أنوار الأصول - ج ٣

أنوار الأصول - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-15-6
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٢٤

والتعدّد بينهما إنّما هو في الوجود الذهني والتحليل العقلي ، سواء كان الكلّي من قبيل الوجود الساري أو صرف الوجود.

وأمّا القول الرابع : ( وهو التفصيل بين الشبهة الحكميّة والشبهة الموضوعيّة ) فاستدلّ له بأنّ المختار في الشبهة الحكميّة هو جعل الحكم الممثال ، ولا إشكال في أنّ الحكم المجعول كالوجوب مصداق للفرد ولكلّي الطلب معاً ، فيغني استصحاب الوجوب عن استصحاب كلّي الطلب ، بخلاف الشبهة الموضوعيّة كالجنابة ، حيث إنّ حيثية الجنابة غير حيثية الحدث.

والجواب أيضاً اتّضح ممّا مرّ من أنّ تعدّد الحيثيتين إنّما هو في الذهن لا في الخارج.

أمّا القسم الثاني : فقد مرّ مثاله الشرعي والعرفي ، ومن أمثلته الشرعيّة ما إذا علم إجمالاً بحدوث البول أو المني ولم يعلم الحالة السابقة ، ثمّ توضّأ ولم يغتسل ، فإن كان الحدث من البول فقد زال ، وإن كان من المني فهو باقٍ ، فيستصحب كلّي الحدث المشترك بين البول والمني ويترتّب عليه الأثر المشترك كحرمة مسّ المصحف وعدم جواز الدخول في الصّلاة ونحوهما ممّا يشترط بالطهارة ، فيجب عليه حينئذٍ الغسل مضافاً إلى الوضوء.

هذا إذا كان مسبوقاً بالطهارة ، وأمّا لو كان مسبوقاً بالحدث الأصغر فلا يجب عليه أزيد من الوضوء لأنّه لا يعلم أنّ خروج البلل المشتبه هل أوجب له تكليفاً جديداً ، أو لا؟ فيجوز له استصحاب عدم الجنابة ، وأمّا استصحاب عدم الحدث الأصغر فهو غير جارٍ ، لأنّ المفروض وجوده ، فيجب عليه حينئذٍ الوضوء فقط.

وكيف كان فقد ذهب أكثر المحقّقين إلى حجّية هذا القسم لكن في خصوص ما إذا لم يكن أثر الكلّي مبايناً مع أثر الفرد والخصوصيّات الفردية ، كما إذا علمنا إجمالاً بنجاسة الثوب ولم نعلم أنه دم أو بول ، حيث إنّ أثر النجاسة بالدم وجوب الغسل مرّه وأثر النجاسة بالبول وجوب الغسل مرّتين فيجري استصحاب بقاء النجاسة بعد الغسل مرّة ويجب الغسل مرّة اخرى.

وأمّا إذا كان أثر الكلّي مبايناً مع أثر الفرد كما في المثال المشهور المذكور آنفاً ( مثال البول والمني حيث إنّ أثر البول وجوب الوضوء وأثر المني وجوب الغسل وهما أثران متباينان ) وكما

٣٤١

إذا علمنا بشرب حيوان من الإناء ، ودار أمره بين الكلب والخنزير ، فإن كان كلباً وجب التعفير والغسل مرتين بالماء القليل ، ولو كان خنزيراً وجب الغسل سبع مرّات من دون تعفير ، ففي هذه الصورة لا تصل النوبة إلى استصحاب كلّي الحدث لإثبات وجوب الوضوء والغسل معاً في المثال الأوّل ، ولإثبات وجوب رعاية ما إعتبر في التطهير من نجاسة الكلب والخنزير معاً في المثال الثاني ، بل تجري قاعدة الاحتياط والاشتغال فقط لإثبات وجوب رعاية كلا الأثرين.

أقول : هذا ـ ولكن الصحيح أنّ هذا النوع من الاستصحاب ليس من مصاديق استصحاب الكلّي بل إنّه في الواقع من قبيل استصحاب الفرد المبهم ، وإن شئت قلت : يجري استصحاب الفرد المبهم ويترتّب نفس ما يترتّب على استصحاب الكلّي ، ففي مثال العصفور والغراب مثلاً نشير إلى ذلك الفرد من الطائر المبهم الذي دخل الدار في ساعة كذا ورآه بعينه من دون معرفة حاله ، ويستصحب شخص ذلك الفرد المبهم ، ولعلّ مراد القائلين بالكلّي أيضاً ذلك.

ثمّ إنّه قد أورد على هذا القسم من استصحاب الكلّي بوجوه :

الوجه الأوّل : إختلال بعض أركان الاستصحاب فيه ، لدورانه بين ما هو مقطوع الانتفاء وهو وجود الفرد القصير ، وما هو مشكوك الحدوث من الأوّل ، وهو الفرد الطويل المحكوم بالعدم بمقتضى الأصل.

واجيب عنه : بأنّ هذا كلّه ممّا يضرّ باستصحاب نفس الفرد الطويل أو القصير بعينه ، أي استصحاب خصوصية الفرد ، وأمّا استصحاب القدر المشترك بينهما فلا مانع منه وذلك لتحقّق أركانه من اليقين السابق والشكّ اللاحق وغيرهما من الامور المعتبرة في حجّية الاستصحاب.

الوجه الثاني : أنّ الشكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن الشكّ في حدوث الفرد الطويل ، فإذا إرتفع الشكّ عن حدوثه تعبّداً باستصحاب عدم حدوثه علم بعدم بقاء الكلّي تعبّداً ، وذلك لحكومة الأصل السببي على الأصل المسبّبي.

وفيه أوّلاً : منع كون الشكّ في بقاء الكلّي مسبّباً عن الشكّ في حدوث الفرد الطويل لأنّ الكلّي عين الفرد خارجاً ولا تسبّب بينهما ، والمعتبر في أحكام السبب والمسبّب أن تكون حادثة خارجية مسبّبة عن حادثة اخرى ، ولازمه تعدّد الحادثتين.

٣٤٢

ثانياً : سلّمنا ، ولكن يعتبر في حكومة الأصل السببي على المسبّبي أن يكون المسبّب من الآثار الشرعيّة للسبب ، بينما تكون السببيّة والمسبّبية في المقام عقلياً على فرض قبولها.

وثالثاً : إنّا نمنع كون الشكّ في بقاء الكلّي وعدمه مسبّباً عن الشكّ في حدوث الفرد الطويل ، بل أنّه مسبّب عن أنّ الحادث المعلوم حدوثه هل هو الفرد القصير المعدوم حتّى يكون الكلّي معلوم الارتفاع ، أو هو الفرد الطويل حتّى يكون معلوم البقاء؟ أي الشكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن دوران الفرد بين القصير والطويل.

وبعبارة اخرى : أنّ الكلّي ينعدم بانعدام جميع أفراده ، فيكون عدم الكلّي مسبّباً عن عدم الفرد الطويل والقصير معاً ، لا مسبّباً عن خصوص عدم فرده الطويل.

وبعبارة اخرى : إنّ الكلّي ينعدم بانعدام جميع أفراده فيكون عدم الكلّي مسبّباً عن عدم فرد الطويل والقصير معاً ، لا مسبّباً عن خصوص عدم فرده الطويل.

ولكنّه غير تامّ لأنّ المفروض أنّ زمان جريان استصحاب الكلّي ما إذا علمنا بإنعدام الفرد القصير ، فالشكّ في بقائه ناشٍ من الشكّ في حدوث الفرد الطويل وعدمه ، فإن كان الطويل حادثاً كان الكلّي باقياً ، وإلاّ فلا ، من غير دخل لحدوث القصير وعدمه ، فتدبّر جيّداً.

الوجه الثالث : أنّ من شرائط حجّية الاستصحاب وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، أي تعلّق اليقين والشكّ بشيء واحد ، وهذا في المقام غير حاصل ، لأنّ وجود الكلّي ضمن أحد أفراده غير وجوده ضمن فرد آخر ، فإنّ نسبة الكلّي إلى افراده نسبة الآباء إلى الأبناء ، لا نسبة أب واحد إلى أبناء متعدّدين ، وحينئذٍ يصير الاستصحاب من قبيل استصحاب الفرد المردّد ، وهو غير حجّة.

واجيب عنه أوّلاً : بأنّه « إنّما يرد ذلك بعد تسليم كون الطبيعي مع الأفراد كذلك عرفاً لو أردنا استصحاب الفرد المردّد دون ما إذا أردنا استصحاب الكلّي ، فإنّ المعلوم هو حيوان خارجي متشخّص يكون الكلّي موجوداً بوجوده ، وشكّ في بقاء ذاك الحيوان بعينه فلا إشكال في جريان الأصل فيه » (١).

ويمكن الجواب عنه ثانياً : بما مرّ من أنّ هذا القسم من الكلّي في الحقيقة إلى استصحاب

__________________

(١) رسائل الإمام الخميني قدس‌سره : ج ١ ، ص ١٢٧.

٣٤٣

الفرد ، أي استصحاب تلك الحصّه الخاصّة المتيقّنة وإن كان بعض خصوصيّاتها مبهمة ، فنقول : أنّ الطائر الذي دخل الدار في ساعة كذا بعينه موجود الآن وإن شككنا في أنّه كان غراباً أو عصفوراً لظلمة أو شبهها.

الوجه الرابع : أنّه يرد على هذا الاستصحاب ما يرد على جريان الاستصحاب في الشبهات المفهوميّة كاستصحاب بقاء النهار في ما إذا شككنا في أنّ النهار هل هو ما ينتهي إلى سقوط قرص الشمس أو يبقى إلى زوال الحمرة ( فإنّ الاستصحاب فيه غير جارٍ لعدم الشكّ في أمر خارجي فإنّ سقوط القرص معلوم وعدم زوال الحمرة أيضاً معلوم ، فالأمر دائر بين المعلومين ، وإنّما الشكّ في إنطباق مفهوم النهار على أحدهما ) فإنّ الأمر في المقام أيضاً دائر بين المعلومين ، لأنّ الحيوان الخارجي إذا كان غراباً فهو باقٍ قطعاً ، وإذا كان عصفوراً فهو معدوم قطعاً ، وإنّما الشكّ في إنطباق عنوان الغراب أو العصفور عليه.

والجواب عنه واضح : لأنّ قياس المقام على الشبهة المفهومية مع الفارق ، فإنّ الشكّ في الشبهة المفهوميّة إنّما هو في المعنى اللغوي ، أو العرفي ولا يسري إلى الخارج أصلاً ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ الشكّ فيه في بقاء عمر الطائر خارجاً ، أي بقاء نفس ذلك الحيوان المتيقّن وجوده في الخارج سابقاً.

الشبهة العبائيّة

ثمّ إنّ هيهنا شبهة سمّيت بالشبهة العبائيّة ، وهى في الواقع إشكال خامس على جريان الاستصحاب في القسم الثاني من استصحاب الكلّي ، ومنسوبة إلى المحقّق السيّد إسماعيل الصدر رحمه‌الله وحاصلها : أنّه لو علمنا بإصابة النجاسة أحد طرفي العباءة من الأيمن والأيسر ثمّ طهّرنا الطرف الأيمن فطهارته تورث الشكّ في بقاء النجاسة في العباءة ، لاحتمال أن تكون النجاسة المعلومة قد أصابت الطرف الأيسر فيجري فيه استصحاب بقاء النجاسة ، فإذا لاقت اليد مثلاً الطرف الأيسر كانت محكومة بالطهارة ( لأنّ ملاقي بعض الأطراف في الشبهة المحصورة طاهر ) أمّا إذا لاقت بعد ذلك الطرف الأيمن وجب الحكم بنجاستها مع أنّ الأيمن طاهر على المفروض ، وذلك لأنّ النجاسة في العباءة باقية بحكم الاستصحاب وليست خارجة

٣٤٤

عن الطرفين ، وقد لاقت اليد كليهما ، فلا محيص عن القول بنجاسة اليد بعد إصابة الطرف الطاهر ، وهذا من العجائب ، فلابدّ من رفع اليد عن جواز استصحاب الطهارة هنا الذي هو من قبيل استصحاب القسم الثاني من الكلّي.

وقد وقع الأعلام في حيص وبيص في حلّ هذه المشكلة.

فأجاب المحقّق النائيني رحمه‌الله في الدورة الاولى من خارج الاصول بجواب ، وفي الدورة الثانية بجواب آخر.

أمّا الجواب الأوّل : فهو « إنّ الاستصحاب الجاري في مثل العباءة ليس من استصحاب الكلّي في شيء لأنّ استصحاب الكلّي إنّما هو فيما إذا كان الكلّي المتيقّن مردّداً بين فرد من الصنف الطويل وفرد من الصنف القصير ، كالحيوان المردّد بين البق والفيل على ما هو المعروف ، بخلاف المقام فإنّ الشكّ فيه في خصوصيّة محلّ النجس مع العلم بخصوصيّة الفرد ، والشكّ في خصوصيّة المكان أو الزمان لا يوجب كلّية المتيقّن ، فليس الشكّ حينئذٍ في بقاء الكلّي وارتفاعه حتّى يجري الاستصحاب فيه ، كما إذا علمنا بوجود زيد في الدار فانهدم الطرف الشرقي منها ، فلو كان زيد فيه فقد مات بانهدامه ، ولو كان في الطرف الغربي فهو حي ، فحياة زيد وإن كانت مشكوكاً فيها إلاّ أنّه لا مجال معه لاستصحاب الكلّي » (١).

وأورد عليه مقرّره المحقّق : بأنّ الإشكال ليس في تسمية الاستصحاب الجاري في مسألة العباءة باستصحاب الكلّي ، بل الإشكال إنّما هو في أنّ جريان استصحاب النجاسة لا يجتمع مع القول بطهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة ، سواء كان الاستصحاب من قبيل استصحاب الكلّي أو الجزئي » (٢).

ولكن يمكن الدفاع عن المحقّق النائيني رحمه‌الله بأنّ مقصود المحقّق إنّما هو إثبات سلامة استصحاب القسم الثاني من الكلّي من الإشكال وهو حاصل بجوابه.

نعم ، يمكن الإيراد عليه بأنّ قياس ما نحن فيه بمثال وجود زيد في الدار مع الفارق ، لأنّ البحث في ما نحن فيه ليس في خصوصيّة المكان وأنّ النجاسة هل وقعت في الطرف الأيمن أو الطرف الأيسر؟ بل الكلام في تنجّس العباءة ( فإنّها تتنجّس بالملاقاة ) وإنّ نجاستها هل هى

__________________

(١) نقل عنه في مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ١١٠ ، طبع مطبعة النجف.

(٢) مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ١١١ ، طبع مطبعة النجف.

٣٤٥

باقية ضمن فردها الأيمن أو الأيسر أو لا؟ نظير ما إذا علمنا بنجاسة كلّي الإناء ولا نعلم بوجوده ضمن الإناء الأيمن أو الإناء الأيسر ، فالاستصحاب من قبيل القسم الثاني من الكلّي على مبنى القوم ، وبعبارة اخرى : العباءة ليست ظرفاً للنجاسة ، بخلاف مثال زيد في طرفي الدار ، بل العباءة تتنجّس بنفسها ثمّ نشكّ في ارتفاع نجاستها.

وأما الجواب الثاني : فهو « إنّ الاستصحاب المدّعى في المقام لا يمكن جريانه في مفاد كان الناقصة بأن يشار إلى طرف معيّن من العباءة ويقال : إنّ هذا الطرف كان نجساً وشكّ في بقائها فالإستصحاب يقتضي نجاسته ، وذلك لأنّ أحد طرفي العباءة مقطوع الطهارة والطرف الآخر مشكوك النجاسة من أوّل الأمر ، وليس لنا يقين بنجاسة طرف معيّن يشكّ في بقائها ليجري الاستصحاب فيها ، نعم يمكن اجراؤه في مفاد كان التامّة بأن يقال : أنّ النجاسة في العباءة كانت موجودة وشكّ في إرتفاعها فالآن كما كانت ، إلاّ أنّه لا تترتّب نجاسة الملاقي على هذا الاستصحاب إلاّعلى القول بالأصل المثبت » (١).

وقد ذكر له بعض الأعاظم رحمه‌الله مثالاً آخر وهو « أنّه لو وجب عليه إكرام عالم وكان في البيت شخصان يعلم كون أحدهما عالماً فخرج أحدهما من البيت وبقي الآخر يجري استصحاب بقاء العالم في البيت ويترتّب عليه أثره لو كان له ، لكن لا يثبت كون الشخص الموجود عالماً يكون إكرامه عملاً بالتكليف » (٢).

ولكن يرد عليه : أنّ هذا ليس من الأصل المثبت بل هو من قبيل ضمّ الوجدان إلى الأصل ، لأنّ ملاقاة اليد مثلاً بالعباءة متيقّن بالوجدان ، ونجاسة العباءة معلومة بالتعبّد فتثبت نجاسة الملاقي ، وهذا نظير ما إذا تنجّس خصوص أحد طرفي العباءة ولم نعلم بطهارته بعد ذلك ولاقاه شيء فلا إشكال في نجاسة الملاقي حينئذٍ.

وإن شئت قلت : من الآثار الشرعيّة للشيء النجس نجاسة ملاقيه وبعد إثبات نجاسة العباءة في ما نحن فيه بإستصحاب كلّي النجاسة تترتّب عليها نجاسة ملاقيه وهو اليد.

وأمّا قياسه بمثال العالم الموجود في الدار في كلمات بعض الأعاظم قياس مع الفارق فإن تنظير المقام به إنّما يتمّ فيما إذا قلنا بنجاسة اليد بمجرّد ملاقاتها بالطرف الأوّل ، أي قلنا بنجاسة

__________________

(١) نقل عنه في مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ١١١ ، طبع مطبعة النجف.

(٢) رسائل الإمام الخميني قدس‌سره : ج ١ ، ص ١٣٠.

٣٤٦

ملاقي بعض أطراف العلم الإجمالي ، وليس كذلك.

الجواب الثالث : ما أفاده بعض الأعلام وحاصله : أنّ هذا يكون في الواقع التحقيق العبائي لا الشبهة العبائية ، أي نحكم بنجاسة الملاقي لطرفي العباءة تعبّداً من باب جريان استصحاب كلّي النجاسة في العباءة ، فإنّ من آثار هذا الاستصحاب هو الحكم بنجاسة الملاقي ، ولا منافاة بين الحكم بطهارة الملاقي في سائر المقامات والحكم بنجاسته في مثل المقام ، للأصل الحاكم على الأصل الجاري في الملاقي ، فإنّ التفكيك في الاصول كثير جدّاً ، ولا تناقض في عالم التعبّد والاعتبار (١).

ويرد عليه أنّه لا يجوز مثل هذا التعبّد لجهتين.

فأوّلاً : أنّ نجاسة الملاقي من شؤون نجاسة الملاقى ، وهو في المقام ليس نجساً لأنّ المفروض أنّ الطرف الثاني طاهر ، وملاقي الطاهر لا يتنجّس ، كما أنّ المفروض أنّه لا يحكم بنجاسة الملاقي للطرف الأوّل.

وثانياً : سلّمنا أنّه لا تناقض في عالم التعبّد عقلاً ولكن الوجدان يحكم بأنّ مثل هذا التعبّد أمر عجيب جدّاً يوجب إنصراف أدلّة الاستصحاب عنه بلا ريب ، وإن شئت قلت : مثل هذا التعبّد لا يمكن إثباته بمجرّد الاطلاق ، بل يحتاج إلى دليل صريح الدلالة قوي السند جدّاً.

الجواب الرابع : ما هو الصحيح ، وهو أنّ مثل هذا الاستصحاب ليس من قبيل استصحاب القسم الثاني من الكلّي ، لأنّ استصحاب القسم الثاني عبارة عن استصحاب فرد واحد مجهول الصفات ، أي الفرد المبهم المتيقّن وجوده في الخارج ، بينما الفرد في ما نحن فيه مردّد بين فردين خارجيين ، فهو نظير ما إذا علمنا بنجاسة أحد الإنائين ثمّ علمنا بإنعدام أحدهما ولا نعلم هل المعدوم هو الإناء النجس أو الإناء الطاهر؟ فلا إشكال في عدم جواز استصحاب نجاسة كلّي أحدهما في مثل ذلك ، لتبدّل الموضوع الناشىء من انعدام أحدهما في الخارج.

فإنّ المفروض في ما نحن فيه أنّ أحد الطرفين صار طاهراً قطعاً ، فتبدّل عنوان « هما » بـ « هو » فليس المتيقّن نجاسة كلّي أحدهما بل المتيقّن نجاسة الفرد المردّد بين ما صار طاهراً يقيناً وبين ما هو مشكوك نجاسة ، فهو من قبيل استصحاب الفرد المردّد الذي لا إشكال في عدم

__________________

(١) راجع مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ١١٣ ، طبع مطبعة النجف.

٣٤٧

جريانه في أمثال المقام لتبدّل الموضوع.

إن قلت : فليكن إتيان الصّلاة في مثل هذا العباءة جائزاً.

قلنا : كلاّ ، لأنّ أحد أطراف العلم الإجمالي باقٍ على حاله بعد تنجّزه ، وقد ثبت في محلّه بقاء تنجّز العلم الإجمالي بالنسبة إلى الافراد الباقية ولو بعد إنعدام بعض الأطراف ، فالحكم بعدم جواز الصّلاة حينئذٍ ليس من باب استصحاب النجاسة ، بل هو ناشٍ عن وجوب الاحتياط الحاصل من العلم الإجمالي ، والفرق بينهما ظاهر.

أمّا استصحاب القسم الثالث : ففي حجّيته وعدم حجّيته وجوه ثلاثة :

الأوّل : عدم الحجّية مطلقاً ، وهو المعروف بين الأصحاب.

الثاني : الحجّية مطلقاً ، ولا نعرف من يقول به بالاسم والعنوان.

الثالث : تفصيل شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه‌الله في فرائده بين ما إذا إحتمل وجود الفرد الآخر مقارناً لخروج الفرد الأوّل ، وما إذا احتمل وجوده مقارناً لوجود الفرد الأوّل ، فهو حجّة في الثاني دون الأوّل.

والصحيح هو القول الأوّل ، ودليله واضح ، لإعتبار وحدة متعلّق اليقين والشكّ في الاستصحاب الذي يعبّر عنه بلزوم اتّحاد القضية المتيقّنة والقضية المشكوكة ، وهى مفقودة في المقام لأنّ متعلّق اليقين فيه إنّما هو وجود الإنسان ضمن زيد ، بينما المشكوك هو وجود الإنسان ضمن عمرو ، وقد ثبت في محلّه أنّ وجود الكلّي الطبيعي في الخارج يكون متعدّداً بتعدّد أفراده وإن كان متّحداً معها في الذهن ، ولا إشكال في أنّ المستصحب في ما نحن فيه إنّما هو وجود الكلّي في الخارج لا الموجود في الذهن.

واستدلّ الشيخ الأعظم رحمه‌الله لجريان الاستصحاب في القسم الأوّل من قسمي الثالث ( وهو ما إذا وقع الشكّ في وجود فرد آخر مقارن لوجود الفرد الأوّل ) بما إليك نصّه : « لإحتمال كون الثابت في الآن اللاحق هو عين الموجود سابقاً فيتردّد الكلّي المعلوم سابقاً بين أن يكون وجوده الخارجي على نحو لا يرتفع بإرتفاع الفرد المعلوم إرتفاعه وأن يكون على نحو يرتفع بإرتفاع ذلك الفرد ، فالشكّ إنّما هو في مقدار استعداد ذلك الكلّي ، واستصحاب عدم حدوث

٣٤٨

الفرد المشكوك لا يثبت تعيين استعداد الكلّي ».

فحاصل كلامه : أنّه في القسم الأوّل يحتمل أن يكون الثابت في الآن اللاحق هو عين الموجود سابقاً بخلاف القسم الثاني فلا يحتمل فيه ذلك ، فيجري الاستصحاب في الأوّل دون الثاني.

ويمكن أن يجاب عنه : بأنّ المتيقّن إنّما هو وجود كلّي الإنسان ضمن وجود زيد ، وأمّا المشكوك فهو وجود كلّي الإنسان ضمن عمرو ، فالموضوع المستصحب على كلّ حال ليس واحداً لما مرّ كراراً من أنّ وجود الطبيعي في ضمن فرد غير وجوده في ضمن فرد آخر.

بقي هنا امور :

الأمر الأوّل : قد استثنى الأعاظم من القسم الثالث ما يتسامح فيه العرف ، فيعدّون الفرد اللاحق مع الفرد السابق كالمستمرّ الواحد ، وهو ما إذا كان الفردان من قبيل المرتبة الشديدة والمرتبة الضعيفة من شيء واحد ، كما إذا علمنا بالسواد الشديد في محلّ ، وشككنا في تبدّله بالبياض أو بسواد خفيف ، ففي هذه الصورة لا إشكال في جريان الاستصحاب ، لأنّ العبرة في جريان الاستصحاب كون الوجود اللاحق استمراراً للوجود السابق بنظر العرف ولو كان مغايراً معه بالدقّة العقليّة.

أقول : الحقّ في المسألة أنّ الفرد السابق متّحد مع الوجود اللاحق حتّى بالدقّة العقليّة وذلك لإتّصال مراتب الشديدة والضعيفة في شيء واحد ، وقد ثبت في محلّه أنّ الإتّصال دليل الوحدة الحقيقيّة الخارجيّة ، ولذلك إستشكل القائلون بأصالة الوجود على القائلين بأصالة الماهيّة بأنّ لازم هذا القول هو القول بأفراد غير متناهية من الماهيات بين حاصرين في مراتب التشكيك ، ولا يرد هذا الإشكال على القائلين بأصالة الوجود لأنّ الوجود المتّصل عندهم واحد فقط. فلو قلنا بتعدّد الوجود في ما نحن فيه من باب تعدّد المراتب لورد نفس الإشكال على القائلين بأصالة الوجود أيضاً.

الأمر الثاني : إذا صارت القضيّة عكس ما مرّ في الأمر الأوّل ، فيرى العقل الفرد اللاحق مع الفرد السابق كالمستمر الواحد ، لكن العرف يعدّونهما فردين ، فهى عند العقل لا تكون من قبيل القسم الثالث من الكلّي ، نظير ما إذا زال الوجوب ( كوجوب صلاة العيد في عصر

٣٤٩

الحضور مثلاً بالنسبة إلى عصر الغيبة ) ولا نعلم هل بقي مطلق الطلب ضمن الاستحباب ، أو لا؟ فهل يمكن استصحاب مطلق الطلب الذي كان موجوداً ضمن فرده الواجب ، أو لا؟

الصحيح هو عدم الجريان لأنّ الميزان في هذه الموارد إنّما هو نظر العرف ، والمفروض أنّ ما نحن فيه يكون عنده من قبيل القسم الثالث من الكلّي.

نعم يمكن المناقشة في المثال المزبور الذي ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله للمقام لأنّه يمكن أن يقال : بأنّ الاستحباب والوجوب مرتبتان من شيء واحد ( وهو الطلب ) : المرتبة الضعيفة والمرتبة الشديدة ، فيرى العرف أيضاً أحدهما مع الآخر كالمستمرّ الواحد.

الأمر الثالث : ربّما يرد على تفصيل الشيخ الأعظم رحمه‌الله وجريان الاستصحاب في الصورة الاولى من القسم الثالث من استصحاب الكلّي ( وهو ما إذا احتمل وجود الفرد الآخر مقارناً لوجود الفرد الأوّل ) « أنّه إذا قام أحد من النوم واحتمل جنابته في حال النوم ، لم يجز له الدخول في الصّلاة مع الوضوء وذلك لجريان استصحاب الحدث حينئذٍ بعد الوضوء ، لاحتمال إقتران الحدث الأصغر مع الجنابة ، وهى لا ترتفع بالوضوء ، والظاهر أنّه لا يلتزم بهذا الحكم الشيخ الأعظم رحمه‌الله وغيره فإنّ كفاية الوضوء حينئذٍ من الواضحات وهذا يكشف عن عدم جريان الاستصحاب في القسم الثالث مطلقاً » (١).

أقول : بل يرد عليه : أنّ لازم كلامه جريان استصحاب بقاء المعلوم بالإجمال في كثير من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين ، ونتيجته وجوب الإتيان الأكثر بحكم الاستصحاب ، فإذا دار الأمر في الدَين مثلاً بين كونه مائة درهم فقط أو مع إضافة مائة منّ من الحنطة ، فإذا أدّى القدر المعلوم وهو الدراهم وبعد ذلك شكّ في بقاء كلّي الدَين المشترك بينهما وبين الحنطة يجوز له استصحاب كلّي الدَين ، وحينئذٍ لا يحصل له البراءة إلاّبأداء الحنطة أيضاً ، وكذا أشباهه من الأمثلة التي لا نظّن التزام أحد من المحقّقين بها.

وقد قام جماعة من الأعلام منهم المحقّق النائيني رحمه‌الله في مقام الدفاع عن الشيخ رحمه‌الله. بما حاصله : أنّ المستفاد من قوله تعالى : ( إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... ) وقوله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) أنّ الوضوء والغسل فردان متضادّان لا يجتمعان في آنٍ

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ١١٥ ، طبع مطبعة النجف.

٣٥٠

واحد ، أي وجوب الوضوء مختصّ بغير الجنب بمقتضى المقابلة لأنّ التقسيم قاطع للشركة ، فالمكلّف بالوضوء هو كلّ محدث لا يكون جنباً ، أي موضوع وجوب الوضوء مركّب من أمرين : كون المكلّف محدثاً وعدم كونه جنباً ، وهذا حاصل في المثال ، لأنّ هذا الذي قام من نومه ويحتمل كونه جنباً حين النوم تجري في حقّه أصالة عدم تحقّق الجنابة ، فكونه محدثاً محرز بالوجدان ، وكونه غير جنب محرز بالتعبّد الشرعي فيدخل تحت قوله تعالى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... ) فيكون الوضوء في حقّه رافعاً للحدث ، ولا مجال حينئذٍ لوجوب الغسل لمكان التنافي والتضادّ ، ولا مجال لجريان استصحاب بقاء كلّي الحدث لكونه محكوماً بالأصل الموضوعي وهو عدم كونه جنباً » (١).

ولكن يرد عليه :

أوّلاً : أنّ الاستصحاب ناظر إلى الحكم الظاهري مع أنّ المستفاد من الآية حكمان واقعيان ، والتنافي بين الحكمين الواقعيين لا يستلزم التنافي بينهما في الحكم الظاهري.

ثانياً : أنّ هذا الجواب يختصّ بمسألة الوضوء والغسل ، ولا يجري في غيره ممّا ذكرنا من الأمثلة.

هذا هو الوجه الأوّل في الدفاع عن الشيخ رحمه‌الله.

وهنا وجه آخر أفاده بعض الأعاظم ، وحاصله : أنّ كلّي الحديث لا يترتّب عليه أثر شرعي بل الأثر إنّما يترتّب على خصوص الحدث الأصغر أو الحدث الأكبر ، فلا يمكن نقض كلام الشيخ رحمه‌الله باستصحاب كلّي الحدث.

وفيه : أنّه لو سلّم عدم ترتّب الأثر الشرعي على كلّي الحدث فهذا الجواب يختصّ بهذا المثال ، ولا يجري في غيره من الأمثلة كمثال الدَين ، فالإشكال الذي أوردوه على شيخنا الأعظم من هذه الناحية وارد عليه.

هذا تمام الكلام في استصحاب القسم الثالث من الكلّي.

__________________

(١) راجع مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ١١٧ ، طبع مطبعة النجف ، فإنّه نقله عن استاذه.

٣٥١

أمّا القسم الرابع : ففي حجّية جريان الاستصحاب فيه وعدمها أقوال ثلاثة :

١ ـ أنّه يجري مطلقاً ولكنّه مبتلى بالمعارض غالباً ، وهذا ما ذهب إليه بعض أعاظم العصر.

٢ ـ عدم الجريان مطلقاً ، وهو المختار.

٣ ـ ما ذهب إليه المحقّق الهمداني رحمه‌الله في مصباح الفقيه من التفصيل الآتي ذكره.

أمّا القول الأوّل : فاستدلّ له بتمامية أركان الاستصحاب وتشييد نظامه في هذا القسم فإنّ أحد العنوانين وإن إرتفع يقيناً إلاّ أنّ لنا يقيناً بوجود الكلّي في ضمن عنوان آخر ، فنشكّ في ارتفاعه لاحتمال انطباقه على فرد آخر غير الفرد المرتفع يقيناً ( فإذا علمنا بأنّ زيداً كان في الدار ثمّ سمعنا قراءة القرآن من الدار واحتملنا أنّ القارىء هو زيد أو غيره ثمّ خرج زيد عن الدار فحينئذٍ نقول : العلم بوجود كلّي الإنسان كان حاصلاً والآن نشكّ في بقائه لاحتمال تعدّد الفردين : زيد وقارىء القرآن ) فبعد اليقين بوجود الكلّي المشار إليه والشكّ في ارتفاعه لا مانع من جريان الاستصحاب فيه.

نعم قد يبتلى هذا الاستصحاب بالمعارض ، كما إذا علم بالجنابة ليلة الخميس مثلاً وقد إغتسل منها ، ثمّ رأى منيّاً في ثوبه يوم الجمعة ، فيعلم بأنّه كان جنباً حين خروج هذا المني ولكن يحتمل كون المنيّ من الجنابة التي قد إغتسل منها كما يحتمل كونه من غيرها ، فإستصحاب كلّي الجنابة مع الغاء الخصوصيّة وإن كان جارياً في نفسه ، إلاّ أنّه معارض باستصحاب الطهارة الشخصيّة فإنّه على يقين بالطهارة حين ما إغتسل من الجنابة ولا يقين بارتفاعها لإحتمال كون ذلك الأثر من تلك الجنابة ، فيقع التعارض بينه وبين استصحاب الجنابة ، فيتساقطان ولابدّ من الرجوع إلى أصل آخر (١).

أقول : بعد سقوط الأصل من الجانبين يكون هذا الإنسان كخلق الساعة ، وقد وقع الكلام فيه في محلّه من أنّ من خلق من ساعته كآدم مثلاً هل يجوز له الصّلاة لأنّ الحدث مانع ، أو لا يجوز لأنّ الوضوء شرط؟ فكلّ ما اخترنا هناك يجري هنا ، لعدم جريان أصل من ناحية الطهارة والحدث ، وسيأتي قريباً الجواب عن هذا القول عند ذكر دليل القول الثاني.

__________________

(١) راجع مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ١١٨ ، طبع مطبعة النجف.

٣٥٢

أمّا القول الثاني : فحاصل ما استدلّ له أنّه يرجع إلى التمسّك بعموم لا تنقض في الشبهة المصداقيّة ، لأنّه يحتمل أن يكون رفع اليد عن اليقين السابق من قبيل نقض اليقين باليقين فإنّ احتمال انطباق هذا الأثر على الجنابة المعلوم ارتفاعها مساوق لإحتمال تحقّق اليقين بارتفاع الجنابة الحادثة عند حدوث هذا الأثر.

إن قلت : أنّه لا معنى للشكّ في تحقّق اليقين وعدمه ، لأنّ اليقين من الصفات النفسانية التي لا يمكن تطرّق الشكّ إليها فإمّا يعلم بوجوده في عالم النفس أو يعلم بعدمه.

قلت : إنّ متعلّق حكم الشارع بالإبقاء نفس الجنابة الخارجية الحاصلة عند وجود هذا الأثر ، وإنّما أخذ هذا العنوان ( الجنابة الحاصلة عند وجود الأثر ) للاشارة إلى الموجود الخارجي ، وإلاّ فلا دخل لهذا العنوان في الحكم الشرعي بلا إشكال ، فلو علم بارتفاع الجنابة الخارجية ( بأي عنوان كان وبأيّة إشارة فرضت ) فقد حصلت الغاية وهو اليقين بارتفاع الجنابة وكان رفع اليد عن المتيقّن السابق من قبيل نقض اليقين باليقين فإحتمال إنطباق عنوان المتيقّن في المقام على الجنابة المعلوم ارتفاعها يوجب احتمال كون رفع اليد عنه من قبيل نقض اليقين باليقين فلا يصحّ التمسّك بعموم « لا تنقض » لإثبات بقائها.

والحاصل : أنّ اليقين والشكّ وإن كانا من الامور النفسانيّة التي لا يمكن الشكّ في تحقّقها ، ولكن الكلام هنا في متعلّق اليقين ، فقد يكون العنوان الذي أخذ في متعلّقه منطبقاً على عنوان آخر في الخارج ، ومجرّد هذا الاحتمال يوجب احتمال تحقّق اليقين بارتفاع الجنابة في المثال ولو بعنوان آخر ، فالشكّ إنّما هو في انطباق العنوانين اللذين تعلّق بهما الشكّ واليقين ، فتأمّل فإنّه دقيق.

هذا كلّه بالنسبة إلى القول الثاني.

وأمّا القول الثالث : فهو تفصيل المحقّق الهمداني رحمه‌الله بين ما ذكرنا من المثال فيجري فيه الاستصحاب وبين ما إذا علم الإنسان باحتلامه ليلة السبت ولم يغتسل منها بل عوّض ثوبه فقط ، ثمّ نام واغتسل بعد الإستيقاظ ثمّ نام في ليلة الأحد ورأى أثر الجنابة في ثوبه بعد الإستيقاظ ، فهو يحتمل أن يكون هذا الأثر من الإحتلام الذي يحتمل وقوعه في النوم الثاني من ليلة السبت ، أو من الإحتلام المحتمل وقوعه في ليلة ، الأحد ، فإن كان من الأوّل فلا أثر لهذا الإحتلام ، لأنّه من قبيل وقوع الحدث بعد الحدث ، وإن كان من الثاني فيجب الغسل عنها ،

٣٥٣

وحيث إنّه لا يعلم أهو من هذا أو ذاك فلا يكون هذا العلم الإجمالي منجّزاً ، لسقوط أحد طرفيه عن الأثر قبل تنجّزه.

وبالجملة فرق بين ما إذا علم بحدوث تكليف جديد عند تحقّق هذا الأثر ، وبين ما إذا لم يعلم بتحقّقه فلا يجري الاستصحاب في الثاني ويجري في الأوّل.

ويمكن الجواب عنه بأنّ المستصحب إنّما هو وجود الجنابة عند وقوع هذا الأثر. ( سواء كان لخروجه أثر في الجنابة أم لا ) وهو متيقّن في السابق ، ومشكوك بقائه في اللاحق في الصورتين فإن كان الاستصحاب جارياً في الصورة الاولى فهو جارٍ هنا أيضاً وإن لم يكن جارياً هناك فكذلك هنا.

التنبيه الخامس : استصحاب الامور التدريجيّة

قد يكون المستصحب من الامور الثابتة القارّة وقد يكون من الامور التدريجيّة غير القارّة كالحركة والزمان ، فهل يختصّ الاستصحاب بالقسم الأوّل ، أو يجري في القسم الثاني أيضاً؟

فلابدّ لتفصيل الكلام فيه من البحث في مقامات ثلاث :

الأوّل : في الاستصحاب في نفس الزمان كاليوم والليل.

الثاني : في الاستصحاب في التدريجيّات المشابهة للزمان ، أي ما تكون طبيعتها سيّالة كالحركة في المكان أو سيلان الدم والتكلّم وقراءة القرآن وسيلان الماء من العيون.

الثالث : في الاستصحاب في الامور الثابتة المقيّد بالزمان كزيد في يوم كذا فيما إذا صار زيد موضوعاً لحكم من الأحكام مقيّداً بالزمان.

أمّا المقام الأوّل : فإستشكل في جريان الاستصحاب فيه بامور ثلاثة :

أوّلها : أنّه يعتبر في الاستصحاب الشكّ في البقاء ، والبقاء معناه وجود الشيء في الزمان ثانياً ، وهو لا يتصوّر لنفس الزمان ، وإلاّ يستلزم أن يكون للزمان زمان آخر ، وهكذا ... فيتسلسل.

ثانيها : الإشكال بتبدّل الموضوع ، لأنّ الساعة المتيقّنة غير الساعة المشكوكة ، مع أنّ

٣٥٤

المعتبر في حجّية الاستصحاب بقاء الموضوع ، أي وحدة القضية والمشكوكة.

ثالثها : رجوعه إلى الأصل المثبت غالباً ، لأنّ المراد من استصحاب النهار مثلاً إمّا إثبات وقوع الإمساك في النهار ، وهو لازم عقلي لبقاء النهار ، أو إثبات أنّ الصّلاة وقعت أداءً ، وهو أيضاً لازم عقلي له.

وقبل الورود في الجواب عن هذه الإشكالات لا بأس بالإشارة إجمالاً إلى حقيقة الزمان ، فقد دارت حوله أبحاث كثيرة ضخمة ، وصدرت من الأعلام في هذا المجال مطالب معقّدة ، مع أنّه بإجماله من الضروريات البديهيات.

وكيف كان ، فإنّ عمدة الآراء فيه ثلاثة :

١ ـ أنّه بُعد موهوم يتوهّم الإنسان بوقوع الأشياء فيه.

٢ ـ أنّه ظرف خاصّ كالمكان ، وله بعد حقيقي في الخارج ، وهو مخلوق قبل الأشياء الزمانيّة.

٣ ـ ما هو مختار الفلاسفة المتأخّرين ( وهو الحقّ ) من أنّ الزمان ليس إلاّمقدار الحركة في العرض أو الجوهر ، فلولا الحركة لما كان هناك زمان ، فهى في الحقيقة مخلوقة بعد خلق الأشياء المادّية لا قبلها ، وهكذا المكان فإنّه أيضاً ينتزع بعد خلق الأشياء المادّية ونسبة بعضها إلى بعض كما ذكر في محلّه.

إذا عرفت هذا فلنرد في الجواب عن الإشكالات الثلاثة المذكورة فنقول :

أمّا الإشكال الأوّل ففيه : أنّ المستفاد من أدلّة الاستصحاب إنّما هو اعتبار وجود يقين سابق وشكّ لاحق في شيء واحد ، ولا دليل على اعتبار عنوان البقاء فيه.

وأمّا الإشكال الثاني فالجواب عنه :

أوّلاً : أنّ المعتبر وجود الوحدة بنظر العرف لا بالدقّة العقليّة ، والوحدة العرفيّة موجودة في الزمان بلا ريب.

وثانياً : أنّ الوحدة موجودة فيه حتّى بالدقّة العقليّة ، ودليلها وجود الإتّصال الحقيقي بين أجزاء الزمان ، وإلاّ يلزم الاجزاء غير المتناهية في المتناهي ( بين الحاضرين ) بعد عدم صحّة الجزء الذي لا يتجزّى ، فالموجود في الخارج في الامور المتّصلة ليس إلاّشيئاً واحداً ، وإنّما التجزئة في الذهن.

٣٥٥

ثالثاً : أنّه يمكن أن يستصحب عدم حصول المنتهى ، فيستصحب مثلاً عدم حصول آن الغروب أو آن الطلوع.

نعم أنّه يجري فيما إذا ترتّب في الشرع أثر على آن الغروب أو الطلوع ، وإلاّ يكون الأصل مثبتاً كما لا يخفى.

أمّا الإشكال الثالث : فاجيب عنه : بامور لا تخلو عن مناقشة ، ونشير إلى بعضها :

١ ـ أنّه يمكن استصحاب نفس الحكم وهو وجوب الصيام مثلاً ، ومعه لا حاجة إلى استصحاب الموضوع حتّى يكون مثبتاً.

وفيه أوّلاً : أنّ هذا تسليم للإشكال.

وثانياً : أنّ الاستصحاب الحكمي هنا لا يفيد ، لأنّ المطلوب في المثال إنّما هو إثبات وجوب صيام شهر رمضان مثلاً لا مطلق الصيام ، وإثبات وجوب صيام شهر رمضان يحتاج إلى استصحاب الموضوع فيعود الإشكال.

٢ ـ ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله في بعض الأبحاث القادمة بقوله « الإمساك كان قبل هذا الآن في النهار ، والآن كما كان ».

ولا يخفى أنّ قوله هذا يرجع إلى استصحاب الموضوع لأنّ المستصحب فيه إتّصاف هذا الصيام بأنّه كان في رمضان قبل هذا الآن.

ويرد عليه أيضاً : أنّ هذا الجواب على فرض تماميته إنّما يتمّ في الصيام فقط ، لأنّه في مثل الصّلاة يكون استصحاباً تعليقياً بهذا النحو : لو كنت أُصلّي الظهر سابقاً كانت صلاتي واقعة في النهار والآن كما كان ، والاستصحاب التعليقي في مثل هذه الموارد ليس بحجّة ( لو سلّمت حجّيته في غيرها ) لأنّ التعليق هنا تعليق عقلي ، والتعليق الملحوظ في الاستصحاب التعليقي إنّما هو التعليق الشرعي كما في قولنا : « العصير إذا غلى ينجّس ».

٣ ـ أنّه يمكن أن يجعل المستصحب ما لا يكون تدريجياً وهو آن الغروب ، لأنّ المستفاد من قوله عليه‌السلام : « إذا زالت الشمس دخل وقت الصلاتين ثمّ أنت في وقت حتّى تغرب الشمس » إنّ الواجب مركّب من جزئين : وقوع الصّلاة الذي هو ثابت بالوجدان ، وعدم الغروب الذي يثبت بالاستصحاب.

ويرد عليه أيضاً : أنّ هذا جمود على ظاهر الدليل ، لأنّ المستظهر من مجموع أدلّة

٣٥٦

الأوقات أنّ للصلاة أو الصيام وقتاً محدّداً ، وأنّ الواجب وقوعهما في وقت من الأوقات كالنهار وشهر رمضان ، وهذا يعني أنّ الواجب وقوع الصّلاة في النهار أو وقوع الصيام في شهر رمضان لا مجرّد عدم الغرب أو عدم طلوع هلال الشوّال.

فقد ظهر أنّ كلّ واحد من هذه الأجوبة غير تامّ.

والحقّ في الجواب أن يقال : إنّ الواسطة في ما نحن فيه خفيّة فلا يكون الأصل مثبتاً وإلاّ فليكن الاستصحاب مثبتاً حتّى في مورد أدلّة الاستصحاب لأنّ ما هو معتبر في الصّلاة إنّما هو تقيّد أفعالها بالوضوء ، لمكان معنى الشرط ، وهو من اللوازم العقليّة لإستصحاب بقاء الوضوء كما لا يخفى ، مع أنّ جواز هذا الاستصحاب مصرّح به في نفس الصحيحة المعتبرة الدالّة على حجّية الاستصحاب.

أضف إلى ذلك أنّ من روايات الباب رواية علي بن محمّد القاساني المذكور سابقاً ( صم للرؤية وافطر للرؤية ) ولا إشكال في أنّ المستصحب في موردها هو الزمان.

بقي هنا شيء :

وهو أنّ الشكّ في الزمان قد يكون من قبيل الشبهة المصداقيّة كما إذا شككنا في أنّ غروب الشمس تحقّق أم لا؟ أو شككنا في تحقّق طلوع الفجر أو شهر رمضان ، وقد يكون من قبيل الشبهة المفهوميّة كما إذا شككنا في مفهوم المغرب وأنّه هل وضع لإستتار القرص أو لذهاب الحمرة؟

لا إشكال في جريان الاستصحاب في الشبهة المصداقيّة لتماميّة أركانه فيها ، وأمّا الشبهة المفهوميّة فالصحيح عدم جريانه فيها ، لأنّ المستظهر من أدلّة الاستصحاب أنّ متعلّق الشكّ إنّما هو الوجود الخارجي للشيء لا مفهمه ، وبتعبير آخر ، لابدّ أن يكون الشكّ في عمر المستصحب في الخارج والاستصحاب يزيد على عمره شرعاً وتعبّداً ، بينما في الشبهات المفهوميّة لا شكّ في الوجود الخارجي ، لأنّ الخارج معلوم عندنا فنعلم بأنّ قرص الشمس إستترت والحمرة لم تزل ، إنّما الشكّ في المراد من لفظ المغرب الوارد في الأحاديث.

نعم ، يمكن جريان الاستصحاب بالنسبة إلى وضع اللفظ ، بأن يقال : إنّ الشارع أو العرف لم يضع لفظ المغرب سابقاً في إستتار القرص ، والآن شككنا في وضعه ، فيجري استصحاب عدم وضعه للإستتار.

٣٥٧

ولكن فيه أوّلاً : إنّه معارض باستصحاب عدم وضعه لذهاب الحمرة.

وثانياً : إنّه مثبت ، لأنّ المقصود منه إثبات وضع اللفظ لذهاب الحمرة أوّلاً ثمّ إثبات ظهور اللفظ فيه عند فقدان القرينة لأصالة الحقيقة ، ولا يخفى أنّ الواسطة فيه عقلية جلية توجب كون الاستصحاب مثبتاً.

هذا كلّه في المقام الأوّل أي الاستصحاب في نفس الزمان.

أمّا المقام الثاني ـ أي جريان الاستصحاب في غير الزمان من التدريجيات ـ فإنّ الامور التدريجية غير الزمان على أقسام :

منها : ما لا يدركه العرف بل لا يعرفه إلاّ العلماء والفلاسفة ، وهو تدريجية تمام الموجودات لأنّ وجودها يترشّح من المبدأ الفيّاض آناً فآن ، سواء كانت له حركة جوهرية كما في الماديات ، أو لم تكن كما في المجرّدات.

ومنها : ما يكون العرف غافلاً عنه ولكن يدركه عند الدقّة كالحركة الموجودة في السراج ، سواء كان سراجاً كهربائياً أو دهنياً.

ومنها : ما يكون ظاهراً ومحسوساً عند العرف كجريان الماء وسيلان دم الحيض ونبع ماء العين وحركة الإنسان من مبدأ إلى منتهى.

ومنها : ما يكون في الواقع من الموضوعات المقطّعة ، ولكن تكون لها وحدة اعتبارية كالقراءة والتكلّم.

فهذه أقسام أربعة للُامور التدريجية غير الزمان.

أمّا القسم الأوّل : فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيه لو كان له أثر شرعي ، وهكذا القسم الثاني والثالث ، لأنّ شرطيّة وحدة الموضوع حاصلة في كلّ واحد منها ، والدليل عليها وجود الإتّصال فيها.

إنّما الكلام في القسم الرابع فهل يجري فيه الاستصحاب مطلقاً ( لأنّ الوحدة العرفيّة موجودة فيه أيضاً ولو كانت اعتبارية ) كما ذهب إليه جمع كثير من المحقّقين ، أو لا يجري مطلقاً ، لأنّ وحدتها تكون بالتسامح العرفي ولا اعتبار بالمسامحات العرفيّة ، أو فيه تفصيل بين ما إذا

٣٥٨

اتّحد الداعي فلا يجري ، كما إذا كان زيد مريداً للذهاب من النجف إلى بغداد من أوّل الأمر ، وما إذا تعدّدت الدواعي فيجري ، كما إذا كان زيد مريداً للذهاب من النجف إلى كربلاء وشككنا في حصول داعٍ جديد له للذهاب من كربلاء إلى بغداد ، وكما إذا لم نعلم أنّه هل كان مريداً من أوّل الأمر للذهاب من النجف إلى بغداد ، أو كان مريداً من أوّل الأمر للذهاب إلى كربلاء ثمّ تجدّد الداعي له إلى بغداد ، وهذا ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله فيما حكى عنه في تقريرات بعض الأكابر من تلامذته (١) ، ففيه وجوه بل أقوال ثلاثة ، الحقّ والصحيح منها هو القول الأوّل.

أمّا القول الثاني فيرد عليه : أنّ الوحدة في القسم الرابع كالقراءة والتكلّم حاصلة حتّى عند العرف الدقّي ، وليست الوحدة فيه من المسامحات العرفيّة.

وأمّا القول الثالث : فيرد عليه أيضاً : أنّ مجرّد تعدّد الداعي لا يكون موجباً للتعدّد في الفعل ، لأنّ الحافظ للوحدة ليس هو الداعي بل هو الإتّصال.

هذا كلّه في المقام الثاني.

أمّا المقام الثالث : ـ أي الامور الثابتة المقيّدة بالزمان في لسان الدليل كالإمساك المقيّد بالنهار أو الجلوس المقيّد بيوم الجمعة وكالصلاة المقيّدة بإتيانها في داخل الوقت ـ فهل يجري استصحاب بقاء وجوب الصّلاة مثلاً بعد انقضاء الزمان المقيّد به فعل الصّلاة أو لا يجري؟ فيه وجهان بل قولان :

ذهب كثير من الأعاظم إلى عدم جريان الاستصحاب في هذا المقام ، وذلك لتبدّل الموضوع ، لأنّ المفروض أنّ الزمان كان مقوّماً له عرفاً ، نعم إذا لم يكن الزمان مقوّماً للموضوع عند العرف كما في مثل خيار الغبن وخيار العيب كان الاستصحاب فيه جارياً ، فإذا شككنا في أنّ خيار الغبن مثلاً كان فوريّاً فإنقضى زمانه أو لم يكن فورياً فلم ينقض زمانه كان استصحاب بقاء الخيار جارياً بلا إشكال ( بناءً على جريانه في الشبهات الحكميّة ) لكنّه ليس حينئذٍ من الامور الثابتة المقيّدة بالزمان لأنّ الزمان ليس قيداً فيه.

__________________

(١) راجع مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ١٢٨ ، طبع مطبعة النجف.

٣٥٩

وإن شئت قلت : إذا كان الزمان قيداً في الواجب فلا يجري الاستصحاب لتبدّل الموضوع ، ولذلك يقال بأنّ القضاء يكون بأمر جديد ، وإذا لم يكن الزمان قيداً في الواجب بل كان ظرفاً له كما في مثل الخيار فيكون الاستصحاب جارياً ، ولكن المستصحب حينئذٍ ليس زمانياً فليس داخلاً في محلّ النزاع.

إن قلت : إنّ الزمان وإن أخذ في لسان الدليل ظرفاً للحكم ولكنّه ممّا له دخل في أصل المناط قطعاً ، لأنّ المفروض أنّ وجود الفعل زماني فالزمان مقوّم لوجوده فيكون مؤثّراً في المناط بالواسطة.

واجيب عنه بما حاصله : أنّ الزمان وإن كان لا محالة من قيود الموضوع ولكنّه ليس من القيود المقوّمة له بنظر العرف على وجه إذا تخلّف لم يصدق عرفاً بقاء الموضوع بل من الحالات المتبادلة له ، والمعتبر في الاستصحاب هو بقاء الموضوع في نظر العرف لا في نظر العقل.

بقي هنا شيء :

وهو كلام حكاه الشيخ الأعظم هنا عن المحقّق النراقي وتبعه غيره مع أنّه ليس مرتبطاً بالمقام ، بل هو تفصيل في حجّية الاستصحاب بين الشبهات الموضوعيّة والشبهات الحكميّة فذهب المحقّق النراقي رحمه‌الله إلى جريان الاستصحاب في الاولى دون الثانية ، لمعارضته دائماً باستصحاب عدم الجعل ، وقد تكلّمنا عن هذا تفصيلاً فيما سبق ، وأجبنا عن إشكال المعارضة بامور عديدة ، ومنها : أنّ الاستصحابين ليسا في عرض واحد بل أحدهما وهو استصحاب وجود الحكم حاكم أو وارد على الآخر وهو استصحاب عدم الجعل ، فإنّ استصحاب بقاء الحكم بنفسه حكم ظاهري يوجب زوال الشكّ الذي هو مأخوذ في موضوع استصحاب عدم الجعل.

والعجب من المحقّق الخراساني رحمه‌الله حيث ناقش في مثال خروج المذي بعد الوضوء الذي ذكره المحقّق النراقي رحمه‌الله مثالاً للمسألة ، وقال : أنّ مقتضى الاستصحاب الوجودي هو بقاء الوضوء ، وهو يعارض مع مقتضى الاستصحاب العدمي ، وهو عدم جعل الشارع الوضوء رافعاً للحدث لما بعد خروج المذي ، فناقش فيه المحقّق الخراساني رحمه‌الله بأنّ رافعية الوضوء للحدث ليست محدودة بحدّ زماني ، بل هى كسائر الأحكام التي تجعل من جانب الشارع

٣٦٠