أنوار الأصول - ج ٣

أنوار الأصول - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-15-6
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٢٤

كالملكية باقية إلى الأبد حتّى يثبت ما يكون ناقضاً ، له كما أنّ الملكية دائمية حتّى يثبت الفسخ.

كما يمكن أن يناقش فيه أيضاً بأنّه قد يكون الاستصحاب العدمي معاضداً وموافقاً للاستصحاب الوجودي كما في هذا المثال ، فإنّ مقتضى عدم جعل المذي ناقضاً للوضوء أيضاً بقاء الطهارة بحالها.

ولكنهما مناقشتان في خصوص هذا المثال لا في الحكم على نحو العموم وللمحقّق النراقي رحمه‌الله تبديله بمثال آخر ، وهو ما إذا شككنا بعد إنقطاع دم الحيض وقبل الغسل في حرمة الوطىء فاستصحاب الحرمة قبل الإنقطاع معارض مع استصحاب عدم جعل الحرمة لما بعد الإنقطاع ، ولا يجري فيه جواب المحقّق الخراساني ولا المناقشة التي ذكرناها ، فالصحيح في الجواب ما ذكرناه من الأجوبة السابقة ، ولا حاجة لتكرارها.

التنبيه السادس : الاستصحاب التعليقي

هل هو حجّة ( بناءً على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة ) كالاستصحاب التنجيزي أو لا؟.

وتوضيح ذلك : أنّ الأحكام الشرعيّة قد تصدر من جانب الشارع على نهج القضايا التنجيزية كأكثرها ، وقد تصدر على نهج القضايا التعليقية ، كحكمه في العصير العنبي بأنّه إذا غلى ينجّس ( أو يحرم ) ، ثمّ وقع الكلام في الفقه في أنّه إذا تبدّل العنب بالزبيب فما هو حكم العصير الزبيبي إذا غلى؟ وممّا استدلّ به على الحرمة أو النجاسة هنا هو الاستصحاب التعليقي ، ولعلّ أوّل من استدلّ به هو العلاّمة السيّد الطباطبائي بحر العلوم رحمه‌الله ، وقد ناقش فيه السيّد محمّد المجاهد بعده وذهب إلى عدم حجّية الاستصحاب التعليقي ، وصرّح بأنّ والده ( وهو صاحب الرياض ) أيضاً كان يقول بعدم حجّيته ، ولكن ذهب إلى مذهب السيّد بحر العلوم الشيخ الأعظم الأنصاري والمحقّق الخراساني ٠ ، وتبعهما جماعة ممّن بعدهما ، كما خالفهما جماعة اخرى.

أقول : لا بأس أن نتكلّم أوّلاً في خصوص المثال الذي ذكروه للمسألة ، ونشير إلى حكمه الفقهي ، ثمّ ندخل في البحث عن حجّية الاستصحاب التعليقي وعدمها على نحو كلّي.

٣٦١

فنقول : أنّ الغليان على قسمين : غليان بنفسه وغليان بالنار وشبهها ، أمّا الغليان بنفسه فهو نشيش اسكاري يحصل بنفسه أو في مقابل الشمس ويكون من مقدّمات انقلاب العصير مسكراً ، وقد ذكر أهله أنّ المواد الحلوة الموجودة في العصير العنبي أو الزبيبي أو التمري وغيره تنجذب بالمواد المخمّرية وهى خليّات حيّة ، ثمّ يحصل منه المواد الكحولية وغاز الكربن ، وهذا الغاز هو الذي يوجب النشيش ، وهو المسمّى بغليان الخمر ( جوشش مي ) ، وأمّا الغليان بالنار فهو نشيش فيزيكي يحصل للعصير بحرارة النار.

والفرق بين هذين النوعين من الغليان والنشيش ماهوي ، والذي يوجب الاسكار وتجري عليه جميع أحكام الخمر ولا يطهّره ذهاب الثلثان هو النوع الأوّل من الغليان ، أي الغليان بنفسه ، وأمّا النوع الثاني فهو يوجب الحرمة فقط ولا دليل على نجاسته ، ويطهر العصير فيه بذهاب الثلثان وقد ذكرنا في التعليقة (١) على العروة أنّ الحكمة من تحريمه لعلّها هى أنّ العصير المتّخذ للشرب مدّة مديدة إذا لم يذهب ثلثاه ينقلب خمراً تدريجاً فحرّمه الشرع مطلقاً حماية للحمى ، وأمّا إذا ذهب ثلثاه فلا ينقلب مسكراً لأنّ من شرائط التخمير وجود كميّة وافرة من الماء.

ولعلّ أوّل من التفت إلى الفرق المذكور هو المحقّق شيخ الشريعة الأصفهاني رحمه‌الله في رسالته القيّمة في العصير العنبي.

فقد ظهر ممّا ذكر أنّه لا ربط بين الغليان بالنار والغليان بنفسه ، وأنّه لا دليل على نجاسة العصير إذا غلى بالنار ، بل الدليل قام على حرمته فقط. هذا أوّلاً.

وينبغي أن نشير ثانياً : إلى أنّ الثابت من هذه الحرمة إنّما هو في العصير العنبي ، وأمّا الزبيبي والتمري ونحوها فالاجتناب عنهما هو الأحوط ، وثالثاً أنّ هذا الحكم يجري فيما صدق عليه العصر عرفاً وأمّا ما يلقى من العنب أو الزبيب أو التمر في الغذاء فيغلى فلا دليل على حرمته فتوىً أو احتياطاً لعدم صدق عنوان العصير عليه.

إذا عرفت هذا فلنرجع في أصل البحث فنقول :

استدلّ القائلون بحجّية الاستصحاب التعليقي بأنّ أركانه تامّة ، من اليقين السابق والشكّ

__________________

(١) راجع التعليقة على العروة : ج ١ ، ص ٢٨.

٣٦٢

اللاحق وبقاء الموضوع عرفاً ، فإنّ الزبيبية من الحالات عرفاً لا من المقوّمات.

وإستشكل عليه القائلون بعدم الحجّة أوّلاً : بأنّ عنوان الزبيب غير عنوان العنب عرفاً فقد تبدّل الموضوع وتغيّر.

والجواب عنه واضح : لأنّ هذا مناقشة في المثال ، مضافاً إلى أنّ الصحيح كون الزبيبيّة والعنبية من الحالات ، كما يحكم به الوجدان العرفي في نظائره من سائر الفواكه إذا جفّت ، بل في سائر الأغذية بعد الجفاف ، كالخبز إذا جفّ ، فهو نفس الخبز قبل الجفاف فإنّ الجفاف وعدمه ليس من مقوّمات الشيء ، نعم أنّه كذلك في مثل تبدّل الكلب إلى الملح وفي إنقلاب الخمر خلاً أو الماء بخاراً.

وثانياً : بأنّ هذا الاستصحاب معارض مع استصحاب آخر تنجيزي ، وهو استصحاب الطهارة أو الحلّية الثابتة قبل الغليان.

والجواب عنه : أنّه محكوم للاستصحاب التعليقي لأنّ الشكّ في الطهارة أو الحلّية التنجيزية مسبّب عن الشكّ في بقاء الحرمة أو النجاسة المعلّقة على الغليان.

وإن شئت قلت : أنّ الحلّية أو الطهارة كانت مغيّاة بعدم الغليان في حال كونه عنباً فنستصحبها في حال كونه زبيباً ، ومن المعلوم أنّ هذه الطهارة المغيّاة لا تنافي الحرمة المعلّقة على الغليان.

وثالثاً : ( وهو العمدة ) بأنّه يشترط في حجّية الاستصحاب ثبوت المستصحب خارجاً في زمان من الأزمنة قطعاً ثمّ يحصل الشكّ في ارتفاعه بسبب من الأسباب ، ولا يكفي مجرّد قابلية المستصحب للثبوت باعتبار من الاعتبارات ، أي بتقدير من التقادير ، فإنّ التقدير أمر ذهني خيالي لا وجود له في الخارج.

واجيب عنه بوجوه :

١ ـ ما أجاب به الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله ، وهو أنّ الملازمة ( وبعبارة اخرى سببية الغليان لتحريم ماء العصير ) متحقّقة بالفعل من دون تعليق ، وبهذا يرجع جميع الاستصحابات التعليقيّة إلى التنجيزيّة.

وأورد عليه : بأنّه مخالف لما اختاره في ماهية الحكم الوضعي من عدم كونه مجعولاً من جانب الشارع بل أنّه مجرّد انتزاع ذهني من الحكم التكليفي ، وليس من الأحكام الوضعيّة

٣٦٣

السببيّة ، فهى لا تكون مجعولة بيد الشارع حتّى يمكن له الحكم باستصحابها.

٢ ـ ما أجاب به الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله أيضاً ، وتبعه فيه المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، وهو أنّه لا مانع من استصحاب الحرمة على تقدير الغليان ، لأنّ الحكم التقديري أيضاً له حظّ من الوجود ، فيكون له نحو وجود متحقّق في نفسه في قبال العدم المحض.

وأجاب عنه المحقّق النائيني رحمه‌الله : بأنّ ثبوت الحرمة على تقدير الغليان للعنب ليس ثبوتاً شرعياً وحكماً على موضوعه ، بل هو من جهة حكم العقل بأنّه متى وجد جزء الموضوع المركّب فلا محالة تكون فعلية الحكم متوقّفة على ثبوت الجزء الآخر.

توضيح ذلك : قد ذكرنا في بحث الواجب المشروط أنّ كلّ شرط يكون لا محالة مأخوذاً في موضوع الحكم كما أنّ كلّ موضوع يكون شرطاً في الحقيقة ، فقولنا « يحرم العنب إذا غلى » عبارة اخرى عن قولنا : « العنب المغلّى حرام » وبالعكس ، ولهذا الحكم ثبوتان حقيقيّان تشريعاً : أحدهما : ثبوته في مرحلة الجعل والإنشاء مع قطع النظر عن وجود عنب في الخارج أصلاً ، والرافع للحكم في هذه المرحلة هو النسخ ليس إلاّ ، ثانيهما : ثبوته الخارجي بفعلية تمام موضوعه ، أعني به وجود العنب وغليانه ، إذ مع إنتفاء أحد قيود الموضوع يستحيل فعلية الحكم ، وإلاّ لزم الخلف وعدم دخل ذلك القيد في موضوعه ، والمفروض في المقام عدم الشكّ في بقائه في مرحلة الإنشاء ، وعدم فعلية موضوعه في الخارج ، فأين الحكم الشرعي المتيقّن حتّى يستصحب وجوده؟ نعم حيث إنّ الحكم الشرعي مترتّب على الموضوع المركّب فالعقل يحكم عند وجود جزء منه بكون الحكم متوقّفاً على ثبوت الجزء الآخر ، وهذا الثبوت عقلي محض وغير قابل للاستصحاب أصلاً » (١).

أقول : يرد عليه : أنّ إرجاع شرائط الوجوب إلى قيود الموضوع مخالف للمتبادر من القضيّة الشرطيّة وظاهرها ، فإنّ ظاهرها ( كما هو واضح لمن راجع وجدانه ) كون الشرط قيداً للوجوب لا للواجب ولا للموضوع ، وإمكان إرجاع أحدهما إلى الآخر بتمحّل عقلي لا يفيد شيئاً في المقام بعد ظهور القضية في كون الشرط راجعاً إلى الوجوب ، فهذا الوجه أيضاً لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّه كما لا يمكن المساعدة على مقالة الشيخ رحمه‌الله من إرجاع القيود إلى الواجب ،

__________________

(١) أجود التقريرات : ص ٤١٢ ، طبع مطبوعات ديني.

٣٦٤

كذلك لا يمكن المساعدة على ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله من إرجاع القيود إلى الموضوع ( كالعصير المغلي وكالمستطيع في مسألة الحجّ ).

فالصحيح في حلّ الإشكال تحليل ماهية الواجب المشروط ، فنقول : قد مرّ في محلّه أنّ فيه مذهبين : مذهب الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله من أنّ القيود الموجودة في الواجب المشروط ترجع إلى الواجب لا الوجوب ، أي أنّها ترجع إلى مفاد المادّة لا الهيئة ، ولذلك ترجع عنده جميع الواجبات المشروطة إلى الواجبات المعلّقة في الواقع واللبّ ، ومذهب المشهور وهو أنّ القيود قيود للوجوب ( لا الواجب ) كما هو ظاهر القضيّة الشرطيّة ، ولكن المعضلة الكبرى في هذا القول الذي يجب حلّها هو أنّ إنشاء الوجوب نوع من الإيجاد ، وهو شيء أمره دائر بين النفي والإثبات ، فكيف يتصوّر فيه التعليق؟ ولذا ذهبوا إلى بطلان التعليق في العقود.

وقد مرّ منّا في محلّه من الواجب المشروط طريق لحلّ هذا الإشكال ممّا ينحلّ به إشكال التعليق في الإنشاء وإشكال الاستصحاب التعليقي في المقام أيضاً ، وحاصله : أنّ الأحكام على قسمين : قسم منها تنجيزي كقولك لزيد : « إذهب إلى السوق » ، وقسم منها تعليقي ، وهو ما يصدر بعد فرض شيء كقولك : « إن جاءك زيد فأكرمه » ، فالقضيّة الشرطيّة عبارة عن إنشاء حكم بعد فرض خاصّ ، وهو مفاد إنّ الشرطيّة أو كلمة « اگر » في اللغة الفارسية عند مراجعة الوجدان ، فقولك : « إن جاءك زيد فأكرمه » عبارة اخرى عن قولك : « يجب عليك إكرام زيد على فرض مجيئه » فالقيد وهو مجيء زيد راجع إلى مفاد الهيئة وهو وجوب الإكرام ، لا مفاد المادّة وهو نفس الإكرام.

وإن شئت قلت : المتكلّم قد يرى أنّ زيداً قد قدم فيقول : « قم ياغلام وأكرمه » واخرى يعلم أنّ زيداً لم يجيء بعد ، ولكن يتصوّر ويفرض قدومه فيُظهر شوقه إلى إكرامه حينئذٍ ، فينشىء وجوب الإكرام في هذا الفرض الذي هو مفاد « ان » و « اگر » ، فيقول : « إن جاءك زيد فأكرمه » ، فليس هناك تعليق في إنشائه ، كما أنّه ليس هناك إنشاء فعلي ، بل هو إنشاء بعد فرض ، فلذا لا أثر له إلاّبعد تحقّق ذاك الفرض ، فإنّ هذا هو المعنى المعقول في القضيّة الشرطيّة.

ولذلك قلنا في محلّه أنّ التعليق في العقود ليس بمحال عقلاً بل هو من قبيل القضيّة الشرطيّة فيمكن أن يقال : « بعتك إن جاءك زيد » فيكون هو تمليكاً على فرض ، نعم المانع من صحّته الإجماع أو عدم كون مثل هذا العقد عقلائياً ، وبهذا يظهر أنّ للحكم التعليقي ( أي الحكم على فرض ) أيضاً حظّ من الوجود فيمكن أن يستصحب.

٣٦٥

بقي هنا أمران :

الأوّل : أنّ النزاع في الاستصحاب التعليقي يتوقّف أوّلاً على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة كما مرّ ، وثانياً على كون التعليق في لسان الشرع ، لا بنظر لاعقل ، لأنّه إذا كان التعليق شرعياً كان هناك حكم صادر من ناحية الشرع ، غاية الأمر أنّه حكم على فرض ، فصدر على أي حال إنشاء وحكم من ناحية الشارع ، فله حظّ من الوجود ، وأمّا إذا كان التعليق عقلياً ( بإرجاع قيود الموضوع إلى شرط الحكم ) فليس لنا حكم صادر من جانب الشارع حتّى يستصحب ، فإنّ التعليق العقلي إنّما هو في الواقع إنتزاع من ناحية العقل وإخبار عن تحقّق حكم عند تحقّق موضوعه.

الثاني : بناءً على جريان الاستصحاب التعليقي في الأحكام فهل يجري هو في الموضوعات أيضاً ، أو لا؟ قد يستفاد من بعض التعبيرات جريانه في الموضوعات أيضاً ، فاستدلّ به في مسألة اللباس المشكوك لصحّة الصّلاة بأنّ المصلّي قبل لبسه اللباس المشكوك لو كان يصلّي كانت صلاته صحيحة ، وبعد لبسه إيّاه يستصحب ويقال : لو صلّى في هذا الحال فصلاته صحيحة أيضاً.

ولكن يرد عليه : أوّلاً : عدم بقاء الموضوع بعد لبسه إيّاه ، كما هو واضح.

وثانياً : أنّ التعليق فيه ليس في لسان الشرع بل إنّه إنّما هو بتحليل عقلي ، وليس له حظّ من الوجود.

التنبيه السابع : استصحاب أحكام الشرائع السابقة

وهو غير استصحاب الكتابي الذي سيأتي بيانه ، فهل يجوز أن يكون المستصحب حكماً من أحكام الشريعة السابقة كحجّية القرعة الثابت وجودها في الشرائع السابقة كما وردت في قصّة زكريا وقصّة يونس في كتاب الله العزيز ، أو يعتبر في المستصحب أن يكون حكماً ثابتاً في هذه الشريعة؟

قد يقال : إنّ أركان الاستصحاب فيها مختلّة من جهتين :

الاولى : من ناحية عدم اليقين بثبوتها في حقّ المكلّف الذي أراد أن يستصحب بالنسبة

٣٦٦

إلى نفسه وإن علم بثبوتها في حقّ آخرين ، فإنّ الحكم الثابت في حقّ جماعة لا يمكن إثباته في حقّ جماعة اخرى لتغاير الموضوع ، ولذا يتمسّك في تسرية الأحكام الثابتة للحاضرين أو الموجودين إلى الغائبين أو المعدومين بالإجماع والأخبار الدالّة على إشتراك جميع الامّة في الحكم ، لا بالإستصحاب.

واجيب عنها : بأنّ الحكم الثابت في الشريعة السابقة لم يكن ثابتاً لخصوص الافراد الموجودين في الخارج بنحو القضية الخارجية ، بل الحكم كان ثابتاً لعامّة المكلّفين بنحو القضية الحقيقيّة ، فإذا شكّ في بقائه لهم لإحتمال نسخه في هذه الشريعة استصحب.

الثانية : من ناحية الشكّ اللاحق ، فإنّا نتيقّن بإرتفاعها بنسخ الشريعة السابقة بهذه الشريعة فلا شكّ في بقائها حينئذٍ حتّى يكون من قبيل نقض اليقين بالشكّ فيستصحب ، بل إنّه من قبيل نقض اليقين باليقين.

واجيب عنها أيضاً : أوّلاً : بأنّ نسخ الشريعة السابقة ليس بمعنى نسخ جميع أحكامها فإنّ كثيراً من أحكام الشرائع السابقة باقية في هذه الشريعة أيضاً كحرمة الزنا والغيبة وغيرهما.

وإن شئت قلت : إن اريد من النسخ نسخ كلّ حكم إلهي من أحكام الشريعة السابقة فهو ممنوع ، وإن اريد نسخ البعض فالمتيقّن من المنسوخ ما علم بالدليل ، فيبقى غيره على ما كان عليه ولو بحكم الاستصحاب.

إن قلت : إذا علمنا بنسخ بعضها إجمالاً صار جميعها من أطراف العلم الإجمالي فلا يمكن الاستصحاب فيها.

قلنا : إنّ العلم الإجمالي هذا ينحلّ إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي ، فإنّ مقدار المعلوم بالتفصيل ينطبق على مقدار المعلوم بالإجمال.

وثانياً : إنّا نفرض الشخص الواحد مُدركاً للشريعتين ، فإذا إستصحب هو بالنسبة إلى نفسه تمّ الأمر في حقّ غيره من المعدومين بقيام الضرورة على إشتراك أهل الزمان الواحد في الشريعة الواحدة ، وقد اجيب عن هذا الجواب بأنّ ذلك غير مجد في تسرية الحكم من المدرك للشريعتين إلى غيره من المعدومين ، فإنّ قضيّة الإشتراك ليس إلاّ أنّ الاستصحاب حكم كلّ من كان على يقين فشكّ ، لا حكم الكلّ ولو من لم يكن كذلك.

٣٦٧

وإن شئت قلت : قاعدة الاشتراك تجري بالنسبة إلى موارد الوحدة في الموضوع لا ما إذا اختلف الموضوع ، فإذا كانت أركان الاستصحاب الذي هو حكم ظاهري تامّة في حقّ أحد دون آخر يجري الاستصحاب في حقّه فقط دون غيره.

أقول : التحقيق في المسألة يستدعي تحليل ماهية نسخ الشريعة ، فنقول : لا إشكال في أنّ نسخ الشريعة ليس بمعنى نسخ الاصول الإعتقادية فيها ، كما لا إشكال في أنّه ليس عبارة عن تغيير جميع الأحكام بل يدور النسخ مدار معنيين :

أحدهما : رفع بعض الأحكام الفرعية وجزئيات الفروع ككيفية الزكاة والصّلاة ، وثانيهما : إتمام أمد رسالة النبي السابق وانقضاء عمرها ، ولازمه تشريع جميع الأحكام من جديد ، وحينئذٍ ليس هو من قبيل تغيير الدولة في حكومة خاصّة وتبديلها إلى دولة اخرى ، بل هو في الواقع من قبيل تبديل أصل الحكومة إلى حكومة جديدة ونظام آخر بحيث لابدّ فيه من تقنين قانون أساسي جديد ، وبالجملة أنّه بمعنى تدوين جميع القوانين العمليّة والأحكام الفرعية من أصلها ، وإن إشتركت الشريعتان في كثير من أحكامهما.

الصحيح في ما نحن فيه هو المعنى الثاني ، فإنّ هذا هو حقيقة نسخ الشرائع والديانات وظهور شريعة اخرى جديدة ، ويشهد على هذا المعنى أوّلاً : تكرار تشريع بعض الأحكام في الإسلام مع وجوده في الشريعة السابقة كحرمة شرب الخمر وحرمة الزنا ووجوب الصيام والصّلاة وكثير من المحرّمات والواجبات ، كما يدلّ عليه بالصراحة التعبير بالكتابة في مثل قوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ).

وثانياً : جريان أصالة الإباحة بالنسبة إلى الشبهات الوجوبيّة عند الأخباري والاصولي معاً ، وفي الشبهات التحريميّة عند الاصولي فقط ، فإنّه أيضاً شاهد على نسخ جميع الأحكام السابقة ورجوع الأشياء إلى الإباحة ، وعلى عدم وجود حكم إلزامي إلاّبعد ثبوت تدوينه وكتابته ثانياً.

والذي يستنتج من هذا المعنى للنسخ هو عدم جواز استصحاب الشرائع السابقة فإنّه فرع احتمال بقاء بعض أحكام الشريعة السابقة ، مع أنّك قد عرفت إنّا نعلم بنسخ جميع أحكامها وتشريع أحكام جديدة ، وافقها أو خالفها.

كما يظهر منه عدم تمامية ما اجيب به عن الإشكال الأوّل الذي أورد على استصحاب

٣٦٨

الشرائع السابقة ( وهو جعل الأحكام على نهج القضايا الحقيقيّة ) فإنّا لا نقبل جعل أحكام شريعة موسى عليه‌السلام مثلاً على نحو تشمل الأفراد بعد انقضاء شريعته ، بل إنّما شرّعت لُامّة موسى عليه‌السلام فقط.

وكذا الجواب الثاني عن الإشكال الثاني ( وهو قضيّة المدرك للشريعتين ) فهو أيضاً فاسد لأنّه بعد العلم بنسخ جميع أحكام الشريعة السابقة لا يبقى شكّ لمُدرك الشريعتين في عدم بقاء تلك الأحكام ، حتّى تتمّ أركان الاستصحاب بالنسبة إليه فيستصحبها.

هذا تمام الكلام في أصل جريان استصحاب أحكام الشريعة السابقة ، وقد ظهر من جميع ما ذكرنا عدم جريانه حتّى بناءً على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة فضلاً عن عدم جريانه فيها كما هو المختار.

ثمرة هذا البحث

ثمّ إنّه بناءً على جريان استصحاب الشرائع السابقة قد يقال : أنّ ثمرته تظهرفي موارد شتّى في الفقه :

١ ـ مسألة القرعة ، حيث يظهر من قصّة مريم في قوله تعالى : ( وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) (١) ومن قصّة يونس في قوله تعالى : ( فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ ) (٢) حجّية القرعة في خصوص موارد التشاحّ والمخاصمة والتنازع في شريعة زكريّا وشريعة يونس ، فيمكن إثباتها في هذه الشريعة بالإستصحاب.

نعم لا حاجة إلى هذا الاستصحاب لو فهمنا من مجرّد نقل القضيتين في كتاب الله إمضاء الشارع لحجّية القرعة ، ولكن أنّى لنا بإثبات ذلك؟

٢ ـ مسألة اعتبار قصد القربة في الأوامر وعدمه ، حيث يظهر من قوله تعالى : ( وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (٣) اعتبار قصد القربة في جميع أوامر الشرائع السابقة ، فإنّ الضمير في « امروا » راجع إلى أهل الكتاب ، فيستفاد منه أنّ الأصل في دوران الأمر بين

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية ٤٤.

(٢) سورة الصافات : الآية ١٤١.

(٣) سورة البيّنة : الآية ٥.

٣٦٩

التعبّديّة والتوصّليّة هو التعبّديّة ، فيجري هذا الحكم بمؤونة الاستصحاب في شريعتنا.

ولكن أورد عليه بإشكالات عديدة :

منها : أنّه متوقّف على كون المراد من كلمة « مخلصين » اعتبار قصد القربة ، مع أنّ المراد منها التوحيد في مقابل الشرك.

واجيب عنه : بأنّ الشاهد على المقصود في الآية إنّما هو قوله تعالى : ( وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ ) فإنّه ظاهر في أنّ جميع أوامر الشرائع السابقة صدرت لعبادة الله ، فلا حاجة إلى ظهور كلمة « مخلصين » في قصد القربة.

ومنها : أنّه متوقّف على صدور أوامرها على نهج القضايا الحقيقيّة ، مع أنّ نزول كلمة « امروا » بصيغة الماضي ظاهر في أنّها صدرت على نهج القضايا الخارجية فلا يمكن استصحابها.

ويمكن الجواب عنه : بأنّه لا دلالة في صيغة الماضي على خارجية القضايا ، حيث إنّها ناظرة إلى القوانين التي شرّعت في الشرائع السابقة ، ولا إشكال في أنّ القانون يكون غالباً على نحو القضية الحقيقيّة.

ومنها : أنّه لا حاجة إلى الاستصحاب في المقام ، حيث إنّ قوله تعالى في ذيل الآية : ( وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) بنفسه ظاهر في الدوام والبقاء.

واجيب عنه : بأنّ مرجع اسم الإشارة « ذلك » لعلّه هو قوله « مخلصين » ، أي التوحيد في مقابل الشرك لا ما قبله ، خصوصاً بقرينة الأقربية.

ومنها : أنّه مبنيّ على كون الغاية في الآية وهى قوله تعالى « ليعبدوا » غاية لفعل الناس حتّى يكون المعنى : وما امروا إلاّلأن يقصد الناس القربة ويكونوا عابدين لله تعالى ، مع أنّه يحتمل كونها غاية لفعل الله تعالى فتكون الآية حينئذٍ ناظرة إلى بيان حكمة أوامره تعالى ، والمعنى : أنّ فلسفة الأحكام الإلهيّة وحكمة الأوامر الشرعيّة الأعمّ من التعبّدي والتوصّلي إنّما هو تربية الله عباده لأن يكونوا عابدين مخلصين ، فتكون الآية حينئذٍ قريبة الافق من قوله تعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) ، ومن الواضح أنّها عندئذٍ لا ربط لها بالمقام ، حيث إنّها صادقة حتّى بالنسبة إلى الأوامر التوصّلية.

ومنها : أنّ لازم هذا المعنى التخصيص بالأكثر ، فإنّ من المعلوم أنّ أكثر الأوامر الواردة في

٣٧٠

الشرائع السابقة كالتي وردت في جميع أبواب المعاملات ، أوامر توصّلية ، كما أنّه كذلك في شريعتنا ، فإنّ العبادات معدودة محدودة في مقابل غيرها.

ومنها : أنّ الآية صدراً وذيلاً وردت في التوحيد مقابل الشرك ، ولا ربط لهما بمسألة قصد القربة ، والشاهد عليه ما ورد في ذيلها : ( وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) وهكذا التعبير بـ « حنفاء » ( فإنّ الحنيف بمعنى المائل عن الشرك إلى التوحيد ) وكذلك الآيات الواردة في ما قبلها وما بعدها فإنّها جميعاً وردت في أهل الكتاب والمشركين فراجع ، فإنّ التأمّل في الآية نفسها وفي ما قبلها وما بعدها ممّا يوجب القطع بأنّها في مقام نفي الشرك وإثبات التوحيد من دون نظر لها إلى مسألة قصد القربة في الأوامر.

والعمدة في الإشكال على الاستدلال بالآية هو الإشكال الأخير.

٣ ـ ما يستفاد من قصّة يوسف عليه‌السلام من قوله تعالى : ( قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) (١) حيث إنّ التعبير بـ « حمل » يدلّ على عدم اعتبار معلوميّة المقدار في الجعالة ( لأنّ مقدار حمل بعير أمر مجهول ) وبالإستصحاب نثبته في شريعتنا ، هذا أوّلاً.

وثانياً : أنّ قوله تعالى : ( وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) يدل على جواز ضمان ما لم يجب ( ما لم يكن فعليّاً ) حيث إنّه يثبت الضمان في الجعالة قبل أن يتحقّق في الخارج عمل ، ومقتضى استصحاب بقائه جواز ضمان ما لم يجب في شريعتنا أيضاً.

واجيب عنه : أوّلاً : بأنّه لا دليل على عدم كون حمل البعير معلوم المقدار ، بل لعلّه كان معلوماً ، كما أنّه كذلك اليوم في بعض البلاد ، فيكون مقدار حمل الحمار ( خروار ) في بعض البلاد مائة منّ ، وفي بعض آخر ٧٥ منّاً ، وفي بعض ثالث ٤٥ منّاً.

وثانياً : لا دليل على أنّ ما وقع في تلك القضيّة كان بصيغة الجعالة ، بل لعلّه كان مجرّد وعد بإعطاء حمل بعير بعنوان الجزاء والجائزة ، كما نشاهده في يومنا هذا في بعض الإعلانات لكشف الضالّة.

وثالثاً : لا دليل على أنّ القصّة بتمامها كان بمحضر من يوسف حتّى يستفاد منها الامضاء والمشروعيّة.

__________________

(١) سورة يوسف : الآية ٧٢.

٣٧١

ورابعاً : ظاهر قوله تعالى : ( كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ) إنّ كلّ ذلك كان أمراً صورياً وتوطئة لإبقاء يوسف أخاه عنده ، لا أمراً واقعياً حتّى يستفاد منه حكم فقهي.

وخامساً : أنّ قول المؤذّن : ( وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) ليس من قبيل ضمان ما لم يجب الذي ثبت عدم جوازه ، فالمختار كما ذكرنا في محلّه أنّ الدين الذي لم يتحقّق بعد ولكن تحقّقت مقتضياته جائز ضمانه ، وليس هو من باب ضمان ما لم يجب ، وذلك نظير ما هو رائج في زماننا عند العقلاء من مطالبة الضامن للأجير أو الخادم لأجل الخسارات التي يحتمل تحقّقه في المستقبل ، ونظير عقد التأمين لو أدخلناه في باب الضمان فإنّ الضمان في مثل هذه الموارد جائز وغير داخل تحت الإجماع القائم على عدم جواز ضمان ما لم يجب ، لحصول مقتضى الضمان فيها ، ولا إجماع على البطلان في مثله.

٤ ـ ما يستفاد من قصّة يحيى في قوله تعالى : ( فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الِمحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنْ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ ) (١) من جواز ترك النكاح واستحبابه ، لأنّ الحصور في اللغة بمعنى تارك النكاح.

واجيب عنه أيضاً : أوّلاً : بأنّه من قبيل المدح على المنكشف لا الكاشف ، كما إذا مدحنا من ردّ بعض الهدايا لكونه كاشفاً عن علوّ طبعه وغنى نفسه ، مع أنّ الكاشف وهو ردّ الهدية مذموم ، فمدح يحيى لكونه حصوراً وتاركاً للنكاح لعلّه كان من باب إنّه كاشف عن شدّة ورعه وكفّ نفسه عن الشهوات ، كما احتمله بعض المفسّرين فتأمّل.

وثانياً : لا دليل على كون الحصور بمعنى تارك النكاح فإنّه في اللغة من مادّة الحصر بمعنى المنع عن المعصية وكفّ النفس عن الشهوات فيكون بمعنى المتّقي والوَرع.

وثالثاً : لعلّ هذا كان حكماً خاصّاً لشخص يحيى عليه‌السلام وكذلك عيسى عليه‌السلام ، وذلك لما كان لهما من شرائط خاصّة فإنّ عيسى عليه‌السلام لا يزال كان مشتغلاً بالتبليغ عن مذهبه والتردّد من بلد إلى بلد وكذلك يحيى ، حيث إنّه كان مبلّغاً لشريعة عيسى عليه‌السلام ، ولا إشكال في جواز ترك النكاح لمصلحة أهمّ.

ورابعاً : من أركان الاستصحاب الشكّ اللاحق ، ولا شكّ لنا في استحباب النكاح كما

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية ٣٩.

٣٧٢

يدلّ عليه ما ورد في مذمّة ترك النكاح بل في استحباب الإنكاح.

٥ ـ ما يستفاد من قصّة أيّوب في قوله تعالى : ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) (١) من عدم لزوم الحنث بالعدول عن الضرب بالسوط إلى الضرب بالضغث في باب النذور والأيمان.

ويمكن المناقشة فيه أيضاً : بأنّ العدول إلى الضغث لعلّه لم يكن من باب الوفاء باليمين أو النذر ، بل من باب إنكشاف عدم استحقاق زوجة أيّوب للضرب بعد الرجوع ، فانكشف أنّ تأخيرها كان عن عذر ، فينكشف أنّ اليمين أو النذر لم ينعقد لإعتبار الإباحة أو الرجحان فيهما.

إن قلت : فكيف أمر بالضرب بالضغث مع أنّ لازم ما ذكر سقوط الضرب من رأسه.

قلنا : لعلّه كان من باب رعاية حرمة إسمه تعالى ، وحفظ ظاهر اليمين ، كما يرى نظيره من حيث حفظ الظاهر والإحترام بالحدود الإلهية في الأخبار في أبواب الحدود والأيمان.

٦ ـ ما يستفاد من قوله تعالى : ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ) (٢) من اعتبار أصل المساواة في باب القصاص ، فيستصحب هو في شريعتنا.

إن قلت : إنّه لا حاجة في اعتبار المساواة إلى الاستصحاب لأنّ أصل القصاص من مسلّمات شريعة الإسلام ،

والمساواة من لوازم ماهية القصاص كما لا يخفى ، مضافاً إلى أنّه يمكن إستفادتها من قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى ) (٣).

قلنا : يجوز الاستدلال بالآية الاولى في موارد الشكّ ، كما في ذي العين الواحدة ، حيث إنّ المحتملات فيه ثلاثة : جواز القصاص فقط ، وعدم جواز القصاص بل وجوب الديّة فقط ، وجواز القصاص مع نصف الديّة ، فيستدلّ بإطلاق قوله تعالى « والعين بالعين » على جواز خصوص القصاص في شريعة موسى عليه‌السلام ثمّ يستصحب في شريعتنا.

__________________

(١) سورة ص : الآية ٤٢.

(٢) سورة المائدة : الآية ٤٥.

(٣) سورة البقرة : الآية ١٧٨.

٣٧٣

نعم أنّه فرع وجود الاطلاق للآية وكونها في مقام البيان من هذه الجهة ، مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال بعدم الحاجة إلى هذا الاستصحاب أيضاً ، لإمكان استفادة ذلك من نفس الآية الثانية بقرينة ما ورد فيما قبلها وهو قوله تعالى : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ... ) (١) فإن ظاهرها ـ على الأقل ـ هو الإمضاء لهذا الحكم الذي انزل في التوراة.

٧ ـ ما يستفاد من قصّة موسى وشعيب في قوله تعالى : ( قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ ) (٢) أوّلاً من جواز الترديد في الزوجة حين إجراء عقد النكاح حيث قال : ( إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ ) وثانياً من جواز الترديد في المهر أيضاً لقوله تعالى : ( فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ ) وثاثاً من جواز إعطاء المهر بأب الزوجة لقوله تعالى ( تَأْجُرَنِي ) فكان المهر عبارة عن عمل موسى لشعيب ، ورابعاً من جواز وقوع عمل الحرّ مهراً في النكاح.

ولكن يرد على الأوّل والثاني بأنّهما مبنيّان على صدور هذا القول من شعيب في مجلس إجراء الصيغة لا مجلس المقاولة للنكاح ومقدار المهر ، وأنّى لنا بإثبات ذلك.

وعلى الثالث بأنّ الإنتفاع باستيجار موسى عليه‌السلام كان لجميع أهل البيت ولم يكن حياتهم إلاّ على المشاركة القريبة جدّاً فكان استيجار أبيها كاستيجارها بنفسها.

وعلى الرابع بأنّه لا حاجة إلى هذا الاستصحاب بعد وضوح المسألة في شريعتنا ، فإنّه لا شكّ في الجواز.

التنبيه الثامن : الاصول المثبتة وعدم حجّيتها

وتحقيق حالها فيها يطلب البحث في مقامات أربع :

١ ـ في المراد من الأصل المثبت.

٢ ـ في أنّه لماذا ليس بحجّة.

٣ ـ في ما استثنى من الأصل المثبت.

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٤٤.

(٢) سورة القصص : الآية ٢٧.

٣٧٤

٤ ـ في الفرق بين مثبتات الأمارات ومثبتات الاصول.

المقام الأوّل : المراد من الأصل المثبت

فالمقصود من الأصل المثبت ترتيب الآثار الشرعيّة للمستصحب مع الواسطة العقليّة أو العادية.

توضيح ذلك : إذا كان المستصحب حكماً شرعياً فلا كلام في جواز استصحابه وترتيب آثاره ، وأمّا إذا كان المستصحب موضوعاً من الموضوعات كحياة زيد فلا إشكال أيضاً في جواز استصحابه وترتيب أثره الشرعي من دون الواسطة ، كبقاء زوجية زوجته وملكية أمواله ، الذي يترتّب على حياة زيد بلا واسطة ، وأمّا آثاره الشرعيّة مع الواسطة العقليّة مثل أنّ له خمسين سنة ( إذا ترتّب عليه أثر شرعي بنذر وشبهه ) أو الواسطة العادية كبياض لحيته ( إذا صار أيضاً متعلّقاً للنذر مثلاً ) فلا تترتّب عليه ، ويسمّى الاستصحاب حينئذٍ بالأصل المثبت.

المقام الثاني : لماذا ليس الأصل المثبت بحجّة

فلابدّ من البحث على المباني المختلفة في معنى الحجّية التي قد مرّت الإشارة إليها في باب الأمارات إجمالاً.

فنقول : من المباني أنّ حجّية الأصل مثل الاستصحاب بمعنى جعل الحكم المماثل وهو المختار ، ومعناه جعل حكم ظاهري مماثل لنفس المستصحب إذا كان المستصحب هو الحكم ، أو جعل حكم ظاهري مماثل لحكم المستصحب إذا كان المستصحب هو الموضوع ، ولا يخفى أنّ من فسّر الحجّية بالجري العملي أو التطبيق في مقام العمل أو الإلتزام بالحكم السابق يعود كلامه إلى جعل المماثل أيضاً ، لأنّه لا نعرف من وجوب الجري العملي أو تطبيق العمل على مؤدّى الأصل إلاّجعل حكم ظاهري مماثل لمؤدّاه ، وهكذا الإلتزام ، فإنّ الإلتزام القلبي هنا غير مراد ، والإلتزام العملي ليس إلاّما ذكرناه ، فالعبارات شتّى والمراد واحد.

والمبنى الثاني عبارة عن جعل المنجّزية والمعذّرية ، فلا يجعل الحكم المماثل ، بل المجعول إنّما هو قضيّة « إن أصاب خبر الواحد مثلاً الواقع كان منجّزاً وإن خالف الواقع كان عذراً » وقد

٣٧٥

مرّ عدم صحّة هذا المبنى ، لأنّ المنجّزية والمعذّرية من حكم العقل ، ولا تنالها يد الجعل.

والمبنى الثالث عبارة عن جعل صفة اليقين أو صفة المحرزية بالنسبة إلى الاستصحاب ، وقد مرّ أيضاً أنّه غير معقول ، لأنّ صفة اليقين من الامور التكوينية التي لا تتعلّق بها الجعل والإنشاء ، ولا يمكن أن يصير الشاكّ قاطعاً بالإنشاء.

نعم يمكن أن يخاطب الشاكّ قاطعاً بالإنشاء.

نعم يمكن أن يخاطب الشاكّ بقوله « رتّب أثر اليقين » ، ولكنّه يعود أيضاً إلى جعل الحكم الظاهري الموافق لمؤدّى الاستصحاب ، وهكذا صفة المحرزية ، لأنّها أيضاً من الامور التكوينية.

إذا عرفت هذا فلنعد إلى أصل البحث وهو عدم حجّية الأصل المثبت ، وقد ذكر له وجوه عديدة :

الأوّل : ما أفاده الشيخ الأعظم ، وإليك نصّ كلامه : « إنّ تنزيل الشارع المشكوك منزلة المتيقّن كسائر التنزيلات إنّما يفيد ترتيب الأحكام والآثار الشرعيّة المحمولة على المتيقّن السابق ، فلا دلالة فيها على جعل غيرها من الآثار العقليّة والعادية ، لعدم قابليتها للجعل ، ولا على جعل الآثار الشرعيّة المترتّبة على تلك الآثار ، لأنّها ليست آثاراً لنفس المتيقّن ، ولم يقع ذوها مورداً لتنزيل الشارع حتّى تترتّب هى عليه » ( انتهى ).

وحاصل كلامه رحمه‌الله : أنّ الآثار مع الواسطة لا يجري فيها الاستصحاب لعدم وجود أركانه فيها ، لأنّ اليقين السابق كان في خصوص حياة زيد مثلاً ، لا ما يشمل لوازمه العقليّة والعادية في حال الشكّ.

الثاني : ما ذهب إليه المحقّق الخراساني في الكفاية ، وحاصله : أنّ مفاد الأخبار ليس أكثر من التعبّد بالمستصحب وحده بلحاظ ما لنفسه من الآثار الشرعيّة ، ولا دلالة لها بوجه على تنزيل المستصحب بلوازمه العقليّة والعادية حتّى تترتّب عليه آثارها أيضاً ، فإنّ المتيقّن إنّما هو لحاظ آثار نفسه ، وأمّا آثار لوازمه فلا دلالة هناك على لحاظها.

أقول : الظاهر أنّ نظره إلى إنّ إطلاقات « لا تنقض » لا تشمل المقام لأنّ من شرائط الأخذ بالإطلاق عدم وجود القدر المتيقّن ( على مبناه ) وهو مفقود في ما نحن فيه ، لوجود القدر المتيقّن وهو الآثار الشرعيّة من دون الواسطة.

٣٧٦

الثالث : ما أفاده المحقّق الحائري في الدرر ، وحاصله : عدم شمول إطلاقات الأخبار لما نحن فيه ، لوجود القدر المتيقّن ، بل لإنصرافها إلى الآثار الشرعيّة بلا واسطة لأنّ الإبقاء العملي للشيء ينصرف إلى إتيان ما يقتضيه ذلك الشيء بلا واسطة » (١).

أقول : أمّا كلام المحقّق الخراساني فيرد عليه ما قرّر في محلّه من منع ما تبنّاه في مقدّمات الحكمة وإنّ منها عدم وجود القدر المتيقّن فإنّ لازمه سقوط أغلب المطلقات عن الاطلاق لأنّ القدر المتيقّن فيها موجود ، ولا أقلّ من موارد سؤال الرواة ، مع أنّ سيرة الفقهاء وديدنهم على أخذ الاطلاق فيها وإنّ المورد ليس بمخصّص.

وأمّا ما أفاده الشيخ الأعظم فيرد عليه أيضاً ما أورده المحقّق الخراساني عليه من أنّ أثر الأثر أثر ، فلا مانع عقلاً من تنزيل المستصحب بلحاظ مطلق ما له من الأثر ولو بالواسطة (٢).

والصحيح في المقام ما ذهب إليه المحقّق الحائري من أنّ الإطلاقات منصرفة إلى الآثار الشرعيّة بلا واسطة ، ولتوضيحه لا بأس بإتيان أمثلة يكون الوجدان أقوى شاهد على إنصراف الأدلّة عنها :

منها : ما جاء في بعض الكلمات من أنّه إذا كان في الحوض كرّ من الماء ، ثمّ وجدناه فارغاً من الماء وقد سقط فيه ثوب في البارحة وكان نجساً وكان ينغسل لو كان الماء باقياً. فإنّه لا إشكال في أنّ استصحاب بقاء الماء حين سقوط الثوب لا يثبت الإنغسال الذي يكون من الآثار العقليّة لبقاء الماء ، حتّى يترتّب عليه أثره الشرعي وهو الطهارة.

__________________

(١) راجع درر الفوائد : ج ٢ ص ٥٥٤ ، طبع جماعة المدرّسين.

(٢) نعم أنّه رجع عن ذلك في الهامش ( هامش ص ٤١٥ من الكفاية طبع مؤسسة آل البيت ) بقوله : « ولكن الوجه عدم صحّة التنزيل بهذا اللحاظ ، ضرورة أنّه ما يكون شرعاً لشيء من الأثر لا دخل له بما يستلزم عقلاً أو عادة ، وحديث أثر الأثر أثر وإن كان صادقاً إلاّ أنّه إذا لم يكن الترتيب بين الشيء وأثره بينه وبين مؤثّره مختلفاً ، وذلك ضرورة أنّه لا يكاد يعدّ الأثر الشرعي لشيء أثراً شرعياً لما يستلزمه عقلاً أو عادة أصلاً ، لا بالنظر الدقيق العقلي ولا النظر المسامحي العرفي ، إلاّفيما عدّ أثر الواسطة أثراً لذيها لخفائها أو شدّة وضوح الملازمة بينهما بحيث عدّا شيئاً واحداً ذا وجهين وأثر أحدهما أثر الإثنين » ( انتهى ).

أقول : ما ذكره صحيح بالنسبة إلى الدقّة العقليّة ، ولكن بالنظر العرفي غير مقبول ، فهل هناك مانع من أن يقول شارع المقدّس : رتّب الآثار الشرعيّة للمستصحب ولو بالف واسطة ، إنّما الإشكال في عدم شمول الإطلاقات لمثلها ، وإلاّ لا ينبغي الشكّ في إمكان جعل آثار الواسطة أثراً لذي الواسطة عرفاً فتأمّل.

٣٧٧

ومنها : ما إذا كان زيد جالساً في حجرته وشككنا في خروجه منها وعدمه ، فإذا فرض إحراق الحجرة فلا يثبت إحتراق زيد بإستصحاب بقائه إلى حين الإحتراق حتّى يترتّب عليه أثر القصاص.

ومنها : ما إذا كان الإناء مملوّاً من اللبن وشككنا في إنتقاله منه إلى إناء آخر ، ثمّ كسره إنسان في ظلمة الليل مثلاً بحيث لو كان اللبن باقياً فقد أتلفه ، فلا يثبت إتلاف اللبن باستصحاب بقاء اللبن حين الإنكسار حتّى يترتّب عليه أثره الشرعي وهو الضمان.

المقام الثالث : فيما استثنى من الأصل المثبت

وقد استثنى من عدم حجّية الأصل المثبت وانصراف الأدلّة عنه موارد خاصّة معدودة :

أحدها : ما إذا كانت الواسطة خفيّة ، كما إذا استصحب رطوبة النجس من المتلاقيين مع جفاف الآخر فيحكم بنجاسة الملاقي الجافّ ، مع أنّ تنجّسه ليس من أحكام ملاقاته للنجس رطباً ، بل من أحكام سراية رطوبة النجاسة إليه وتأثّره بها ، والسراية من الآثار العقليّة للملاقاة بالنجس رطباً ، ولكنّها لا اعتبار بها لخفائها.

وأظهر منه ما مرّ سابقاً ممّا ورد في نفس أدلّة الاستصحاب من استصحاب الطهارة للصلاة ، مع أنّ صحّة الصّلاة أثر لتقيّدها بالوضوء لا نفس الوضوء ، والتقيّد بالوضوء من الآثار العقليّة لبقاء الوضوء ، وهكذا في سائر الشرائط ، لأنّ الجزء فيها إنّما هو التقيّد ، وأمّا القيد فهو خارج ، ولكن الإمام عليه‌السلام حكم بحجّية الاستصحاب ، وليس ذلك إلاّلمكان خفاء الواسطة.

ونظيره أيضاً استصحاب بقاء شهر رمضان وترتيب أثر صحّة الصيام عليه ، مع أنّ الصحّة من آثار وقوع الصيام في شهر رمضان ، ولكنّه لا بأس به أيضاً لخفاء الواسطة.

ثانيها : ما إذا كانت الواسطة جليّة جدّاً بحيث يرى العرف ملازمة بين تنزيل المستصحب وتنزيلها ، فإذا نزّل المستصحب منزلة المتيّقّن السابق نزّلت الواسطة تبعاً كذلك ، فيجب ترتيب أثرها الشرعي قهراً.

وإن شئت قلت : إنّ شدّة وضوح الواسطة وجلائها توجب عدّ أثر الواسطة أثراً لذي

٣٧٨

الواسطة ، نظير أصالة عدم دخول هلال شوّال أو بقاء شهر رمضان في يوم الشكّ المثبت لكون الغد يوم العيد فيترتّب عليه أحكام العيد من الصّلاة والغسل وزكاة الفطرة وغيرها ، فإنّ إتّصاف الغد بصفة العيد بعد استصحاب بقاء رمضان في يوم الشكّ من اللوازم العقليّة قطعاً ، لكنّ العرف لا يفهمون من وجوب ترتيب آثار عدم انقضاء رمضان وعدم دخول شوّال إلاّ ترتيب أحكام آخرية ذلك اليوم لشهر ، وأوّلية غده لشهر آخر ، لأجل وضوح لزوم أحدهما للآخر وعدم انفكاكهما في جعل الأحكام.

ثالثها : ما إذا كانت الواسطة والمستصحب من قبيل المتضايفين كاستصحاب بقاء زيد زوجاً ، الذي يلازم بقاء هند مثلاً على زوجيتها ، ولا يفهم العرف من جعل أحدهما إلاّجعل الآخر ، ولا يصحّ عندهم ترتيب آثار الزوجيّة على خصوص الزوج دون زوجته بل يرون هذا من قبيل التناقض في الجعل ( وإن لم يكن كذلك حقيقةً ).

هذا ـ ويمكن جعل هذا المورد من مصاديق جلاء الواسطة الذي مرّ بيانه آنفاً ، والأمر في عدّهما أمرين مختلفين أو مصداقين لأمر واحد سهل.

هذا كلّه ما استثنى من الأصل المثبت.

ولكن قد اورد عليها من جانب الأعلام إشكالات :

الأوّل : ما أورده المحقّق النائيني على الشيخ الأعظم رحمهما الله في القسم الأوّل وهو ما إذا كانت الواسطة خفية ، وتبعه بعض أعاظم تلامذته ، وهو : « أنّه لا مسوّغ للأخذ بهذه المسامحة ، فإنّ الرجوع إلى العرف إنّما هو لتعيين مفهوم اللفظ عند الشكّ فيه أو في ضيقه وسعته مع العلم بأصله في الجملة ، لأنّ موضوع الحجّية هو الظهور العرفي ، فالمرجع الوحيد في تعيين الظاهر هو العرف ، سواء كان الظهور من جهة الوضع أو من جهة القرينة المقاليّة والحاليّة ، ولا يجوز الرجوع إلى العرف والأخذ بمسامحاتهم بعد تعيين المفهوم وتشخيص الظهور اللفظي كما هو المسلّم في مسألة الكرّ ... وكذا في مسألة الزكاة » (١).

أقول : يرد عليه :

أوّلاً : أنّ المسامحات العرفيّة على قسمين : قسم منها ما يكون العرف فيه ملتفتاً إلى

__________________

(١) راجع مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ١٥٩ ، طبع مطبعة النجف.

٣٧٩

تسامحه كما في باب الكرّ والنصاب ، فإنّه يعلم أنّ ٩٩٩ مثقالاً من الذهب أو الماء ليس الف مثقال ، ولكن يسامح في اطلاق الألف عليه ، ففي هذا القسم ، الصحيح كما قال ، أي عدم حجّية التسامح العرفي ، وقسم منها ما لا يكون كذلك ، أي يكون العرف غافلاً عنه ولا يلتفت إليه ولو عند الدقّة ، كما في مثل الدم فهو يحكم بأنّ لونه ليس دماً ، مع أنّه يمكن أن يقال : بأنّ انتقال العرض من شيء إلى شيء آخر بدون انتقال معروضه محال عقلاً ، فبقاء اللون دليل على بقاء الأجزاء الصغار من الدم ، وكذا في ما إذا لاقت يده الميتة وأصاب بها رائحتها ، فهو يحكم بعد الاغتسال بعدم وجود أجزاء الميتة في اليد ، ففي مثل هذه الموارد لا إشكال في الحجّية ، وإلاّ كان على الشارع اخراج العرف عن الغفلة ، ولا إشكال في أنّ خفاء الواسطة قد يكون من هذا القسم.

ثانياً : أنّ موارد خفاء الواسطة داخلة في القسم الأوّل من كلامه ، أي ما إذا كان الشكّ في تعيين المفهوم أو سعته وضيقه ، فيكون المرجع فيها العرف ، وبعبارة اخرى : كان الوجه في عدم حجّية المثبتات انصراف دليل « لا تنقض » عنها ، وهو ليس جارياً في المقام ، أي لا يكون ذلك الاطلاق منصرفاً عن موارد خفاء الواسطة عند العرف.

وإن شئت قلت : يستفاد من تعميم الشارع حجّية الاستصحاب لموارد خفاء الواسطة في مورد حديث زرارة ورواية علي بن محمّد القاساني أنّ أثر الأثر أثر عنده في هذه الموارد.

الثاني : ما أورده المحقّق الأصفهاني رحمه‌الله على صاحب الكفاية في المورد الثاني والثالث ( مورد جلاء الواسطة والمتلازمين ) وحاصله : « أنّه لا حاجة إلى إثبات بقاء أحد المتضايفين باستصحاب الآخر ، بل يجري الاستصحاب في كلّ واحد منهما.

هذا في المتلازمين ، وهكذا في جلاء الواسطة ( الذي مثّل له بباب العلّة والمعلول كاستصحاب حركة اليد وإثبات آثار حركة المفتاح ) فيمكن إجراء استصحاب حركة المفتاح في عرض استصحاب حركة اليد ، للعلم بوجود كلّ واحد منهما » (١).

ويرد عليه أيضاً : أنّ كلامه في مورد جلاء الواسطة صادق في مثل ما ذكره من مثال حركة اليد والمفتاح وما أشبهه من موارد العلّة والمعلول ، لا في مثل ما ذكرناه من مثال

__________________

(١) راجع نهاية الدراية : ج ٥ ـ ٦ ، ص ١٩٠ ، طبع مؤسسة آل البيت.

٣٨٠