أنوار الأصول - ج ٣

أنوار الأصول - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-15-6
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٢٤

بالأشياء الخارجية من ناحية الشرع أو العقل لا تتعلّق بها بما هى هى ، أي بذواتها ، بل تتعلّق بها بعناوينها ، فالمتعلّق للحكم دائماً هو الشيء بعنوانه لا بما هو هو ، فبعد أن تبدّل الخمر إلى الخلّ وإن كانت « الهذية » موجودة ، لكنّها ليست موضوعاً للنجاسة ، بل الموضوع لها هذا بما هو خمر ، ولا إشكال في زواله وعدم وجوده بعد صيروريته خلاً.

نعم الموضوع في حكم آخر كالملكيّة أو حقّ الاختصاص ربّما لا يكون عنوان الخمر ، ولا يكون هذا العنوان مقوّماً له بل يكون من حالاته المتبادلة.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم رحمه‌الله قد رتّب على مختاره في هذا البحث ثمرتين :

أحدهما : عدم إمكان استصحاب عدم وجوب السورة للناسي لها الذي كان ثابتاً في حال النسيان بحكم العقل لأنّ الموضوع لعدم الوجوب كان هو هذا الناسي ، وهو منتفٍ بعد زوال النسيان.

ثانيهما : عدم إمكان استصحاب البراءة العقليّة الثابتة في حال الصغر للصبي بعد بلوغه لأنّ الموضوع لها كان عنوان الصغير وهو ليس موجوداً بعد البلوغ وزوال الصغر.

إلى غير ذلك ممّا يتصوّر من الثمرات ، وما ذكره جيّد.

الأمر السابع : الفرق بين قاعدة الاستصحاب وقاعدتى اليقين والمقتضي والمانع

ما هو الفرق بين هذه الثلاثة مع اشتراك جميعها في ركني اليقين والشكّ؟

فنقول : لا إشكال في عدم اجتماع اليقين والشكّ لشخص واحد بالنسبة إلى شيء واحد وفي زمان واحد ، فإذا علمنا يوم الجمعة بعدالة زيد في يوم الخميس لا يمكن أن نشكّ يوم الجمعة أيضاً في عدالته في ذلك اليوم بعينه بل لابدّ من تغاير اليقين والشكّ إمّا في نفس المتعلّق أو في زمان المتعلّق ( بالفتح ) أو في زمان المتعلّق ( بالكسر ).

فإذا كان اليقين والشكّ متّحدين في الزمان ( أي لا يكون تغاير في زمان المتعلّق بالكسر ) وكان متعلّقهما أيضاً واحداً في الزمان ( أي لا يكون تغاير في زمان المتعلّق بالفتح ) ولكن كان متعلّق اليقين وجود المقتضي ، ومتعلّق الشكّ وجود المانع ( أي كان التغاير في نفس المتعلّق

٢٨١

بالفتح ) فهذا هو مورد قاعدة المقتضي والمانع.

وإذا كان المتعلّق ( بالفتح ) واحداً ، وكان زمان المتعلَّق ( بالفتح ) أيضاً واحداً ، ولكن كان زمان اليقين متغايراً مع زمان الشكّ فهذا مورد قاعدة اليقين ، ويسمّى بالشكّ الساري لسريان الشكّ إلى نفس متعلّق اليقين ، كما إذا علمنا يوم الخميس بعدالة زيد يوم الأربعاء ، وشككنا يوم الجمعة في عدالته يوم الأربعاء بعينه.

وإذا كان زمان اليقين والشكّ متّحداً ، وكان متعلّقهما أيضاً أمراً واحداً ، ولكن كان التغاير في زمان المتعلّق بالفتح ، فهذا هو مورد قاعدة الاستصحاب ، ويسمّى الشكّ حينئذٍ بالشكّ الطارىء ( في مقابل الشكّ الساري ) كما إذا علمنا يوم الخميس بعدالة زيد ، ثمّ شككنا في عدالته يوم الجمعة.

فالميزان في الاستصحاب هو التمايز والتغاير في زمان متعلّق اليقين والشكّ ، وفي قاعدة اليقين هو التمايز في زمان نفس اليقين والشكّ ، وفي قاعدة المقتضي والمانع في نفس متعلّق اليقين والشكّ.

الأقوال في حجّيّته الاستصحاب وبيان أدلّتها :

إذا عرفت هذا كلّه فاعلم أنّ الأقوال في حجّية الاستصحاب كثيرة :

١ ـ الحجّية مطلقاً.

٢ ـ عدم الحجّية مطلقاً.

٣ ـ التفصيل ، وهو على وجوه عديدة.

والمهمّ ـ كما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله ـ ذكر أدلّة المختار منها ، وهو الحجّية مطلقاً ، على نحو يظهر بطلان سائر الأقوال ، فنقول :

استدلّ للقول بالحجّية مطلقاً بوجوه :

الاول : بناء العقلاء :

بناء العقلاء ، فإنّ بناءهم على استصحاب الحالة المتيقّنة السابقة في جميع امورهم ، وعليه أساس معاشهم ، بل قال بعضهم : لولا ذلك لأختلّ نظام العالم وأساس عيش بني آدم ، فلو احتمل أحدهم موت صاحبه في تجارة لكهولة سنّه أو مرضه أو غير ذلك من

٢٨٢

الحوادث المختلفة فلا يعتني بهذا الاحتمال بل يداوم على عمله ويسير إلى مقصده من دون أن تمنعه هذه الاحتمالات ، وفي المحاكم القضائيّة العقلائيّة يبني على بقاء مالكية الإنسان ما لم يثبت خلافه ، وعلى بقاء الوكالة ما لم يثبت العزل ، وعلى بقاء زوجية الزوج الغائب وإن احتمل موته أو طلاقه.

وقد قال بعض المحقّقين « إنّ ذلك يظهر بالعيان والوجدان لمن نظر في أعمالهم وحركاتهم وسكناتهم في معاملاتهم وتجاراتهم وزياراتهم لأصدقائهم وأقربائهم ، وعياداتهم لمرضاهم وجميع امورهم ، بل وإن تأمّل في أعمال نفسه وحركاته الإرتكازية يرى أنّه يجري على طبق الحالة السابقة مع الشكّ في ارتفاعها » (١).

بل قد يقال : إنّه ثابت حتّى في الحيوانات فإنّها تطلب عند الحاجة ، المواضع التي عهدت فيها الماء والكلاء ، كما أنّ الطيور تعود من الأماكن البعيدة إلى أوكارها ، غاية الأمر أنّ بنائها على هذا يكون عن جبلّتها وغريزتها ، وبناء العقلاء يكون عن شعورهم وعاقلتهم.

وقد أورد على هذا بإشكالات عديدة ، ذكر اثنين منها في الكفاية :

أحدهما : إنّ بناء العقلاء هذا لا يفيدنا إلاّ إذا كان ناشئاً من تعبّدهم على ذلك ، وهو ممنوع لأنّه ينشأ من ملاكات عديدة ، فقد يكون رجاءً واحتياطاً ، وقد يكون من باب الاطمئنان بالبقاء ، وقد يكون ظنّاً ولو نوعاً ، وقد يكون من باب الغفلة كما هو الحال في الحيوانات دائماً وفي الإنسان أحياناً.

لكن الإنصاف أنّه غير تامّ ، لأنّ من الاحتمالات المذكورة في كلامه كون البناء من باب الظنّ النوعي ، ومنها كونه من باب الرجاء والاحتياط ، وهذا كافٍ في إثبات المطلوب ، لأنّه إذا كان الظنّ أو الرجاء أو شبههما حجّة عند العقلاء بحيث يحتجّ به العبيد على مواليهم ، والموالي على عبيدهم فهو كافٍ في إثبات المطلوب ، لأنّا لا نقصد من الحجّية إلاّهذا.

ثانيهما : سلّمنا ذلك ، لكن الآيات الناهية عن العمل بغير العلم رادعة عن هذه السيرة.

وأورد عليه المحقّق الأصفهاني رحمه‌الله بأنّ « كلماته في هذه المسألة في تعليقته المباركة ، وفي مبحث خبر الواحد من الكتاب ، وفي هامشه هناك ، وفي هذا المبحث من الكتاب مختلفة ، ففي تعليقته على الفرائد قدّم السيرة على العمومات نظراً إلى استحالة رادعية العمومات عن

__________________

(١) راجع منتهى الاصول : ج ٢ ، ص ٤٠٩ ، للمحقّق البجنوردي.

٢٨٣

السيرة ، وفي مبحث خبر الواحد أيضاً قدّم السيرة مع الالتزام بالدور من الطرفين على وجه دون وجه ، وفي هامش المبحث المزبور التزم بحجّية الخبر لاستصحاب حجّيته الثابتة قبل نزول الآيات بعد دوران الأمر بين الردع والتخصيص ، وفي هذا الموضع قدّم الآيات الناهية ، وادّعى كفايتها في الرادعيّة » (١).

أقول : قد مرّ سابقاً أنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ لا يمكن أن تكون رادعة عن سيرة العقلاء على العمل ، لأنّ المراد من الظنّ فيها ليس هو الظنّ المصطلح ( وهو الاحتمال الراجح في مقابل العلم والشكّ والوهم ) بل إنّه في هذا القبيل من الآيات إشارة إلى الظنون الواهيّة والتخيّل والخرص ، كما تؤيّده القرائن الموجودة في نفس الآيات ، مثل ما ورد في قوله تعالى : ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ) (٢) فعطف على الظنّ ما تهوى الأنفس ، وما ورد في قوله تعالى : ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ) (٣) ففسّر الظنّ بالخرص وهو التخمين والحدس بغير أساس ودليل. مضافاً إلى ورود هذه الآيات في المشركين وعبدة الأصنام الذين لم تكن عبادتهم للأصنام ناشئة من ظنّ عقلائي وأساس برهاني بلا ريب ، بل من توهّمات باطلة وخيالات كاسدة. هذا أوّلاً.

ويشهد له ثانياً : أنّه لو كان كذلك للزم تخصيص هذه الآيات في موارد العمل بالظواهر والبيّنة وخبر الواحد وقول ذي اليد وغيرها ، مع أنّ لحنها آبٍ عن التخصيص كما لا يخفى.

وثالثاً : أنّ الظاهر ورودها في خصوص اصول الدين والمسائل الاعتقاديّة التي لا يقاس عليها الفروع والمسائل الفرعيّة.

ثمّ إنّ هنا كلاماً للمحقّق الأصفهاني رحمه‌الله ، وهو أنّ « اللازم في حجّية السيرة العقلائيّة مجرّد عدم ثبوت الردع عنها من الشارع ، ولا يجب إحراز الامضاء وإثبات عدم الردع ، حتّى يجب البناء على عدم حجّيتها بمجرّد عدم العلم بالامضاء أو الجهل بعدم الردع لأنّ الشارع بما هو عاقل بل رئيسهم العقلاء متّحد المسلك معهم إلاّ إذا أحرز اختلاف مسلكه معهم بما هو شارع » (٤).

__________________

(١) راجع نهاية الدراية : ج ٥ ـ ٦ ، ص ٢٩ ، طبع مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) سورة النجم : الآية ٢٣.

(٣) سورة يونس : الآية ٦٦.

(٤) راجع نهاية الدراية : ج ٦ ـ ٦ ، ص ٣٠ ـ ٣١.

٢٨٤

ويرد عليه : أنّه لو ثبت لنا اتّحاد مسلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومين مع سائر العقلاء ودخولهم فيهم من هذه الجهة بالروايات المعتبرة الدالّه على أفعالهم في هذه الموارد ، فبها ونعم المطلوب ، لكن لقائل أن يمنع عن ذلك ويقول : لم يرد بناءهم العملي في هذه الموارد بالروايات المأثورة عنهم ، نعم يمكن أن يقال : إنّ عمل العقلاء كان في مسمع ومنظر منهم وكانوا ساكتين عنه ، ولكنّه هو معنى الحاجة إلى امضائهم في إثبات الحجّية.

والإشكال الثالث : هو ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله من أنّ بناء العقلاء على إبقاء الحالة السابقة وإن كان غير قابل للإنكار في الجملة ، إلاّ أنّه لم يعلم أنّ ذلك من جهة التعبّد بالشكّ والأصل العملي ، أو من جهة الأماريّة والكشف عن الواقع ، إذ يبعّد الأوّل عدم تعقّل بناء من العقلاء على صرف التعبّد بالشكّ من دون أماريّة وكاشفية ... كما أنّه يبعّد الثاني عدم وجود شيء في المقام يكون كاشفاً عن الواقع في ظرف الشكّ ، إذ اليقين السابق لا أماريّة له في ظرف الشكّ ، ونفس الشكّ لا أماريّة له أيضاً كما هو ظاهر ، إلاّ أن يقال : إنّ التعبّد بالشكّ من العقلاء وإن لم يكن في نفسه معقولاً ، إلاّ أنّه يمكن أن يكون ذلك بإلهام (١) من الله تعالى حتّى لا يختلّ امور معاشهم ومعادهم ، فإنّ لزوم اختلال النظام مع التوقّف عن الجري في الحالة السابقة مع الشكّ واضح ، فلأجله جعل الله الجري على طبقها من المرتكزات في أنفسهم مع عدم وجود كاشف عن تحقّقها أصلاً (٢).

أقول : وكلامه رحمه‌الله لا يخلو من نظر :

أمّا أوّلاً : فلأنّ ما أفاده من « أنّ بناءهم إلهام إلهي وإنّ فطرتهم جرت على ذلك » بنفسه دليل على وجود التعبّد لهم ، فإنّهم يلاحظون بعض الامور كأصالة البراءة ، وأنّه لا كاشفية لها بالنسبة إلى الواقع ، ولكن يجعلون بناءهم على ذلك من باب أنّ عدمه يوجب اختلال النظام ، ومن هذا القبيل باب الحقوق والجرائم ، فما دام لم يثبت جرم أحد ، أو كونه مديوناً ، لا يحكم عليه بالجرم والدين ، ويمكن أن يكون بناؤهم على الاستصحاب أيضاً من هذا القبيل ، ولا أقلّ من إمكانه ثبوتاً ، وبالجملة أنّ للعقلاء اصولاً وأمارات ، بل يمكن أن يقال : إنّ لجميع الاصول

__________________

(١) وهذا نظير ما قد يقال في باب قيمة الذهب في جميع الأعصار والأمصار من أنّها نوع من الإلهام الغيبي لتنظيم معاشهم الاقتصادي.

(٢) أجود التقريرات : ج ٢ ، ص ٣٥٧.

٢٨٥

والأمارات الشرعيّة أساساً عقلائياً ، وما قد يتوهّم من أنّه ليس لهم إلاّ الأمارات كلام باطل ، وليكن هذا على ذكر منك حتّى نتلو عليك منه ذكراً.

وثانياً : ( بالنسبة إلى قوله بعدم وجود معيار للأماريّة في الاستصحاب ، وأنّ مجرّد اليقين السابق غير كافٍ فيها ) فلأنّه يمكن أن يقال : إنّ معيار الأماريّة في الاستصحاب إنّما هو الغلبة ، فإنّ الغلبة في موت الأفراد وحياتهم على الحياة ، وفي السلامة والمرض على السلامة ، وفي الطرق والأماكن ونظائرهما على البقاء على حالها.

نعم هذا كلّه في الموضوعات والشبهات الموضوعيّة ، كما أنّ تمام ما ذكرنا من الأمثلة كحياة زيد ووكالة عمر والملكية والزوجيّة وغيرها كانت من الموضوعات الخارجية ، وأمّا الشبهات الحكميّة والأحكام الكلّية فإن كان الشكّ في نسخها كان بناء العقلاء على عدم النسخ ما لم يثبت جعل قانون جديد ، وأمّا بالنسبة إلى غير النسخ من مناشٍ اخر للشكّ في بقاء الحكم كما إذا قرّرت الحكومة وضع ضرائب على العنب وشكّ في بقائها بعد تبدّل العنب إلى الزبيب ( بناءً على أنّه من الحالات لا من المقوّمات ) فلا يستصحب أحد من العقلاء بقاء تلك الضرائب كما لا يخفى ، وسيوافيك لذلك مزيد توضيح في محلّه إن شاء الله.

الثاني : الاستقراء في الأبواب المختلفة من الفقه

وقد قال الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله في هذا المجال : « إنّا تتبّعنا موارد الشكّ في بقاء الحكم السابق المشكوك من جهة الرافع فلم نجد من أوّل الفقه إلى آخره مورداً إلاّوحكم الشارع فيه بالبقاء ، إلاّمع أمارة توجب الظنّ بالخلاف كالحكم بنجاسة البلل الخارج قبل الاستبراء ، فإنّ الحكم بها ليس لعدم اعتبار الحالة السابقة ، وإلاّ لوجب الحكم بالطهارة لقاعدة الطهارة ، بل لغلبة بقاء جزء من البول أو المني في المخرج ، فرجّح هذا الظاهر على الأصل ( وهو أصالة الطهارة ) كما في غسالة الحمّام عند بعض ، والبناء على الصحّة المستند إلى ظهور فعل المسلم ، والإنصاف أنّ هذا الاستقراء يكاد يفيد القطع » ( انتهى ).

أقول : ومن هذه الموارد حكم الشارع باستظهار الحائض بعد مضيّ أيّام العادة إلى عشرة أيّام فورد في الحديث : « تستظهر بيوم أو يومين أو ثلاثة » أي تستصحب.

٢٨٦

ومنها قوله عليه‌السلام : « صم للرؤية وافطر للرؤية » الذي قد يقال بأنّ منشأه الاستصحاب.

لكن الإنصاف أنّ هذا الاستقراء ناقص جدّاً فكيف يحصل القطع في هذه المسألة المهمّة من ذكر أمثلة قليلة؟ مع ما فيها من الإشكال ، فقد يرد على المثال الأوّل من أنّه كما يحتمل أن يكون البلل الخارج قبل الاستبراء بولاً ، كذلك يحتمل أن يكون مذياً أو ودياً الذي لا إشكال في طهارته ولو قبل الإستبراء لأنّ الملاقاة في البواطن لا توجب النجاسة ، فالمعلوم حينئذٍ خروج القطرات البولية السابقة ووجود قطرات اخرى مقامها يشكّ أنّها من مصاديق البول أو المذي ، فلا يجري الاستصحاب فيها لأنّه حينئذٍ من قبيل استصحاب القسم الثالث من الكلّي ، وهو ليس بحجّة.

الثالث : الإجماع

نقله الشيخ الأعظم رحمه‌الله عن مبادىء الوصول للعلاّمة رحمه‌الله وعن نهايته كما نقله أيضاً المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية.

فقال في المبادىء : « الاستصحاب حجّة لإجماع الفقهاء على أنّه متى حصل حكم ثمّ وقع الشكّ في أنّه طرأ ما يزيله أم لا ، وجب الحكم ببقائه ، ولولا القول بأنّ الاستصحاب حجّة لكان ترجيحاً لأحد طرفي الممكن من غير مرجّح » (١).

وظاهره العموم بالنسبة إلى فقهاء الفريقين ، وبالنسبة إلى الشبهة في النسخ وسائر الشبهات الحكميّة والموضوعيّة.

وقال في النهاية : « أنّ الفقهاء بأسرهم على كثرة اختلافهم اتّفقوا على إنّا متى تيقّنا حصول شيء ، وشككنا في حدوث المزيل له أخذنا بالمتيقّن ».

لكن لا كلام في عدم حجّية هذا النوع من الإجماع لكونه محتمل المدرك على الأقل ، ولعلّ مدركه ما مرّ من سيرة العقلاء أو الاستقراء أو ما سيأتي ذيلاً من الأخبار.

__________________

(١) مبادىء الوصول إلى علم الاصول : ص ٢٥١.

٢٨٧

الرابع : الأخبار المستفيضة

وهى العمدة في المسألة ، وأوّل من طرحها في الاصول على التفصيل هو شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه‌الله :

١ ـ صحيحة زرارة ، قال : « قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ، أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال عليه‌السلام : يازرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن فإذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء ، قلت : فإن حرّك على جنبه شيء ولا يعلم به؟ قال عليه‌السلام : لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا تنقض اليقين أبداً بالشكّ ولكنّه ينقضه بيقين آخر » (١).

ولا يخفى أنّ اضمار زرارة في الحديث لا يضرّ بصحّته ، لأنّ مثله لا يسأل الحكم الشرعي إلاّ عن الإمام عليه‌السلام ، مضافاً إلى لحن الحديث والسؤال والجواب الواردان فيه حيث إنّ الإنسان يطمئنّ بأنّ مثله لا يصدر إلاّمن الإمام المعصوم عليه‌السلام (٢) ، وعلى هذا فلا كلام في الرواية من ناحية السند ، إنّما البحث في دلالتها وقد وقع في تعيين جزاء كلمة « إلاّ » الواردة فيها ، والتي هى مركّبة من « إنّ » و « لا » ، أي « وإن لم يستيقن أنّه نام » ، فما هو جزاؤها؟ فنقول : فيه أربعة وجوه :

الأوّل : أن يكون الجزاء محذوفاً ، أي : « وإن لم يستيقن أنّه قد نام فلا يجب عليه الوضوء ، أو فهو باقٍ على وضوئه » ويكون قوله عليه‌السلام : « فإنّه على يقين من وضوئه » تعليلاً لذلك الجزاء فيكون بمنزلة كبرى كلّية لا تختصّ بباب الوضوء.

الثاني : أن يكون قوله عليه‌السلام : « فإنّه على يقين من وضوئه » بنفسه جزاءً فيكون بمنزلة جملة إنشائيّة ، بمعنى : « فليكن على وضوئه » فيختصّ بباب الوضوء لخروجه عن صيغة التعليل الذي يتعدّى عن المورد.

الثالث : أن يكون الجزاء قوله عليه‌السلام : « ولا ينقض اليقين بالشكّ أبداً » ، ويكون قوله عليه‌السلام : « فإنّه على يقين ... » توطئة له ، فيختصّ أيضاً بباب الوضوء.

والإنصاف أنّ الترجيح مع التفسير الأوّل ، وأنّ الأخيرين بعيدان عن ظاهر الحديث.

أمّا الأوّل منهما ( أي التفسير الثاني ) فلأنّ كون قوله عليه‌السلام : « فإنّه على يقين » بمنزلة جملة

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١ ، أبواب نواقض الوضوء ، الباب ١ ، ح ١.

(٢) ولعلّ من هذا الباب بدّل صاحب الفصول الضمير باسم الظاهر ، وإلاّ فمن البعيد جدّاً حصوله على منبع ذكر فيه اسم الظاهر مقام الضمير ولم يصل إلينا مع أنّه قريب العصر منّا.

٢٨٨

إنشائيّة ، وبمعنى « فليكن » بعيد في الغاية ـ كما قال به المحقّق الخراساني رحمه‌الله ـ لأنّ الإخبار بجملة اسميّة وإرادة الكناية عن الإنشاء لا يكون أمراً مأنوساً عند أهل اللسان ، فلا يقال مثلاً : « أنت آكل » عوضاً عن قوله « كل » ، أو « أنت قائم » كناية عن قوله « قم » ، أو « أنت على يقين » كناية عن « كن على اليقين » ( في ما نحن فيه ) نعم أنّه شائع في الجملة الفعليّة بصيغة المضارع كقوله عليه‌السلام : « تعيد » بمعنى « أعد ».

وأمّا الثاني منهما ( وهو التفسير الثالث ) فلأنّ لازمه أن يكون الجزاء معطوفاً على شرطه بالواو العاطفة ، وهو واضح البطلان.

هذا ـ ولو سلّم كون أحدهما مراداً للإمام عليه‌السلام لكنّه يمكن أيضاً استفادة العموم من الحديث لعدّة قرائن :

الاولى : قوله عليه‌السلام : « فإنّه على يقين من وضوئه » حيث إنّه إشارة إلى نكتة إرتكازية عند العقلاء ، وهى عدم صحّة نقض شيء محكم وطرده ( وهو اليقين ) بأمر مرهون ضعيف ( وهو الشكّ ) وبعبارة اخرى : تناسب الحكم والموضوع يوجب إلغاء العرف الخصوصيّة عن باب الوضوء.

الثانية : كلمة « أبداً » فإنّها مناسبة لجريان الحكم وسريانه في سائر الأبواب.

الثالثة : ورود قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ » في سائر الأبواب أيضاً ، مثل باب النجاسات والصّلاة والصوم فإنّه بمنزلة قرينة خارجية على عموم الحكم في المقام.

إن قلت : ذكر اليقين قبل هذه الجملة مرّتين وتعلّق في المرّة الاولى بالنوم وفي الثانية بالوضوء ، وحينئذٍ تكون اللام الواردة في كلمة اليقين في هذه الجملة ظاهرة في العهد ، ولازمه اختصاص الحكم بباب الوضوء.

قلنا : قد قرّر في محلّه أنّ الأصل في « اللام » أن تكون للجنس ، ومجرّد وجود متعلّقها في القبل لا غير ، كافٍ لرفع اليد عن هذا الأصل ، فإذا دار الأمر بين كونها للعهد أو الجنس فالترجيح مع الثاني ، إلاّ إذا حصل الظهور في العهدية ومجرّد سبق عنوان اليقين غير كافٍ في إثبات هذا الظهور. هذا أوّلاً.

وثانياً : سلّمنا أنّها تكون للعهد ، ولكن العرف يلغي الخصوصية عن باب الوضوء بما مرّ من تناسب الحكم والموضوع ووجود كلمة « أبداً » وغيرهما من القرائن.

٢٨٩

ثمّ إنّه قد أجاب المحقّق الخراساني رحمه‌الله عن هذه الشبهة بجواب لا يخلو من التكلّف جدّاً ، وهو أنّ كون اللام في قوله عليه‌السلام : « ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ » للعهد مبنى على كون لفظة « من وضوئه » متعلّقة بلفظة « يقين » بنفسها ، فيكون اليقين حينئذٍ في الصغرى خاصّاً ، فليكن في الكبرى أيضاً خاصّاً ، وأمّا إذا كان متعلّقاً بالظرف أي بلفظة « على يقين » بحيث كان المعنى هكذا : « فإنّه من ناحية وضوئه على يقين ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ » فلا يكون اليقين حينئذٍ في الصغرى خاصّاً كي تكون اللام في يقين الكبرى للإشارة إليه ، بل جنساً مطلقاً فيكون اليقين في الكبرى أيضاً كذلك. ( انتهى ).

ولا يخفى أنّ فيه تكلّفاً ظاهراً ، وأنّه لا يشبه العبارات العربيّة المتداولة ، فالإنصاف أنّ المرتكز لمن يكون عارفاً باللسان كون « عن وضوئه » متعلّقاً باليقين نفسه.

إن قلت : أنّ هذا الحديث من ناحية دلالته على الاستصحاب قد أعرض عنه الأصحاب ، كما يظهر من تصريح الشيخ الأعظم رحمه‌الله بأنّ أوّل من تمسّك به هو والد الشيخ البهائي رحمه‌الله في الحبل المتين.

قلنا : لعلّ عدم تمسّك الأصحاب به كان من جهة أنّهم يرون أنفسهم مستغنين عنه بوجود سيرة العقلاء على الاستصحاب ، مع كون السيرة دليلاً قطعيّاً وخبر الواحد دليلاً ظنّياً. هذا أوّلاً.

وثانياً : لعلّ إعراضهم كان من جهة وجود الشبهة عندهم من ناحية الدلالة وعدم عموميتها واختصاصها بأبواب معيّنة ، لا من ناحية السند ، فلا يكون اعراضهم عن السند محرزاً عندنا.

ويؤيّد ذلك أنّ صاحب الوسائل وغيره من أكابر علماء الحديث جعلوا هذه الأخبار في أبواب خاصّة ، ولم يجعلوا لها عنواناً مستقلاً كلّياً ، وهذا دليل على أنّهم لم يفهموا منها العموم ، وكم ترك الأوّل للآخر.

٢ ـ صحيحة ثانية لزرارة قال : « قلت له : أصاب ثوبي دم رعاف أو شيء من مني فعلّمت أثره إلى أن اصيب له الماء ، فأصبت وحضرت الصّلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصلّيت ثمّ إنّي

٢٩٠

ذكرت بعد ذلك ، قال : تعيد الصّلاة وتغسله ، قلت : فإنّي لم أكن رأيت موضعه وعلّمت أنّه أصابه فطلبته فلم أقدر عليه ، فلمّا صلّيت وجدته ، قال : تغسله وتعيد ، قال قلت : فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أر فيه شيئاً ثمّ صلّيت فرأيت فيه ، قال : تغسله ولا تعيد الصّلاة ، قلت : لِمَ ذاك؟ قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً ، قلت : فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله ، قال : تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه أصابها ، حتّى تكون على يقين من طهارتك ، قلت : فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شيء في ثوبي أن أنظر فيه؟ فقال : لا ، ولكنّك إنّما تريد أن تذهب الشكّ الذي وقع في نفسك ، قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصّلاة ، قال : تنقض الصّلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته ، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصّلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصّلاة لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ » (١).

هذه الرواية مشتملة على ستة أسئلة وأجوبة :

أوّلها : قول السائل : « أصاب ثوبي دم رعاف أو شيء من مني فعلمت أثره إلى أن أُصيب له الماء ، فأصبت وحضرت الصّلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصلّيت ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟ » جواب الإمام عليه‌السلام عنه بقوله : « تعيد الصّلاة وتغسله ».

ثانيها : قول السائل : « فإنّي لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه أصابه فطلبته فلم أقدر عليه فلمّا صلّيت وجدته » وجوابه عليه‌السلام بقوله : « تغسله وتعيد ».

وهذان السؤالان لا يخفى خروجهما عمّا نحن فيه وهو البحث عن الاستصحاب ، حيث إنّ مورد الأوّل نسيان النجاسة والتذكّر بعد إتمام الصّلاة ، ومورد الثاني الشروع في الصّلاة مع العلم الإجمالي بنجاسة موضع من الثوب.

ثالثها : قول السائل « فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أر فيه شيئاً ثمّ صلّيت فرأيت فيه »؟ وجوابه عليه‌السلام بقوله : « تغسله ولا تعيد الصّلاة ( قلت : لِمَ ذاك؟ ) قال عليه‌السلام : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً ».

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٢ ، أبواب النجاسات ، ح ٢ ، من الباب ٤٢ ، وح ١ ، من الباب ٤١ ، مع ما ورد في الهامش ، وح ١ ، من الباب ٤٤ ، وح ١ ، من الباب ٣٧ ، فأنت بالمراجعة إلى هذه المواضع الخمسة تجد الرواية إلى قوله عليه‌السلام : « الذي وقع في نفسك » وبمراجعتك إلى التهذيب : ج ١ ، ص ٤٢١ طبع الآخوندي تجدها بمجموعها.

٢٩١

وهذا السؤال والجواب ناظر إلى محلّ البحث صراحةً كما لا يخفى.

رابعها : قول السائل : « فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو؟ فأغسله؟ » وجوابه عليه‌السلام : « تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك ».

وهذا السؤال في بدء النظر غير مرتبط بالمقصود بل مرتبط بمسألة العلم الإجمالي ولكنّه عند التأمّل يمكن أن يكون تتميماً للسؤال الثالث ، كما أنّ جواب الإمام عليه‌السلام أيضاً يمكن أن يكون تكميلاً للجواب عن السؤال الثالث ، أو بياناً لمدلوله الالتزامي ، وهو قوله « انقضه بيقين آخر » فالمحتمل دلالة هذه الفقرة أيضاً على حجّية الاستصحاب.

خامسها : قول السائل : « فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شيء في ثوبي أن أنظر فيه؟ » وجواب الإمام عليه‌السلام : « لا ولكنّك إنّما تريد أن تذهب الشكّ الذي وقع في نفسك ».

وهذا الجواب ناظر إلى عدم لزوم الفحص في الشبهات الموضوعيّة وخارج عمّا نحن بصدده.

إن قلت : قد مرّ في مبحث عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعيّة استثناء موردين منها :

أحدهما : ما إذا كان العلم بالواقع سهل الوصول جدّاً.

وثانيهما : ما لا يحصل العلم به عادةً من دون فحص كمقدار النصاب وأرباح المكاسب والاستطاعة ، وما نحن فيه من القسم الأوّل فلماذا لم يأمر فيه بوجوب الفحص؟

قلنا : يظهر من هذه الرواية وغيرها أنّ نظر الشارع التسهيل في أمر الطهارة والنجاسة وإستثناءهما من القاعدة المذكورة ، ولعلّ الوجه فيه هو الوقوع في الوساوس المختلفة لو بنى على الفحص ولو بهذا المقدار.

سادسها : قول السائل : « إن رأيته في ثوبي وأنا في الصّلاة » وجواب الإمام عليه‌السلام : « تنقض الصّلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته ، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصّلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصّلاة لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ ».

وهذا السؤال والجواب أيضاً داخل في الاستصحاب كما هو واضح.

٢٩٢

فظهر أنّ الداخل من هذا الحديث في مبحث الاستصحاب هى الفقرة الثالثة والسادسة يقيناً ، والفقرة الرابعة احتمالاً.

لكن اورد عليه إشكالات عديدة لابدّ من حلّها :

الأوّل : في تعبير الإمام عليه‌السلام بـ « ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ » ، حيث إنّه يستشمّ منه رائحة الاستحباب.

والجواب عنه واضح : لأنّه ورد في مقام الاستدلال على حكم إلزامي ، وهو عدم جواز إعادة الصّلاة ، لظاهر النهي بلسان النفي ، فمقام الاستدلال قرينة على أنّ المراد به عدم الجواز ، وموارد استعمال « لا ينبغي » مختلفة كما يظهر بالرجوع إليها.

الثاني : أنّ الحديث لعلّه في مقام بيان قاعدة اليقين لا الاستصحاب ، أي أنّه يناسب قاعدة اليقين كما يتناسب مع الاستصحاب ، لأنّ لفظ اليقين في قوله عليه‌السلام : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك » كما يحتمل أن يكون المراد منه اليقين بطهارة الثوب من قبل ظنّ الإصابة ( فيكون المورد من الاستصحاب ) كذلك يحتمل أن يكون المراد منه اليقين بالطهارة الذي حصل بالنظر في الثوب مع عدم رؤية شيء ، ثمّ زال برؤيه النجاسة بعد الصّلاة لاحتمال حدوثها بعد الصّلاة ( فيكون المورد من قاعدة اليقين لأنّ الشكّ يتسرّى إلى اليقين السابق ) فيصير الحديث مجملاً لا يصلح للاستدلال به على الاستصحاب.

وجوابه واضح أيضاً : فعند التأمّل في الرواية يظهر أنّها ناظرة إلى خصوص الاستصحاب ، وأنّ المستشكل لم يعطها حقّ النظر والدقّة ، فإنّ معيار الاستصحاب وفرقه عن قاعدة اليقين ، ( وهو تغاير زمان متعلّق اليقين والشكّ ) موجود فيها ، حيث عبّر الإمام عليه‌السلام فيها بقوله : « لأنّك كنت على يقين ثمّ شككت » وهو ناظر إلى سؤال الراوي الذي كان على يين من طهارته ثمّ شكّ في نجاستها في زمان بعده.

الثالث : أنّ مورد الحديث إنّما هو نقض اليقين بيقين آخر لا نقضه بالشكّ ، فإنّ السائل يقول : « ثمّ صلّيت فرأيت فيه » وهو يعني اليقين بالنجاسة ووقوع الصّلاة بها فإعادة الصلاة من قبيل نقض اليقين باليقين لا نقض اليقين بالشكّ.

ويمكن الجواب عنه بامور :

أوّلها ( وهو أحسنها ) أنّ جواب الإمام عليه‌السلام ناظر إلى أنّ الشرط في صحّة الصّلاة هو الأعمّ

٢٩٣

من الطهارة الواقعية والظاهرية ، وأنّ الطهارة الظاهرية كانت حاصلة في أثناء الصلاه لمكان الاستصحاب ، وإن حصل القطع بعد الصّلاة بعدم وجود الطهارة الواقعية ، فعدم وجوب الإعادة إنّما هو لتحقّق الشرط الواقعي ، وهو الطهارة الظاهرية الحاصلة بمقتضى الاستصحاب.

ثانيها : أنّ هذه الفقرة ناظرة إلى مسألة الاجزاء في الأوامر الظاهرية فيقول الإمام عليه‌السلام أنّ الأمر الظاهري حاصل في المقام لمكان الاستصحاب ( وإن قطعت بعد الصّلاة بعدم وجود الأمر الواقعي ) وهو مجزٍ عن إتيان الواقع.

وبعبارة اخرى : أنّها ناظرة إلى صغرى قاعدة الإجزاء ، وهى وجود أمر ظاهري ناشٍ من الاستصحاب ، وإلى كبراها وهى أنّ الأوامر الظاهرية مجزية.

وهذا الجواب أيضاً تامّ على المختار من إجزاء الأوامر الظاهرية الشرعيّة وإن لم يتمّ على مختار المنكرين للاجزاء.

ولكن إستشكل فيه الشيخ الأعظم رحمه‌الله بما حاصله : أنّ لازمه اكتفاء الإمام في مقام التعليل ببيان الصغرى ( وهى قوله عليه‌السلام : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت فليس ينبغي لك ... الخ » الذي هو كناية عن وجود أمر ظاهري ) مع أنّ الشائع عرفاً إنّما هو بيان الكبرى ( وهى في المقام أنّ الأوامر الظاهرية مجزية ).

وفيه : أنّه يختلف باختلاف الموارد ، فتارةً يكتفي ببيان الصغرى فقط لكون الكبرى أمراً إرتكازياً كقوله : « لا تشرب الخمر لأنّه مسكر » ، واخرى يكتفي ببيان الكبرى لكون الصغرى إرتكازياً كقول المولى لعبده « لا تفعل هذا فإنّ العاقل لا يلقي نفسه إلى حيث الضرر » فصغرى « لأنّه مضرّ » حذفت لوضوحها ، وثالثة تذكر الصغرى والكبرى معاً.

وما نحن فيه داخل في القسم الأوّل ، فذكرت الصغرى فقط ( وهو وجود الأمر الظاهري لأجل الاستصحاب ) لعدم كونها مثل الكبرى ( وهى إجزاء الأوامر الظاهريّة ) في الوضوح.

ثالثها : أنّ مورد السؤال في الفقرة الثالثة إنّما هو ما إذا احتملنا وقوع النجاسة بعد الصّلاة ، فيكون نهي الإمام عليه‌السلام بقوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ » بالنسبة إلى أثناء الصّلاة.

لكنّه خلاف الظاهر لأنّ في الرواية : « قلت فإن ظننت أنّه قد أصابه ... ثمّ صلّيت فرأيت فيه » وهو ظاهر في أنّ ما وجده بعد الصّلاة إنّما هو نفس ما كان متفحّصاً عنه في أثناء الصّلاة. فهذا الجواب غير تامّ.

٢٩٤

الرابع : ما يكون مرتبطاً بالفقرة السادسة ، وحاصله ، أنّ مفاد هذه الفقرة لزوم غسل الثوب ثمّ البناء على الصّلاة فيما إذا احتمل وقوع النجاسة في نفس الوقت الذي رآها ، ولزوم نقض الصّلاة ووجوب الإعادة إذا رآها وعلم بوجودها من أوّل الصّلاة ، وهذا ـ أوّلاً ـ مخالف لفتوى المشهور ، فإنّها قائمه على عدم الفرق بين الصورتين ، فحكموا في الصورة الثانية أيضاً بوجوب الغسل ثمّ البناء.

وثانياً : مخالف لنفس الحديث في فقرته الثالثة إذ إنّ مدلولها صحّة الصّلاة فيما إذا وقعت بتمامها في النجاسة ، وهو يقتضي بالفحوى صحّتها فيما إذا وقعت بعضها في النجاسة ، فيقع التضادّ حينئذٍ بين الفقرتين الفقرة السادسة والفقرة الثالثة ، ولازمه سقوط كلتيهما عن الحجّية.

واجيب عن هذا بوجهين :

أحدهما : الالتزام بالتفكيك في الحجّية بين فقرات حديث واحد ، بإسقاط بعض الفقرة السادسة عن الحجّية والعمل بالفقرة الثالثة.

ولكن قد عرفت غير مرّة أنّ مثل هذا التفكيك مشكل لمخالفة بناء العقلاء.

ثانيهما ( وهو أحسن الوجوه ) : أنّ الأولوية ممنوعة ، لاحتمال الفرق بين صورة الجهل في تمام الصّلاة والجهل في بعضها ، فإنّ لازم الثاني وجود النجاسة المعلومة ولو آناً مّا.

إن قلت : العلم بالنجاسة آنّاً مّا موجود فيما إذا احتمل وقوع النجاسة في نفس الوقت الذي رآها فكيف لم يحكم الإمام فيه بالبطلان؟

قلنا : لعلّ الشارع عفى عن ذلك ، لوجود خصوصيّة فيها ، وهى احتمال وقوعها في نفس زمان رؤيتها.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الاستدلال بالصحيحة تامّ لا إشكال عليه.

٣ ـ صحيحة ثالثة لزرارة عن أحدهما عليهما‌السلام « قال : قلت له : من لم يدر في أربع هو أم في ثنتين وقد أحرز الثنتين؟ قال : يركع بركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ، ويتشهّد ، ولا شيء عليه ، قال : إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث ، قام فأضاف إليها اخرى ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشكّ ، ولا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا

٢٩٥

يخلط أحدهما بالآخر ، ولكنّه ينقض الشكّ باليقين ويتمّ على اليقين فيبني عليه ، ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات » (١).

وتقريب الاستدلال بهذا الحديث لحجّية الاستصحاب واضح ، ولكن يرد عليه أمران :

أحدهما : أنّه يحتمل في قوله عليه‌السلام : « قام فأضاف إليها اخرى » ثلاث احتمالات :

الأوّل : أن يكون المراد من القيام فيه القيام بعد التسليم إلى ركعة اخرى مفصولة ويكون المراد من اليقين فيها اليقين بالبراءة الحاصلة بالبناء على الأكثر والإتيان بركعة مستقلّة ، وحينئذٍ تكون الصحيحة أجنبية عن الاستصحاب ، وناظرة إلى قاعدة الإشتغال.

الثاني : أن يكون المراد من القيام فيه القيام للركعة الرابعة من دون التسليم في الركعة المردّدة بين الثالثة والرابعة ، فيكون حاصل الجواب هو البناء على الأقل والمراد من اليقين هو اليقين بإتيانه ثلاث ركعات ، وحينئذٍ تكون الصحيحة دالّة على الاستصحاب.

ولكنّها موافقة لقول العامّة ومخالفة للمذهب ولظاهر الفقرة الاولى من قوله : « يركع بركعتين ... بفاتحة الكتاب » فإنّ ظاهره بقرينة تعيين الفاتحة إرادة ركعتين منفصلتين ، أعني صلاة الاحتياط.

فلابدّ حينئذٍ من الالتزام بالتفكيك في الحجّية بين ما ذكر في ذيل الحديث من كبرى كلّية دالّة على الاستصحاب وبين مورده ، القول بالحجّية في الكبرى ، وأنّ الصغرى محمولة على التقيّة ، فيأتي فيه مشكل التفكيك في الحجّية بين فقرات الحديث ، الذي هو في المقام آكد وأشنع ، لأنّه تفكيك بين كبرى وصغراها ، لا بين فقرتين اللتين يدلّ كلّ منهما على حكم مستقلّ.

الثالث : أن يكون المراد من القيام القيام للركعة الرابعة مع التسليم ، أي إتيانها منفصلة ، كما هو مذهب أهل البيت في صلاة الاحتياط.

وعليه يكون المراد من قوله عليه‌السلام : « ولا يدخل الشكّ في اليقين » النهي عن إدخال صلاة الاحتياط المشكوكة في ما أتى به متيقّناً ، أي يأتي بها مستقلاً ومفصولة.

ويكون المراد من قوله عليه‌السلام ، ولكنّه ينقض الشكّ باليقين » تأكيداً لذلك ، وقوله عليه‌السلام « ويتمّ

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٥ ، الباب ١٠ و ١١ ، من أبواب الخلل ، ح ٣ ، في كلا البابين.

٢٩٦

على اليقين » أيضاً إشارة إلى إتيان صلاة الاحتياط منفصلة.

وحينئذٍ تكون ثلاث فقرات من الفقرات الستّة الواردة في الذيل ناظرة إلى لزوم انفصال صلاة الاحتياط ، وثلاث فقرات اخر مرتبطة بقاعدة الاستصحاب ، فيندفع بذلك إشكال كثرة التأكيدات في حديث واحد ، وكذلك إشكال الحمل على التقيّة والتفكيك بين الصغرى والكبرى.

ثمّ إنّ الترجيح يؤيد الحمل على الاستصحاب ، أي أحد الاحتمالين الأخيرين ، وذلك بقرينة الروايات الاخرى ، وقرينة داخليّة وهى لحن الرواية والتعبير بـ « لا تنقض اليقين بالشكّ » الوارد فيها ، حيث إنّ التعبير المناسب مع قاعدة الاشتغال هو لزوم العلم بالفراغ بعد العلم بالاشتغال ، وهذا المعنى غير موجود في الحديث ، ولا سيّما إنّ أخبار الباب الناظرة إلى وجوب العمل بالاحتياط مصرّحة بلزوم البناء على اليقين فما ورد في هذا الحديث مناسب للاستصحاب لا غير ، لأنّه عبّر بعدم نقض اليقين بالشكّ لا البناء على اليقين.

كما أنّ الترجيح في هذين الاحتمالين يتّفق مع الحمل على الاحتمال الأخير ، لأنّ قوله عليه‌السلام : « قام فأضاف إليه اخرى » وإن كان ظاهراً في الإتّصال مجرّداً عن صدره ، ولكنّه بقرينة صدر الرواية ( الذي ظاهر في الإنفصال بقرينة تعيين فاتحة الكتاب كما مرّ آنفاً ) لابدّ من حمله على الانفصال ، مضافاً إلى محذور التفكيك في الحجّية الموجود في الاحتمال الآخر ، أي الاحتمال الثاني من الاحتمالات الثلاثة في الرواية.

وحينئذٍ يتعيّن الاحتمال الثالث ، وبذلك يتمّ دلالة الصحيحة على المقصود من دون أي محذور.

ثمّ إنّ المحقّق العراقي رحمه‌الله بعد أن التزم بهذا التفكيك ، وجعله من قبيل ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله ( وهو ما ورد في بعض الأخبار من قوله عليه‌السلام للخليفة العبّاسي بعد سؤال اللعين عن الإفطار في اليوم الذي شهد بعض بأنّه يوم العيد : « ذاك إلى إمام المسلمين إن صام صمنا معه ، وإن أفطر أفطرنا معه » حيث إنّ الإمام عليه‌السلام إنّما قال ذلك تقيّة ومخافة على نفسه ، كما بيّن عليه‌السلام ذلك بعد خروجه عن مجلس اللعين ، ومع هذا يكون قوله عليه‌السلام « ذاك إلى إمام المسلمين » لبيان حكم الله الواقعي كما أنّ الفقهاء استدلّوا به على اعتبار حكم الحاكم في الهلال ، وليس ذلك إلاّلأجل أنّ تطبيق القول على المورد للتقيّة لا ينافي صدور أصل القول لبيان حكم الله الواقعي فلتكن

٢٩٧

الصحيحة فيما نحن فيه من هذا القبيل ) قال : ونظير ذلك أيضاً ما ورد من استشهاد الإمام عليه‌السلام بحديث الرفع المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على بطلان الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة بما يملك عند الإكراه. » (١).

أقول : مما استدلّ به غير واحد من الأصحاب على أنّ حديث الرفع يعمّ الأحكام الوضعيّة في مبحث البراءة صحيحة المحاسن التي استشهد فيها الإمام عليه‌السلام بحديث الرفع على بطلان الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة بما يملك ، مع أنّ الحلف بهذه الثلاثة باطل عند الإماميّة ذاتاً ولو لم تكن عن إكراه ، فالإمام عليه‌السلام استند لبطلانه في صورة الإكراه بحديث الرفع ، وهو أمر عرضي ولم يستند من جهة التقيّة ببطلانه الذاتي ، فنلتزم بالتفكيك بين أصل الاستناد إلى حديث الرفع ، أي مدلوله المطابقي وهو جريان حديث الرفع في الأحكام الوضعيّة ، وبين تطبيقه على المورد ، أي مدلوله الالتزامي وهو صحّة الطلاق والعتاق والصدقة بما يملك لولا الإكراه ، ونقول بأنّ الإمام عليه‌السلام كان في الأوّل في مقام بيان حكم الله الواقعي ، وفي الثاني كان في مقام التقيّة فليكن مقامنا أيضاً كذلك.

لكن الإنصاف أنّ هذا القياس مع الفارق ، لأنّ كون استناد الأصحاب لشمول حديث الرفع للأحكام الوضعيّة هناك بتلك الرواية من قبيل التفكيك بين فقرتي حديث واحد ، مبنى على دلالته على صحّة الطلاق وأخويه عند العرف بالدلالة الالتزاميّة البيّنة ، مع أنّها ليست أكثر من حدّ الإشعار ، بخلاف ما نحن فيه الذي يكون للكبرى فيه مدلول ، ولصغراها مدلول آخر وهو الظهور في الإتّصال ، فلا ينتقض مختارنا هنا ( وهو كون التفكيك خلاف بناء العقلاء ) بما ذهب إليه الأصحاب هناك.

وأمّا رواية الهلال فالاستناد إلى كبراها أيضاً قابل للتأمّل.

ثانيهما : أنّ المستفاد من الحديث قضيّة جزئية خاصّة بصورة الشكّ بين الثلاثة والأربع ، لأنّ مرجع تمام الضمائر فيه إنّما هو المصلّى ، وإن أبيت عن ذلك فلا أقلّ من الإجمال.

والجواب عنه : إنّا نفهم الشمول والعموم من ثلاث قرائن :

١ ـ تناسب الحكم والموضوع.

__________________

(١) راجع نهاية الأفكار : القسم الأوّل من الجزء الرابع ، ص ٥٨.

٢٩٨

٢ ـ تعبير الإمام عليه‌السلام بقوله : « لا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات ».

٣ ـ قرينة خارجية وهو إشتراك هذا الحديث مع غير واحد من روايات الاستصحاب في التعبير بـ « لا تنقض ... ».

بقي هنا أمران :

الأمر الأوّل : فيما أورده المحقّق العراقي رحمه‌الله على ما يستفاد من كلام الشيخ الأعظم رحمه‌الله ـ من أنّ مقتضى الاستصحاب في الشكّ في الركعات إتيان صلاة الاحتياط متّصلة ، فيكون موافقاً لمذاق العامّة ( إلاّ إذا قامت قرينة خارجية على خلافه ) لأنّ مقتضى الاستصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة ـ ما حاصله : أنّ وجوب التشهّد والتسليم على ما يستفاد من الأدلّة مترتّب على رابعية الركعة ، وهذا لا يثبت باستصحاب عدم إتيانه إلاّمن باب الأصل المثبت ، لأنّ إتّصاف الركعة المأتية بكونها رابعة من اللوازم العقليّة لعدم الإتيان بها بمقتضى الاستصحاب (١).

ويجاب عنّه أوّلاً : بكون الواسطة خفيّة في نظر العرف قطعاً ، ولولا ذلك يكون مورد روايات الباب أيضاً من الأصل المثبت ، لأنّ المستصحب فيها هو الطهارة ، بينما الأثر المطلوب ترتّبه عليها إنّما هو كون الصّلاة متّصفة بالطهارة أو مقيّدة بها ، ولا يخفى أنّ تقيّد الصّلاة أو إتّصافها بها من اللوازم العقليّة لوجود الطهارة.

وثانياً : بأنّه لا دليل على ترتّب وجوب التشهّد والتسليم على رابعية الركعة ، بل المستفاد من الأدلّة كون التسليم في آخر الصّلاة ، كما ورد في رواية القداح عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : افتتاح الصّلاة الوضوء ، وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم » (٢).

فموضع التسليم هو آخر الصّلاة ، وهذا أمر ثابت بالوجدان

وهكذا ما ورد في أبواب التشهّد ، وأنّه يأتي به في بعض الصلوات مرّه وفي بعضها الآخر مرّتين ( فليس فيها أثر من تقييده بالرابعة ).

__________________

(١) راجع نهاية الأفكار : القسم الأوّل من الجزء الرابع ، ص ٥٩ ـ ٦٠.

(٢) وسائل الشيعة : الباب ١ ، من أبواب التسليم ، ح ١.

٢٩٩

الأمر الثاني : قد مرّ أنّ المقصود من قوله عليه‌السلام « يبني على اليقين » هو العمل بالاحتياط بإتيانه ركعة مفصولة ، ولكن لابدّ أن نشير هنا إلى أنّ هذا الاحتياط احتياط نسبي تعبّدي لأنّه بنفسه متضمّن لخلاف الاحتياط في امور أربع :

١ ـ وجوب إتيان التشهّد بعد الركعة المردّدة ، مع احتمال كونها هى الركعة الثالثة.

٢ ـ وجوب التسليم بعد الركعة المردّدة أيضاً ، مع وجود نفس الاحتمال أيضاً.

٣ ـ وجوب التكبير لافتتاح صلاة الاحتياط مع احتمال كونه في أثناء الصّلاة.

٤ ـ تخييره في بعض الموارد بين إتيانها قائماً أو قاعداً مع أنّ الواجب على المكلّف السالم أن يأتي بالصلاه قائماً بالتعيين.

فظهر أنّ هذا عمل بالاحتياط تعبّداً لابدّ في كيفية أدائه من بيان الشارع المقدّس.

نعم ، يمكن أن يجاب عن الثلاثة الاولى منها بأنّ التشهّد ذكر الله لا تضرّ زيادته بالصلاة ، وأمّا السلام فهو وإن كان من كلام الآدمي ، ولذلك لا يجوز الإبتداء به في أثناء الصّلاة ( ووجوب الجواب عنه في أثنائها يكون من باب وجود دليل خاصّ ) ولكنّه صادق في غير السلام المأثور في باب الصّلاة ، وأمّا السلام المأثور فلا يصدق عليه أنّه من كلام الآدميين ، لأنّ المراد منه الكلام الرائج بين عامّة الناس والسلام الخاصّ بباب الصّلاة ليس من هذا القبيل ، فتأمّل.

وأمّا تكبيرة الإحرام فهى توجب بطلان الصّلاة فيما إذا كانت في أوّلها وافتتاحها ، وأمّا إذا صدرت في الأثناء فتعدّ من ذكر الله الحسن على كلّ حال.

فيتعيّن الإشكال في خصوص الأخير ، وهو التخيير بين إتيان صلاة الاحتياط قائماً أو قاعداً في بعض موارد الشكّ في الركعات.

٤ ـ ما رواه الصدوق رحمه‌الله في الخصال بإسناده عن علي عليه‌السلام ( في حديث الأربعمائة ) قال : « من كان على يقين ثمّ شكّ فليمض على يقينه ، فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين » (١).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١ ، أبواب نواقض الوضوء ، الباب ١ ، ح ١.

٣٠٠