أنوار الأصول - ج ٣

أنوار الأصول - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-15-6
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٢٤

وهذا الحديث مع عمومه وسلامته عن إشكال خصوصية المورد وسائر الإشكالات الواردة على الروايات السابقة ، أورد عليها أيضاً سنداً ودلالة :

أمّا السند فللقاسم بن يحيى الذي ضعّفه العلاّمة في الخلاصة ، وابن داود في رجاله.

نعم ، يمكن أن يقال : الأصل في هذا القدح ابن الغضائري الذي لا اعتبار بتضعيفاته وإن كان توثيقاته معتبرة ، ولكنّه مع ذلك لم يوثّق ، ولابدّ في تصحيح السند من إثبات الوثاقة.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الناقل عنه أحمد بن محمّد بن عيسى القمّي الذي أخرج أحمد بن محمّد بن خالد البرقي عن قم لنقله عن الضعاف ، ولكنّه أيضاً ليس أكثر من قرينة على الوثاقة لا دليلاً عليها.

وأمّا الدلالة فلأنّ المراد منها غير واضح ، فهل هى تدلّ على قاعدة اليقين أو قاعدة الاستصحاب؟ فلابدّ أوّلاً من بيان الفرق بين القاعدتين ، فنقول : قد مرّ كون زمان الشكّ واليقين في الاستصحاب واحداً ، وزمان متعلّقهما متعدّداً ، وأمّا قاعدة اليقين فيكون ( بالعكس ) زمان المتعلّقين فيها واحداً ، وزمان نفس اليقين والشكّ متعدّداً.

وفي هذا الحديث هناك فقرة منه ( وهى قوله عليه‌السلام : « من كان على يقين ثمّ شكّ » ) تناسب قاعدة اليقين ، لأنّها ظاهرة في أنّ الشكّ حصل في زمان آخر غير زمان اليقين وتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين ، وتناسب فقرة اخرى منه الاستصحاب ، وهى قوله عليه‌السلام : « إنّ الشكّ لا ينقض اليقين » حيث إنّها ظاهرة في بقاء اليقين حين حصول الشكّ ، ولذلك نهى عن نقضه به ، فالتعليل الوارد في هذا الحديث ظاهر في قاعدة الاستصحاب ، وصدره ظاهر في قاعدة اليقين ، ولا إشكال في أنّ ظهور التعليل مقدّم ، والذي يسهل الخطب هى قرينية سائر الروايات كما لا يخفى.

٥ ـ ما رواه علي بن محمّد القاساني قال : « كتبت إليه وأنا بالمدينة أسأله عن اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب : اليقين لا يدخل فيه الشكّ ، صمّ للرؤية وافطر للرؤية » (١).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٧ ، أبواب أحكام شهر رمضان ، الباب ٣ ، ح ١٣.

٣٠١

وقد عدّه الشيخ الأعظم رحمه‌الله من أحسن روايات الباب ، واختار المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني رحمه‌الله عدم دلالته رأساً ، وذهب جماعة إلى دلالته في الجملة.

فلابدّ حينئذٍ من البحث فيه سنداً ودلالة :

أمّا السند فاختلف في أحمد بن محمّد القاساني ، قال بعض : أنّه متّحد مع أحمد بن محمّد الشيره وهو ثقة ، وقال بعض آخر : أحمد بن محمّد الشيره ثقة والقاساني ضعيف ، فالسند مشترك لا يمكن الاعتماد عليه ، مضافاً إلى إشكال الاضمار.

أمّا الدلالة فالعمدة من الاحتمالات الموجودة فيها إثنان :

أحدهما : ما ذكره الشيخ الأعظم رحمه‌الله ، وهو أنّ الحديث ناظر إلى الاستصحاب ، والمراد من اليين هو اليقين بشهر شعبان واليقين بشهر رمضان ، والمراد من الشكّ هو الشكّ في شهر رمضان والشكّ في شهر شوّال ، وقوله عليه‌السلام « لا يدخل » أي « لا ينقض » ، وقوله عليه‌السلام : « صم للرؤية وافطر للرؤية » عبارة اخرى عن قوله عليه‌السلام : « انقضه بيقين آخر » في بعض الروايات الاخر.

ثانيهما : ما في أجود التقريرات تبعاً للمحقّق الخراساني رحمه‌الله : وحاصله أنّ الحديث أجنبي عن الاستصحاب لأنّه لم يعهد أن يكون « لا يدخل » بمعنى لا ينقض ، بل المراد من الحديث قاعدة اليقين في خصوص باب رمضان ، وهو أنّ الشارع إعتبر أن يكون صوم شهر رمضان وإفطاره يقينيين (١).

وقد اعتمد المحقّق الخراساني رحمه‌الله في هذا على روايات اخرى وردت في الباب وهى كثيرة :

منها : ما رواه الحلبي عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « إنّه سئل عن الأهلّة فقال هى أهلّة الشهور ، فإذا رأيت الهلال فصم وإذا رأيته فأفطر » (٢).

ومنها : ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، وليس بالرأي ولا بالتظنّي ولكن بالرؤية » (٣).

ومنها : ما رواه عمرو بن عثمان والفضل وزيد الشحّام جميعاً عن أبي عبدالله عليه‌السلام : « أنّه

__________________

(١) راجع أجود التقريرات : ج ٢ ، ص ٣٧٣ ، طبع مؤسسة مطبوعات ديني.

(٢) وسائل الشيعة : الباب ٣ ، من أبواب أحكام شهر رمضان ، ح ١.

(٣) المصدر السابق : ح ٢.

٣٠٢

سئل عن الأهلّة ، فقال : هى أهلّة الشهور ، فإذا رأيت الهلال فصم وإذا رأيته فأفطر الحديث » (١). إلى غير ذلك.

وظاهرها اعتبار حصول القطع واليقين بمشاهدة الهلال ، فليكن الرواية الثالثة عشر من هذا الباب ( وهى رواية القاساني المذكورة ) أيضاً كذلك.

وأمّا الاحتمالات الاخرى في الحديث فهى ثلاثة :

١ ـ أن يكون المراد من الحديث لزوم العمل على اليقين بدخول شهر رمضان فقط ، وهو جزء من احتمال المحقّق الخراساني رحمه‌الله.

وأورد عليه بأنّه ينافي ذيل الحديث : « وأفطر للرؤية ».

٢ ـ أن يكون المراد منه اعتبار اليقين في كلّ يوم من شهر رمضان لا خصوص الأوّل والآخر.

وفيه : أنّه يستلزم عدم وجوب الصيام في اليوم الآخر المشكوك كونه من رمضان أو من شوّال ، ولا يقول به أحد.

٣ ـ أن يكون الحديث ناظراً إلى قاعدة الإشتغال أساساً ( الإشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية ).

ويرد عليه : أنّ لازمه وجوب الصيام في اليوم الأوّل المشكوك كونه من رمضان أو من شعبان ، وهو أيضاً لا يقول به أحد.

ثمّ إنّه يستفاد من مجموع كلمات المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني والمحقّق الأصفهاني رحمه‌الله مؤيّدات ليكون المراد من الحديث قاعدة اليقين في خصوص باب الصوم ، أي اعتبار اليقين في الصيام والإفطار ، وأنّه ليس ناظراً إلى الاستصحاب :

منها : التعبير بـ « لا يدخل » عوضاً عن التعبير بـ « لا ينقض ».

ومنها : الأحاديث الواردة في الباب الثالث من أبواب أحكام شهر رمضان كرواية سماعة ( رفاعة ) قال : « صيام شهر رمضان بالرؤية وليس بالظنّ » (٢).

ورواية إسحاق بن عمّار عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنّه قال : « في كتاب علي عليه‌السلام صمّ لرؤيته

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٣ ، من أبواب أحكام شهر رمضان ، ح ٣.

(٢) المصدر السابق : ح ٦.

٣٠٣

وافطر لرؤيته وإيّاك والشكّ والظنّ ... » (١).

ورواية إبراهيم بن عثمان الخزّاز عن أبي عبدالله عليه‌السلام في حديث قال : « إنّ شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدّوا بالتظنّي » (٢).

فلا يخفى أنّ الملحوظ في هذه الروايات كون صيام رمضان بالرؤية والمشاهدة وأنّ الظنّ لا يكفي فيه ، ولا نظر لها إلى اليقين بشهر شعبان حتّى يتوهّم أنّها في مقام بيان الاستصحاب.

ويمكن الاستشهاد أيضاً بقوله تعالى : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) بناءً على أن يكون المراد من الشهود مشاهدة الهلال.

ولكنّه يندفع بذيل الآية الواردة في حقّ المسافر وكذلك بالروايات الواردة في تفسيرها ، فإنّها تدلّ على أنّ الشهود بمعنى الحضور في الوطن في مقابل السفر.

ومنها : تفريع الإمام عليه‌السلام قوله « اليقين لا يدخل فيه الشكّ » بقوله : « صم للرؤية وافطر للرؤية » ، حيث إنّه لو كان المراد منه الاستصحاب لكان المناسب أن يقول : فلا تصم عند الشكّ في رمضان ولا تفطر عند الشكّ في شوّال » فإنّ تعبيره بالرؤية شاهد على أنّ المراد هو قاعدة اليقين المختصّة بباب الصيام.

ومنها : أنّه لو كان المراد الاستصحاب للزم أن يكون اليقين بمعنى المتيقّن ، وهو خلاف الظاهر.

أقول : يمكن الجواب عن جميع هذا بما ملخّصه : أنّه لا تضادّ بين المعنيين بل إنّهما متلازمان ، لأنّ لازم حجّية الاستصحاب اعتبار القطع واليقين في وجوب الصيام ووجوب الإفطار ، فالعدول من أحد التعبيرين إلى الآخر ممّا لا إشكال فيه.

توضيح ذلك : أمّا المؤيّد الأوّل ففيه أنّ الدخول والنقض متلازمان لأنّ النقض بمعنى عقد البناء أو عقد الحبل ، ولازم نقض البناء مثلاً دخول الماء ونفوذه فيه.

وأمّا المؤيّد الثاني فمقتضى الجمع بين هذه الروايات والروايات الواردة في الباب الثالث عشر حصول الاطمئنان أيضاً بأنّ هذه الروايات تكون في مقام بيان لازم الاستصحاب ونتيجته ، وهكذا بالنسبة إلى المؤيّد الثالث.

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٣ ، من أبواب أحكام شهر رمضان ، ح ١١.

(٢) المصدر السابق : ح ١٦.

٣٠٤

وأمّا المؤيّد الرابع فجوابه أنّ اليقين في الغالب طريق إلى المتيقّن ، فيكون ناظراً غالباً إلى المتيقّن كما هو كذلك في الروايات الثلاثة لزرارة التي لا إشكال في دلالتها على الاستصحاب.

فظهر أنّ الأرجح في النظر بالنسبة إلى هذا الحديث إنّما هو كلام الشيخ رحمه‌الله وهو دلالته على الاستصحاب.

٦ ـ ما رواه عمّار عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر فإذا علمت فقد قذر وما لم تعلم فليس عليك » (١).

ونظيره ما رواه حمّاد بن عثمان عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر » (٢).

وكذلك ما رواه معاوية بن عمّار عن رجل من أصحابنا قال : « كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام فسأله رجل عن الجبن فقال أبو جعفر عليه‌السلام : أنّه طعام يعجبني وساخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام فتدعه بعينه » (٣).

وغيره من روايات الباب ( الباب ٦١ ، من أبواب الأطعمة المباحة ) وعلى هذا فالروايات المتظافرة بهذا المضمون ، وهو يغنينا عن البحث في إسنادها.

وأمّا الدلالة : فالأقوال فيها خمسة لابدّ لتوضيحها من بيان مقدّمة ، وهى أنّ هنا نوعين من الطهارة أو الحلّية : أحدهما الطهارة أو الحلّية الواقعية ، والثاني الطهارة أو الحلّية الظاهريّة ، والظاهريّة بنفسها أيضاً على قسمين : الطهارة أو الحلّية المستفادة من قاعدة الطهارة أو قاعدة الحلّية التي لا تلاحظ فيها الحالة السابقة ، والطهارة أو الحلّية المستفادة من قاعدة الاستصحاب الملحوظة فيها الحالة السابقة.

والبحث في ما نحن فيه في أنّه هل هذه الطهارة أو الحلّية واقعيّة أو ظاهريّة؟ وعلى فرض كونها ظاهريّة هل هى من باب تطبيق قاعدة الطهارة أو الحلّية ، أو من باب تطبيق قاعدة الاستصحاب.

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٣٧ ، من أبواب النجاسات ، ح ٤.

(٢) المصدر السابق : ح ٥.

(٣) المصدر السابق : ح ٧.

٣٠٥

ولا يخفى أنّ هذا القبيل من الروايات إنّما يفيدنا في المقام إذا كانت الحلّية أو الطهارة فيها ظاهرة أوّلاً ، ومن باب قاعدة الاستصحاب ثانياً.

وكيف كان ، فالأقوال في المسألة خمسة :

١ ـ قول المحقّق الخراساني رحمه‌الله في حاشية الرسائل بأنّها ناظرة إلى الواقعيّة والظاهريّة بكلتا قسميها.

٢ ـ القول بأنّها ناظرة إلى الواقعيّة بصدرها ، واستصحاب الطهارة أو الحلّية بذيلها ، ولا نظر لها إلى قاعدة الحلّية أو قاعدة الطهارة ، وهذا هو ظاهر المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية.

٣ ـ أن يكون صدر الرواية ناظراً إلى قاعدة الحلّية أو قاعدة الطهارة ، وذيلها إلى قاعدة الاستصحاب ، وهذا هو قول صاحب الفصول ، ولعلّه أوّل من استدلّ بها على الاستصحاب في المقام.

٤ ـ أن تكون ناظرة إلى قاعدة الطهارة أو الحلّية فحسب ، وهذا منسوب إلى المشهور.

٥ ـ قول الشيخ الأعظم رحمه‌الله في الرسائل وهو التفصيل بين حديث « الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر » فيكون ناظراً إلى الحكم الواقعي والاستصحاب ، وبين حديثين آخرين ( حديث كلّ شيء نظيف (١) ... وحديث كلّ شيء لك حلال ) فيكونان ناظرين إلى خصوص القاعدة.

واستدلّ القائلون بعدم دلالة هذا الحديث على الطهارة الواقعيّة :

أوّلاً بأنّ الطهارة والنجاسة أمران طبيعيان عرفيّان لا مجعولان شرعيّان.

أضف إلى ذلك أنّه لو كانتا مجعولين من ناحية الشرع المقدّس للزم إمكان خلوّ الواقع من كليهما ، وهو خلاف إرتكاز المتشرّعة.

ويرد عليه : أنّ الطهارة والنجاسة أمران مجعولان من ناحية الشارع قطعاً وأنّ النسبة بين الطهارة والنجاسة الشرعيتين والطهارة والنجاسة العرفيتين عموم من وجه ، فربّ شيء نظيف بحسب الإرتكاز العرفي ولكنّه نجس وقذر شرعاً ، كالكافر النظيف وعرق الجنب عن

__________________

(١) لا يخفى أنّ تعبير الشيخ الأعظم رحمه‌الله في الرسائل عن هذا الحديث : « كلّ شيء طاهر حتّى يعلم ورود النجاسة عليه » بينما الوارد في الوسائل إنّما هو « كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر » ( وسائل الشيعة : أبواب النجاسات ، الباب ٣٧ ، ح ٤ ).

٣٠٦

الحرام الذي لا فرق بينه وبين عرق الجنب عن الحلال عند العرف ( بناءً على ما ذكره المشهور من نجاسة الكافر ، وما ذهب إليه جمع من الأصحاب من نجاسة عرق الجنب من الحرام ) ، وربّ شيء طاهر شرعاً ولكنّه قذر عرفاً ، كالمسلم غير النظيف وغسالة الإستنجاء.

وأمّا ما ذكر من اللازم فإنّا نلتزم به ولا ضير فيه ، فلا إشكال في إمكان خلوّ الواقع عن كلّ واحد من الطهارة والنجاسة.

وأمّا إرتكاز المتشرّعة فهو مختصّ بالوقوع الخارجي ومقام الإثبات لا بالإمكان ومقام الثبوت.

واستدلّوا ثانياً : بأنّ الحديث ناظر إلى الحكم الظاهري ، وإنّ نظره إلى الحكم الواقعي يستلزم منه الجمع بين اللحاظين في آنٍ واحد.

توضيح ذلك : أنّ كلمة « شيء » الواردة في الحديث لو كان المراد منه الشيء الواقعي فيكون هو الشيء بعنوانه الأوّلي ، أي الشجر مثلاً بما هو شجر ، والفاكهة بما هى فاكهة ، ولو كان المراد منه الحكم الظاهري فيكون المراد منه الشيء بما هو مشكوك ، ولا يخفى أنّ الحكم الظاهري متأخّر عن الحكم الواقعي برتبتين ، فإنّ الحكم الواقعي متأخّر عن موضوعه برتبة ، والشكّ فيه موضوع للحكم الظاهري ، فيكون الحكم الظاهري متأخّراً عن الحكم الواقعي برتبة اخرى ، ومع هذا لا يمكن كون لفظ واحد فانياً في المعنيين في آنٍ واحد.

وهكذا بالنسبة إلى كلمة « نظيف » ( أو طاهر ) فلا يمكن أن يريد منه النظافة الواقعيّة والظاهريّة معاً بنفس البيان.

وكذلك بالنسبة إلى قوله عليه‌السلام : « حتّى تعلم » لأنّه إذا كان المراد من الطهارة الطهارة الواقعية كان العلم فيها مأخوذاً بعنوان الطريق إلى الواقع ، لأنّه لا يمكن أن تكون الطهارة الواقعية مغيّاة بالعلم بالنجاسة ، بل إنّها مغيّاة بالنجاسة الواقعيّة.

وإن كان المراد منها الطهارة الظاهرية كان العلم فيها مأخوذاً بعنوان الموضوع ، لأنّ العلم يرتفع به موضوع الطهارة الظاهرية وهو الشكّ.

ولا إشكال في أنّ اللحاظ في العلم الطريقي آلي ، وفي الموضوعي استقلالي ، والجمع بينهما محال ، وحينئذٍ نقول : لا كلام في كون الطهارة الظاهرية مرادة قطعاً ، فيستحيل أن تكون الطهارة الواقعيّة أيضاً مرادة.

٣٠٧

ولكن يمكن الجواب عنه : بأنّ كلّ هذه مبنى على مبنى فاسد في حقيقة الاستعمال ، وهو أنّ حقيقة الاستعمال فناء اللفظ في المعنى كما هو مختار المحقّق الخراساني ومن تبعه ، وأمّا إذا قلنا بأنّ الاستعمال نوع من التعهّد والالتزام ، أي التعهّد بأنّ هذا اللفظ علامة لهذا المعنى فلا إشكال في البين ولا استحالة.

إن قلت : فكيف يكون المتكلّم غافلاً عن اللفظ وملتفتاً إلى خصوص المعنى حين التلفّظ؟ وكيف يسري القبح أو الحسن من المعنى إلى اللفظ؟

قلنا : كلّ هذا لأجل كثرة الاستعمال ، ولا ربط بالفناء ونحوها ، وإن أبيت فانظر إلى من كان حديث العهد بلغة جديدة ، فإنّه ينظر إلى اللفظ أيضاً حين الاستعمال ، ولا يحسّ قبحاً أو حسناً بالنسبة إلى الألفاظ التي لها معانٍ قبيحة أو معانٍ حسنة ، فإذا ضممنا هذا إلى ما اخترناه في محلّه من جواز استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى بلا إشكال ، وإنّ كثيراً من البدائع والظرائف الكلامية مبنية عليه ( كما جاء في قول الشاعر :

المرتمى في الدجى والمبتلى بعمى

والمبتغي ديناً والمشتكي ظمأً

يأتون سدّته من كلّ ناحية

ويستفيدون من نعمائه عيناً

والنتيجة إندفاع إشكال الجمع بين اللحاظين ، كما مرّ تفصيله في محلّه.

إلى هنا ثبت إمكان إرادة المعاني الثلاثة معاً ( الحكم الواقعي والقاعدة والاستصحاب ) من الحديث وأنّه لا استحالة فيه.

لكن الكلام بعدُ فيما هو الظاهر منه ، فنقول : الصحيح أنّ الظاهر منه بصدره وذيله وبغايته ومغيّاه إنّما هو قاعدة الطهارة والحلّية ، كما نسب إلى المشهور ، فلا يستفاد منها الحكم الواقعي ولا الاستصحاب ، وذلك لقرائن مختلفة :

أحدها : أنّ الغاية ( وهى كلمة « حتّى تعلم » ) سواء كانت قيداً للموضوع ( أي كلّ شيء مقيّد بعدم العلم بنجاسته طاهر ) أو كان قيداً للحكم ( أي كلّ شيء طاهر بالطهارة المقيّدة بعدم العلم بالنجاسة ) أو كان قيداً للنسبة كما هو الموافق مع الوجدان العرفي والإرتكاز العقلائي ( أي أنّ الطهارة ثابتة ما لم يعلم بالنجاسة ) لا تناسب كون المراد الحكم الواقعي ، لأنّ الأحكام الواقعيّة مغيّاة بقيود واقعيّة وعناوين حقيقية ، وليست تابعة للعلم والجهل ، فإنّ ماء الكرّ مثلاً طاهر واقعاً إلى أن يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه بالنجاسة واقعاً ، لا إلى أن يعلم بتغيّره.

الثانية : أنّ العرف إذا اعطيت بيده الغاية ( حتّى تعلم ) يؤخذ ضدّها ( وهو الشكّ ) في

٣٠٨

موضوع المغيّى فيحكم بأنّ المغيّى في ما نحن فيه عبارة عن « كلّ شيء مشكوك » ، أي « كلّ شيء مشكوك طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » ، أو « كلّ شيء طاهر ما دمت في شكّ حتّى تعلم أنّه قذر » ، ولا يخفى أنّ المأخوذ في موضوعه الشكّ حكم ظاهري لا واقعي.

الثالثة : ظاهر التعبير بـ « حتّى تعلم أنّه قذر » أنّه قد سبقه جعل حكم واقعي بالطهارة أو القذارة ثمّ شكّ فيه ، فلا يكون المقام إلاّمقام الحكم الظاهري.

هذه قرائن يندفع بها احتمال إرادة الحكم الواقعي ، ويثبت أنّ الظاهر هو جعل حكم ظاهري ، وحينئذ يبقى الكلام في أنّ الظاهر من الحديث هل هو قاعدة الطهارة أو الحلّية ، أو الظاهر منه استصحاب أحدهما؟ فنقول : الصحيح هو الأوّل ، لأنّ معنى الاستصحاب يحتاج إلى ما يدلّ على استمرار الحالة السابقة ، وهو غير ظاهر في الحديث.

إن قلت : يدلّ عليه كلمة « حتّى » ، لأنّها تدلّ على الاستمرار.

قلنا : هذا الاستمرار إنّما هو من جهة بقاء الحكم ببقاء موضوعه الثابت في جميع الموارد ، لا الاستمرار الاستصحابي ، فمعنى الحديث أنّ حكم الطهارة ثابت لمشكوك الطهارة ما دام مشكوكاً ، وأين هذا من الاستصحاب؟

إن قلت : يمكن أن يكون صدر الحديث ناظراً إلى الحكم الواقعي وذيله إلى الاستصحاب ( كما هو ظاهر المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية ) فيكون المعنى في الواقع : « الأشياء بعناوينها الواقعية طاهرة ، ويستمرّ هذا الحكم عند الشكّ حتّى تعلم أنّه نجس » ، فيصير « حتّى تعلم » غاية للجملة المقدّرة ( أي لجملة « يستمرّ هذا الحكم » ) لا للحكم الواقعي حتّى يستشكل بعدم إمكان وقوع العلم غاية له.

قلنا : التقدير خلاف الظاهر ومحتاج إلى قرينة ، وهى مفقودة في المقام.

إن قلت : أي مانع في أنّ يكون صدر الحديث ناظراً إلى القاعدة وذيله إلى الاستصحاب مع عدم ابتلائه بإشكال التقدير؟

قلنا : هذا غير ممكن فإنّه لولا التقدير لكان الذيل غاية لما ثبت في الصدر ، فكما أنّ الذيل ناظر إلى الحكم الظاهري ( أي الطهارة للمشكوك ) لابدّ أن يكون صدره كذلك.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ ما نسب إليه المشهور هو الحقّ ، وهو أنّ الحديث دالّ على خصوص القاعدة بصدره وذيله.

٣٠٩

بقي هنا شيء :

وهو استشهاد المحقّق الخراساني رحمه‌الله لإثبات مقالته في الحديث ( وهو أنّ صدر الحديث ناظر إلى حكم الله الواقعي وذيله إلى الاستصحاب ) بما ورد في ذيل الحديث ، وهو « فإذا علمت فقد قذر وما لم تعلم فليس عليك » ، حيث إنّ الفقرة الاولى وهى ( فإذا علمت فقد قذر ) بمنزلة قوله عليه‌السلام : « بل إنقضه بيقين آخر » والفقرة الثانية وهى قوله عليه‌السلام : « وما لم تعلم فليس عليك » بمنزلة قوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » فتكون الفقرتان متلائمتين ومرتبطتين معاً بالاستصحاب ، بخلاف ما إذا قلنا بأنّ صدر الرواية ناظر إلى القاعدة وذيلها إلى الاستصحاب ، حيث إنّه حينئذٍ لابدّ من أن تكون الفقرة الثانية ناظرة إلى قاعدة الطهارة ، لأنّ معنى « ما لم تعلم » هو الشكّ الذي يكون موضوعاً لها ، مع أنّ الفقرة الاولى ناظرة إلى الاستصحاب بلا ريب ، وبهذا يلزم التفكيك بين الفقرتين ، وهو خلاف الظاهر ، حيث إنّ الظاهر كون الثانية من قبيل المفهوم للُاولى.

والجواب عنه : أنّه كذلك فيما إذا دار الأمر بين إرادة الحكم الواقعي والاستصحاب من الحديث ، أو القاعدة والاستصحاب ، وأمّا بناءً على المختار ( من كون الحديث بصدره وذيله ناظراً إلى القاعدة ) فيكون المراد من الفقرة الاولى بيان أنّ الحكم يرتفع إذا تبدّل موضوع القاعدة وهو الشكّ إلى العلم ، ومن الفقرة الثانية بيان أنّ هذا الحكم ثابت ما دام الموضوع باقياً ، فهما ناظران إلى طرفي مفهوم واحد.

٧ ـ ومن الروايات ما رواه عبدالله بن سنان قال : « سأل أبي أبا عبدالله عليه‌السلام وأنا حاضر ، أنّي اعير الذمّي ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيردّه عليّ فأغسله قبل أن اصلّي فيه؟ فقال أبو عبدالله عليه‌السلام : صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه نجّسه فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه » (١).

ولكن الإنصاف أنّها من الروايات الخاصّة التي لا يستفاد منها العموم ، ولو سلّمنا ظهور

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٧٤ ، من أبواب النجاسات ، ح ١.

٣١٠

التعليل الوارد فيها في العموم إلاّ أنّه مختصّ أيضاً بباب الطهارة والنجاسة ويشكل التعدّي عنه إلى غيره ، فالأولى جعلها مؤيّدة للمقصود.

٨ ـ ومنها ما رواه عبدالله بن بكير عن أبيه قال : قال لي أبو عبدالله عليه‌السلام : « إذا استيقنت إنّك قد أحدثت فتوضّأ ، وإيّاك أن تحدث وضوء أبداً حتّى تستيقن أنّك قد أحدثت » (١).

وهذا أيضاً خاصّ بباب الوضوء وإن كان تعليق الحكم فيه على وصف اليقين مشعراً العلّية ، فالأولى أيضاً جعلها مؤيّدة.

نتيجة البحث في أدلّة الاستصحاب :

قد ظهر أنّ الدالّ على الاستصحاب من بين الأدلّة إنّما هو بناء العقلاء وسيرتهم ( مع دلالته على أنّ الاستصحاب أصل لا أمارة ، وذلك لما قلنا سابقاً من أنّ للعقلاء اصولاً كما أنّ لهم أمارات ) وخمس روايات من الروايات المذكورة ، ثلاثة منها روايات زرارة ، والرابعة رواية علي بن محمّد القاساني في صوم شهر رمضان ، والخامسة رواية الخصال في من كان على يقين فشكّ ...

وأمّا الإجماع فقد مرّ أنّه مدركي في المقام ، وأمّا الإستقراء فقد عرفت أنّه إستقراء ناقص جدّاً.

لكن هيهنا سؤال وهو أنّه لو كانت دلالة هذه الأحاديث تامّة فلِمَ لم يستند إليها القدماء من الأصحاب ، وإعترف الشيخ الأعظم رحمه‌الله بعدم استنادهم إليها إلى زمان والد الشيخ البهائي رحمه‌الله؟

والجواب عنه : أنّه يمكن أن يكون عدم إستنادهم إليها لجهات عديدة :

منها : أنّهم قد ظنّوا استغناءهم عنها بسيرة العقلاء وقد مرّ أنّ هذه الروايات إمضاء لها.

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ١ ، من أبواب نواقض الوضوء ، ح ٧.

٣١١

ومنها : أنّهم ظنّوا أنّها روايات خاصّة وردت في أبواب معيّنة لا يمكن الاستدلال بها على العموم ، وإنّ اللام في اليقين والشكّ إشارة إلى العهد لا الجنس ، كما مرّ احتماله سابقاً ، فمن هنا تركوا الاعتماد على هذه الروايات ورجعوا إلى بناء العقلاء ، وقد ثبت في محلّه أنّ إعراض المشهور عن الدلالة غير ضائر في الحجّية.

التفصيل بين الشبهات الحكميّة والشبهات الموضوعيّة :

ثمّ إنّه هل المستفاد من هذه الأدلّة حجّية الاستصحاب في خصوص الشبهة الموضوعيّة ، أو إنّها تعمّ الشبهات الحكميّة أيضاً؟

ذهب إلى الثاني جميع المتأخّرين ، وذكر أنّ الأمين الاسترابادي في بعض كلماته أنّ أحداً من القدماء الماضين قدّس الله أسرارهم لم يقل بهذا العموم ، فلم يستندوا إلى الاستصحاب في بقاء حلّية العصر العنبي مثلاً بعد الغليان ، وبقاء نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره بنفسه.

والصحيح هو الأوّل كما ذهب إليه بعض أعاظم العصر قدّس الله سرّه ، وإن كان دليله الذي أقامه على الانحصار غير تامّ ( كما سيأتي بيانه وبيان المناقشة فيه ).

دليلنا عليه أمران :

أحدهما : أنّه قد مرّ أنّ أساس الاستصحاب إنّما هو سيرة العقلاء ، وهى جارية في خصوص الشبهات الموضوعيّة ، وأمّا الشبهات الحكميّة فإن كان الشكّ فيها في نسخ قانون وعدمه فلا ريب في أنّهم يتمسّكون باستصحاب عدم النسخ أيضاً ، وأمّا إذا لم يكن منشأ الشبهة النسخ ، بل شكّ في بقاء الحكم وعدمه ، ولم يكن هناك عموم أو اطلاق ، كما إذا جعلت زكاة على العنب وبعد تبدّله إلى الزبيب شكّ في بقائه مثلاً ( مع فرض كون وصف الزبيبيّة من الأوصاف لا من المقوّمات ) فإنّ العقلاء لا يعتمدون في مثل هذه الموارد على استصحاب بقاء ذلك الحكم.

ثانيهما : أنّ الوجدان حاكم على أنّه لو عشنا نحن في عصر صدور أخبار الاستصحاب مكان زرارة لم نشكّ في وجوب الفحص عن الحكم في الشبهات الحكميّة بالسؤال عن الإمام عليه‌السلام ، ولم نحتمل جواز التمسّك بالاستصحاب بمجرّد الشكّ في بقاء حلّية العصر العنبي بعد

٣١٢

الغليان مثلاً ، أو بقاء نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره بنفسه.

وإن شئت قلت : حيث إنّ الفحص والسؤال عن المعصوم كان ممكناً في عصر الأخبار غالباً لا سيّما للرواة ، ولم تمسّ الحاجة غالباً إلى جريان الاستصحاب فيمكن أن يقال حينئذٍ بإنصراف أخبار الاستصحاب عن الشبهات الحكميّة ، ولذلك إعترف الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله في مبحث الاحتياط أنّ الأخبار الدالّة على وجوب الاحتياط ناظرة إلى زمن الحضور ، كما أنّه قد ورد في بعضها التعبير بـ « إذا أصبتم بمثل هذا فعليكم الاحتياط حتّى تسألوا وتعلموا ».

وكيف كان ، لا أقل من الشكّ في اطلاق أخبار الاستصحاب أو عمومها بالنسبة إلى الشبهات الحكميّة ، وهذا كافٍ في عدم جواز الاستدلال بها على العموم.

ويؤيّد ذلك أنّ مورد جميع الروايات خاصّ بالشبهات الموضوعيّة ، كالسؤال عن إصابة النجاسة بالثوب ووقوع النوم وعدمه في روايات زرارة ، وعن يوم الشكّ في شهر رمضان في خبر علي بن محمّد القاساني ، وهكذا في رواية الشكّ في الركعات.

استدلال بعض الأعاظم للتفصيل ونقده :

ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر قدّس الله سرّه استدلّ لعدم حجّية الاستصحاب في الشبهات الحكميّة بما حاصله : إنّ الاستصحاب في الأحكام الكلّية معارض بمثله دائماً.

وإليك ملخّص ما أفاده في توضيح ذلك في كلام طويل له في المقام :

إنّ للأحكام مرحلتين : مرحلة الإنشاء والجعل ، ومرحلة الفعلية والمجعول ، مثلاً الشارع ينشأ وجوب الحجّ على المستطيع مع عدم وجود مكلّف أو مستطيع ، فهنا إنشاء الحكم على موضوعه وإن كانت الشرائط غير موجودة والموانع غير مفقودة ، فإذا وجد الموضوع واجتمعت الشرائط وفقدت الموانع صار فعليّاً.

والاستصحابات الحكميّة معارضة دائماً بالاستصحاب العدمي في مرحلة الجعل والإنشاء ، فالمرأة إذا طهرت من الدم ولم تغتسل جرى في حقّها استصحاب بقاء حرمة الوطي ، ولكنّه معارض بعدم جعل الحرمة من أوّل الأمر فيما زاد على زمان الدم ، فيتعارض الاستصحابان ويسقطان من الجانبين.

٣١٣

ثمّ أشكل على نفسه بامور :

١ ـ إنّ استصحاب عدم جعل الحرمة ( مثلاً ) معارض باستصحاب عدم جعل الحلّية.

فأجاب عنه أوّلاً : بأنّه لا مجال لإستصحاب عدم جعل الحلّية لأنّ الرخصة كانت متحقّقة في صدر الإسلام لتشريع الأحكام تدريجاً.

وثانياً : بأنّ التعارض فرع لزوم المخالفة العمليّة القطعيّة ، وهنا ليس كذلك كما لا يخفى.

وثالثاً : بأنّه لو تنزّلنا عن جميع ذلك فنقول : يقع التعارض بين هذه الاستصحابات الثلاث لأنّها في مرتبة واحدة.

٢ ـ إنّ استصحاب عدم جعل الحرمة حاكمة على استصحاب بقاء الحرمة السابقة لأنّ الأوّل سببي والآخر مسبّبي.

وأجاب عنه : بأنّه يعتبر في حكومة الأصل السببي على الأصل المسبّبي أن يكون التسبّب بينهما شرعيّاً ، وهنا ليس كذلك ، وبعبارة اخرى : الملاك كون المشكوك في أحدهما أثراً مجعولاً شرعيّاً للآخر ، مع أنّ سببيّة الجعل للمجعول عقلي ، وليست من الأحكام الشرعيّة.

٣ ـ إنّ استصحاب عدم الجعل مثبت في المقام لأنّ الحلّية من اللوازم العقليّة لعدم جعل الحرمة.

وأجاب عنه : بأنّ الأصل المثبت إنّما هو في امور لم يكن أمر وضعه ورفعه بيد الشارع ، أمّا لو كان وضعه ورفعه كذلك فالأصل المثبت لا إشكال فيه ، لأنّه إذا رفعه الشارع واقعاً ترتّب عليه جميع آثاره العقليّة والشرعيّة ( انتهى ما إستفدناه من أبحاثه ومحاضراته قدّس الله سرّه الشريف ).

٤ ـ ما ورد في بعض تقريراته عن استاذه المحقّق النائيني رحمه‌الله وهو : « إنّ استصحاب عدم الجعل غير جارٍ في نفسه لعدم ترتّب الأثر العملي عليه لأنّ الجعل عبارة عن إنشاء الحكم والإنشائية لا تترتّب عليها الآثار الشرعيّة ، بل ولا الآثار العقليّة من وجوب الإطاعة وحرمة المعصية مع العلم بها ، فصحّ عن التعبّد بها بالاستصحاب فإنّه إذا علمنا بأنّ الشارع جعل وجوب الزكاة على مالك النصاب لا يترتّب على هذا الجعل أثر ما لم تتحقّق ملكية في

٣١٤

الخارج ، وعليه فلا يترتّب الأثر العملي على استصحاب عدم الجعل فلا مجال لجريانه » (١).

أقول : والجواب عنه ظاهر ( والعجب كيف خفى هذا على مثل هذا المحقّق النحرير قدّس الله سرّه ) لأنّ ترتّب آثار الحكم كالبعث والزجر والطاعة والمعصية يتوقّف على كلّ من الجعل والمجعول ، أي كلّ واحد من مقام الإنشاء ومقام الفعلية ، وبعبارة اخرى : يتوقّف على الجعل وتحقّق الموضوع معاً ، فيكفي في عدمها إنتفاء أحدهما ، فلو استصحبنا عدم أحدهما وهو الجعل مثلاً ( كما هو المفروض في المقام ) كفى في إثبات عدم وجوب الطاعة ، وكما أنّ استصحاب بقاء الجعل يجري ( ولو قبل تحقّق الموضوع ) لإثبات فعلية التكليف عند وجود الموضوع ، كذلك استصحاب عدم الجعل يجري ( ولو قبل تحقّق الموضوع ) لإثبات عدم فعليته عند وجود الموضوع.

هذا بالنسبة إلى ما نقله عن استاذه المحقّق النائيني رحمه‌الله ، وفي كلامه أيضاً مواقع للنظر :

١ ـ ( بالنسبة إلى ما ذكره من أنّ تعارض استصحاب عدم جعل الحرمة مع استصحاب عدم جعل الحلّية لا يوجب سقوطهما عن الحجّية لعدم لزوم المخالفة القطعيّة العمليّة ) أنّه قد تلزم المخالفة القطعيّة العمليّة ، وهو في مثل استصحاب عدم جعل نجاسة الماء المتغيّر الذي زال عنه التغيّر بنفسه إذا كان الماء منحصراً فيه ولا يكون له ماء آخر ، فإنّ استصحاب عدم جعل النجاسة فيه معارض مع استصحاب عدم جعل الطهارة ، ويلزم من جريانهما المخالفة القطعيّة العمليّة ، لأنّه لو كان طاهراً يجب التوضّي به ، ولو كان نجساً يحرم شربه ، فيلزم من إجراء الأصلين جواز الشرب وعدم وجوب التوضّي منه.

٢ ـ ( بالنسبة إلى قوله أنّ الطهارة عبارة عن عدم النجاسة فتكون أمراً عدميّاً لا يقبل الجعل حتّى يمكن استصحاب عدمه ) يرد عليه ما مرّ من أنّ الطهارة والنجاسة أمران وجوديّان ، ولكلّ منهما أحكام وآثار شرعية ، ولذلك يجب طهارة ماء الوضوء والماء الذي يريد المكلّف أن يتطهّر به عن الخبث ، وإلاّ لا يكون مطهّراً عن الحدث والخبث.

٣ ـ ( بالنسبة إلى قوله : إنّ في صورة التعارض يسقط جميع الاستصحابات الثلاثة ) أنّ الاستصحاب الحكمي مقدّم على استصحاب عدم الجعل ( عكس ما قد يقال من أنّ

__________________

(١) نقله منه في مصباح الاصول : ج ٣ ، ص ٤٥.

٣١٥

استصحاب عدم الجعل مقدّم لكونه سببيّاً ) لأنّ الاستصحاب الحكمي بنفسه يكون جعلاً لحكم ظاهري ، ولذلك يقال : إنّ استصحاب الحكم من قبيل جعل مماثل ، فإنّ معنى استصحاب نجاسة الماء الذي زال عنه التغيّر أنّ الشارع جعل له نجاسة ظاهريّة في هذا الحال ، ومع وجود هذا الحكم الظاهري لا يبقى شكّ في جعل الطهارة ، فلا مجال لاستصحاب عدمه.

٤ ـ ( هذا وما بعده من الإشكال الآتي هو العمدة في المقام ) أنّ الاستصحاب الحكمي ( استصحاب المجعول ) لا يكون معارضاً لاستصحاب عدم الجعل في جميع الموارد والأمثلة ، بل كثيراً ما يكون موافقاً له ، كاستصحاب طهارة المذي الخارج بعد الوضوء الذي لا يعارضه استصحاب عدم جعل ناقضية المذي ( فإنّ استصحاب عدم الجعل فيه عبارة عن استصحاب عدم الناقضية كما لا يخفى ) بل يعضده ، وهكذا استصحاب بقاء الملكية في عقد المعاطاة بعد قول المالك الأوّل « فسخت » فإنّه ليس معارضاً لاستصحاب عدم جعل الفسخ رافعاً ، وأمّا الملكيّة الحاصلة بالبيع فهى مستمرّة بالإجماع لولا الفسخ ، فلا يمكن أن يقال : نحن نشكّ في جعل الملكية حتّى في ما بعد الفسخ ، لأنّه عبارة اخرى عن جعل الفسخ نافذاً ، والأصل عدم جعله نافذاً ، فهو موافق لاستصحاب بقاء الملكية ، وكذلك بالنسبة إلى كلّ مورد يكون الشكّ فيه في النقض أو الرفع أو الفسخ.

فلابدّ لمن قام دليله على عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة وتعارضه مع استصحاب عدم الجعل أن يفصّل ثانياً بين مواردها فيكون تفصيلاً في تفصيل.

٥ ـ إنّ الأساس في الاستصحاب كما مرّ كراراً إنّما هو بناء العقلاء وسيرتهم ، وهى قائمة في خصوص الموارد التي تكون الغلبة فيها على البقاء ، مثل الصحّة والمرض الذي تكون الغلبة فيه على السلامة ، وفي الأملاك والمساكن التي تكون الغلبة فيها بقائها على حالها ، وأمّا فيما إذا كانت الغلبة على العكس ، كما إذا وقعت زلزلة في بلد من البلاد وخربت أكثر بيوته ، ففي مثل هذا المورد لا يعتمد العقلاء على استصحاب بقاء دار زيد مثلاً ، أو إذا شاع مرض مثلاً وأهلك غالب سكّان البلد فلا شكّ في أنّهم لا يعتمدون أيضاً على استصحاب حياة زيد مثلاً ، ومن هذا القبيل ما نحن فيه ، حيث إنّ ظهور الإسلام والشريعة المقدّسة أوجب تزلزلاً وتغييراً أساسيّاً بجعل أحكام جديدة في كثير من الموضوعات بحيث صارت الغلبة على وجود الجعل والمجعول ، وفي مثله لا تأتي تلك السيرة مع ذلك الملاك ، فلا يجري استصحاب عدم الجعل فيه.

٣١٦

فتلخّص من جميع ذلك أنّ أصل مدّعاه قدس‌سره ( الموافق لما ذكره النراقي ) أي التفصيل بين الشبهات الموضوعيّة والحكميّة صحيح وإن لم يتمّ دليله.

تفصيل الشيخ الأعظم الأنصاري ؛ بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع

ثمّ إنّ هيهنا تفصيلاً آخر من الشيخ الأعظم قدس‌سره الشريف الذي نسبه إلى المحقّق رحمه‌الله في المعارج ( وإن كان في النسبة نظر كما سيأتي ) وهو التفصيل بين الشكّ في المقتضي فلا يكون الاستصحاب حجّة ، وبين الشكّ في الرافع فيكون حجّة ، وتحليل المسألة وإيضاح الحقّ فيها يحتاج إلى رسم امور :

١ ـ بيان الموارد من المقتضي والمانع.

٢ ـ دليل الشيخ الأعظم رحمه‌الله على هذا التفصيل.

٣ ـ نقد كلامه الشريف.

أمّا الأمر الأوّل فنقول : قد أوضح الشيخ رحمه‌الله بنفسه مقصوده من المقتضي والمانع بأوفى البيان مع ذكر المثال ، ولا ينقضي تعجّبي عن بعض الأعلام من أنّه كيف أتعب نفسه الزكيّة فذكر لتوضيح مراد الشيخ رحمه‌الله احتمالات عديدة هى أجنبية عن مرامه ومخالفة لما صرّح به نفسه؟

وإليك نصّ كلام الشيخ رحمه‌الله في مبحث تقسيم الاستصحاب باعتبار الشكّ المأخوذ فيه : « الثالث من حيث إنّ الشكّ في بقاء المستصحب قد يكون من جهة المقتضي ، والمراد به الشكّ من حيث إستعداده وقابليته في ذاته للبقاء ، كالشكّ في بقاء الليل والنهار وخيار الغبن بعد الزمان الأوّل ، وقد يكون من جهة طروّ الرافع مع القطع باستعداده للبقاء ، وهذا على أقسام ... » (١).

ثمّ ذكر الأقوال في حجّية الاستصحاب وقال : « والأقوى هو القول التاسع وهو الذي اختاره المحقّق ، فإنّ المحكيّ عنه في المعارج أنّه قال : إذا ثبت حكم في وقت ثمّ جاء وقت آخر

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٥٥٨ ـ ٥٥٩ ، طبع جماعة المدرّسين.

٣١٧

ولم يقم دليل على انتفاء ذلك الحكم هل يحكم ببقائه على ما كان ، أم يفتقر الحكم في الوقت الثاني إلى دلالة؟ كما يفتقر نفيه إلى الدلالة ، حكى عن المفيد رحمه‌الله أنّه يحكم ببقائه ما لم تقم دلالة على نفيه ، وهو المختار ، وقال المرتضى رحمه‌الله : لا يحكم. ثمّ مثل بالمتيمّم الواجد للماء في أثناء الصّلاة ، ثمّ احتجّ للحجّية بوجوه : منها : أنّ المقتضي للحكم الأوّل موجود ، ثمّ ذكر أدلّة المانعين وأجاب عنها ، ثمّ قال : والذي نختاره أن ننظر في دليل ذلك الحكم فإن كان يقتضيه مطلقاً وجب الحكم باستمرار الحكم كعقد النكاح فإنّه يوجب حلّ الوطي مطلقاً. فإذا وقع الخلاف في الألفاظ التي يقع بها الطلاق ، فالمستدلّ على أنّ الطلاق لا يقع بها لو قال : حلّ الوطي ثابت قبل النطق بهذه الألفاظ فكذا بعده ، كان صحيحاً ، لأنّ المقتضي للتحليل ـ وهو العقد ـ اقتضاه مطلقاً ، ولا يعلم أنّ الألفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء ، فيثبت الحكم عملاً بالمقتضي (١).

فظهر أنّ كلام الشيخ رحمه‌الله واضح لا حاجة في توضيحه إلى بيان احتمالات عديدة ، نعم الظاهر أنّ كلام المحقّق رحمه‌الله لا ربط له بالاستصحاب وبالشكّ في المقتضي أو المانع المبحوث عنه في مبحث الاستصحاب ، بل الظاهر أنّ مراده من المقتضي إنّما هو العمومات التي يرجع إليها عند الشكّ في المخصّص ، والشاهد عليه ما صرّح به في ذيل كلامه حيث قال : « وقوع العقد إقتضى حلّ الوطي لا مقيّداً بوقت » فإنّه ناظر إلى عموم « اوفوا بالعقود » و « أحلّ الله النكاح » الذي لا نعلم تخصيصه بالألفاظ المشكوكة في أبواب الطلاق ، فالتمسّك بالعموم عند الشكّ في المخصّص شيء ، والتمسّك بالاستصحاب شيء آخر ، وهذا نظير الاستدلال لأصالة اللزوم في أبواب المعاملات بـ « اوفوا بالعقود » و « أحلّ الله البيع » و « تجارة عن تراضٍ » وغيرها ، كما تمسّك الشيخ الأعظم نفسه بها في ابتداء مباحث البيع والخيارات. ثمّ أضاف إليها لاستصحاب بعنوان دليل آخر.

وأمّا الأمر الثاني : فاستدلّ الشيخ رحمه‌الله لهذا التفصيل بما حاصله : أنّ للنقض معنىً حقيقيّاً وهو عبارة عن رفع الهيئة الإتّصاليّة كما في نقض الحبل ، ومعنى مجازياً أقرب وهو رفع الأمر الثابت ، أي المستحكم الذي فيه إقتضاء الثبوت والاستمرار ، ومعنىً مجازياً أبعد وهو مطلق رفع اليد عن الشيء وترك العمل به ولو لعدم المقتضي له ، فإذا تعذّر المعنى الحقيقي كما في المقام

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٥٦١ ، طبع جماعة المدرّسين.

٣١٨

ودار الأمر بين المعنيين المجازيين ، فيتعيّن الأوّل منهما الأقرب ، فيختصّ اليقين حينئذٍ بما كان متعلّقه أمراً ثابتاً مستحكماً فيه اقتضاء الاستمرار كالزوجيّة والملكيّة والعدالة ونحوها ممّا يحتاج رفعه إلى وجود رافع ومزيل دون ما ليس فيه اقتضاء الثبوت والاستمرار بل يرتفع بنفسه.

إن قلت : هذا يستلزم التصرّف في معنى اليقين وإرادة المتيقّن منه ، وهو خلاف الظاهر.

قلنا : لابدّ من هذا التصرّف على أي حال ، لأنّ اليقين بما هو يقين لا يتعلّق به النقض الاختياري ، ولا يتصوّر بالنسبة إليه النقض أو عدم النقض ، وبعبارة اخرى : التعبير بالنقض قرينة على أنّ المراد من اليقين إنّما هو المتيقّن.

وأمّا الأمر الثالث : فقد أورد ( أو يرد ) على كلامه إشكالات أربع :

الأوّل : ( وهو العمدة ) أنّه لا بأس بأن تكون صفة النقض بلحاظ وصف اليقين لا المتيقّن ، أي يكون متعلّق النقض اليقين نفسه ، وهذا لا ينافي كونه من الأفعال الاختياريّة التي تتعلّق بما يكون فعلاً اختيارياً ، لأنّ النهي عن عدم نقض اليقين كناية عن العمل على طبقه والإجراء على وفقه عملاً ، وحينئذٍ نقول : أنّ وصف اليقين أمر مبرم ومستحكم سواء كان متيقّنه أيضاً كذلك أو لم يكن.

إن قلت : لا معنى لنقض اليقين بأي معنى كان في مورد الاستصحاب ، لأنّ المفروض إنّ زمان اليقين قد مضى ، والموجود الآن هو الشكّ.

قلنا : المفروض في مورد الاستصحاب أيضاً أنّ الشارع غضّ نظره عن زمان متعلّق اليقين والشكّ وعن تغاير المتعلّقين من ناحية الزمان ، فلاحظهما معاً ، ثمّ نهى عن نقض أحدهما بالآخر ، فيكون النقض حاصلاً.

الثاني : أنّ تفصيله مبنى على شمول جميع روايات الاستصحاب على التعبير بـ « لا تنقض » مع أنّه لم يرد في رواية الخصال ، حيث إنّ الوارد في صدرها « فليمض على يقينه » ، وهكذا حديث علي بن محمّد القاساني الذي عبّر بـ « اليقين لا يدخل فيه الشكّ صم للرؤية وافطر للرؤية » ولا إشكال في أنّ تعبيري المضيّ والدخول عامان لا يختصّان بخصوص موارد الشكّ في الرافع.

نعم ، يمكن أن يقال بالنسبة إلى الرواية الاولى ( كما قال به الشيخ الأعظم رحمه‌الله نفسه ) أنّ

٣١٩

ذيله وهو « فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين » قرينة على تقييد الصدر.

وأمّا الرواية الثانية فأجاب عنها الشيخ رحمه‌الله : بأنّها ناظرة إلى استصحاب الإشتغال لا الاستصحاب المصطلح ، ولا يخفى أنّ استصحاب الإشتغال يكون دائماً من قبيل الشكّ في الرافع ، لأنّ شغل الذمّة دائمي إلى أن يرفعه رافع.

لكن جوابه هذا غير تامّ صغرى وكبرى :

أمّا الصغرى : فلأنّ المفروض في هذه الرواية أنّ الشكّ متعلّق بعمر شهر رمضان وشهر شعبان ، ولا إشكال في أنّ الشكّ في عمر الشهر من قبيل الشكّ في المقتضي.

مضافاً إلى أنّه لا إشتغال للذمّة بالنسبة إلى يوم الشكّ في إبتداء رمضان حتّى يكون الاستصحاب فيه من قبيل استصحاب الإشتغال.

وأمّا الكبرى : فلأنّه لو فرضنا كون المورد من قبيل الشكّ في الرافع إلاّ أنّ الكبرى الواردة في صدر الرواية وهى قوله « لا يدخل ... » عامّ لا يخصّص بالمورد.

ومن الروايات التي لم يرد فيها التعبير بالنقض رواية عبدالله بن سنان الواردة في باب العارية ، ولكن الشيخ رحمه‌الله ذكرها مؤيّداً لسائر الروايات ، لا دليلاً مستقلاً على الاستصحاب ، فلا ينقض بها كلامه.

الثالث : أنّ من مصاديق الاستصحاب المجمع عليها استصحاب عدم النسخ حتّى عند الشيخ الأعظم رحمه‌الله نفسه ، مع أنّ الشكّ في مورده يكون دائماً من قبيل الشكّ في المقتضي ، لأنّه شكّ في عمر الحكم الشرعي ، لما ذكر في محلّه من أنّ حقيقة النسخ دفع الحكم لا رفعه.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ استصحاب عدم النسخ ثابت بالإجماع ، لا الروايات والظاهر أنّ الإجماع معتمد على العموم الأزماني الموجود في أدلّة الأحكام ، أو على روايات نظير قوله عليه‌السلام : « حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ... » لا على روايات الاستصحاب.

الرابع : أنّه قد مرّ أنّ الأساس في باب الاستصحاب إنّما هو بناء العقلاء ، وهم لا يفصّلون بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع ، لأنّ القدر المسلّم من مصاديق الاستصحاب عندهم استصحاب الحياة ، ومن المعلوم أنّ النفوس المختلفة متفاوتة في مقدار استعداد البقاء ، وقد يكون إنسان مستعدّاً للبقاء إلى ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة ، وقد يكون أقلّ من ذلك أو أكثر ، ولا ينبغي الشكّ في جريان الاستصحاب عند العقلاء في جميع هذه الموارد ، بل لو قلنا أنّ

٣٢٠