أنوار الأصول - ج ٣

أنوار الأصول - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-15-6
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٢٤

الحدّ الوسط في الاستعداد للبقاء مثلاً هو خمسون أو ستّون سنة فلا شكّ في جريان الاستصحاب بعده أيضاً ، مع أنّه من قبيل الشكّ في المقتضي.

إلى هنا تمّ الكلام عن أدلّة الاستصحاب ، والآن نشرع في بيان التنبيهات التي ذكرها الأصحاب في كلماتهم ، فنقول ومنه جلّ شأنه التوفيق والهداية :

تنبيهات الاستصحاب :

وينبغي التنبيه على امور :

التنبيه الأوّل : الأحكام الوضعيّة

وقد بحث عنها الأعلام ضمن بيان الأقوال في الاستصحاب وبمناسبة نقل ما فصّله الفاضل التوني من جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية دون الوضعيّة ، ولكن الصحيح المناسب أن يبحث أوّلاً عن ماهيّة تلك الأحكام حتّى يظهر حال استصحابها ، وهذا هو موضوع البحث في هذا التنبيه.

وكيف كان لابدّ قبل الورود في أصل البحث من تقديم امور :

أحدها : أنّ الأحكام الشرعيّة على قسمين : تكليفيّة ووضعيّة ، فالتكليفيّة ما يدور مدار الأحكام الخمسة ، وقسّمها القدماء من الأصحاب على قسمين : اقتضائيّة وتخييريّة ، والمراد من الاقتضائيّة ما يكون له اقتضاء للفعل أو الترك ، فيشمل الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة ، ومن التخييريّة ما ليس له اقتضاء ورجحان من حيث الفعل والترك ، وهى المباحات.

وأمّا الوضعيّة ، فهى كلّ مالا يكون من الأحكام الخمسة ولا تحدّد عمل المكلّف من حيث الاقتضاء والتخيير بل يمسّ أفعال المكلّفين بالواسطة ( كالحكم بأنّ « الماء طاهر » أو « الدم نجس » ) أو بدون الواسطة ( كالملكية والزوجية والضمان ) ولهذا لا يصحّ حصرها في عدد خاصّ كما فعل بعضهم.

ثانيها : في أنّ حقيقة الأحكام التكليفيّة ماذا؟

٣٢١

والمعروف الجاري على ألسنة المحقّقين أنّ حقيقتها إنشاء البعث أو الزجر أو الترخيص الناشىء عن إرادة المولى أو كراهته أو ترخيصه في نفسه ، وهذا ممّا يتّضح لنا بالرجوع إلى الوجدان.

ولكن ذهب بعض أعاظم العصر قدّس الله نفسه إلى أنّ الحكم التكليفي اعتبار نفساني من المولى يبرز بالإنشاء ، وقال : « هذا الاعتبار النفساني تارةً يكون بنحو الثبوت ، أي المولى يثبت شيئاً في ذمّة العبد ويجعله دَيناً عليه ، كما ورد في بعض الروايات أنّ دَين الله أحقّ أن يقضى ، فيعبّر عنه بالوجوب ، لكون الوجوب بمعنى الثبوت ، واخرى يكون بنحو الحرمان ، وإنّ المولى يحرم العبد عن شيء ويسدّ عليه سبيله ، كما يقال في بعض المقامات : أنّ الله تعالى يجعل لنا سبيلاً إلى الشيء الفلاني فيعبّر عنه بالحرمة ، فإنّ الحرمة هو الحرمان عن الشيء ، كما ورد أنّ الجنّة محرّمة على آكل الربا مثلاً فإنّ المراد منه المحروميّة عن الجنّة ، لا الحرمة التكليفيّة ، وثالثة يكون بنحو الترخيص وهو الاباحة بالمعنى الأعمّ ، فإنّه تارةً يكون الفعل راجحاً على الترك واخرى بالعكس ، وثالثة لا رجحان لأحدهما على الآخر ، وهذا الثالث هو الإباحة بالمعنى الأخصّ » (١).

أقول : يرد عليه أوّلاً : أنّه خلاف الوجدان ، إذ إنّ الوجدان حاكم بأنّ البعث الإنشائي يكون كالبعث التكويني ، فكما أنّ في الثاني لا يوضع على ذمّة الإنسان شيء بعنوان الدين ، كذلك في الأوّل ، فلا يعتبر المولى بقوله « افعل » دَيناً على عهدة العبد ، بل أنّه مجرّد إنشاء بعث في نفسه ، يحاذي البعث التكويني الخارج بدفع المكلّف بيده نحو العمل.

ثانياً : أنّ كلامه لا يجري في الاستحباب لأنّه لا معنى للدين الإستحبابي ، مع أنّ الاستحباب يكون على وزان الوجوب ، والفرق بينهما من ناحية شدّة الطلب والبعث وضعفه.

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره من بعض الشواهد نظير ما ورد في بعض الروايات « إنّ دين الله أحقّ أن يقضى » تعبيرات كنائية ، ومن باب تشبيه الحكم بالدَين ، والقرينة عليه ما مرّ من قضاء الوجدان بما ذكرناه.

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ٧٧ ـ ٧٨ ، طبع مطبعة النجف.

٣٢٢

بقي هنا شيء :

وهو أنّه قد يبدو أنّ الاباحة ليست حكماً من الأحكام ، أي أنّها من قبيل « لا إقتضاء » و « لا حكم » فيكفي فيها عدم صدور بعث أو زجر من جانب المولى ، وعليه تكون الأحكام أربعة فما اشتهر في الألسن من أنّ الأحكام خمسة ، شهرة لا أصل لها.

ولكن عند الدقّة يمكن الفرق بين الأحكام الشخصيّة والقانونيّة ، فإنّ المتداول بين العقلاء من أهل العرف جعل الترخيص في كثير من الموارد بعنوان قانون من القوانين ، لأنّا إذا راجعنا إلى مجالس التقنين العقلائي نلاحظ أنّهم في كثير من الموارد ينشئون الجواز والترخيص ، كما ينشئون الوجوب أو الحرمة فينشئون مثلاً إنّ ورود البضاعة الفلانيّة مباح من هذا التاريخ ، وليس ذلك مجرّد دفع المنع السابق ، بل إنّه إنشاء جديد وحكم وجودي في مقابل حكم وجودي سابق ، لا فسخه ونسخه فقط.

ثالثها : في أنّ الوجود على قسمين : وجود خارجي وهو واضح ، ووجود ذهني ، وهو على قسمين أيضاً : ما يكون له ما بحذاء خارجي ، وما ليس له ما بحذاء خارجي ، بل هو من مخترعات الذهن ، والمخترعات الذهنيّة أيضاً على أقسام ثلاثة :

أحدها : الامور الانتزاعيّة ، وهى ما يكون له منشأ إنتزاع في الخارج ، كسببية النار للإحتراق ، فإنّ الذهن ينتزعها من مقايسة النار بالإحراق في الخارج قهراً ، من دون دخل لإرادة الإنسان واعتباره وجعله.

ثانيها : الاعتباريات ، وة ما ليس له منشأ إنتزاع في الخارج ، بل هو مجرّد اعتبار للعقلاء كالملكيّة التي لا يوجب اعتبارها أو عدم اعتبارها زيادة أو نقصاناً في الخارج ، بل هى تابعة لاعتبار المعتبر وباقية ببقائه.

إن قلت : ما هى حقيقة الاعتبار؟

قلنا : أنّها عبارة عن سلسلة من الفروض والتشبيهات التي يترتّب عليها آثار عقلائيّة ، لتوافقهم عليه ، فهى فروض ذات آثار عقلائيّة ، فإنّهم مثلاً يلاحظون الملكيّة التكوينيّة الخارجيّة التي أتمّها وأكملها مالكيّة ذات الباري تعالى لعالم الوجود ( وهى نفس سلطته واحاطته على العالم ) ومن مصاديقها مالكية الإنسان على أعضائه وصور ذهنه ، ومالكيته على أفعاله بواسطة الأعضاء ، فإنّ جميع ذلك سلطات تكوينية خارجيّة.

٣٢٣

ثمّ إنّهم يفرضون في عالم الذهن أمراً يشبه ذلك ويرون لزيد مثلاً سلطة على الدار الكذائية ، كسلطته على أعضائه ، وهكذا في الزوجية فيلاحظون زوجية مصراعي الباب في الخارج مثلاً ، ويعتبرون مثلها للزوج والزوجة إلى غير ذلك من أشباهها ، فهى بجميعها كعكوس ومرايا لما في الخارج ، وصور ذهنية تشابهها.

ثالثها : الوهميّات ، وهى عبارة عن أوهام الناس وتخيّلاتهم التي لا قيمة لها عند العقلاء ، وليست مبدأً للآثار عندهم.

إذا عرفت هذه المقدّمات الثلاثة فاعلم أنّ الأقوال في حقيقة الأحكام الوضعيّة ثلاثة :

القول الأوّل : ما عبّر شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه‌الله عنه بما نصّه : « المشهور كما في شرح الزبدة بل الذي استقرّ عليه رأي المحقّقين كما في شرح الوافية للسيّد صدر الدين : إنّ الخطاب الوضعي مرجعه إلى الخطاب الشرعي ، وأنّ كون الشيء بسبباً لواجب هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشيء ، فمعنى قولنا إتلاف الصبي سبب لضمانه أنّه يجب عليه غرامة المثل أو القيمة إذا اجتمع فيه شرائط التكليف من البلوغ والعقل واليسار وغيرها ، فإذا خاطب الشارع البالغ العاقل الموسر بقوله : « أغرم ما أتلفته في حال صغرك » إنتزع من هذا الخطاب معنى يعبّر عنه بسببيّة الإتلاف للضمان ».

وحاصله : أنّ الأحكام الوضعيّة كلّها امور انتزاعية من الأحكام التكليفية ، ليست لها جعل مستقلّ.

القول الثاني : ما هو على ألسنة جماعة ( بتعبير الشيخ الأعظم رحمه‌الله ) وهو أنّ الأحكام الوضعيّة امور اعتباريّة قابلة للجعل مستقلاً ، ففي قوله تعالى : ( أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) يكون للشارع جعلان : أحدهما وجوب الصّلاة ، الثاني سببية الدلوك للوجوب.

القول الثالث : القول بالتفصيل بين الأحكام الوضعيّة ، فقسم منها من الامور التكوينيّة ، وليس قابلاً للجعل أصلاً لا تبعاً ولا مستقلاً ، وقسم آخر من الامور الاعتباريّة وقابل للجعل مستقلاً ، وقسم ثالث من الامور الإنتزاعية يتعلّق بها الجعل تبعاً.

وينبغي هنا قبل بيان أدلّة الأقوال أن نشير إلى أنّ الامور الانتزاعيّة على ثلاثة أقسام باعتبار منشأ انتزاعها ، فقسم منها ينتزع من مقام الذات ، كسببيّة النار للإحتراق ، وقسم آخر ينتزع من مقام الصفات ، كتقدّم زيد على عمرو في المسير ، فإنّ وصف التقدّم أو التأخّر ينتزع

٣٢٤

من مقايسة محلّ كلّ واحد بمحلّ الآخر ، ولذا يتغيّر الحال مع بقاء الذات ، وقسم ثالث ينتزع من الامور الاعتباريّة كشرطيّة الاستطاعة لوجوب الحجّ التي ينتزعها الذهن من وجوب الحجّ عند الاستطاعة في قوله تعالى : ( للهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ).

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه استدلّ الشيخ الأعظم رحمه‌الله للقول الأوّل بالحوالة على الوجدان وبرهان اللغويّة ، فقال : « إذا قال المولى لعبده : « أكرم زيداً إن جاءك » فهل يجد المولى من نفسه أنّه أنشأ إنشائين وجعل أمرين : أحدهما إكرام زيد عند مجيئه ، والآخر كون مجيئه سبباً لوجوب إكرامه أو أنّ الثاني مفهوم منتزع من الأوّل ، لا يحتاج إلى جعل مغاير لجعله ، ولا إلى بيان مخالف لبيانه؟ فإنّ الوجدان شاهد على أنّ السببية والمانعيّة في المثالين اعتباران منتزعان ، كالمسببيّة والمشروطيّة والممنوعيّة ».

ثمّ أتى ببيان ثالث وحاصله : أنّه قد يكون تعلّق الجعل الاستقلالي بالامور الوضعيّة محالاً ، لأنّ جعل ما ليس بسبب سبباً محال ، فإنّ دلوك الشمس إمّا أن يكون ذا مصلحة تدعو المولى إلى إيجاب الصّلاة عنده ، وحينئذٍ لا حاجة إلى وضعه ، أو لا يكون له مصلحة ، وحينئذٍ لا يمكن جعله ذا مصلحة بالجعل التشريعي هذا بالنسبة إلى السببيّة والشرطيّة والمانعيّة.

ثمّ قال : وهكذا الصحّة والفساد ، لأنّهما أمران تكوينيان ، فإنّ الصحّة بمعنى المطابقة مع المأمور به ، والفساد بمعنى عدم المطابقة ، ولا إشكال في أنّهما أمران تكوينيان ، هذا في العبادات ، أمّا في المعاملات فهما أمران منتزعان من جواز التصرّف وعدم جواز التصرّف.

ثمّ قال : وأمّا الزوجيّة والملكيّة والطهارة فلا تخلو من أحد الوجهين ، فإمّا أنّها امور واقعية كشف عنها الشارع أو امور انتزاعيّة تنتزع من عدّة من الأحكام التكليفية. ( انتهى ملخّص كلامه ).

أقول : الحقّ في المسألة التفصيل بين الأحكام الوضعيّة وتفريق بعضها عن بعض ، أي البحث عن كلّ نوع منها على حدّه ، فنقول :

١ ـ من الأحكام الوضعيّة : السببيّة والشرطيّة والمانعيّة ، والصحيح أنّها على قسمين : السببيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة للتكليف كسببية الدلوك لوجوب الصّلاة ، وشرطيّة

٣٢٥

الاستطاعة لوجوب الحجّ ، ومانعية الحيض لوجوب الصّلاة ، والقسم الثاني ما يكون سبباً أو شرطاً أو مانعاً بالإضافة إلى المكلّف به ، كشرطيّة الوضوء للصلاة ، ومانعيّة لبس ما لا يؤكل لحمه عن الصّلاة.

أمّا القسم الأوّل فقد يقال : إنّها من الامور التكوينيّة ، ولا تقبل الجعل والاعتبار مطلقاً كما يستفاد من بعض كلمات الشيخ الأعظم ( وقد عرفته آنفاً ) والمحقّق الخراساني رحمه‌الله ، وتبعهما جماعة آخرون ، وقال بعض أنّها منتزعة من الحكم التكليفي ، كما أنّ مقتضى اطلاق كلام جماعة كونها مستقلّة في الجعل.

ولكن الظاهر وقوع خلط بين التكوينية من هذه الامور والتشريعيّة منها ، أي بين السببيّة التكوينيّة مثلاً والسببيّة التشريعيّة ( وهذا أيضاً من موارد الخلط بين المسائل الفلسفية والمسائل الاصوليّة التي غلب عليها هذا الخلط في شتّى مسائلها ، وأوجب الانحراف فيها ) فإنّ لنا سببيّة أو شرطيّة في عالم التكوين ، وهى ما يكون موجوداً في الدلوك مثلاً من المصلحة التكوينية التي تقتضي إيجاب الصّلاة تكويناً ( بل هى لا تكون سبباً حقيقة ، بل إنّها من قبيل الداعي للجعل ) ، وسببيّة أو شرطيّة شرعيّة ترجع في الواقع إلى قيود الموضوع كالإستطاعة التي تكون قيداً من قيود موضوع وجوب الحجّ ( كما أنّ مانعية شيء ترجع إلى أنّ عدمه قيد للموضوع كمانعيّة الحيض ، فإنّ معناها أنّ عدم الحيض قيد لموضوع وجوب الصّلاة ) سواء قلنا بأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، أو لم نقل بذلك كالأشاعرة.

فالسببيّة الشرعيّة وكذلك الشرطيّة والمانعيّة الشرعيتان امور منتزعة من جعل وجود شيء أو عدمه قيداً لموضوع التكليف ، ولا تناله يد الجعل مستقلاً ، فإذا أخذ المولى قيداً في موضوع الحكم كفى في انتزاع شرطيّته له ، ولا حاجة إلى أمر أكثر من ذلك ، كما هو واضح.

هذا في السببيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة للتكليف.

وكذلك بالنسبة إلى المكلّف به ، فإنّها ترجع فيه أيضاً إلى قيود المأمور به ، فإن كان وجود شيء أو عدمه قيداً للمأمور به ، كما في الوضوء بالنسبة إلى الصّلاة ، تنتزع هذه الامور وإلاّ فلا ، من دون حاجة إلى أمر وراء ذلك.

هذا كلّه بالنسبة إلى السببيّة والشرطيّة والمانعيّة.

٢ ـ ومنها الصحّة والفساد في العبادات أو المعاملات ، والأقوال فيهما أربعة :

٣٢٦

أوّلها : القول بأنّها ليست مجعولة مطلقاً لا تبعاً ولا مستقلاً.

ثانيها : أنّها مجعولة مستقلاً مطلقاً.

ثالثها : التفصيل بين العبادات والمعاملات وأنّهما مجعولان مستقلاً في العبادات دون المعاملات.

رابعها : الفرق بين الصحّة الواقعية فليست قابلة للجعل مستقلاً ، والصحّة الظاهرية فهى مجعولة مستقلاً.

والمختار أنّ للصحّة والفساد معنيين ، وإنّهما على كلا معنييهما أمران تكوينيان لا تنالهما يد الجعل مطلقاً :

أحدهما : ما مرّ في مبحث الصحيح والأعمّ من أنّ الصحيح من الأشياء ما يكون مبدأً للآثار المرغوبة منها ، والفاسد ما ليس فيه تلك الآثار ، ولا إشكال في أنّ كون شيء ذا أثر وعدمه أمر تكويني.

ثانيهما : مطابقة الأمر ( في العبادات ) أو مطابقة الحكم ( في المعاملات ) وعدمها ، ولا ريب أيضاً أنّ التطابق أو عدم التطابق أمر واقعي تكويني ، فلو كان العمل جامعاً للاجزاء والشرائط فهو مطابق للمأمور به ، ولو لم يكن جامعاً لها فهو مخالف للمأمور به ، ولا يمكن أن يجعل ويعتبر ما ليس بمطابق خارجاً مطابقاً في الخارج ، فإذا كان المأمور به ذا عشرة أجزاء ، والمأتي به ذا تسعة ، فلا شكّ أنّه لا يكون مطابقاً ، ولا معنى لجعل التسعة عشرة.

فهما ليسا من الامور الاعتباريّة المجعولة مستقلاً ، كما أنّهما ليسا منتزعين من التطابق وعدم التطابق ، لأنّ الصحّة عين التطابق ، كما أنّ الفساد عين التخالف.

إن قلت : هذا ليس صادقاً في مثل المريض الذي لا يكون قادراً على إتيان جميع الأجزاء وليس عمله مطابقاً للواقع ، مع أنّ الشارع حكم بصحّة عمله ، وكذا الكلام في أمثاله من الأعذار.

قلنا : أنّ حكم الشارع بالصحّة في هذا الحال يرجع في الواقع إلى أنّه رفع يده عن وجوب بعض الاجزاء ، فتكون الصّلاة مثلاً بالنسبة إلى المريض تسعة اجزاء لا عشرة ( أو جعل لبعض الاجزاء أبدالاً كالإيماء بدل الركوع والسجود ) فالصحّة حينئذٍ أيضاً بمعنى التطابق الواقعي ، أي تطابق التسعة مع التسعة ، لا تطابق التسعة مع العشرة بحكم الشارع.

٣٢٧

هذا ـ ولكن المحقّق النائيني رحمه‌الله في بعض تقريراته (١) قد فصّل بين الصحّة الواقعية والصحّة الظاهريّة ، وقال بأنّ الصحّة الظاهرية قابلة للجعل بخلاف الصحّة الواقعية ، نعم الموجود في تقريرات (٢) الدورة الاولى من درسه أنّ الصحّة الظاهرية أيضاً ليست قابلة للجعل مستقلاً ، بل إنّها تنتزع من حكم الشارع بالإجزاء.

ولكن الإنصاف أنّ الصحّة الظاهرية وكذا الإجزاء غير قابلة للجعل لا استقلالاً ولا تبعاً فإنّ المولى لو صرّح بأنّ المأمور به هو العشرة حتّى في حال العذر أو الشكّ فكيف يصحّ له الحكم بالصحّة والإجزاء ( أي المطابقة للمأمور به وأدائه )؟ وهل هذا إلاّتناقض؟ ولو رفع يده عن بعض الاجزاء والشرائط في هذا الحال فالتطابق حاصل بلا حاجة إلى أمر آخر.

٣ ـ ومنها الطهارة والنجاسة ، وقد مرّ من شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه‌الله أنّهما أمران تكوينيان ، وقال بعض بأنّهما من الامور المجعولة مستقلاً ، وبعض آخر بأنّهما منتزعان من الحكم بجواز الصّلاة في الشيء الطاهر وعدم جوازها في النجس.

والحقّ أنّ لهما أيضاً أقساماً مختلفة : فقسم منهما أمر تكويني كان موجوداً في العرف قبل الشرع كطهارة المطر وقذارة البول والغائط ، وأمضاهما الشارع المقدّس ، وقسم ثانٍ منهما أمر تكويني أيضاً ، ولكن لم يكن معروفاً واضحاً عند العرف ، بل كشف عند الشارع كنجاسة عرق الجنب من الحرام على القول بها أو نجاسة بول الجلالة وغائطها ، فهذان القسمان أمران تكوينيان أمضاهما الشارع وليسا مجعولين مطلقاً ، وقسم ثالث يكون ظاهرياً منشأه الطهارة أو النجاسة المعنوية كنجاسة الكافر التي منشأها كفر الكافر ونجاسته المعنوية ، ولعلّ من هذا القسم نجاسة الخمر بل وعلى احتمالٍ نجاسة عرق الجنب من الحرام على القول بها. فهذا القسم أيضاً أمر تكويني معنوي.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ نجاسة الكافر تنتزع من حكم الشارع بالاجتناب عنه وعن سؤره ، فتكون مجعولة بالتبع ومن الامور الانتزاعية ، ولكنّه خلاف ظواهر الأدلّة.

٤ ـ ومنها الرخصة والعزيمة ، وقد يتوهّم إنّها من الأحكام الوضعيّة ، لكن الصحيح عدم كونهما لا من الأحكام الوضعيّة نفسها ولا منتزعة عنها بل إنّهما مجرّد إسمين وإصطلاحين لأحد

__________________

(١) راجع أجود التقريرات : ج ٢ ، ص ٣٨٦ ، طبع مطبوعات ديني.

(٢) راجع فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٤٠٠ ، طبع جماعة المدرّسين.

٣٢٨

الأحكام الخمسة في حالتين من الحالات ، فإنّ العزيمة عنوان مصطلح عند الفقهاء لإباحة الترك مع حرمة الفعل كجواز ترك الصيام في السفر أو جواز ترك صلاة الجمعة في عصر الغيبة على بعض الأقوال ، كما أنّ الرخصة أيضاً عنوان مصطلح عند الفقهاء لإباحة الترك مع إباحة الفعل ، نظير جواز ترك الصيام في الحضر أو جواز ترك صلاة الجمعة في عصر الغيبة على قول بعض.

٥ ـ ومنها المناصب كالولاية على الوقف أو على الصغير أو على الأمة وكولاية القضاء والوصاية والوكالة والنيابة ، ولا شكّ في أنّها من الامور الوضعيّة التي يتعلّق بها الوضع والإنشاء ، فالشارع يجعل الإنسان وليّاً أو قاضياً أو وكيلاً ، فهى مجعولة مستقلاً وبالأصالة كما يحكم به الوجدان.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الولاية على الصغير والقيمومة عليه مثلاً تنتزع من حكم الشارع بجواز تصرّفات الولي في أموال الصغير.

ثمّ إنّ اطلاق الحكم بما له من المعنى المعروف عند الفقهاء على الولاية وكذا غيرها من أنواع المناصب وكونها من الأحكام الشرعيّة مشكل جدّاً ( وإن كانت من الامور الوضعيّة المجعولة ) سيّما في ما إذا كانت جزئية شخصيّة كالولاية المجعولة لشخص خاصّ على منصب خاصّ ، لأنّ الأحكام كلّية ، والجزئيّة والتشخّص من خصوصيات المصاديق.

وإن شئت قلت : إنّ كون هذه المناصب في كثير من الموارد جزئية شاهد على عدم صحّة اطلاق الحكم عليها.

٦ ـ ومنها الملكيّة والزوجيّة والحرّية والرقّية ونحوها وكذلك الحقوق كحقّ الشفعة وحقّ التحجير ، فهل هى مجعولة بالأصالة ، أو أنّها منتزعة من مجموع من الأحكام التكليفية كجواز البيع والأكل وسائر التصرّفات بالإضافة إلى الملكيّة؟

الصحيح إمكان كلا الوجهين عقلاً ، لكن الوجدان حاكم على الأوّل ، أي إنّها مجعولة بالأصالة ، لأنّ لازم الوجه الثاني أنّ البائع مثلاً في قوله « ملّكتك » يكون ناظراً إلى الأحكام الكثيرة المتنوّعة التكليفيّة المترتّبة على الملكيّة ، وهذا بعيد عن الفهم العرفي جدّاً ، ومخالف للوجدان عند إنشائها ، والشاهد على ما ذكرنا ما مرّ من أنّ هذه الامور إنعكاسات من امور تكوينيّة يشبهها في عالم الخارج وأنّ الذهن يرسم أشكالاً فرضيّة لما في الخارج ، فهى مجعولة

٣٢٩

بالأصالة ، وموضوعة مستقلاً من ناحية الذهن بالمقايسة مع الخارج ، ففي الملكيّة يجعل صورة فرضية للسلطنة على شيء كسلطنة الإنسان على أعضائه وجوارحه.

٧ ـ ومنها الحجّية في باب الأمارات وغيرها من الحجج الشرعيّة والعقلائيّة ، كحجّية خبر الواحد.

والتحقيق في هذا القسم مبنى على ملاحظة المباني المختلفة في باب الحجّية ، ولذلك نقول : لو كان المبنى أنّ الحجّية عبارة عن جعل حكم مماثل فمعنى حجّية خبر الواحد الدالّ على وجوب صلاة الجمعة أنّ الشارع جعل وجوباً ظاهرياً طريقيّاً لصلاة الجمعة مماثلاً لما في الواقع ، فلا إشكال في أنّها حينئذٍ حكم تكليفي إذا كان الخبر دالاً على الحكم التكليفي ، وحكم وضعي إذا كان الخبر دالاً على الحكم الوضعي لأنّ الحجّية حينئذٍ عبارة عن نفس الحكم المماثل المجعول.

ولو قلنا بأنّها عبارة عن المنجزية والمعذرية ، أي أنّ إصابة الأمارة الواقع كانت منجّزة وإن أخطأت كانت عذراً ، فيمكن أن يقال : أنّها من الأحكام الوضعيّة المجعولة بالأصالة لأنّ كونها مجعولة حينئذٍ ممّا لا ريب فيه ، كما أنّ عدم كونها من الأحكام الخمسة التكليفيّة أيضاً ظاهر ، فينطبق عليها تعريف الحكم الوضعي.

ولو قلنا بأنّها بمعنى إلغاء احتمال الخلاف فإمّا أن يكون المراد منه حينئذٍ الغاء الاحتمال بحسب الاعتقاد ، أي تبديل صفة الظنّ باليقين فهو أمر محال غير معقول لأنّه أمر تكويني ليس في اختيار المكلّف ، ولا يحصل بسبب الإنشاء ، وأمّا أن يكون المراد إلغاء الاحتمال بحسب العمل فهو يرجع إلى الحكم التكليفي بالعمل ، لأنّ معنى « الغ احتمال الخلاف » حينئذٍ « افعل هذا العمل وامش في مقام العمل طبقاً لمؤدّي الأمارة » وهو في الواقع يرجع إلى المعنى السابق ، وهو إنشاء الحكم المماثل.

وهيهنا مبنى رابع للمحقّق النائيني ، وهو ما مرّ منه في مبحث الأمارات من أنّ الحجّية عبارة عن جعل صفة العلم للظنّ ، فبناءً عليه تكون الحجّية أيضاً من الأحكام الوضعيّة المجعولة بالأصالة كما لا يخفى.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ ما فعله المحقّق الخراساني رحمه‌الله من جعله الملكية ونحوها في عرض المناسب ( أوّلاً ) وجعله الحجّية في عرض الملكيّة والمناصب من دون أن يفصل بين المذاهب المختلفة في معنى الحجّية ( ثانياً ) في غير محلّه.

٣٣٠

بقي هنا شيء :

وهو ما يترتّب على هذا البحث من الثمرة في باب الاستصحاب :

وهى عبارة عن جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعيّة على بعض المباني وعدم جريانه على بعض آخر ، فما منها من الامور التكوينيّة كالصحّة والفساد ( فإنّ الصحّة عبارة عن المطابقة مع المأمور به ، وهى أمر خارجي تكويني كما مرّ توضيحه ) فلا يمكن استصحابه ، كما لا يمكن استصحاب أثره وهو الاجزاء وإسقاط الإعادة والقضاء ، لأنّه أمر عقلي ، والاستصحاب يجري فيما إذا كان المستصحب أمراً شرعياً أو ذا أثر شرعي.

وما كان منتزعاً من الامور التكليفيّة كالجزئيّة والشرطيّة فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيه باعتبار منشأ انتزاعه ، فإذا شككنا في بعض الأحوال في جزئية السورة مثلاً نستصحب وجوب السورة ونثبت بقاء الأمر المتعلّق بها بلا ريب.

وينبغي هنا ذكر ما مرّ من الشيخ الأعظم رحمه‌الله من مثال ضمان الصبي فإنّه قال : « إنّ معنى قولنا « إتلاف الصبي سبب لضمانه » أنّه يجب عليه غرامة المثل أو القيمة إذا إجتمع فيه شرائط التكليف ، فإذا خاطب الشارع البالغ العاقل المؤسر بقوله « أغرم ما أتلفته في حال صغرك » إنتزع من هذا الخطاب معنى يعبّر عنه بسببيّة الإتلاف للضمان » وحاصله أنّ ضمان الصبي حكم وضعي ينتزع من الحكم التكليفي التعليقي.

ولا يخفى ما يرد عليه من أنّه كيف ينتزع الحكم الوضعي الفعلي من حكم تكليفي تعليقي؟ ( لأنّ الأحكام التكليفية تعليقية بالنسبة إلى الصبي ) فإمّا أن يقول بعدم ضمان الصبي في حال صغره فهو مخالف لظاهر كلمات القوم والأدلّة ، ولا نظنّ أن يلتزم به أحد ، وإمّا يقول بكونه ضامناً فعلاً ، وحينئذٍ لابدّ من انتزاعه عن حكم غير فعلي ، وهو كما ترى.

وما كان منها من الامور المجعولة بالأصالة كالملكية والوكالة وغيرهما فلا شكّ في جريان الاستصحاب فيه.

ثمّ إنّ للمحقّق الخراساني رحمه‌الله في ذيل هذا التنبيه إشكالاً وجواباً لا يخلو ذكرهما عن فائدة.

أمّا الإشكال فحاصله : أنّ الملكيّة كيف تكون من الأحكام الوضعيّة والاعتبارات الحاصلة بالجعل والإنشاء ، التي هى من الخارج المحمول ، أي ليس بحذائها شيء في الخارج

٣٣١

سوى منشأ انتزاعها ، مع أنّ الملك هو إحدى المقولات المحمولات بالضميمة ، أي التي بحذائها شيء في الخارج ، فإنّ مقولة الملك هى نسبة الشيء إلى ما يحويه ، والحالة الحاصلة له من ذلك ، كالتختّم والتعمّم والتقمّص؟

وأمّا الجواب فحاصله : إنّ الملك مشترك لفظي يطلق على المقولة التي يعبّر عنها بالجدة تارةً ، ويطلق على الإضافة التي قد تحصل بالعقد وقد تحصل بغيره ( من إرث ونحوه ) اخرى ، فالذي هو من الأحكام الوضعيّة والاعتبارات الحاصلة بالجعل والإنشاء ويكون من الخارج المحمول ، هو الملك بالمعنى الثاني ، والذي هو من الأعراض المتأصّلة ويكون من المحمولات بالضميمة ( أي التي لا تحصل بالجعل والإنشاء ) هو الملك بالمعنى الأوّل ، ومنشأ الإشكال إشتراكه اللفظي.

أقول : قد حاول بعض الأعلام في مقابل المحقّق الخراساني رحمه‌الله إثبات كون الملك مشتركاً معنوياً فقال بأنّه وضع لمطلق إحاطة شيء على شيء ، وأورد عليه من جانب بعض آخر أنّ الإحاطة الموجودة في مثل التختّم عبارة عن إحاطة الملك على المالك ، بينما الإحاطة الموجودة في الملك القانوني الاعتباري عبارة عن إحاطة المالك على الملك ، فهما نوعان من الإحاطة ، ولا قدر جامع بينهما.

ولكن لقائل أن يقول : إنّ القدر الجامع هو عنوان الإحاطة الأعمّ من إحاطة المالك على الملك وإحاطة الملك على المالك.

بل الصحيح أن يقال : إنّه قد وقع الخلط بين المعنى اللغوي والمعنى المصطلح في الفلسفة ، فإنّ الملك في اللغة ليس بمعنى الإحاطة ، بل أنّه عبارة عن سلطة مطلقة قانونيّة تحصل للمالك على ملكه بحيث يجوز له أنواع التصرّف ، وهذا المعنى لا يوجد في مثل التختّم والتقمّص كما لا يخفى ، وبالجملة لابدّ من أخذ المعنى اللغوي من كتب اللغة وأخذ المعنى المصطلح من أهل الاصطلاح ، ولا يصحّ الخلط بينهما ، والمشترك اللفظي ما يكون له معنيان مختلفان عند أهل اللغة ، كما أنّ المشترك المعنوي ما يكون له قدر جامع عندهم أيضاً ، لا بضمّ اللغة مع الاصطلاح ، والعجب من المحقّق الخراساني رحمه‌الله حيث وقع في هذا الخلط ، مع أنّه حاول أن يمنع من وقوع الخلط بين التشريع والتكوين.

ثمّ إنّه قد مرّ سابقاً أنّ الملكية في مالكية الباري تعالى لعالم الوجود وإن لم تكن من قبيل

٣٣٢

السلطة القانونيّة الاعتباريّة ( بل إنّها عبارة عن إحاطته تعالى على ما سواه ، التي توجب أن يستفيض العالم منه فيض الوجود آناً فآناً ) فيكون اطلاق المالك عليه مجازاً ، إلاّ أنّه ليس على حدّ سائر المجازات التي تكون قنطرة إلى الحقيقة ، بل إنّه فوق الحقيقة ، وتكون الحقيقة فيه قنطرة إلى مثل هذا المجاز ، ومن هنا يظهر الإشكال في التقسيم الذي يدور على بعض الألسن من أنّ للملكيّة بالمعنى الثاني أنواعاً ثلاثة :

أحدها : الملكيّة الحاصلة من الإضافة الإشراقيّة ( وهى إضافة الخالق إلى خلقه ).

ثانيها : الملكيّة الحاصلة من الإضافة الحاصلة من ناحية التصرّف مثل ملكيّة الراكب للفرس.

ثالثها : الملكية الاعتباريّة القانونيّة الحاصلة من ناحية الاعتبار ( انتهى ).

هذا ، مع ما فيه من الإشكال في اطلاق الملك على مجرّد التصرّف فإنّ هذا أيضاً مجاز قطعاً ، فلا يقال لراكب الفرس أنّه مالك له إذا كان الفرس لغيره.

التنبيه الثاني : اعتبار فعلية اليقين والشكّ في الاستصحاب

فإذا تيقّن بالحدث فشكّ وجرى استصحاب الحدث وصار محكوماً بكونه محدثاً شرعاً ثمّ غفل وصلّى بطلت صلاته ، ولا تنفعه قاعدة الفراغ أصلاً ، لأنّ مجراها الشكّ الحادث بعد الفراغ لا الموجود من قبل ، وأمّا إذا تيقّن بالحدث ثمّ غفل وصلّى واحتمل أنّه قد تطهّر قبل الصّلاة بعد حدثه المتيقّن صحّت صلاته لقاعدة الفراغ ولأنّ الشكّ في الحدث من قبل الصّلاة لم يكن فعلياً حتّى يحكم بالحدث من قبل فتبطل صلاته ، وإن كان بحيث لو التفت لشكّ.

وذلك لأنّ الشكّ واليقين في أدلّة الاستصحاب ظاهران في الشكّ واليقين الفعليين ، بل إنّه كذلك في جميع العناوين المأخوذة في أدلّة الأحكام وغيرها فإنّها ظاهرة في مصاديقها الفعلية كعنوان المجتهد والعادل ، بل يمكن أن يقال بصحّة سلبها عن مصاديقها التقديرية.

إن قلت : المعروف كون اليقين طريقاً إلى الواقع ، وأنّه ليس لصفة اليقين موضوعيّة ، وكذلك الشكّ ، لأنّه ليس أكثر من عدم اليقين.

قلنا : أنّه كذلك ، ولكن في باب الاستصحاب قامت القرينة على الموضوعيّة ، نظير باب

٣٣٣

الشهادات ، لأنّ المستظهر من أدلّة الاستصحاب أنّ المعتبر هو الثبوت العلمي النفساني لا الثبوت الواقعي.

التنبيه الثالث : جريان الاستصحاب فيما ثبت بالأمارة

لا ريب في أنّه لا فرق في جريان الاستصحاب بين أن يكون المستصحب محرزاً باليقين الوجداني أو بمحرز تعبّدي كالأمارات ، فلو قامت أمارة على الطهارة أو العدالة ثمّ شككنا في بقائها فلا إشكال في جريان استصحابها ، مع أنّ الأمارة من الأدلّة الظنّية ولا توجب اليقين الوجداني.

هذا ـ مع أنّ الظاهر من أدلّة الاستصحاب إنّما هو اليقين الوجداني ، نعم حجّية الأمارة يقينية بالوجدان ولكنّها لا توجب اليقين بالواقع ، لأنّ معناها إنّه لو أصابت الأمارة الواقع كانت منجّزة ، ولو أخطأت كانت عذراً ، فلم يحصل اليقين بالواقع ، مع أنّه أحد ركني الاستصحاب الظاهر من أدلّة الاستصحاب اليقين بالواقع لا اليقين بالحجّية فإنّه لا يراد استصحاب الحجّية لعدم الشكّ فيها.

إن قلت : اليقين بالحكم الظاهري يكفي في الاستصحاب وهو حاصل في المقام.

قلنا : أنّه مبنى على القول بجعل الحكم المماثل الذي لا نقول به.

هذا كلّه هو بيان الإشكال ، وقد ذكر لحلّه طرق عديدة :

١ ـ ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله وحاصله : أنّ الاستصحاب ممّا يتكفّل بقاء الحكم الواقعي على تقدير ثبوته ، فتكون الحجّة على ثبوته حجّة أيضاً على بقائه ، لما ثبت من الملازمة بين الثبوت والبقاء بالاستصحاب ، نظير ما إذا قام الدليل الشرعي على طلوع الشمس فيكون دليلاً على وجود النهار ، أيضاً بعد ما ثبتت الملازمة بين طلوع الشمس ووجود النهار غايته أنّ الملازمة في المثال وجدانيّة وفي المقام تعبّديّة.

وأورد عليه أوّلاً : بأنّه معارض مع ما مرّ منه نفسه من اعتبار فعلية اليقين « فوقع التهافت بين ما اختاره في التنبيه الأوّل من اعتبار فعليّة الشكّ واليقين في الاستصحاب وبين ما اختاره في التنبيه الثاني من الإكتفاء في صحّة الاستصحاب بالشكّ في بقاء شيء على تقدير

٣٣٤

ثبوته وإن لم يحرز ثبوته ... وذلك لأنّ لازم القول باعتبار فعلية اليقين والشكّ هو أخذهما في موضوعه ، ولازم ما اختاره في التنبيه الثاني هو عدم أخذهما فيه أو لا أقلّ من عدم أخذ اليقين فيه » (١).

ولكن يرد عليه : أنّه وقع الخلط بين الموضوعيّة والطريقيّة وبين الفعليّة والتقديريّة ، فإنّ البحث في المقام في أنّ اليقين المأخوذ في أدلّة الاستصحاب طريقي لا موضوعي بينما البحث في التنبيه السابق كان في أنّ هذا اليقين الطريقي يعتبر أن يكون فعليّاً ، وبعبارة اخرى : يكون البحث في المقام في أنّ اليقين المعتبر فعليته هل أخذ في أدلّة الاستصحاب بعنوان الموضوع ، أو أنّه طريق إلى الواقع؟ أي هل المعتبر هو الثبوت الواقعي أو المعتبر صفة اليقين ، فلا تناقض بين التنبيهين كما لا يخفى.

وثانياً : بما أفاده المحقّق الأصفهاني رحمه‌الله من أنّ ظاهر أدلّة الاستصحاب الثبوت العنواني المقوّم لصفة اليقين لا الثبوت الواقعي (٢).

ولكن لنا أن نقول : أنّ ظاهر أدلّة الاستصحاب أخذ صفة اليقين والشكّ في موضوع الاستصحاب كركنين له.

٢ ـ ما ذكره المحقّق الأصفهاني رحمه‌الله أيضاً في مقام حلّ الإشكال وحاصله : أنّ المراد من اليقين في أدلّة الاستصحاب هو مطلق المنجّز ، يعني « كلّ قاطع للعذر » وهذا له مصداقان : القاطع للعذر عقلاً وهو اليقين الوجداني ، والقاطع للعذر شرعاً وهو الأمارة ، ومفاد أدلّة الاستصحاب هو إيجاد الملازمة بين المنجّز على الحدوث والمنجّز على البقاء (٣).

٣ ـ ما أفاده المحقّق الأصفهاني رحمه‌الله أيضاً وهو « إرادة مطلق الحجّة ـ القاطعة للعذر ـ من اليقين ، لكن جعل منجّز الثبوت منجّزاً للبقاء كما هو ظاهر الأخبار ، لأنّ مفادها إبقاء اليقين ـ أي المنجّز ـ لا التمسّك باحتمال البقاء ، ويتعيّن حينئذٍ كون الاستصحاب حكماً طريقياً » (٤).

أقول : هيهنا نكات يتّضح بها الحقّ في المسألة :

__________________

(١) رسائل الإمام الخميني قدس‌سره : ص ١٢٢.

(٢) راجع نهاية الدراية : ج ٥ ـ ٦ ، ص ١٣٢ ، طبع مؤسسة آل البيت.

(٣) المصدر السابق : ص ١٣٣.

(٤) المصدر السابق.

٣٣٥

الاولى : أنّه لا ريب في جريان الاستصحاب في ما ثبت بالأمارات ، وإنّما المهمّ حلّ ما اورد عليه من الإشكال صناعياً.

الثانية : أنّه لابدّ من حلّ المشكلة على المباني المختلفة في باب الأمارات ، فنقول : أمّا بناءً على مبنى جعل الحكم المماثل لمؤدّى الأمارة فلا موضوع للإشكال ، لأنّ قيام الأمارة حينئذٍ يوجب اليقين بالحكم الظاهري الطريقي وجداناً.

وكذلك بناءً على القول بأنّ مفاد الأمارة إلغاء احتمال الخلاف الذي قد مرّ أنّه يرجع إلى جعل الحكم المماثل.

وكذلك بناءً على مبنى المحقّق النائيني رحمه‌الله من جعل صفة العلم لأنّ اليقين حاصل حينئذٍ بتعبّد من الشارع.

فيختصّ الإشكال حينئذٍ بالقول بأنّ مفاد الأمارة هو جعل المنجّزيّة ، والمعذّريّة وحيث إنّ المختار هو جعل الحكم المماثل فنحن في فسحة من ناحية هذا الإشكال.

الثالثة : أنّ لليقين معنيين : اليقين المنطقي وهو ما لا يوجد فيه احتمال الخلاف ، واليقين العرفي ، ولا ريب في أنّ الثاني هو الموضوع في باب الاستصحاب وغيره ممّا أخذ في موضوعه اليقين كما مرّ بيانه تفصيلاً في محلّه ( مبحث حجّية خبر الواحد ) كما لا ريب في أنّ هذا النوع من اليقين حاصل في باب الأمارات ، فتنحلّ المشكلة من الأساس في جريان الاستصحاب في باب الأمارات ، كما تنحلّ المشكلة في كثير من أبواب الشهادات ، وكذا في مسألة قيام الأمارات مقام العلم المأخوذ في الموضوع وأشباهها.

الرابعة : أنّه لو أغمضنا عن جميع ذلك فلا أقلّ ممّا أفاده المحقّق الأصفهاني رحمه‌الله من الطريقين المذكورين ، والإنصاف أنّ كليهما في محلّه ، نعم أنّه إستظهر من أدلّة الاستصحاب الطريق الثاني مع أنّ الظاهر منها هو الأوّل.

وحاصل الكلام أنّ اليقين المأخوذ في لسان أدلّة الاستصحاب هو بمعنى مطلق الحجّة ، ومفاد الاستصحاب جعل الملازمة بين حجّية الاستصحاب وحجّية تلك الأمارة.

٣٣٦

التنبيه الرابع : أقسام استصحاب الكلّي

والمشهور عند من تأخّر عن الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله أنّه على ثلاثة أقسام ، وذكر بعض من قارب عصرنا قسماً رابعاً فصارت الأقسام أربعة :

الأوّل : أن يكون الشكّ في بقاء الكلّي من جهة الشكّ في بقاء الفرد الذي كان الكلّي متحقّقاً في ضمنه كما إذا علم بوجود الإنسان في ضمن زيد ، ثمّ شكّ في بقاء الإنسان من جهة الشكّ في بقاء زيد ، فلا إشكال في جواز استصحاب الإنسان وترتيب أثره عليه كما جاز استصحاب شخص زيد وترتيب نفس الأثر عليه فإنّ أثر الكلّي أثر الفرد أيضاً ولا عكس ، ولذا لو ترتّب على الفرد بخصوصه أثر جاز استصحاب الفرد دون الكلّي.

والمثال الشرعي لهذا القسم ما إذا أجنب زيد وتيقّن بالجنابة وبتبعها بكلّي الحدث ثمّ شكّ في رفعها بالغسل فلا إشكال في جريان استصحاب كلّ من الجنابة والحدث ، ومقتضى الثاني هو عدم صحّة صلاته وما هو مشروط بالطهارة ، وهو بعينه مقتضى الأوّل أيضاً مضافاً إلى عدم جواز مكثه في المسجد مثلاً.

الثاني : أن يكون الشكّ في بقاء الكلّي من جهة تردّد الفرد الذي كان الكلّي متحقّقاً في ضمنه بين ما هو مرتفع قطعاً ، وما هو باقٍ جزماً ، كما إذا علم إجمالاً بوجود طائر في الدار ، ولم يعلم أنّه العصفور أو الغراب ، ثمّ مضى مقدار عمر العصفور دون الغراب ، فإن كان الطائر عصفوراً فقد مات وإن كان غراباً فهو باقٍ فيستصحب كلّي الطائر الجامع بينهما.

والمثال الشرعي لهذا القسم ما إذا علم إجمالاً بنجاسة الثوب ولم يعلم أنّها من الدم أو البول؟ فإن كانت النجاسة من الدم فقد زالت بالغسل مرّة بالماء القليل وإن كانت النجاسة من البول فهى باقية لا تزول إلاّبالمرّة الثانية ، فيستصحب كلّي النجاسة المشترك بين البول والدم.

الثالث : أن يكون الشكّ في بقاء الكلّي من جهة الشكّ في وجود فرد آخر بعد القطع بارتفاع الفرد الأوّل الذي كان الكلّي متحقّقاً في ضمنه ، وهذا على قسمين :

فتارةً يقع الشكّ في وجود فرد آخر مقارن لوجود الفرد الأوّل ، واخرى يقع الشكّ في وجود فرد آخر مقارن لارتفاع الفرد الأوّل.

كما إذا علم بوجود الإنسان في الدار في ضمن وجود زيد ، ثمّ حصل القطع بخروج زيد عنها وشكّ في وجود عمرو مقارناً لوجود زيد في الدار أو مقارناً لخروجه عنها.

٣٣٧

والمثال الشرعي له ما إذا علم بحدوث الحدث الأصغر ثمّ حصل اليقين بإرتفاعه بالوضوء وشكّ في حدوث الحدث الأكبر مقارناً لحدوث الأصغر أو مقارناً لارتفاعه.

الرابع : ما ذكره بعض من قارب عصرنا ، وحاصله ما إذا علمنا بوجود فرد بعنوان ، خاصّ ثمّ علمنا بوجود مصداق معنون بعنوان آخر ولكن لا ندري أنّ العنوانين منطبقان على مصداق واحد أولهما مصداقان مختلفان؟

وهذا مثل ما إذا علمنا بوجود زيد في الدار ، ثمّ سمعنا صوت القرآن من الدار لا ندري هو زيد أو عمرو؟ ثمّ خرج زيد من الدار ، فإن كان القارىء زيداً فقد خرج ، وإن كان غيره فهو باقٍ ، فهل يمكن استصحاب بقاء القارىء للقرآن في الدار ـ أي بهذا العنوان لا بعنوان أنّه زيد أو عمرو ـ أم لا؟

ومثاله الشرعي ما إذا علم إنسان بأنّه قد إحتلم ثمّ إغتسل بعد ذلك ، ثمّ رأى بعد ذلك اليوم آثار المني في ثوبه لا يدري أهو من الاحتلام السابق ، أو من إحتلام جديد؟ فهل يمكن الإشارة إلى خصوص ذلك الأثر ، فيقال : أنّ الجنابة كانت حاصلة مقارنة لخروج هذا ، ولا ندري أنّه اغتسل بعد خروجه أم لا؟ فيستصحب الجنابة التي حصلت مقارنة له لا خصوص الجنابة الحاصلة في أمس ، فإنّها قد ارتفعت قطعاً ، ولا خصوص الجنابة الحاصلة في اليوم فإنّها مشكوك حدوثها.

والفرق بينه وبين الكلّي في القسم الثالث واضح فإنّ تعدّد الفردين هناك قطعي ، فالحدوث بسبب واحد منهما والبقاء بسبب فرد آخر ، ولكن التعدّد هنا غير ثابت لإحتمال إنطباق عنوان زيد وقارىء القرآن على شخص واحد.

هذه هى الأقسام الأربعة من الاستصحاب الكلّي.

أمّا القسم الأوّل : فلا إشكال في جريان استصحاب الكلّي فيه ( كما مرّت الإشارة إليه ) كما يجري استصحاب الفرد أيضاً.

ولكن الكلام في أنّ استصحاب الفرد هل يغني عن استصحاب الكلّي مطلقاً ، أو لا يكفي كذلك أو فيه تفصيل؟ والاحتمالات أربعة :

٣٣٨

١ ـ كفاية استصحاب الفرد عن استصحاب الكلّي ، واستدلّ لها باتّحاد الكلّي مع فرده ، فيكفي استصحاب الفرد لترتّب جميع آثار الكلّي ، وهذا ما ذهب إليه أكثر المحقّقين ، وهو المختار.

٢ ـ عدم الكفاية ، من باب اختلاف الحيثيتين : حيثية الحدث مثلاً وحيثية خصوص الجنابة ، فإنّهما عنوانان ، لكلّ واحد منهما آثار غير آثار الآخر.

٣ ـ التفصيل بين الفرد الساري وصرف الوجود ، والمراد من الفرد الساري هو الأفراد الداخلة تحت العموم الاستغراقي ، فإنّ حكم الجنابة عام سارٍ في جميع أفرادها ، فيغنينا استصحاب الفرد عن استصحاب الكلّي ، بخلاف صرف الوجود ، كما في الاستطاعة للحجّ والنصاب في الزكاة ، فإنّ صرف وجود الاستطاعة يكفي لوجوب الحجّ ، كما أنّ صرف وجود النصاب يكفي لوجوب الزكاة ، فلا يغني حينئذٍ استصحاب الفرد عن استصحاب الكلّي.

٤ ـ التفصيل بين الاستصحاب في الشبهة الحكميّة والاستصحاب في الشبهة الموضوعيّة ، فيغني استصحاب الفرد عن استصحاب الكلّي في الاولى دون الثانية ، لأنّ الشارع في مورد الاولى يجعل حكماً مماثلاً للواقع ، ففي مورد استصحاب وجوب صلاة الجمعة مثلاً يجعل وجوباً ظاهرياً مماثلاً لوجوبها الواقعي ، بخلافه في الثانية ، حيث إنّ المستصحب فيها هو الموضوع لا الحكم.

إذا عرفت هذا فنقول : الصحيح من هذه الوجوه إنّما هو القول الأوّل كما أشرنا ، فلا ثمرة لإستصحاب الكلّي في هذا القسم لأنّ الكلّي لا يكون مفترقاً عن فرده ، لما ثبت في محلّه أنّ الحقّ اتّحاد الكلّي الطبيعي مع افراده ، وأنّ وجود الطبيعي عين وجود افراده ، وحينئذٍ آثار الكلّي تترتّب أيضاً على فرده ، فمن تيقّن بالجنابة ثمّ شكّ في الطهارة عنها يستصحب بقاء الجنابة ويرتّب عليها عدم المكث في المسجد ، الذي هو من آثار فرد الجنابة وعدم صحّة صلاته الذي هو من آثار مطلق الحدث ، ولا حاجة إلى استصحاب كلّي الحدث.

أمّا القول الثاني : ( وهو عدم كفاية استصحاب الفرد عن استصحاب الكلّي ) فاستدلّ له المحقّق الأصفهاني رحمه‌الله في تعليقته بما حاصله : أنّ مقتضى الدقّة أنّ التعبّد بالشيء لا معنى له إلاّ التعبّد بأثره ، ولا يعقل التعبّد بشيء والتعبّد بأثر غيره (١).

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٥ ـ ٦ ، ص ١٣٦ ، طبع مؤسسة آل البيت.

٣٣٩

والجواب عنه أوّلاً : أنّ تعدّد الكلّي والفرد إنّما هو في الحيثية ، ولا إشكال في أنّ التعدّد الحيثي أمر ذهني يحصل بالتحليل العقلي لا في الخارج لأنّ الحقّ أنّ وجود الطبيعي في الخارج عين وجود افراده كما مرّ.

وثانياً : سلّمنا كونهما متعدّداً في الخارج بالدقّة العقليّة ولكنّهما واحد بنظر العرف فإنّ العرف يرى وحدة بين حيثية الحدث وحيثية الجنابة ، ولا إشكال في أنّ المعتبر في الاستصحاب إنّما هو الوحدة العرفيّة.

والعجب من المحقّق الخراساني رحمه‌الله حيث إنّه أفاد في تعليقته على الرسائل عكس ما أفاد هنا ، حيث قال هناك : « إنّ الكلّي والفرد بالنظر العرفي إثنان ، يكون بهذا النظر بينهما التوقّف والعلّية دون الاتّحاد والعينية ، فلا يكون التعبّد بالفرد عرفاً تعبّداً بالكلّي بهذا النظر وهو المعتبر في هذا الباب » (١).

فإنّه قد مرّ أنّ المسألة على العكس ، أي أنّ حيثية الكلّي وإن كانت غير حيثيّة الفرد بالدقّة العقليّة ولكنّهما عند العرف واحد.

وأمّا القول الثالث : ( وهو التفصيل بين الوجود الساري وصرف الوجود ) فاستدلّ له بأن المستصحب الكلّي إذا كان وجوده سارياً في افراده ككلّي الحدث في ما إذا قيل : إن كنت محدثاً فلا تصلّ ( حيث إنّ الحكم بعدم جواز الصّلاة تعلّق بكلّي الحدث ومنه سرى إلى أفراده ) فإنّه يكون حينئذٍ من قبيل القضيّة الحقيقيّة ، وقد ثبت في محلّه « أنّ الحكم في المحصورة أيضاً جرى على الطبيعة بحيث قد سرى افرادها إذ لو على أفرادها لم يمكن إذ ليس إنتهت أعدادها » (٢) ومعناه أنّ الكلّي متّحد مع فرده فاستصحاب فرده مغنٍ عن استصحاب نفسه ، وأمّا إذا كان من قبيل صرف الوجود كمقدار النصاب في الزكاة أي عشرين مثقالاً مثلاً ( حيث إنّ الزكاة تجب بمجرّد تحقّق صرف الوجود من هذا المقدار ) فلا يكون حينئذٍ ناظراً إلى خصوصيّات الأفراد ، أي يكون لا بشرط بالنسبة إلى الأكثر من صرف الوجود ، فلا يغني استصحاب الفرد عن استصحاب الكلّي.

والجواب عنه أيضاً : اتّضح ممّا مرّ من أنّ وجود الكلّي عين وجود فرده عقلاً وعرفاً ،

__________________

(١) نقله عنه المحقّق الأصفهاني رحمه‌الله في نهاية الدراية : ج ٥ ـ ٦ ، ص ١٣٧ ، طبع مؤسسة آل البيت.

(٢) المنظومة للسبزواري.

٣٤٠