أنوار الأصول - ج ٣

أنوار الأصول - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-15-6
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٢٤

التنبيه الرابع : هل يجوز التمسّك بالقاعدة لإثبات الأحكام كما يمكن التمسّك بها لنفيها أو لا؟

وبعبارة اخرى : هل تختصّ القاعدة بالامور الوجودية أو أنّها تشمل العدميّات أيضاً؟ كعدم الضمان فيما يفوت من عمل الحرّ بسبب حبسه ، وكعدم جواز الطلاق للزوجة من ناحية الحاكم الشرعي إذا كان بقاؤها على الزوجية ضررياً كما إذا كان الزوج معتاداً على المخدرات ويحتمل قويّاً سراية إعتياده إلى الزوجة ، أو صار محكوماً بحبس طويل المدّة بما يوجب الضرر على زوجته إمّا من ناحية نفقتها أو من باب إنّها شابّة في معرض المعصية ، فهل يمكن التمسّك بالقاعدة لإثبات الضمان في الأوّل وإثبات جواز الطلاق في الأخيرين أو ، لا؟

واستدلّ القائلون بعدم العموم أوّلاً : بكون « لا » نافية ، وهى تنفي الأشياء ولا تثبتها.

وثانياً : بلزوم فقه جديد في صورة تعميم القاعدة للُامور العدميّة ، فيلزم مثلاً كون أمر الطلاق بيد الزوجة أو الانفساخ بغير طلاق في المثال المزبور ، ويلزم إنعتاق العبيد إذا كانوا في الشدّة ، ويلزم أيضاً الضمان في مثال الحرّ الكسوب ( مع أنّه لم يقل به المشهور ) كما يلزم وجوب تدارك كلّ ضرر يتوجّه إلى المسلم إمّا من بيت المال أو من مال غيره كما أشار إليه الشيخ الأعظم رحمه‌الله في رسالته.

لكن الإنصاف هو التعميم ، وذلك لوجوه شتّى :

منها : كون مورد كثير من روايات الباب إثبات أحكام وجودية ، ففي قضيّة سمرة حكم صلى‌الله‌عليه‌وآله بقلع الشجرة ، وقد مرّ كونه من باب قاعدة لا ضرر بقرينة تعليله بالقاعدة في ذيل الحديث ، ولا يخفى أنّ جواز قلع الشجرة حكم إثباتي.

وكذلك في حديث الشفعة ، حيث إنّ الشفعة حكم إثباتي ناشٍ عن كون عدمه ضررياً ، وفي حديث حفر البئر الذي حكم فيه بالاعتوار ، وهو حكم إثباتي ناشٍ عن الضرر في تركه ، وحديث جدار الجار الذي ورد فيه : « كلّف أن يبنيه » ووجوب البناء إثباتي.

ومنها : أنّ المنفي في القاعدة إنّما هو الضرر المستند إلى الشارع بناءً على مختار الشيخ ، والضرر المستند إلى المكلّفين بناءً على المختار من دون حاجة إلى تقدير الحكم كما لا يخفى ، وحينئذٍ مقتضى إطلاقه نفي الضرر الناشىء من جعل حكم والناشىء من عدم جعل حكم معاً ، حيث إنّه إذا كان جعل حكم مقدوراً للشارع عدم جعله أيضاً مقدوراً له ، لأنّ نسبة

٢٦١

القدرة إلى الوجود والعدم سواء ، فكما يستند الضرر الناشىء من جعل شيء إليه كذلك يستند إليه الضرر الناشىء من عدم جعل شيء ( كعدم جعل الضمان في حبس الحرّ الكسوب ).

هذا بناءً على مختار الشيخ رحمه‌الله ، كذلك بناءً على المختار ، فكما أنّ إقدام المكلّفين بعمل ضرري ينفى بالقاعدة ، كذلك عدم إقدامهم وعدم تداركهم ربّما يوجب الاضرار ويصحّح استناده إليهم فينفى بالقاعدة.

ومنها : لو سلّمنا كون موارد الأحاديث اموراً وجوديّة ، لكن العرف يلغي الخصوصيّة عن الوجود ، ويحكم بعدم الفرق بين ما إذا أوجب فعلك الضرر بالغير ، وما إذا أوجب عدم فعلك وعدم إقدامك بفعلٍ ، الضرر.

ومنها : وجود الملازمة بين العدم والوجود في كثير من الموارد ، ففي مثال الطلاق لازم عدم حكم الشارع بجواز الطلاق هو دوام الزوجية ، ولا يخفى أنّه أمر وجودي موجب للضرر ، نعم هذا الوجه أخصّ من المدّعى.

ثمّ إنّه لا تخفى الثمرة العمليّة لهذا البحث خصوصاً في الحكومة الإسلاميّة ليومنا هذا ، حيث إنّ القول بالتعميم يوجب بسط يد الحاكم في دائر العدميّات أيضاً إذا كانت منشأً للضرر ومصداقاً له ، الأمر الذي تحلّ به جمّ غفير من المشاكل الحكومية خلافاً لما إذا قلنا بعدمه.

وأمّا ما أفاده الشيخ الأعظم رحمه‌الله من لزوم فقه جديد فهو ممنوع جدّاً ، لأنّ الالتزام بوجوب الغرامة للحرّ الكسوب وجواز الطلاق في الأمثلة المذكورة ليس أمراً غريباً ، وإن لم يرد في كلمات المشهور.

وأمّا ما ذكره من تدارك الضرر الذي ليس من ناحية أحكام الشرع ولا من ناحية المكلّفين بعضهم ببعض من بيت المال فالإنصاف أنّه لا دخل له بما نحن فيه ، لأنّه إذا لم يكن الضرر مستنداً إلى الشارع ولا إلى المكلّفين بعضهم ببعض فلماذا يجبر من بيت المال أو من مال اناس آخرين؟ فإنّه من قبيل إقدام الإنسان على ضرر نفسه ، ولا ربط له بقاعدة لا ضرر كما لا يخفى.

٢٦٢

التنبيه الخامس : هل الحكم بنفي الضرر من باب الرخصة أو العزيمة؟

ويتصوّر بناءً على مختار القوم من أن القاعدة تدلّ على نفي الأحكام الضرريّة وتعمّ العبادات الضررية كالوضوء والصوم الضرريين ، فيبحث في أنّه بعد ثبوت عدم وجوب الوضوء الضرري مثلاً هل يقع صحيحاً لو أتى به المكلّف فيكون الحكم بنفيه من باب الرخصة ، أو لا يقع كذلك فيكون الحكم بنفيه من باب العزيمة؟ وأمّا بناءً على المختار من عدم دلالة القاعدة على نفي التكاليف الضررية فلا موضوع لهذا البحث كما لا يخفى.

وكيف كان : استدلّ القائلون بالعزيمة بأنّ هذه الأحكام امور بسيطة لا تركّب فيها حتّى يبقى جوازها بعد رفع وجوبها.

وفي قبالهم ادّعى القائلون بالرخصة بأنّها امور مركّبة ، مع أنّه أوّلاً : لا دليل على التركيب ، وثانياً : لو سلّمنا التركيب يكون الجواز بمنزلة الجنس والوجوب بمنزلة الفصل ، وحيث إنّ قوام الجنس بالفصل فلابدّ بعد رفع الوجوب من إتيان فصل آخر ، ولا دليل عليه في المقام.

واستدلّوا أيضاً بأنّ دليل وجوب الوضوء مثلاً ، له مدلول مطابقي وهو الوجوب ، ومدلول التزامي وهو كون الوضوء ذا مصلحة ، وبقاعدة « لا ضرر » ينفي المدلول المطابقي ، فيبقى المدلول الالتزامي ، وهو يقتضي الجواز.

ولكن يمكن الجواب عنه أيضاً بأنّه قد قرّر في محلّه بأنّ الدلالة الالتزاميّة تابعة للدلالة المطابقيّة في الحجّية وعدمها.

ويمكن أن يقال : انّ المسألة مبنيّة على مسألة حرمة الإضرار بالنفس مطلقاً وعدم حرمتها كذلك ، فعلى القول بحرمته مطلقاً يكون الصوم الضرري أو الوضوء الضرري مثلاً حراماً ، فلا يصحّ التقرّب بهما ، لما ذكرنا في محلّه من سراية الحسن والقبح من المسبّبات إلى الأسباب التوليديّة.

لكن الإنصاف أنّ الضرر إن كان كلّياً كانت العبادة في هذا الحال باطلة ، وإن كان جزئياً أمكن القول بصحّتها ، وذلك لعدم الدليل على حرمة الإضرار بالنفس مطلقاً ، بل المقطوع هو ما إذا كان الضرر كلّياً.

٢٦٣

التنبيه السادس : هل المراد بالضرر هو الضرر الشخصي أو النوعي؟

فهل يجوز للمكلّف الوضوء مثلاً إذا كان ضررياً لغالب الأفراد ولا يكون ضررياً بالنسبة إلى نفسه؟

لا شكّ في أنّ الظاهر من الأدلّة إنّما هو الضرر الشخصي ، لعدم صدق موضوع الضرر على المكلّف مع كونه نوعيّاً ، كما أنّه كذلك في سائر العناوين التي صارت موضوعات للأحكام الشرعيّة كعنوان العسر والحرج والخوف والخطر في سفر الحجّ مثلاً وكذلك عنوان الاستطاعة والفقر وغيرها.

نعم يمكن للشارع المقدّس في الأحكام التكليفيّة وللحاكم الشرعي في الأحكام الجزئيّة الإجرائيّة أن يجعل الملاك الضرر النوعي ، فيكون حينئذٍ من قبيل الحكمة للحكم لا العلّة والعنوان كما لعلّه كذلك في باب الشفعة لعدم وجود الضرر في جميع مصاديقها كما مرّ.

هذا في القسم الأوّل ، وفي القسم الثاني ( الأحكام الإجرائيّة ) نظير حرمة حمل السلاح في عصرنا هذا ، الذي يكون منشأً للضرر في غالب الأفراد ، ولكن الحاكم الشرعي يحكم بتحريم حمل السلاح على نحو العموم ولجميع الأفراد ، حفظاً لهذا الغرض ، وعلى هذا يمكن أن يكون الضرر النوعي ملاكاً بالنسبة إلى مقام الجعل لا المجعول ، وبعبارة اخرى : يكون داعياً لوضع القانون الكلّي لا عنواناً له.

إن قلت : لو كان المعيار هو الضرر الشخصي فلماذا استدلّ الأصحاب بقاعدة « لا ضرر » على خيار الغبن ، مع أنّ المعاملة الغبنية لا تكون ضررية دائماً بل قد تكون المصلحة في بيع المتاع ولو بأقلّ من ثمن المثل ، كما إذا كان في معرض الخرق والسرق ، أو كان المالك عاجزاً عن حفظه؟

قلنا : الملاك في كون المعاملة ضرريّة أو غير ضرريّة إنّما هو المعاملة من حيث هى معاملة ، ومعرّاة عن الحيثيات والعناوين الطارئة ، ولا يخفى أنّ عنوان الضرر والمعاملة الضررية صادق على المعاملة المذكورة من حيث هى معاملة ، وإن لم تكن ضررية بعد ملاحظة جميع الحيثيات الداخليّة والخارجيّة وبعد الكسر والإنكسار.

نعم ، الحكم بالفساد في خصوص هذه الواقعة لا يكون منّة على المكلّف ، لكن الإنصاف أنّ الامتنان إنّما هو بلحاظ الحكم الكلّي في هذه المقامات ، لا بملاحظة مصاديقه الشخصيّة ،

٢٦٤

ودوران الضرر مدار الأشخاص أمر ، ودوران الامتنان مدار النوع أمر آخر ، ولا منافاة بينهما ، فتدبّر جيّداً.

التنبيه السابع : هل المدار على الضرر الواقعي أو العلمي؟

قد يكون العمل ضررياً ولا يعلم به المكلّف ، فهل يحكم بفساده حينئذٍ على مختار الشيخ ومن تبعه من شمول القاعدة للعبادات وغيرها ، أو يكون العلم جزءً للموضوع فلا يبطل؟

فلو صام بتوهّم عدم كونه ضررياً ، ثمّ انكشف ضرره ، فعلى الأوّل ( كون الملاك الضرر الواقعي ) يبطل الصوم ويجب القضاء ، وبالعكس لو كان عالماً بالضرر وصام غفلة ثمّ انكشف عدم كونه ضررياً فلا يكون باطلاً إذا حصل منه قصد القربة.

واستدلّ على الأوّل : بأنّ الألفاظ تحمل على مصاديقها الواقعيّة ، أي أنّ الظاهر من العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام إنّما هى المصاديق الخارجية ، فالموضوع في قضيّة « الدم نجس » أو « الكرّ مطهّر » إنّما هو الدم الواقعي والكرّ الخارجي ، فليكن كذلك عنوان الضرر في ما نحن فيه.

ولكن حاصل كلام بعض الأعلام في مصباح الاصول أنّ مقتضى تسالم الفقهاء على صحّة الطهارة المائيّة مع جهل المكلّف بكونها ضرريّة هو الثاني ( كون العلم جزء الموضوع ) كما يقتضيه تقييد الفقهاء خيار الغبن والعيب بما إذا جهل المغبون ، وأمّا مع العلم بهما فلا يحكم بالخيار.

ودعوى أنّه مع العلم داخل في قاعدة الإقدام على نفسه ، مدفوعة بأنّ إقدامه على الضرر غير مؤثّر في لزوم البيع بعد كون الحكم الضرري منفياً في الشريعة ، وبعد كون اللزوم منفيّاً شرعاً لا أثر في إقدامه على الضرر.

ثمّ أجاب عن كلا النقيضين ، أمّا عن الأوّل فبأنّ دليل لا ضرر ورد في مقام الامتنان على الامّة الإسلاميّة ، فكلّ مورد يكون نفي الحكم فيه منافياً للامتنان لا يكون مشمولاً لدليل لا ضرر ، ومن المعلوم أنّ الحكم ببطلان الطهارة المائيّة الضرريّة الصادرة حال الجهل ، والأمر بالتيمّم وبإعادة العبادات الواقعيّة معها مخالف للامتنان ، ومجرّد كون الوضوء الضرري مثلاً

٢٦٥

الصادر حال الجهل غير مشمول لدليل لا ضرر ، لا يكفي في الحكم بصحّته ، بل إثبات صحّته يحتاج إلى دليل من عموم أو اطلاق يشمله.

( فوقع في تكلّف شديد لإثبات ذلك الدليل ، وذكر له وجهين فراجع ).

أمّا عن الثاني فبأنّ الدليل لثبوت خيار الغبن والعيب ليس قاعدة نفي الضرر ، بل الدليل على ثبوت خيار الغبن تخلّف الشرط الإرتكازي ، باعتبار أنّ بناء العقلاء على التحفّظ بالماليّة عند تبديل الصور الشخصيّة ، فهذا شرط ضمني إرتكازي ، وبتخلّفه يثبت خيار تخلّف الشرط ، وعليه فيكون الإقدام من المغبون مع علمه بالغبن إسقاطاً للشرط المذكور فلا إشكال فيه ، وأمّا خيار العيب فإن كان الدليل عليه هو تخلّف الشرط الضمني ، بتقريب أنّ المعاملات العقلائيّة مبنية على أصالة السلامة في العوضين ، فإذا ظهر العيب كان له خيار تخلّف الشرط فيجري فيه الكلام السابق في خيار الغبن ، وإن كان الدليل عليه الأخبار الخاصّة كما أنّ الأمر كذلك فالأمر أوضح ، لتقييد الخيار في الأخبار بصورة الجهل بالعيب (١).

أقول : لنا في المقام نكتتان :

الاولى : ( بالنسبة إلى النقض الأوّل وهو العبادات الضرريّة ) : إنّ الحقّ ( كما أفاده دام ظلّه ) عدم شمول قاعدة لا ضرر مثل الطهارة المائيّة الضرريّة الصادرة حال الجهل لأنّها وردت في مقام الامتنان ، ولكن يكفي لإثبات صحّة الوضوء الضرري إطلاقات أدلّة الوضوء بعد رفع المانع ، والعجب منه أنّه كيف لم يتعرّض لهذا المعنى ، ووقع لإثبات دليل على الصحّة في حيص وبيص ، مع أنّه إذا رفع المانع أمام الإطلاقات فهى تؤثّر أثرها وهو إثبات صحّة العمل المأتي به بقصد إمتثالها.

الثانية : ( بالنسبة إلى خيار الغبن ) : الصحيح أنّ الدليل لثبوت خيار الغبن إنّما هو قاعدة لا ضرر والإرتكاز المذكور في كلامه بعيد جدّاً ، خصوصاً بعد ملاحظة توسعة نطاقه عندهم بحيث يثبت حتّى إذا كان الغبن بمقدار خمس قيمة المثل ، فإذا إشترى ما كان قيمته ثمانية دراهم بعشرة مثلاً حكم بكونه مغبوناً عندهم فيثبت له خيار الغبن ، فمن البعيد جدّاً أخذ هذا المقدار بعنوان شرط ضمني ( نعم وجود هذا الشرط الضمني واضح في خيار العيب ، فإنّ الإنسان لا

__________________

(١) راجع مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٥٤٣ ـ ٥٤٥.

٢٦٦

يشتري شيئاً إلاّبشرط الصحّة ) فالحقّ حينئذٍ مع من إدّعى أنّه مع العلم داخل في قاعدة الإقدام على نفسه ، ومعه لا مجال لقاعدة لا ضرر لكونها قاعدة امتنانيّة ، ولا منّة على المشتري إذا أقدم بنفسه على نفسه بقصد مصلحة البائع أو أي غرض آخر.

فظهر أنّه كلّما كانت قاعدة الإقدام جارية في مورد فلا مجال لقاعدة لا ضرر ، لأنّ جريانها حينئذٍ خلاف الامتنان لأنّ المفروض أنّه أقدم على شيء لغرض يطلبه ، وحكم الشارع بمنعه عن وصوله إلى غرضه لا امتنان فيه.

التنبيه الثامن : في تعارض الضررين

وهو من أهمّ التنبيهات ، وله في الفقه مصاديق كثيرة ، والبحث عنه يقع في مقامين :

الأوّل : فيما إذا كان التعارض بالنسبة إلى شخص واحد نظير الوضوء الضرري ( بناءً على شمول القاعدة للعباديات ) إذا كان وجوده موجباً للاضرار بالبدن من أجل جراحة فيه ، وعدمه موجباً لتشديد الحمّى مثلاً.

الثاني : فيما إذا كان التعارض بالنسبة إلى شخصين نظير ما إذا أراد الإنسان أن يجعل داره مطبخة بقصد التكسّب بها ، فوجودها مضرّ بحال الآخرين ، وعدمه مضرّ بحال نفسه ، ونظير ما إذا دخلت دابّة في دار ، ولا يمكن إخراجها منها إلاّبهدم جدارها ، أو إذا أدخلت الدابّة رأسها في قدر مالك آخر من دون تفريط من المالكين ، ولم يمكن إخراج رأسه إلاّبكسر أحدهما ، ونظير ما هو المبتلى به في يومنا هذا من إحداث شرع جديد ، أو تغيير مسير بعض الطرق ، أو إحداث قنطرة ممّا يوجب الضرر لمالكي الدور والدكاكين حولها ، مع أنّ ترك الإحداث أيضاً يوجب الضرر لكثير من الناس ، ونظير ما سيأتي من مسألة الإكراه فيما إذا اكره ظالم مأموره بأن يضرب أحداً فامتثال أمره يوجب الاضرار بالغير وعدمه يوجب الاضرار بنفسه.

أمّا المقام الأوّل فهو على قسمين :

قسم يكون الضرران فيه متساويين فلا إشكال في عدم جريان القاعدة فيه ، أو أنّها تجري ثمّ تتساقط فتبقى عمومات الوضوء أو الغسل مثلاً بلا معارض ، ويلحق بهذا القسم ما

٢٦٧

إذا كان التفاوت بين الضررين أقلّ قليل بحيث تكون القاعدة منصرفة عنه عند العرف.

وقسم يكون أحد الضررين أقوى من الآخر بحيث يحكم العرف بعدم شمول القاعدة للأضعف بعد الكسر والانكسار ، فلا إشكال أيضاً في جريان القاعدة في خصوص الأقوى.

أمّا المقام الثاني فهو أيضاً على قسمين :

أولاً : يكون التعارض بين الضررين بالنسبة إلى مالكين ، كما في مثال إدخال الدابّة رأسها في قدر مالك آخر ، أو بالنسبة إلى غير المالك ، كما إذا كان تغيير مسير نهر عام موجباً للاضرار بقرية ، وعدم تغييره موجباً للاضرار بقرية اخرى ، ففي هذه الصورة أيضاً إمّا أن تجري القاعدة في الطرفين ثمّ تتساقط ، أو لا تجري رأساً من باب إنّ أدلّة القاعدة منصرفة عنها ، لأنّها حكم امتناني ولا امتنان فيها ، فلابدّ حينئذٍ من الرجوع إلى قاعدة عقلائية اخرى ، وهى قاعدة العدل والإنصاف ، أو قاعدة الجمع بين الحقّين ، فيتعيّن أحد الضررين بالقرعة ثمّ تقسّم الخسارة بين الطرفين ، نعم هذا إذا لم يكن أحدهما مقصّراً ، وإلاّ فعلى المقصّر تحمّل الخسارة كلّها.

هذا كلّه إذا كان الضرران متساويين ، وأمّا إذا كان أحدهما أقوى من الآخر فليس المرجع حينئذٍ القرعة ، بل لابدّ فيه من الأخذ بالأضعف وتعيين مقدار الخسارة فيه ، ثمّ تقسيمها بينهما ، كما إذا كان إخراج الدابّة عن الدار متوقّفاً على قلع باب الدار فحسب إذا كانت قيمة الدابّة أكثر من خسارة قلع الباب ونصبه ثانياً.

هذه هى الصورة الاولى ، والعجب كيف لم يتعرّض الفقهاء إلى لزوم تقسيم الخسارة فيها بين الطرفين.

ثانياً : يكون التعارض بين ضرر مالك وغير المالك ، والأمثلة المذكورة لهذه الصورة أكثرها خارجة عمّا نحن فيه ، كمثال جعل دار مطبخة أو مدبغة أو بيت حدّاد في سوق العطّارين ، فإنّها ليست مشمولة لقاعدة السلطنة عند العقلاء حتّى نحتاج إلى تضييقها بقاعدة لا ضرر ، لأنّ قاعدة السلطنة قاعدة عقلائيّة ، لها حدود وقيود ونطاق معلوم ، ومن تجاوز عنها عدّ متجاوزاً على حقوق الآخرين ، فليست القاعدة عندهم مطلقة من جميع النواحي ، ومن الواضح أنّ ما ورد في لسان الشرع بالنسبة إلى هذه القاعدة يكون إمضاء لما عند العقلاء بما لها من الحدود والقيود.

٢٦٨

وكيف كان : ففي هذه الصورة تارةً يوجب عدم تصرّف المالك ضرراً بنفسه أو فوت منفعة له ، كما إذا كان محلّ نصب المدفأة مثلاً في جنب جدار الجار ، ومتّصلاً بغرفة نومه ، بحيث يوجب الاضرار بالجار من جانب ، ولا يكون له مكان آخر للنصب من جانب آخر ، أو أراد أن يبني بناءً ذات طبقات عديدة بحيث يوجب عدمه الاضرار بالمالك ، لأنّ الاكتفاء بطبقة واحدة مع ارتفاع قيمة الأرض ( على الفرض ) يكون سبباً للضرر الكثير على مالكها ، بينما البناء المرتفع المتعدّد الطبقات يكون سبباً لضرر الجيران ، واخرى يكون تصرّف المالك تعمّداً للاضرار أو لغرض غير عقلائي.

ففي القسم الأوّل لا إشكال في عدم شمول القاعدة أو تساقطها ، فيبقى حينئذٍ قاعدة السلطنة بلا معارض ما دام لم يوجب إجراء هذه القاعدة التصرّف في ملك الغير ، وإلاّ فلا إشكال أيضاً في عدم جوازه ، كما في الحمّام الذي يوجب سراية النداوة إلى دار الغير أو تسويد داره بدخّانه.

وأمّا في القسم الثاني فتجري القاعدة بلا إشكال ، لأنّه هو مورد قضيّة سمرة وروايتي الجدار والبعير ، فلا يجوز للمالك التصدّي لهذه الامور اعتماداً على قاعدة السلطنة.

هذا آخر ما أردناه في بيان القاعدة وفروعاتها وتنبيهاتها ، وهناك تنبيهات اخرى ذكرناها في كتاب القواعد مستقلاً ، ولكن هنا أدغمناها في التنبيهات الاخر ، والحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

إلى هنا تمّ الكلام في شرائط جريان الاصول وما لحقت بها من قاعدة لا ضرر.

٢٦٩
٢٧٠

٤ ـ أصالة الاستصحاب

مقدّمة :

١ ـ تعريف الاستصحاب ٢ ـ هل الاستصحاب من المسائل الاصوليّة؟

٣ ـ أركان الاستصحاب ٤ ـ ثمرة فعليّة اليقين والشكّ

٥ ـ هل الاستصحاب من الاصول أو الأمارات؟

٦ ـ جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف من دليل العقل وعدمه

٧ ـ الفرق بين الاستصحاب وقاعدتي اليقين والمقتضي والمانع

الأقوال في حجّية الاستصحاب وبيان أدلّتها :

الأول : أدلّة القول بالحجّية مطلقاً :

بناء العقلاء الإستقراء في الأبواب المختلفة من الفقه

الإجماع الأخبار المستفيضة

الثاني : التفصيل بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة

الثالث : تفصيل الشيخ الأعظم بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع

تنبيهات الاستصحاب :

١ ـ الأحكام الوضعيّة وتفصيل الفاضل التوني رحمه‌الله

٢ ـ اعتبار فعلية اليقين والشكّ في الاستصحاب

٣ ـ جريان الاستصحاب فيما ثبت بالأمارة ٤ ـ أقسام استصحاب الكلّي :

الشبهة العبائية

٥ ـ استصحاب الامور التدريجية ٦ ـ الاستصحاب التعليقي

٧ ـ استصحاب أحكام الشرائع السابقة ٨ ـ الاصول المثبتة وعدم حجّيتها

٩ ـ بعض تطبيقات الاصول المثبتة

١٠ ـ عدم كون الاستصحاب مثبتاً بالنسبة إلى اللازم المطلق للمستصحب

١١ ـ لزوم كون المستصحب حكماً شرعياً أو ذا حكم شرعي ولو بقاءً

١٢ ـ استصحاب تأخّر الحادث ١٣ ـ استصحاب الكتابي

١٤ ـ استصحاب حكم المخصّص ١٥ ـ عموم الشكّ في الاستصحاب للظنّ والوهم

١٦ ـ اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب ١٧ ـ تقدّم الأمارات على الاستصحاب

١٨ ـ النسبة بين الاستصحاب وسائر الاصول ١٩ ـ تعارض الاستصحابين

٢٠ ـ النسبة بين الاستصحاب والقواعد الجارية في الشبهات الموضوعيّة

٢٧١
٢٧٢

٤ ـ اصالة الاستصحاب

ولابدّ قبل الورود في بيان حجّيته الأدلّة الدالّة عليها من تقديم امور :

الأمر الأوّل : تعريف الاستصحاب

وقد عرّف الاستصحاب في كلمات القوم بتعاريف عديدة :

ومنها : ما في زبدة الاصول للشيخ البهائي رحمه‌الله من أنّه : « إثبات الحكم في الزمان الثاني تأويلاً على ثبوته في الزمن الأوّل ».

وهو تعريف جيّد إلاّمن ناحية عدم الإشارة فيه إلى ركني الاستصحاب وهما : اليقين السابق والشكّ اللاحق ، ولذا يصدق هذا التعريف فيما إذا حصل لنا اليقين في الزمن اللاحق أيضاً ، مع أنّه خارج عن حقيقة الاستصحاب.

ومنها : ما اختاره الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في رسائله بعنوان أنّه تعريف أسدّ وأخصر ، وهو : أنّ الاستصحاب إبقاء ما كان.

ويرد عليه أيضاً : عدم الإشارة فيه إلى ركني الاستصحاب ، مضافاً إلى شموله الإبقاء التكويني لما كان ، بينما متعلّق الإبقاء في الاستصحاب إنّما هو الحكم الشرعي التعبّدي ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ طبيعة البحث قرينة على كونه ناظراً إلى التشريع.

ومنها : ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية ، وهو « الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شكّ في بقائه ».

وهذا ممّا لا بأس به إن اضيف إليه قيد آخر ، وهو عدم كون الحكم بالبقاء مستنداً إلى دليل خاصّ ، حيث إنّه لولاه لكان التعريف شاملاً لما إذا كان الإبقاء من جهة قيام دليل خاصّ عليه.

٢٧٣

ومنها : ما اختاره المحقّق النائيني رحمه‌الله وهو أنّ « الاستصحاب عبارة عن عدم إنتقاض يقين سابق المتعلّق بالحكم أو الموضوع من حيث الأثر ، والجري العملي بالشكّ في بقاء متعلّق اليقين » (١).

وهذا التعريف مضافاً إلى كونه تطويلاً بلا دليل لا يناسب مقام التعريف ، يرد عليه ما أوردناه على تعريف المحقّق الخراساني رحمه‌الله من شموله لما إذا كان عدم انتقاض اليقين السابق مستنداً إلى دليل خاصّ ، مضافاً إلى أنّ الصحيح أن يعبّر بعدم النقض لا عدم الانتقاض لأنّ الاستصحاب فعل من أفعال الفقيه.

فالحقّ والصحيح في تعريف الاستصحاب ما مرّ من تعريف المحقّق الخراساني رحمه‌الله بإضافة القيد المزبور ، أي « الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شكّ في بقائه من دون قيام دليل خاصّ عليه ».

الأمر الثاني : هل الاستصحاب من المسائل الاصوليّة أو غيرها؟

وقد حكم بعض بكونه من المسائل الاصوليّة بتّاً ويقيناً ، وفصّل بعض آخر بين الاستصحاب في الشبهات الحكميّة والاستصحاب في الشبهات الموضوعيّة ، فحكم بأنّه اصوليّة في الأوّل ، وقاعدة فقهيّة في الثاني.

والصحيح أنّه يختلف باختلاف مجاريه الثلاثة : فتارةً يكون المستصحب من الموضوعات ككرّية الماء وعدالة زيد ، فلا إشكال حينئذٍ في كونه من القواعد الفقهيّة لا من المسائل الاصوليّة ، لعدم كون النتيجة فيهما حكماً كليّاً كما لا يخفى ولا من المسائل الفرعيّة الفقهيّة التي أمرها بيد المقلّد ، لأنّ تشخيص موارد جريانها وموارد عدم جريانها لوجود معارض أو حاكم مثلاً إنّما هو بيد المجتهد.

إن قلت : الميزان في كون مسألة من القواعد الفقهيّة كونها حكماً كليّاً قابلاً للانطباق على مصاديق كثيرة ، وهو لا يتصوّر في الموضوعات.

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٣٠٧ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢٧٤

قلنا : إنّ قاعدة الاستصحاب الجاري في الموضوعات بما هى هى من دون ملاحظة الموضوعات بخصوصياتها حكم كلّي ينطبق على افراد كثيرة ، وهو عبارة عن الجري العملي على وفق الحالة السابقة.

واخرى : يكون المستصحب من الأحكام كاستصحاب طهارة العصير العنبي بعد الغليان ، فلا إشكال في أنّه من المسائل الاصوليّة ، لأنّه يقع كبرى لقياس يستنتج منه حكم فقهي كلّي.

وثالثة : يكون المستصحب من المسائل الاصوليّة كاستصحاب حجّية خبر الواحد فيما إذا شككنا في نسخها من جانب الشارع فهو حينئذٍ من مبادىء علم الاصول التصديقيّة ، وقد عرفنا سابقاً أنّه لابدّ من البحث عنها في علم الاصول إذا لم يبحث عنه أو لم يستوف حقّها في سائر العلوم.

الأمر الثالث : أركان الاستصحاب

المعروف أنّ للاستصحاب ركنين : اليقين السابق والشكّ اللاحق المتعلّق بمتعلّق اليقين ، ونفس هذا يدلّ على لزوم اتّحاد القضيّتين في الاستصحاب : القضية المتيقّنة والقضية المشكوكة موضوعاً ومحمولاً فتكون مثلاً قضية « إنّ هذا الماء كرّ » متعلّقة اليقين والشكّ معاً.

إن قلت : لو كان المعتبر في جريان الاستصحاب اتّحاد القضيتين كذلك ، لزم عدم جريانه في الشبهات الحكميّة ، حيث إنّه ما من شكّ متعلّق ببقاء حكم من الأحكام إلاّ أوهو ناشيء من تغيير في موضوع القضيّة المتيقّنة في الزمن اللاحق.

قلنا : أنّه كذلك لو كان المراد من الوحدة الوحدة العقليّة ، بينما المقصود منها الوحدة العرفيّة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

هذا ـ وللمحقّق النائيني رحمه‌الله في المقام كلام طويل (١) عدّ فيه للاستصحاب ثلاثة أركان :

١ ـ اجتماع اليقين والشكّ.

__________________

(١) راجع فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٣١٦ ـ ٣١٧ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢٧٥

٢ ـ سبق زمان المتيقّن على المشكوك.

٣ ـ فعلية اليقين والشكّ.

وهو ممّا لا بأس به إذا أراد منه مجرّد التفسير والتوضيح ، وإلاّ لا إشكال في رجوعها إلى الركنين السابقين ، أمّا الأوّل والثاني فواضح ، وأمّا الثالث فلأنّه كلّما نتكلّم عن وصف نريد منه ما هو موجود بالفعل ، فلو قلنا مثلاً إنّ المقلّد ( بالفتح ) لابدّ أن يكون مجتهداً فلا ريب في أنّ المراد منه المجتهد الفعلي ، لا من سيصير مجتهداً ، وهكذا سائر الأوصاف ، فإنّها ظاهرة في الفعليّة حتّى في الجوامد ، كالشجر والحجر فإنّ المراد منهما ما يكون شجراً أو حجراً بالفعل.

الأمر الرابع : ثمرة فعليّة اليقين والشكّ

قد ظهر ممّا سبق آنفاً أنّه لا يكفي في جريان الاستصحاب إلاّ اليقين والشكّ الفعليّان ، فلو تيقّن الإنسان بالحدث ثمّ شكّ في حصول الطهارة ثمّ غفل عن شكّه وصلّى ثمّ التفت إلى أنّه كان شاكّاً قبل الشروع في الصّلاة فلا إشكال في حجّية استصحاب الحدث ، وأنّه لا تصل النوبة إلى قاعدة الفراغ لأنّها خاصّة بالشكّ الحادث بعد العمل ، والمفروض أنّ الشكّ في الطهارة كان موجوداً قبل العمل ، وأمّا إذا تيقّن بالحدث ثمّ غفل وصلّى ثمّ التفت واحتمل حصول الطهارة قبل الصّلاة ولكن يعلم بأنّه لو كان ملتفتاً قبل الشروع في الصّلاة لحصل له الشكّ في الطهارة فحصول الشكّ له معلّق على خصوص الالتفات ومقدّر على تقديره فبناءً على ما مرّ في المقدّمة السابقة لا يجري استصحاب الحدث بل الجاري هو قاعدة الفراغ كما لا يخفى ، وهذا وأشباهه يكون ثمرة لمسألة فعلية اليقين والشكّ.

الأمر الخامس : هل الاستصحاب من الاصول أو الأمارات؟

وقد فصّل شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه‌الله فيه بين ما إذا كان الدليل عليه من الأخبار أو العقل ، وقال : إنّ عدّ الاستصحاب من الأحكام الظاهرية الثابتة للشيء بوصف كونه مشكوك الحكم نظير أصل البراءة وقاعدة الاشتغال مبنى على استفادته من الأخبار ، وأمّا بناءً على

٢٧٦

كونه من أحكام العقل يعني به ما استقرّ عليه بناء العقلاء فهو دليل ظنّي اجتهادي نظير القياس والاستقراء على القول بهما ، وحيث إنّ المختار عندنا هو الأوّل ذكرناه في الاصول العمليّة المقرّرة للموضوعات بوصف كونها مشكوكة الحكم ، لكن ظاهر كلمات الأكثر كالشيخ والسيّدين والفاضلين والشهيدين وصاحب المعالم كونه حكماً عقليّاً ، ولذا لم يتمسّك أحد هؤلاء فيه بخبر الأخبار ( انتهى ).

فيظهر من صريح كلامه أنّ الاستصحاب عنده من الاصول إن كان الدليل عليه هو الأخبار ، ومن الأمارات إن كان الدليل عليه هو العقل ، وإنّ مختاره هو الأوّل ، لكن لابدّ قبل تعيين ما هو الصحيح في المسألة من بيان الفرق بين الأمارة والأصل العملي.

فنقول : المعروف فيه أنّ الأصل ما أخذ في موضوعه الشكّ ، وأنّ الأمارة ما يكون طريقاً إلى الواقع من دون أخذ الشكّ في موضوعه.

وذكر بعض أنّ الأصل ما يكون الشكّ مأخوذاً في موضوعه ، وأنّ الأمارة ما يكون الشكّ مأخوذاً في مورده.

والحقّ هو أنّ الشكّ مأخوذ في موضوع كلّ من الأصل والأمارة من دون فرق بين الموضوع والمورد ، والشاهد عليه قوله تعالى : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ ) ، الوارد في حجّية الرجوع إلى أهل الخبرة ، حيث إنّ « لا تعلمون » يساوق معنى الشكّ ، ولا كلام في أنّ الرجوع إلى أهل الخبرة من الأمارات ، بل لا معنى لنفي الشكّ عن موضوع الأمارات فإنّها على كلّ حال واردة في ظرف الشكّ ومقيّدة به ، سواء ورد التصريح به في العبارة أو لم يرد ، والفرق بين المورد والموضوع لا معنى محصّل له.

بل الصحيح في الفرق بينهما أنّ الأمارة ما تكشف عن الواقع في الجملة ، ولأجل ذلك جعلت لها الحجّية عند الشرع أو العقلاء من أهل العرف فصار كشفها الناقص بمنزلة الكشف التامّ ، وأمّا الأصل فليس له كشف عن الواقع بل هو حكم جعل لمجرّد رفع الحيرة والترديد في مقام العمل ، سواء كان الدليل عليه العقل أو النقل.

وإن شئت قلت : إنّ هنا موضوعاً وحكماً وعلّة للحكم ، فالموضوع في كلٍّ من الأمارات والاصول هو الشكّ بالمعنى الأعمّ من الظنّ ، كما أنّ الحكم في كليهما هو الحجّية ، ولكن العلّة في الأمارات هى الكاشفيّة عن الواقع في الجملة ، بينما العلّة في الاصول هى مجرّد رفع الحيرة في

٢٧٧

مقام العمل ، فالفرق بينهما إنّما هو في مقام علّة الحجّية فحسب.

إذا عرفت هذا فنقول : الظاهر أنّ التفصيل المزبور من الشيخ الأعظم رحمه‌الله في غيره محلّه لأنّ للعقلاء أيضاً اصولاً وأمارات فإنّهم يجرّون البراءة مثلاً في الأحكام الجارية بين الموالي وعبيدهم وبين الحكّام ورعاياهم والرؤساء والمرؤوسين ، وفي الموضوعات في الجرائم والمسائل الحقوقيّة ، مع أنّه لا نزاع في أنّ البراءة من الاصول العمليّة ، فمجرّد كون الدليل بناء العقلاء لا يكون دليلاً على الأمارية بل يوافق كون المورد أصلاً أو أمارة ، فلابدّ إذن من ملاحظة كيفية بناء العقلاء وخصوصيته حتّى يتبيّن أنّ نظرهم هل هو إلى جهة الكشف حتّى يكون المورد أمارة ، أو إلى مجرّد رفع الحيرة حتّى يكون المورد من الاصول؟ وسيأتي بيان هذا بالنسبة إلى الاستصحاب فانتظر.

بقي هنا شيء :

وهو أنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله فرّق في الاصول العمليّة بين المحرزة منها وغير المحرزة وقال : ليس معنى الأصل المحرز كونه طريقاً إلى المؤدّي ، بل معناه هو البناء العملي على أحد طرفي الشكّ على أنّه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر ، فالمجعول في الأصل المحرز هو الجهة الثالثة من العلم الطريقي ، وهى الحركة والجري العملي نحو المعلوم ، فالإحراز في باب الاصول المحرزة غير الإحراز في باب الأمارات ، فإنّ الإحراز في باب الأمارات هى إحراز الواقع مع قطع النظر عن مقام العمل ، وأمّا الإحراز في باب الاصول المحرزة فهو الإحراز العملي في مقام تطبيق العمل على المؤدّي ، فالفرق بين الإحرازين ممّا لا يكاد يخفى. وأمّا الاصول غير المحرزة فالمجعول فيها مجرّد التطبيق العملي على أحد طرفي الشكّ من دون البناء على أنّه هو الواقع ، فهو لا يقتضي أزيد من تنجيز الواقع عند المصادفة والمعذورية عند المخالفة ، وهو الذي كان يقتضيه العلم من الجهة الرابعة. ( انتهى ) (١).

أقول : هذا التقسيم ممّا لا محصّل له ، لأنّ حجّية الاستصحاب إمّا أن تكون ناشئة عن كشفه للواقع أو لا ، فعلى الأوّل يكون أمارة لا أصلاً ، وعلى الثاني يكون أصلاً لا أمارة ، وليس

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٤٨٦ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢٧٨

هنا شقّ ثالث ، وما قد يقال من « أنّ الاستصحاب عرش الاصول وفرش الأمارات » كلام شعري.

وأمّا ما أفاده رحمه‌الله من أنّ الإحراز في باب الاصول المحرزة غير الإحراز في باب الأمارات إلى آخر ما ذكره فهو أيضاً ممّا لا يرجع إلى محصّل ، فإنّ الإحراز العملي تعبير يوهم التناقض فإنّ الإحراز لا يكون في مقام العمل ، وإنّما الإحراز في مقام العلم والظنّ ، والموجود في مقام العمل ليس إلاّ البناء على أحد الطرفين ، فحينئذٍ لا فرق بين الاستصحاب وغيره من الاصول بناءً على عدم كشفه عن الواقع.

وأمّا قاعدة الفراغ والتجاوز فسيأتي إن شاء الله تعالى من الأمارات وإن كانت متأخّرة عن أمارات اخر ، كما أنّ البيّنة مقدّمة على اليد وإن كانت كلتاهما من الأمارات.

وما قد يقال من أنّ لازم ذلك كون مثبتات قاعدة الفراغ حجّة مع أنّ ظاهرهم عدم الالتزام به مدفوع بأنّ حجّية مثبتات الأمارات مقيّدة بقيود خاصّة ستأتي الإشارة إليها إن شاء الله عن قريب.

الأمر السادس : جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف من دليل العقل وعدمه

فلو كشفنا حرمة المخدّرات مثلاً من حكم العقل ، أي بقانون الملازمة فهل يصحّ استصحابه فيما إذا شككنا في بقائها في الزمان اللاحق ، أو لا؟

ذهب شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه‌الله إلى عدمه ، من باب أنّ الأحكام العقليّة كلّها مبيّنة مفصّلة من حيث مناط الحكم ، فلا يشكّ العقل حينئذٍ في حكم نفسه ، فلابدّ وأن يرجع الشكّ في بقاء المستصحب وعدمه إلى الشكّ في موضوع الحكم ، والموضوع لابدّ أن يكون محرزاً معلوم البقاء في الاستصحاب.

وبعبارة اخرى : أنّ الحكم العقلي موضوعه معلوم تفصيلاً للعقل الحاكم به فإن أدرك العقل بقاء الموضوع في الآن الثاني حكم به حكماً قطعيّاً كما حكم أوّلاً ، وإن أدرك ارتفاعه قطع بارتفاع ذلك الحكم ، فلا يعقل تطرّق الاهمال إلى موضوعه.

٢٧٩

وعليه فإذا تخلّف قيد من قيود الموضوع وحالة من حالاته فإن كان دخيلاً في الموضوع بنظر العقل فالحكم العقلي غير باقٍ قطعاً ، وهكذا الحكم الشرعي المستند إليه ، وإن لم يكن دخيلاً فيه فالحكم العقلي باقٍ كذلك ، فإذا حكم العقل مثلاً بحرمة السمّ المضرّ ، وإنتفى الإضرار من السمّ فإن كان الاضرار دخيلاً بنظره في الموضوع فلا حرمة يقيناً ، وإن لم يكن دخيلاً فالحرمة باقية يقيناً ، وعليه فلا استصحاب على شيء من التقديرين بلا شبهة ، ( انتهى ملخّص كلماته في هذا المقام ) (١).

ولكن المحقّق الخراساني رحمه‌الله أورد عليه بأنّ تطرّق الإهمال إلى موضوع حكم العقل ممّا يعقل في الجملة ، بمعنى أنّه يمكن أن يستقلّ العقل بحكم خاصّ على موضوع مخصوص مع وجود حالة مخصوصة فيه ، لكن من غير أن يدرك دخلها في المناط على نحو إذا انتفت الحالة أدرك فقد المناط فيه بل يدرك فقط تحقّق المناط مع وجود الحالة فيستقلّ بالحكم ، ولا يدرك تحقّق المناط مع انتفاء الحالة فلا يستقلّ بالحكم ولا بانتفائه ، وعليه فلا مانع حينئذٍ عن استصحاب الحكم الشرعي المستكشف بحكم العقل بعد انتفاء الحالة المخصوصة ، وذلك لليقين السابق كما هو المفروض ، والشكّ اللاحق نظراً إلى احتمال عدم دخل الحالة في المناط أصلاً ، ولبقاء الموضوع عرفاً إذا فرض عدم كون الحالة من مقوّمات الموضوع ، بل من حالاته المتبادلة.

وبعبارة اخرى : أنّه لا مانع من عدم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع بقاءً مع وجود الملازمة بينهما حدوثاً ، وذلك لأنّه قد يكون الموضوع في الواقع وفي نظر الشارع أوسع من الموضوع في نظر العقل ، أو يكون هناك ملاكان مختلفان للحكم زال أحدهما المعلوم عند العقل وبقي الآخر المجهول عنده ، والمعلوم عند الشارع العالم بالخفيّات ، فيحتمل بقاء الحكم بعد زوال حكم العقل ، فيستصحب مع بقاء الموضوع في نظر العرف ( انتهى ).

أقول : الإنصاف أنّ الحقّ في المسألة مع الشيخ الأعظم رحمه‌الله لأنّه وإن كان ركنا الاستصحاب ( وهو اليقين السابق والشكّ اللاحق ) موجودين في ما نحن فيه ، لكن الكلام في وحدة الموضوع المعتبرة في الاستصحاب ، وهى منتفية في المقام ، وذلك لأنّ الأحكام المتعلّقة

__________________

(١) راجع فرائد الاصول : مبحث الاستصحاب ، التنبيه الثالث ، وذيل البحث عن تقسيم الاستصحاب باعتبار الدليل الدالّ على المستصحب.

٢٨٠