذه الأقسام إلى استصحاب الفرد بعد ما كان نفس الكلّي أيضاً متيقّناً سابقاً ، لأنّ استصحاب نفس الكلّي حينئذٍ يكون جارياً ومغنياً عن استصحاب الفرد.

ثانياً : لو أغمضنا عن ذلك فإنّ الصحيح هو القول الثاني ، أي عدم كون الاستصحاب مثبتاً في الأوّل دون الأخيرين ، لأنّ الكلّي في القسم الأوّل ليس في الواقع من اللوازم العقليّة للمستصحب ، لكونه منتزعاً من مقام ذاته ويكون متّحداً معه ذاتاً ، بخلاف الأخيرين.

٢ ـ أنّه لا فرق في الأثر المستصحب أو المترتّب على المستصحب بين أن يكون حكماً تكليفياً أو حكماً وضعيّاً ، وبتعبير آخر : بين أن يكون حكماً مجعولاً مستقلاً أو مجعولاً تبعاً كالشرطيّة والمانعيّة.

٣٨٧

قد يقال : أنّ الأحكام الوضعيّة على ثلاثة أقسام :

قسم منها ما يقع تحت يد الجعل ذاتاً واستقلالاً نظير الزوجيّة والملكيّة.

وقسم منها ما يقع تحت يد الجعل بمنشأ انتزاعه كالجزئيّة والشرطيّة للمكلّف به ، فإنّ شرطيّة الطهارة أو مانعية النجاسة مجعول تبعي وأمره بيد الشارع وضعاً ورفعاً ، لكن من طريق وضع منشأ انتزاعه ورفعه.

وقسم ثالث ما لا يكون مجعولاً للشارع لا نفسه ولا منشأ انتزاعه ، لكونه من الامور التكوينيّة كشرائط التكليف ، مثل دلوك الشمس للصلاة وغيره ممّا يكون داعياً وباعثاً للمولى على الحكم ( ولكن قد ذكرنا سابقاً أنّ شرائط التكليف أيضاً ترجع إلى قيود الموضوع فتكن مجعولةً ).

أمّا القسم الأوّل فقال المحقّق الخراساني رحمه‌الله بعدم كون الاستصحاب فيه مثبتاً ، وأمّا القسم الثاني فقد يتوهّم كون الاستصحاب فيه مثبتاً لكونه من الامور الانتزاعيّة العقليّة لا الآثار الشرعيّة ، ولكن أجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه‌الله بأنّه أيضاً مجعول للشارع تبعاً بجعل منشأ انتزاعه فأمره أيضاً بيد الشارع وضعاً ورفعاً ، فلا يكون الاستصحاب فيه مثبتاً ، وأمّا القسم الثالث فمن الواضح أنّ الاستصحاب فيه مثبت.

أقول : أوّلاً : أنّ هذا النزاع أيضاً ممّا لا طائل تحته ، لأنّه لا حاجة إلى استصحاب شرطيّة الطهارة مثلاً حتّى يقال بأنّه مثبت ، بل يكفي استصحاب حكم تكليفي يوجد في جنب هذا الحكم الوضعي ، وهو مفاد قوله تعالى ( إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا ... ) فيكفي استصحاب وجوب الوضوء عن استصحاب شرطيّة الوضوء للصلاة.

وثانياً : أنّ معنى الأصل المثبت في كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله في المقام نطاقه أوسع ممّا مرّ ، حيث إنّه في ما سبق كان عبارة عن ترتيب الآثار الشرعيّة بوساطة الآثار العقليّة أو العادية على المستصحب ، وفي المقام يعمّ ما إذا كان نفس المستصحب أو الأثر المترتّب عليه بلا واسطة أمراً عقيّاً ولم يكن له أثر شرعي ، وبهذا يندفع ما أورده المحقّق الأصفهاني رحمه‌الله عليه من هذه الناحية.

٣ ـ في أنّه لا فرق أيضاً في المستصحب أو المترتّب على المستصحب بين أن يكون هو ثبوت حكم ووجوده ، أو نفيه وعدمه.

٣٨٨

فقد يقال : إذا كان المستصحب أو الأثر المترتّب عليه عدم الحكم كان الاستصحاب مثبتاً ، لأنّ العدم ليس ممّا يقع تحت يد الجعل ، إمّا بلحاظ نفسه فواضح ، وإمّا بلحاظ آثاره من الثواب أو العقاب فلأنّها من الآثار العقليّة.

ولكن أجاب عنه ( بحقٍّ ) المحقّق الخراساني : أوّلاً : بأنّ نفي الأثر وعدمه أمره بيد الشارع كأمر ثبوته ووجوده ، وثانياً : بأنّ عدم اطلاق الحكم على نفي الأثر غير ضائر ، إذ ليس هناك ما دلّ على اعتباره بعد صدق نقض اليقين بالشكّ على رفع اليد عنه كصدقه على رفع اليد عن ثبوته ووجوده.

وعلى هذا فيكون استصحاب البراءة المتيقّنة حال الصغر أو الجنون جارياً ، ولا يرد عليه ما أورده الشيخ الأعظم رحمه‌الله من أنّ عدم استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللوازم المجعولة الشرعيّة ، لأنّ عدم استحقاق العقوبة وإن لم يكن من اللوازم المجعولة الشرعيّة لكن عدم المنع من الفعل ( أو عدم التكليف ) بنفسه أمر قابل للاستصحاب من دون حاجة إلى ترتّب أثر مجعول عليه ، وذلك لما عرفت آنفاً من عدم التفاوت في المستصحب أو المترتّب على المستصحب بين أن يكون هو ثبوت الحكم ووجوده ، أو عدمه ونفيه ، فيترتّب عليه أثره القهري وهو عدم ترتّب العقاب لأنّه وإن كان لازماً عقليّاً له ، ولكنّه لازم مطلق لعدم المنع ولو في الظاهر ، وسيأتي في التنبيه اللاحق أنّ اللازم العقلي أو العادي إنّما لا يثبت بالاستصحاب إذا كان لازماً للوجود الواقعي ، وأمّا إذا كان لازماً للوجود الأعمّ من الظاهري والواقعي فهذا ممّا يثبت به بلا كلام.

التنبيه العاشر : اللازم المطلق

في أنّ ما تقدّم من عدم ترتّب اللازم العادي أو العقلي ولا الأثر الشرعي المترتّب عليه إنّما هو اللازم العادي أو العقلي للمستصحب واقعاً لا اللازم المطلق له ولو في الظاهر ( أي سواء كان لوجوده الواقعي أو الظاهري ) فليس الاستصحاب مثبتاً بالنسبة إليه ، نظير ترتّب الإجزاء على الطهارة الاستصحابيّة ، حيث إنّ شرط الصّلاة هو الأعمّ من الطهارة الواقعيّة والظاهريّة فيترتّب عليها الإجزاء وإن كان من آثارها العقليّة ، ونظير ترتّب عدم العقاب على

٣٨٩

استصحاب عدم التكليف الذي مرّ ذكره آنفاً ، وهذا من القضايا التي قياساتها معها ، فإنّ الأثر العقلي إذا كان أثراً للحكم الظاهري والواقعي معاً ، والمفروض ثبوت موضوعه وهو الحكم الظاهري هنا ، فيترتّب عليه بلا إشكال.

ثمّ إنّ هيهنا فروعاً فقهيّة تذكر عادةً في ذيل الأصل المثبت ، ولكنّا تركنا البحث عنها إلى محلّها في الفقه.

التنبيه الحادي عشر : لزوم كون المستصحب حكماً شرعيّاً أو ذا حكم شرعي ولو بقاءً

لا إشكال ولا كلام في أنّه لا بدّ أن يكون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً ذا حكم شرعي كما أشرنا إليه سابقاً ، لأنّه إن لم يكن كذلك كان التعبّد به من الشارع لغواً فلا معنى للحكم باستصحاب بقاء تلك القطعة من الحجر مثلاً المطروحة في أرض كذا أو ذلك الحيوان الموجود في الأجمّة.

هذا ـ ولكنّه لا يخفى أنّه يكفي كون المستصحب كذلك ولو بقاءً ولا يعتبر كونه حكماً شرعياً أو ذا حكم شرعي عند الحدوث فلو كانت اليد نجسةً قبل الظهر مثلاً ولم يكن لهذه النجاسة أثر شرعي لعدم وجوب الصّلاة مثلاً في ذلك الوقت ولا شيء آخر ممّا يعتبر فيه الطهارة ثمّ شككنا بعد الظهر في طهارتها كان استصحاب النجاسة جارياً بلا ريب لكونه موضوعاً ذا أثر شرعي في هذا الوقت وهو عدم جواز الصّلاة بها.

والوجه في ذلك أنّ الاستصحاب تعبّد من جانب الشارع في الآن اللاحق ، فيكفي وجود الأثر في هذا الآن ، فيشمله اطلاق « لا تنقض » ، لصدق نقض اليقين بالشكّ على رفع اليد عمّا تيقّن به مطلقاً ولو كان حكماً أو موضوعاً ذا حكم بقاء لا حدوثاً.

ولذلك نقول بحجّية استصحاب العدم الأزلي في الشبهات الحكميّة فيما إذا كان الشكّ في أصل جعل حكم من جانب الشارع وعدمه ، مع أنّه لم يكن للمستصحب ( وهو عدم الحكم الفلاني ) أثراً في الأزل.

إن قلت : العدم الأزلي لا يتصور في الأحكام ، لإمكان وجودها في علم الله على نهج

٣٩٠

القضايا الحقيقيّة ، فلا يقين سابق بهذا العدم حتّى يمكن استصحابه.

قلنا : أوّلاً : إنشاء الأحكام كذلك في الأزل لغو لا يصدر من الشارع الحكيم.

ثانياً : وجود الأحكام على نهج القضايا الإنشائية الحقيقيّة في علم الله من الأزل لا معنى محصّ له ، لأنّ الإنشاء أمر حادث ووعاؤه الذهن ، فلابدّ فيه من وجود ذهن نبوي أو ولوي ، والذي كان الله تبارك وتعالى عالماً به إنّما هو صدور الإنشاء من جانبه فيما بعد ، لا أنّه صدر.

ثالثاً : يمكن دعوى الإجماع على عدم وجود هذه الأحكام حتّى بصورها الإنشائيّة في الأزل ، بل قبل بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّ الإجماع حاصل على نزول الأحكام تدريجياً ، والقول بنزول القرآن عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّتين : مرّة دفعيّاً ومرّة تدريجيّاً أيضاً لا ينافي ما ذكرنا فإنّه على كلّ حال أمر حادث بعد البعثة.

بقي هنا شيء :

وهو أنّه قد لا يمكن جريان استصحاب العدم الأزلي ، لا لعدم تصوّره ، بل لإشكال آخر ، وذلك في الشبهات الموضوعيّة فيما إذا كانت من قبيل العدم النعتي ، أي فيما إذا كان الوصف قائماً بالغير بنحو كان الناقصة كقرشية المرأة ، فلا يمكن استصحاب عدم قرشيتها ، وعلى نحو كلّي لا يمكن جريان الاستصحاب في مفاد ليس الناقصة ( وإن كان المعروف بين جماعة من الأعلام جريانه ) وذلك لما قد قرّر في محلّه من اعتبار وحدة القضيّة المتيقّنة والقضية المشكوكة ، وهى ليست حاصلة في المقام ، لأنّ القضية المتيقّنة فيه عبارة عن القضيّة السلبة بانتفاء الموضوع ، والقضيّة المشكوكة سالبة بانتفاء المحمول ، أي عدم قرشية هذه المرأة ، ولا ريب في مغايرة إحدى القضيتين الاخرى في نظر العرف.

أضف إلى ذلك أنّ القضيّة السالبة بانتفاء الموضوع أمر غير معقول عند العرف ، كما لا يخفى على الخبير ، فلا يمكن عند العرف أن يقال : إنّ هذه المرأة لم تكن قرشية حين عدم وجودها فلتكن في الحال كذلك.

وهذا في الواقع يرجع إلى عدم وجود يقين سابق عرفاً ، فأركان الاستصحاب حينئذٍ غير تامّة من جهتين.

٣٩١

التنبيه الثاني عشر : استصحاب تأخّر الحادث

لا إشكال في جريان الاستصحاب فيما إذا شكّ في أصل حدوث الحادث ، حكماً كان أو موضوعاً ، وأمّا إذا شكّ في تقدّمه وتأخّره بعد العلم بتحقّق أصله كما إذا علمنا بموت زيد ولا نعلم هل هو مات يوم الخميس أو يوم الجمعة؟ وفرضنا ترتّب أثر شرعي على موته في يوم الجمعة أو يوم الخميس بنذر وشبهه فهل يجري استصحاب عدم موته إلى يوم الجمعة ، أي عدم تقدّمه على يوم الجمعة ، أو عدم تأخّره عن يوم الخميس ، أو لا؟

وقع الكلام في مقامين :

المقام الأوّل : فيما إذا لوحظ تقدّمه وتأخّره بالنسبة إلى أجزاء الزمان كما في المثال المذكور.

المقام الثاني : فيما إذا لوحظ تقدّمه وتأخّره بالنسبة إلى حادث آخر قد علم بحدوثه أيضاً ، كما إذا علم بموت متوارثين على التعاقب ولم يعرف المتقدّم منهما على المتأخّر ، أو علم بحصول ملاقاة اليد المتنجّسة بالماء وحصول الكرّية على التعاقب ولم يعلم المتقدّم منهما ، أو علم بموت الأب المسلم وإسلام الولد الكافر ولم يعرف المتقدّم منهما أيضاً.

أمّا المقام الأوّل : فلا شكّ في جريان استصحاب عدم تحقّق الحادث في الزمان الأوّل وترتيب آثار عدمه فقط ، وأمّا آثار تأخّره عن الزمان الأوّل وآثار حدوثه في الزمان الثاني ( يوم الجمعة في المثال ) فلا ، لكونه مثبتاً بالنسبة إلى عنوان التأخّر والحدوث ، فلابدّ في التخلّص عنه إمّا دعوى خفاء الواسطة ، أو دعوى أنّه من باب المتضايفين ، أو دعوى أنّ الحدوث أمر مركّب من عدم الحادث في زمان ووجوده في زمان بعده ، والقيد الثاني حاصل بالوجدان لأنّ المفروض حصول الموت في الحال ( أي يوم الجمعة في المثال ) والقيد الأوّل ثابت بالأصل ، فحدوث الموت يوم الجمعة يثبت بضميمة أصل إلى وجدان.

ولكن الإنصاف أنّ كلاً من هذه الدعاوي في غير محلّه ، أمّا الاولى فواضحة كالثانية ، وأمّا الثالثة فلأنّ الحدوث أمر بسيط ينتزع من الوجود في زمان وعدم الوجود في زمان آخر ، نظير الفوقية التي تنتزع من كون هذا في هذا المكان وذاك في ذاك المكان لا إنّه أمر مركّب حتّى يمكن إثبات أحد جزئيه بالوجدان والآخر بالأصل.

أمّا المقام الثاني : فالبحث فيه بنفسه يقع في موضعين :

الموضع الأوّل : ما إذا كان كلّ من الحادثين مجهول التاريخ.

٣٩٢

الموضع الثاني : ما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ والآخر مجهول التاريخ.

أمّا الموضع الأوّل فله أربعة أقسام :

١ ـ ما إذا كان الأثر الشرعي لتقدّم أحدهما أو لتأخّره أو لتقارنه بنحو مفاد كان التامّة.

٢ ـ ما إذا كان الأثر الشرعي للحادث المتّصف بالتقدّم أو التأخّر أو التقارن بنحو مفاد كان الناقصة.

٣ ـ ما إذا كان الأثر الشرعي لعدم تقدّم أحدهما على الآخر أو لتأخّره أو لتقارنه بنحو مفاد ليس التامّة.

٤ ـ ما إذا كان الأثر الشرعي لعدم الحادث المتّصف بالتقدّم أو التأخّر أو التقارن بنحو مفاد ليس الناقصة ، كما إذا قيل : لم يكن الإبن متّصفاً بالإسلام في زمن موت الأب.

وهيهنا قسم خامس ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله في بعض كلماته ، وهو ما إذا كان الأثر للعدم النعتي ، أي للحادث المتّصف بالعدم في زمان حدوث الآخر بنحو مفاد كان الناقصة ، ولكن يعلم حاله بالدقّة في أبحاث الأربعة المزبورة.

أمّا القسم الأوّل : فلا إشكال في جريان استصحاب العدم ( أي عدم التقدّم إذا كان الأثر لتقدّم أحدهما ، وهكذا بالنسبة إلى التأخّر والتقارن ) بلا معارض ، لتمامية أركان الاستصحاب فيه ، نعم إذا كان الأثر لتقدّم كلّ منهما أو لتقارن كلّ منهما أو لتأخّر كلّ منهما أو كان الأثر لأحد الحادثين بجميع أنحائه من التقدّم والتأخّر والتقارن كان الاستصحاب معارضاً كما لا يخفى.

أمّا القسم الثاني : فلا يجري فيه الاستصحاب لعدم يقين سابق بقضيّة « كان الإبن كافراً عند موت أبيه المسلم ». مثلاً كما هو واضح.

وأمّا القسم الثالث فيظهر حكمه من القسم الأوّل ، لأنّ الأثر مترتّب على عدم التقدّم والتأخّر والتقارن ، كما أنّ العدم النعتي أيضاً يظهر حكمه من القسم الثاني ، لكون الأثر فيه أيضاً مترتّباً بنحو مفاد كان الناقصة ، فلا يقين سابق فيه فلا يجري الاستصحاب.

إنّما الإشكال والكلام في القسم الرابع ، وهو مفاد ليس الناقصة ، والمراد منه أن يكون الأثر مترتّباً مثلاً على عدم كون الماء كرّاً في زمن الملاقاة وعلى عدم كون النجس ملاقياً للماء حتّى صار كرّاً ، فوقع الخلاف فيه بين الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني رحمه‌الله ، فقال الشيخ الأعظم رحمه‌الله بأنّ الاستصحاب جارٍ فيه ولكنّه يتساقط للمعارضة فيما إذا كان الأثر موجوداً في

٣٩٣

كلا الطرفين ، أمّا إذا كان الأثر مفروضاً في أحدهما فلا يتساقط ، والمحقّق الخراساني ذهب إلى عدم جريانه رأساً لعدم إندراجه تحت أدلّة الاستصحاب ولو كان الأثر مفروضاً في طرف واحد دون الآخر ، وذلك لعدم إحراز إتّصال زمان شكّه بزمان يقينه.

توضيح ذلك : إنّه لا ريب في أنّ المستفاد من قول الشارع « لا تنقض اليقين بالشكّ » لزوم إتّصال زمان اليقين بالشكّ ، فلو إنفصل أحدهما عن الآخر لم يشمله هذا الاطلاق ، وإذ قد عرفت ذلك فلنرجع إلى ما نحن بصدده فنقول : المفروض أنّ الماء لم يكن كرّاً يوم الجمعة ولم يلاق نجساً ، ثمّ علمنا بحدوث أحدهما إجمالاً في يوم السبت والآخر في يوم الأحد وإجتمعا في نهاية ذاك اليوم ، فلو قلنا أنّ الماء لم يكن كرّاً في زمن الملاقاة إحتمل في ذلك احتمالين : أحدهما أن يكون زمن الملاقاة في متن الواقع يوم السبت ، والثاني ، أن يكون يوم الأحد ، فلو كان زمن الملاقاة في الواقع يوم السبت كان متّصلاً بيوم الجمعة فتمّ إتّصال زمان اليقين بالشكّ ، وأمّا لو كان زمن الملاقاة في الواقع يوم الأحد كان منفصلاً عن زمن اليقين ، لإنفصال يوم الأحد عن يوم الجمعة ، وحيث لا نعلم أنّ الواقع أي واحد من الاحتمالين فتكون المسألة من الشبهات المصداقيّة لحديث « لا تنقض ».

وقد إستشكل المحقّق الخراساني رحمه‌الله على نفسه بأنّه لا شبهة في إتّصال مجموع الزمانين وفي مثالنا يوم السبت والأحد بذلك الآن الذي هو قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما ، وأنّ مجموع الزمانين هو زمان الشكّ في حدوث الكرّية مثلاً فكيف يقال بعدم إحراز اتّصال زمان شكّه بزمان يقينه؟

وأجاب عنه بما حاصله : أنّ هذا صحيح إذا لوحظت الكرّية بالنسبة إلى أجزاء الزمان فيستصحب عدم الكرّية من زمان اليقين به وهو يوم الجمعة إلى آخر الأحد بلا مانع عنه ، وأمّا إذا لوحظ بالنسبة إلى الملاقاة وكان ظرف وجودها أحد الزمانين ( السبت أو الأحد ، لا كليهما ) فلا شبهة في عدم إحراز إتّصال زمانه بزمان اليقين.

أقول : الحقّ مع ذلك كلّه مع الشيخ الأعظم رحمه‌الله كما إعترف به كثير من المحقّقين الذين جاؤوا بعد المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، وذلك لوقوع الخلط في كلامه بين عدم ترتّب الأثر في زمان وبين عدم الشكّ في ذلك الزمان ، حيث لا ريب في المقام في أنّ كلاً من السبت والأحد يوم الشكّ ، إلاّ أنّ في أحدهما وهو يوم السبت لا يترتّب أثر شرعي على عدم الكرّية في فرض كون

٣٩٤

الملاقاة يوم الأحد في الواقع ، بل الأثر يترتّب على عدم الكرّية حين الملاقاة فقط.

وببيان آخر : أنّ زمان الملاقاة ظرف للمستصحب ( عدم وقوع الكرّية حين الملاقاة ) وليس قيداً له ، كما أنّه مقتضى اعتبار وحدة القضيّة المشكوكة والقضيّة المتيقّنة ، لأنّه لا ريب في أنّ الزمان في القضية المتيقّنة ظرف لا قيد ، فلتكن في المشكوكة أيضاً كذلك.

وبعبارة اخرى : كما أنّا نقول : لم يكن الماء كرّاً قطعاً يوم الجمعة ( ويوم الجمعة ظرف له ) كذلك نقول : وقع الشكّ في أنّه هل صار كرّاً يوم السبت ويوم الأحد أو لا؟ غاية الأمر أنّ يوم الأحد في مفروض الكلام يوم الملاقاة فهو أيضاً ظرف فاتّحدت القضيتان واتّصلتا.

وأجاب المحقّق النائيني رحمه‌الله عن إشكال المحقّق الخراساني رحمه‌الله بوجه آخر وحاصله : أنّ الشكّ واليقين من الصفات النفسانيّة الوجدانيّة ، لا يتطرّق إليها الشكّ ، فإنّه لا معنى للشكّ في أنّ له يقين أم لا ، أو في أنّ له شكّ أم لا ، ونحن نجد بوجداننا أنّه لا انفصال بين الشكّ واليقين في المقام لأنّ انفصال الشكّ عن اليقين لا يمكن إلاّبتخلّل يقين يضادّه ، وهو مفقود في المقام (١) ( انتهى ملخّصاً ).

ولكن يرد عليه : أنّ الظاهر أنّ مراد المحقّق الخراساني من الشكّ واليقين إنّما هو المشكوك والمتيقّن الخارجيين ، ولا شبهة في تخلّل يوم السبت مثلاً بين الجمعة والأحد في المثال المذكور ، ومن الواضح أنّه يمكن تصوّر الشبهة المصداقيّة في الامور الخارجيّة.

بقي هنا شيء :

وهو ذكر المثال لما إذا انفصل زمان الشكّ عن زمان اليقين وكان المورد من قبيل الشبهة المصداقيّة للمخصّص ، فنذكر هنا مثالين :

أحدهما : ما جاء في كلمات المحقّق النراقي رحمه‌الله وأشار إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله في بعض كلماته في المقام ، وهو ما إذا علمنا بعدم وجوب الجلوس قبل الظهر ، ثمّ علمنا بوجوبه بعد الظهر ، ثمّ شككنا في وجوبه عند غروب الشمس ، فلا يمكن إجراء استصحاب عدم وجوب الجلوس الثابت قبل الظهر ، لانفصال زمان الشكّ في الوجوب عن زومان اليقين بعدمه ، بتخلّل زمان

__________________

(١) راجع فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٥١٠ ـ ٥١١ ، طبع جماعة المدرّسين.

٣٩٥

اليقين بالوجوب ، وقد ذكر هذا المثال المحقّق النراقي رحمه‌الله في كلامه عند الاستدلال لعدم جواز إجراء الاستصحاب في الشبهات الحكميّة.

ثانيهما : ما قد يكون في أطراف العلم الإجمالي بعد العلم التفصيلي ، كما إذا كانت في البين ذبيحة وميتة ، ثمّ اختلطا وإشتبه الأمر علينا فلا نعلم أيّتهما ذبيحة وأيّتهما ميتة؟ فلا يمكن إجراء استصحاب عدم التذكية في كلّ واحد منهما ، لا لوجود العلم الإجمالي بأنّ أحدهما مذكّى ، لأنّ العلم الإجمالي يمنع عن جريان الأصل في أطرافه إذا إستلزم مخالفة عمليّة ، ولا يخفى أنّه لا يلزم من إجراء استصحاب عدم التذكية في كلا الطرفين مخالفة عملية ، بل الإشكال في انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين ، حيث إنّ زمان اليقين بعدم التذكية في كليهما إنّما هو زمان حياتهما ، وزمان الشكّ هو بعد الاختلاط وبعد فصل اليقين بصيرورة أحدهما مذكّى وصيرورة الآخر ميتة.

هذا كلّه في المقام الأوّل ، وهو ما إذا كان كلّ من الحادثين مجهول التاريخ.

أمّا الموضع الثاني : ( وهو ما إذا كان أحدهما مجهول التاريخ والآخر معلوم التاريخ ، كما إذا علمنا في المثال السابق بوقوع الملاقاة في يوم الأحد ، ولا نعلم أنّ الكرّية هل وقعت يوم السبت حتّى لا تؤثّر الملاقاة في نجاسة الماء أو وقعت بعد الأحد حتّى يكون الماء نجساً؟ ) فيجري فيه أيضاً الأقسام الخمسة المذكورة في المقام الأوّل ، كما لا كلام في أربعة منها هنا أيضاً ، بل إنّما الكلام والإشكال في مفاد ليس الناقصة ( والمراد منه ـ كما أشرنا سابقاً ـ ما إذا كان الأثر مترتّباً مثلاً على عدم كون الماء كرّاً في زمن الملاقاة وعلى عدم كون النجس ملاقياً للماء إلى أن صار كرّاً ). فقد حكم الشيخ الأعظم رحمه‌الله فيه بجريان استصحاب العدم في خصوص مجهول التاريخ دون معلوم التاريخ ، ومقتضى ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله عدم جريانه فيهما لما عرفت من شبهة انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين فيه أيضاً ، كما أشار إليه في بعض كلماته في المقام ، لأنّ المفروض أنّ زمان الشكّ بالنسبة إلى مجهول التاريخ هو يوم الأحد ( فإنّه يوم الملاقاة ) وزمان اليقين بعدم الكرّية هو يوم الجمعة ، ولكن الجواب هو الجواب فلا نعيد.

هذا بالنسبة إلى مجهول التاريخ.

وأمّا معلوم التاريخ فذهب الشيخ الأعظم رحمه‌الله إلى عدم جريان استصحاب العدم فيه كما مرّ ، آنفاً وتبعه عليه جماعة آخرون.

٣٩٦

وقد يتوهّم أنّه يجري الاستصحاب فيه أيضاً ، لأنّ الكرّية مثلاً وإن كان وجودها معلوماً لنا بالنسبة إلى اجزاء الزمان ولكنّه مجهول بالنسبة إلى زمان الملاقاة ، فالأصل عدم وجودها حين الملاقاة ومقتضاه النجاسة.

وقد اجيب عنه بوجوه :

أولها : ( وهو العمدة ) أنّ مفاد الاستصحاب هو الحكم ببقاء ما كان متيقّناً في عمود الزمان وجرّه إلى زمان الشكّ في الارتفاع ، وفي المقام لا شكّ لنا في معلوم التاريخ باعتبار عمود الزمان حتّى نجرّه بالتعبّد الاستصحابي.

وبعبارة اخرى : لا شكّ لنا في معلوم التاريخ في زمان أصلاً ، فإنّه قبل حدوثه ( المعلوم لنا وقته تفصيلاً ) لا شكّ في انتفائه ، وبعد حدوثه لا شكّ في وجوده ، بل الشكّ فيه إنّما هو بالقياس إلى الآخر.

ثانيها : سلّمنا بجريان استصحاب العدم فيه أيضاً ، ولكنّه محكوم للاستصحاب الجاري في مجهول التاريخ ، لأنّه مسببي والاستصحاب الجاري في مجهول التاريخ سببي ، لأنّ الشكّ في أنّ الملاقاة هل وقعت قبل الكرّية أو بعدها ( مع أنّ زمان الملاقاة معلوم ) ينشأ في الحقيقة من الشكّ في زمان الكرّية ، فحيث أنّا لا نعلم أنّ الكرّية هل وقعت يوم السبت بعد الأحد نشكّ في أنّ الملاقاة الواقعة يوم الأحد هل وقعت حين وجود الكرّية أو وقعت حين عدمها.

ولكن يرد عليه : أنّ السببيّة وإن كانت هنا معلومة ولكن التسبّب فيه ليس شرعيّاً ، وقد ذكر في محلّه لزوم ذلك في حكومة الأصل السببي على المسبّبي.

ثالثها : ما عرفت من حديث إنفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين فإنّه صادق في معلوم التاريخ أيضاً.

ولكن قد عرفت الجواب عنه بما لا مزيد عليه.

وقد ظهر إلى هنا أنّ الحقّ عدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ تبعاً للشيخ الأعظم رحمه‌الله فيجري في مجهول التاريخ من دون معارض.

بقي هنا شيء :

وهو توارد الحالتين المتعاقبتين ( المتضادّتين كالوضوء والحدث ) في محلّ واحد ، والفرق

٣٩٧

بينه وبين ما سبق ( وهو توارد الحادثتين ) أنّ الحالتين في المقام لمكان تضادّهما لا يتصوّر فيهما التقارن ، بخلاف الحادثتين كالملاقاة واحد كموت المتوارثين ونحوه ، بينما الحالتان المتعاقبتان تعرضان لمحلّ واحد كما في مثل الوضوء والحدث ، هذا مضافاً إلى أنّ الكلام فيما سبق وقع في استصحاب عدم أحدهما إلى حال حدوث الآخر ، وهيهنا يقع في استصحاب وجود أحدهما أو عدمه إلى زمان خاصّ.

وكيف كان فالأقوال في المسألة أربعة :

١ ـ ما يظهر من كلمات الشيخ الأعظم رحمه‌الله من التفصيل بين ما إذا كانا مجهولي التاريخ فيجري الاستصحاب في كليهما ويتعارضان فيتساقطان ، وما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ فيجري فيه دون مجهول التاريخ ، على عكس ما سبق في الحادثتين.

٢ ـ ما قد يظهر من كلمات المحقّق الخراساني من عدم جريان الاستصحاب فيه مطلقاً.

٣ ـ جريان الاستصحاب في كلتا الصورتين ، وهو ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله في أجود التقريرات.

٤ ـ الأخذ بضدّ الحالة السابقة على الحالتين إن كانت معلومة لنا ، وهو منسوب إلى المحقّق الثاني رحمه‌الله وجماعة ، بل وإلى المحقّق الأوّل رحمه‌الله أيضاً في المعتبر.

أمّا القول الأوّل : الذي هو المختار فيمكن أن يستدلّ له بأنّه إذا كانا مجهولي التاريخ فحيث إنّ أركان الاستصحاب في كليهما تامّة فيجري في كليهما ويتساقطان ، كما أنّ الأركان تامّة في خصوص معلوم التاريخ فيما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ ، دون مجهول التاريخ ، وذلك ببيانين :

أحدهما : أنّ مراده دائر بين ما هو معلوم الارتفاع وما هو مشكوك الحدوث ، فإذا علم بأنّه توضّأ عند الزوال مثلاً وعلم أيضاً بحدوث الحدث ، ولا يعلم أنّه وقع قبل الزوال أو بعده فلا يجري استصحاب بقاء الحدث ، لأنّه بالنسبة إلى قبل الزوال معلوم ارتفاعه فلا شكّ فيه ، وبالنسبة إلى بعد الزوال مشكوك حدوثه فلا يقين به.

ثانيهما : أنّه من أوضح مصاديق احتمال انفصال زمان اليقين عن زمان الشكّ ، أي أنه من مصاديق الشبهة المصداقيّة لدليل « لا تنقض » لأنّ الحدث إن وقع قبل الزوال حصل الإنفصال قطعاً ودخل في قوله : « انقضه بيقين آخر » فلا يكون الإتّصال محرزاً في عمود الزمان ، مع أنّ

٣٩٨

الاستصحاب استمرار لعمر المستصحب في عمود الزمان كما مرّ.

وأمّا القول الثاني : وهو مختار المحقّق الخراساني ( عدم جريان الاستصحاب مطلقاً ) فدليله نفس ما مرّ في البحث السابق من عدم إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين حتّى في معلوم التاريخ ، لأنّه وإن كان تاريخ حدوثه معلوماً لنا ولكن اتّصاله بزمان الشكّ الحاضر غير معلوم لنا ، لاحتمال انفصاله عنه وتخلّل ما هو المجهول تاريخ والمعلوم تحقّقه إجمالاً ، بينهما.

ولكن الجواب أيضاً هو الجواب فلا نعيده وهو الجواب الذي سبق في مسألة تعاقب الحادثتين أيضاً.

وأمّا القول الثالث : ( مختار المحقّق النائيني رحمه‌الله ) وهو الجريان مطلقاً فالوجه فيه بالنسبة إلى مجهولي التاريخ ما مرّ ، وأمّا بالنسبة إلى مجهول التاريخ في مقابل معلوم التاريخ فيقول : « وأمّا بالنسبة إلى المجهول تاريخه وهو الحدث في المثال فربّما يقال بعدم جريان الاستصحاب فيه تارةً من جهة عدم إحراز إتّصال زمان اليقين بالشكّ فيه ، واخرى من جهة أنّ أمره مردّد بين ما هو مقطوع الإرتفاع كما إذا كان قبل الطهارة ، وما هو مشكوك الحدوث من جهة احتمال حدوثه بعدها المحكوم بالعدم بالأصل ، ولذلك قد عرفت حديث شرطيّة إحراز إتّصال زمان اليقين بالشكّ وأنّ دوران أمر الحادث بين كونه مقطوع الارتفاع أو مشكوك الحدوث إنّما يضرّ باستصحاب الفرد دون الكلّي ، فلا مانع من جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ أيضاً بنحو استصحاب الكلّي » (١).

ولكن يرد عليه :

أوّلاً : ما مرّ سابقاً بأنّ المستصحب في مثل هذا المورد ليس كلّياً لأنّ المتيقّن إنّما هو ذلك الفرد المبهم الواقع في الخارج وما نشير إليه في الاستصحاب ، فهو جزئي حقيقي ، وتسميته كلّياً مجاز ناشٍ عن إبهام صفاته.

وثانياً : سلّمنا ، ولكنّه يتمّ بالنسبة إلى خصوص البيان الأوّل ، ويبقى البيان الثاني ( أعني شبهة انفصال زمان اليقين عن زمان الشكّ ) على تماميته ، وقد عرفت أنّ ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله من عدم الانفصال ( من جهة أنّ اليقين والشكّ من الصفات الوجدانيّة التي لا

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ٢ ، ص ٤٣٤ ، طبع مؤسسة مطبوعات ديني.

٣٩٩

يتطرّق إليها الشكّ ) وأنّ الإتّصال في أمثال المقام حاصل بالوجدان ، مدفوع بما مرّ أيضاً من أنّ الاعتبار بوجود المتيقّن والمشكوك ، وبملاحظة زمانهما تحصل شبهة الانفصال ، فراجع ما مرّ منّا في تعاقب الحادثتين.

أمّا القول الرابع : وهو الأخذ بضدّ الحالة السابقة فالوجه فيه هو القطع بارتفاع الحالة السابقة بوجود ما هو ضدّها قطعاً ، والشكّ في ارتفاعه لاحتمال وجوده بعد وجود الحادث الآخر الموافق للحالة السابقة ، فيكون مجرى للاستصحاب.

ولكن يرد عليه : أنّه أشبه بالمغالطة ، لأنّه كما أنّ ضدّ الحالة السابقة وجد قطعاً وهو مشكوك الارتفاع ، كذلك الحادث الآخر الموافق للحالة السابقة ، فإنّه أيضاً قطعي الوجود ومشكوك الارتفاع فيستصحب. ويقع التعارض ويتساقطان.

ثمّ إنّ بعض الأعاظم اختار هذا المذهب ( أي الأخذ بضدّ الحالة السابقة ) في جميع صور المسألة إلاّفيما إذا لم يكن معلوم التاريخ ضدّ الحالة السابقة ، حيث قال : « والتحقيق عندي هو قول المحقّق رحمه‌الله في مجهولي التاريخ والتفصيل في معلومه بأنّه إن كان معلوم التاريخ هو ضدّ الحالة السابقة فكالمحقّق رحمه‌الله (١) ، وإلاّ فكالمشهور ، وإن ينطبق المسلكان نتيجة أحياناً.

أمّا في مجهولي التاريخ فلأنّ الحدث أمر واحد له أسباب كثيرة ، وتكون سببيّة الأسباب الكثيرة للشيء الواحد سببيّة اقتضائيّة ، بمعنى أنّ كلّ سبب يتقدّم في الوجود الخارجي صار سبباً فعليّاً مؤثّراً في حصول المسبّب ، وإذا وجد سائر الأسباب بعده لم تتّصف بالسببية الفعلية ... فإذا كان المكلّف متيقّناً بكونه محدثاً في أوّل النهار فعلم بحدوث طهارة وحدث بين النهار ، وشكّ في المتقدّم والمتأخّر ، يكون استصحاب الطهارة المتيقّنة ممّا لا إشكال فيه ، ولا يجري استصحاب الحدث ، لعدم تيقّن الحالة السابقة لا تفصيلاً ولا إجمالاً ، فإنّ الحدث المعلوم بالتفصيل الذي كان متحقّقاً أوّل النهار قد زال يقيناً ، وليس له علم إجمالي بوجود الحدث إمّا قبل الوضوء أو بعده لأنّ الحدث قبل الوضوء معلوم تفصيلي ، وبعده مشكوك بالشكّ البدوي ... هذا حال مجهولي التاريخ ، وأمّا إذا جهل تاريخ الحدث وعلم تاريخ الطهارة مع كون الحالة السابقة هو الحدث فاستصحاب الحدث لا يجري ، لعين ما ذكرنا في مجهولي التاريخ من عدم

__________________

(١) ونسب في بعض الكلمات إلى العلاّمة في المختلف بل في أكثر كتبه لزوم الأخذ بوفق الحالة السابقة على الحالتين إن كانت معلومة لنا ، ولكنّه لا يعلم له وجه وجيه.

٤٠٠