أنوار الأصول - ج ٣

أنوار الأصول - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-15-6
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٢٤

الحديث النهي عن اضرار الناس بعضهم ببعض ، نظير قوله تعالى : ( فلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ ) الذي ينهى عن الرفث والفسوق والجدال في الحجّ ، وقول السامري : ( لَامِسَاسَ ) أي « لا تمسّني » ونتيجة هذا القول أيضاً سقوط القاعدة عن حكومتها على سائر الأحكام وتنزّلها إلى مجرّد نهي تكليفي عن اضرار الناس بعضهم ببعض ، كما أنّ قوله تعالى : ( وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) ينهى عن الغيبة فحسب ، فيخرج حينئذٍ عن نطاق القواعد الفقهيّة إلى حكم فرعي خاصّ.

وأمّا القول الخامس ، ( وهو ما ذهب إليه في تهذيب الاصول ) فهو أن تكون « لا » ناهية أيضاً لكن بأن يكون النهي نهياً سلطانياً صدر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما هو سائس الملّة وسلطانها ، وقال في توضيح مرامه ما حاصله (١) : أنّ للنبي الأكرم مقامات ثلاثة : الأوّل : مقام الإفتاء وبيان الأحكام الشرعيّة ، الثاني : منصب القضاء وفصل الخصومة ، الثالث : مقام السلطنة الإلهيّة ( وما يسمّى اليوم بولاية الفقيه ، وهو مقام إجراء (٢) الأحكام الإلهيّة التي ترتبط بالحكومة ، والأحكام الحكوميّة السلطانيّة ) وقاعدة لا ضرر داخلة في القسم الثالث فهى مجرّد حكم سلطاني صدر من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في قضيّة سمرة تحديداً لقاعدة السلطنة عن الأموال (٣).

__________________

(١) راجع تهذيب الاصول : ج ٣ ، ص ١١٢.

(٢) كما صرّح به في كتاب البيع ( ج ٢ ، ص ٤٦١ ) وإليك نصّ كلامه بالحرف : « فالإسلام أسّس حكومة لا على نهج الاستبداد المحكّم فيه رأي الفرد ... بل حكومة تستوحي وتستمدّ في جميع مجالاتها من القانون الإلهي ، وليس لأحد من الولاة الاستبداد برأيه ، بل جميع ما يجري في الحكومة وشؤونها ولوازمها لابدّ وأن يكون على طبق القانون الإلهي حتّى الإطاعة لولاة الأمر ، نعم للوالي أن يعمل في الموضوعات على طبق الصلاح للمسلمين ... ونفس بقاء تلك الأحكام ( الأحكام المتعلّقة بالماليات أو السياسيات أو الحقوق ) يقضي بضرورة حكومة وولاية تضمن حفظ سيادة القانون الإلهي وتتكفّل لإجرائه ، ولا يمكن إجراء أحكام الله إلاّبها ، لئلاّ يلزم الهرج والمرج ، مع أنّ حفظ النظام من الواجبات الأكيدة واختلال امور المسلمين من الامور المبغوضة ، ولا يقوم ذا ولا يسدّ عن هذا إلاّبوالٍ وحكومة. مضافاً إلى أنّ حفظ ثغور المسلمين عن التهاجم وبلادهم عن غلبة المعتدين واجب عقلاً وشرعاً ، ولا يمكن ذلك إلاّبتشكيل الحكومة ، وكلّ ذلك من أوضح ما يحتاج إليه المسلمون ... » فتلاحظ أنّ وظيفة الفقيه الحاكم إجراء الأحكام الإلهيّة ( التي منها حفظ النظام وحفظ ثغور المسلمين ) وتشخيص موضوعات الأحكام وتعيين حدودها ، فتدبّر جيّداً ، واطلب تفصيل الكلام من محلّه وهو دراساتنا في البيع ( كتاب أنوار الفقاهة ، ج ١ ).

(٣) راجع تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٤٨١ ـ ٤٨٢ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢٤١

ولا يخفى أنّ نتيجة هذا القول حكومة قاعدة لا ضرر على قاعدة السلطنة فقط كما صرّح به.

أقول : يستدعي التحقيق في المسألة وبيان المختار فيها ونقد الأقوال المزبورة البحث في أمرين آخرين :

أحدهما : في كون كلمة « لا » الواردة في الحديث ناهية أو نافية؟

ثانيهما : في فاعل الضرر وأنّه هل هو الناس أو الله سبحانه؟

أمّا الأمر الأوّل فإستدلّ شيخ الشريعة رحمه‌الله لكون « لا » ناهية بامور :

الأوّل : الإطّراد وشيوع هذا المعنى في هذا التركيب ، أعني تركيب « لا » ( التي وضعت لنفي الجنس أصالة ) في الاستعمالات العرفيّة.

الثاني : كلمات أئمّة اللغة ومهرة أهل اللسان فادّعى أنّهم متّفقون على إرادة النهي في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « لا ضرر ولا ضرار » فنقل في هذا المجال عبارات جماعة منهم.

الثالث : موارد استعمال مثل هذا التركيب في الكتاب والسنّة ، نظير قوله تعالى : ( فلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) وقوله تعالى : ( فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَامِسَاسَ ) أي لا يمسّ بعض بعضاً فصار السامري يهيم في البرية مع الوحش والسباع ، لا يمسّ أحداً ولا يمسّه أحد ، عاقبه الله تعالى بذلك ، وكان إذا لقى أحداً يقول : لا مساس ، أي لا تقربني ولا تمسّني ، وفي السنّة نظير قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام » وقوله : « لا جلب ولا جنب ولا إعتراض » وقوله : « لا إخصاء في الإسلام » وقوله : « لا غشّ بين المسلمين » وقوله : « لا هجر بين المسلمين فوق ثلاثة أيّام » ثمّ قال : « ولو ذهبنا لنستقصي ما وقع من نظائرها في الروايات واستعمالات الفصحاء نظماً ونثراً لطال المقال وأدّى الملال » ثمّ أيّد قوله بما جاء في قضيّة سمرة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّك رجل مضارّ » قبل قوله « لا ضرر ولا ضرار على مؤمن » حيث إنّهما بمنزلة صغرى وكبرى ، ويصير معناه : إنّك رجل مضارّ والمضارّة حرام ( أي منهية ) وهو المناسب لتلك الصغرى ، لكن لو اريد غيره ممّا يقولون صار معناه : إنّك رجل مضارّ والحكم الموجب للضرر منفي أو الحكم المجعول منفي في صورة الضرر ، ولا أظنّ بالأذهان المستقيمة ارتضائه ».

٢٤٢

ثمّ رفع يده عمّا يستظهر من كلامه إلى هنا ( وهو كون « لا » ناهية ) في ذيل كلامه ، وقال : « وليعلم أنّ المدّعي أنّ حديث الضرر يراد به إفادة النهي عنه سواء كان هذا باستعمال التركيب في النهي ابتداءً أو أنّه استعمل في معناه الحقيقي ، وهو النفي ولكن لينتقل منه إلى إرادة النهي ... وربّما كانت دعوى الاستعمال في معنى النفي مقدّمة للانتقال إلى طلب الترك أدخل في إثبات المدّعى ، حيث لا يتّجه حينئذٍ ما يستشكل في المعنى الأوّل من أنّه تجوّز لا يصار إليه » ( انتهى ).

وقد ناقش في كلامه في تهذيب الاصول بأنّ « اطلاق النفي وإرادة النهي وإن كان شائعاً كما استشهد من الشواهد إلاّ أنّه ليس بمثابة يكون من المجازات الراجحة عند تعذّر الحقيقة لأنّ استعماله في غيره أشيع منه ، وإليك ما يلي من الروايات والكلمات ممّا ورد على حذو هذا التركيب وقد اريد منه النفي بلا إشكال : لا طلاق إلاّعلى طهر ، لا طلاق إلاّبخمس : شهادة شاهدين ... الخ ، لا طلاق فيما لا تملك ، ولا عتق فيما لا تملك ، ولا بيع فيما لا تملك ... ( إلى آخر ما أورده من الروايات والكلمات ) » (١).

أقول : لقائل أن يقول : إنّ هذه الموارد على خلاف المطلوب أدلّ فإنّها أيضاً مستعملة في النفي إلاّ أنّ النهي فيها إرشاد إلى أحكام وضعية كالبطلان ، نعم أنّها ترد على المحقّق شيخ الشريعة رحمه‌الله لو كانت مدّعاه أنّ « لا » في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا ضرر ولا ضرار » ظاهرة في النهي التكليفي فقط ، فينقض كلامه حينئذٍ بالموارد المذكورة ، حيث إنّه لا إشكال في أنّ « لا » فيها استعملت في الحكم الوضعي.

ثمّ قال في التهذيب بعد ذكر هذه الموارد : « نعم لو دار الأمر بين ما ذكره القوم ، فما اختاره أرجح ، لخلوّه عن كثير ممّا ذكرناه من الإشكال » (٢).

أقول : وفي كلام شيخ الشريعة رحمه‌الله أمران : أحدهما : تامّ والآخر : غير تامّ.

أمّا الأمر الذي ليس بتامّ فهو ما ادّعاه أوّلاً بأنّ « لا » في التراكيب المذكورة في كلامه اريد منها النهي لأنّ « لا » في جميعها حتّى في قوله تعالى : ( فلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) وقوله تعالى : ( لا مساس ) مستعملة في معنى النفي كما يشهد عليه التبادر العرفي ، فليس معنى قوله : ( لَارَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا في الحجّ ، بل

__________________

(١) راجع تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٤٨٠ ـ ٤٨١ ، طبع جماعة المدرّسين.

(٢) المصدر السابق : ص ٤٨١.

٢٤٣

مفادها نفي وجود هذه الامور ، ويشهد عليه أيضاً جواز تبديل « لا » في تمام هذه التراكيب بـ « ليس » التي لا إشكال في أنّها لخصوص النفي ، فيقال بدل قوله : ( فلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) « ليس في الحجّ رفث ولا فسوق ولا جدال ».

هذا ، مضافاً إلى أنّه لا يمكن إرادة النهي في بعض هذه التراكيب بوجه من الوجوه ، فلا يصحّ أن يقال : ( مثلاً ) أنّ معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا اخصاء في الإسلام » « لا تخصوا في الإسلام » لعدم إمكان أن يكون الإسلام ظرفاً للاخصاء.

نعم لازمه النهي عنها ، فيكون النفي في هذه التراكيب كناية عن النهي ، وهذا هو الأمر الثاني الذي التفت إليه أخيراً ، وإلى هذا يرجع ما استدلّ به من كلمات أرباب اللغة فإنّهم فسّروها بلازم المعنى كما هو دأبهم في سائر المقامات.

هذا كلّه هو الأمر الأوّل ، وقد ظهر منه أنّ كلمة « لا » في الحديث نافية.

وأمّا الأمر الثاني : وهو أنّ فاعل الضرر في هذا الحديث هل هو الناس بعضهم ببعض ، أو الله سبحانه وتعالى؟ ( بل العمدة في فهم معنى الحديث هو توضيح هذا المعنى لا كون « لا » نافية أو ناهية كما ستعرف إن شاء الله ) فنقول : إن كان الفاعل هو الله سبحانه ، فمعنى الحديث أنّ الله تعالى لا يجعل حكماً ضررياً ، وضعيّاً كان أو تكليفيّاً ، وإن كان الفاعل هو الناس فمعناه أنّ الله تبارك وتعالى لا يجيز الناس أن يضرّ بعضهم ببعض ، ولنا شواهد عديدة على الثاني :

منها : أنّه لا إشكال في أنّ فاعل « ضرار » هو الناس بناءً على وجود الفرق بينه وبين معنى الضرر كما هو مقتضى ما مرّ من الشواهد الروائيّة والكتابيّة واللغويّة ، وحينئذٍ وحدة السياق تقتضي أن يكون فاعل الضرر أيضاً هو الناس.

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في قضيّة سمرة « ما أراك إلاّمضارّاً » فإذا كان الفاعل في الصغرى هو المكلّف نفسه فليكن في الكبرى أيضاً كذلك.

ومنها : التراكيب المشابهة الواردة في الكتاب والسنّة ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا غشّ بين المسلمين » وقوله : « لا هجر بين المسلمين » وقوله تعالى : ( فلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا سبق إلاّفي ثلاث » وقوله : « لا اخصاء في الإسلام ، وقوله : « لا بيع إلاّفي ملك » و « لا يمين في معصية الله » و « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق » و « لا طلاق إلاّفي طوع » وغيرها من التراكيب التي لا إشكال في أنّ الفاعل فيها هو المكلّفون.

٢٤٤

ومنها : ما مرّ سابقاً من قوّة احتمال ورود هذه الفقرة ذيل رواية الشفعة التي لا تناسب النهي أصلاً لأنّها جعلت كبرى كلّية للحكم الوضعي المذكور في صدر الرواية فيكون ظاهرها كون الفاعل هو المكلّفين.

ومنها : ورود قيد « في الإسلام » في بعض الطرق بعد قوله : « لا ضرر ولا ضرار » لأنّها تصير حينئذٍ نظير قول الرجل لخادمه : « ليس في بيتي الكذب والخيانة » لِيُعلِمه بأبلغ البيان أنّ هذه الامور ممّا لا ينبغي له ارتكابه في بيته أبداً ، ومن ارتكبها كان خارجاً عن أهل البيت ، ولا يخفى أنّ الفاعل حينئذٍ هو الخادم ، وفي ما نحن فيه هو المكلّف.

فظهر أنّ الفاعل للضرر هو الناس بعضهم ببعض لا الله سبحانه.

المختار في معنى الحديث

لا إشكال في أنّه إذا ضممنا نتيجة الأمر الأوّل ( وهى كون « لا » نافية ) إلى نتيجة الأمر الثاني ( وهى كون الفاعل هو الناس ) صار معنى الحديث هكذا : ليس في الخارج ( أو في الإسلام بناءً على بعض الطرق ) اضرار المكلّفين بعضهم ببعض ، أي لا يمضيه الله تبارك وتعالى ولا يجيزه ، فيكون نهياً بلسان في النفي ، أي النفي كناية عن النهي وعن عدم الإمضاء ، وهذا ممّا نعرفه بالرجوع إلى إرتكازاتنا العرفيّة العقلائيّة وممّا نعهده بين التراكيب المتداولة في اللغة العربيّة وفي غيرها من الألسنة ، نظير ما مرّ آنفاً من قول الرجل لخادمه : « ليس في بيتي الكذب والخيانة » كنايةً عن أنّ مثل هذه الامور ممّا لا ينبغي له ارتكابه في بيته أبداً ، ونظير ما تداول في يومنا هذا من قولك : « ليس في مكتبنا أو في قاموسنا كذا وكذا ».

والنتيجة حينئذٍ شمول هذه القاعدة أوّلاً للأحكام التكليفيّة والوضعيّة معاً ، وثانياً حكومتها على سائر الأدلّة كما هو كذلك في بعض الأقوال الاخر ، وإن كان الفرق بينه وبينها عدم شمول هذا القول للأحكام الضررية في العبادات كالوضوء الضرري والحجّ الضرري والصوم الضرري وفي التوصّليات كتطهير المسجد إذا كان التطهير منشأً للضرر ، بالجملة عدم شموله لتمام الموارد التي ليس الضرر فيها من ناحية أحكام الشرع ، وبهذا يظهر أنّه يمكن أن يعدّ هذا قولاً سادساً في معنى القاعدة.

٢٤٥

إن قلت : فكيف أفتى الفقهاء بعدم صحّة العبادات الضرريّة مثل الصوم والوضوء الضرريّين؟

قلنا : إنّ قدماء الأصحاب بل وكثير من متأخّريهم إستندوا فيها بقاعدة لا حرج ، ولم يستندوا إلى قاعدة لا ضرر ، مع استدلالهم بها في أبواب المعاملات مثل خيار الغبن وغيره ممّا يرجع إلى اضرار الناس بعضهم ببعض ، فهذا هو شيخ الطائفة في كتاب الطهارة من الخلاف (١) ، والمحقّق رحمه‌الله في المعتبر (٢) والعلاّمة رحمه‌الله في التذكرة وصاحب المدارك في المدارك كلّهم استندوا في مسألة الوضوء الضرري بقوله تعالى : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ولم نر استنادهم إلى قاعدة لا ضرر في هذه المسألة وفي غيرها من أبواب العبادات الضرريّة وغيرها من التكاليف التي تكون من حقوق الله ، ولا ترجع إلى معاملة الناس بعضهم ببعض ، وكذلك غيرهم من الفقهاء الأعلام رضوان الله عليهم فيما حضرنا من كلماتهم ، ( وأظن أنّ الاستناد بهذه القاعدة في هذه الأبواب نشأ بين المتأخّرين أو متأخّري المتأخّرين من الأصحاب ) وهذا بنفسه من المؤيّدات على مقالتنا ، وذلك لصرافة أذهانهم واستقامة أنظارهم في فهم المفاهيم العرفيّة من الكتاب والسنّة.

هذا ولو تنزّلنا وحكمنا بإجمال القاعدة من هذه الجهة فلابدّ أيضاً من الأخذ بالقدر المتيقّن وهو جريانها في أبواب المعاملات وفيما ترجع إلى اضرار الناس بعضهم ببعض فقط ، فتبقى الإطلاقات الواردة في غيرها سليمة عن المعارض والحاكم.

هذا كلّه هو بيان المختار في معنى الحديث.

نقد سائر الأقوال :

أمّا الأوّل والثاني : وهما أنّ القاعدة نافية للأحكام الضرريّة إمّا مجازاً بلسان نفي الحكم

__________________

(١) المسألة ١١٠ : الجبار والجراح والدماميل وغير ذلك إذا أمكن نزع ما عليها وغسل الموضع وجب ذلك ، فإن لم يتمكّن من ذلك بأن يخاف التلف أو الزيادة في العلّة ، مسح عليها وتمّم وضوئه وصلّى ، ولا إعادة عليه ... دليلنا قوله تعالى : « وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ».

(٢) راجع ما ذكرنا من عباراتهم في كتابنا القواعد الفقهيّة : ج ١ ، ص ٦٤.

٢٤٦

كما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمه‌الله أو كناية بلسان نفي الموضوع كما اختاره المحقّق الخراساني رحمه‌الله ) فأورد عليهما :

أوّلاً : أنّ المجاز أو الكناية مخالف للظاهر.

وقد أجاب الشيخ رحمه‌الله عن هذا بأنّه لا مخلص من الالتزام به بعد تعذّر الحمل على الحقيقة ( لعدم إمكان انكار وجود الضرر في الخارج ، نظير النسيان في حديث الرفع ) ولزوم الرجوع إلى أقرب المجازات ، بل حاول المحقّق النائيني رحمه‌الله إثبات أنّ مقالة الشيخ لا يلزم منها المجاز لأنّ النفي في المقام وأشباهه من حديث الرفع وقوله عليه‌السلام : « لا صلاة إلاّبطهور » وغيرهما محمول على معناه الحقيقي بالنظر إلى عالم التشريع.

وحاصل ما أفاده في توضيح ذلك : إنّ الأحكام التكليفيّة وكذا الوضعيّة أمرها بيد الشارع إن شاء رفعها وإن شاء وضعها ، فالنفي إذا تعلّق بحكم شرعي كان نفياً حقيقيّاً لارتفاعه واقعاً في عالم التشريع ، هذا بالنسبة إلى النفي ، وأمّا اطلاق الضرر على الأحكام المستلزمة له فهو أيضاً حقيقي ، لأنّ اطلاق المسبّبات التوليديّة كالإحراق على إيجاد أسبابها شائع ذائع ، فمن ألقى شيئاً في النار يقال : إنّه أحرقه ، قولاً حقيقيّاً ، وحينئذٍ نقول : كما أنّ الشارع إذا حكم بحكم شرعي وضعي أو تكليفي يوجب الضرر على المكلّفين يصدق أنّه أضرّ بهم وليس هذا اطلاقاً مجازياً ، فكذا إذا نفاه يصدق عليه أنّه نفى الضرر عنه ، نعم لو كانت الأحكام الشرعيّة من قبيل المعدّات للضرر لا من قبيل الأسباب ، أو كان من قبيل الأسباب غير التوليديّة كان إسناد الضرر إلى من أوجدها إسناداً مجازياً ، ولكن الأحكام الشرعيّة ليست كذلك بل حكم الشارع بالنسبة إلى محيط التشريع كالسبب التوليدي لا غير ، أمّا في الأحكام الوضعيّة فواضح ، وأمّا في الأحكام التكليفيّة فإسناد الاضرار فيها إلى الشارع إنّما هو بملاحظة داعي المكلّف وإرادته المنبعثة عن حكم الشارع ، ففي الحقيقة الحكم التكليفي سبب لإنبعاث إرادة المكلّف وهى سبب للفعل ، فهو أيضاً من سنخ الأسباب التوليدية (١). ( انتهى ).

وربّما يرد عليه : بأنّ الأحكام الإلهيّة ليست عللاً توليديّة لأفعال المكلّفين ، وذلك لتخلّل إرادة المكلّف بينهما ، والإرادة مستندة إلى الاختيار ومعلولة له ، وأمّا الأحكام فهى من قبيل

__________________

(١) راجع رسالة المحقّق النائيني رحمه‌الله في لا ضرر ( المطبوعة في منية الطالب : ج ٢ ، ص ٢٠١ ـ ٢٠٨ ).

٢٤٧

المعدّدات والدواعي المؤكّدة لاختيار أحد الطرفين لا غير ، ولذلك في باب القتل لو ألقى شخص إنساناً في البحر وأغرقه عدّ سبباً للقتل ، وكذا إذا فتح باب القفس وطار الطائر منه ، وأمّا لو أطمع إنساناً عاقلاً مختاراً وأغراه إلى قتل إنسان آخر فلا يستند القتل حينئذٍ إلى المغري وإن كان يجازى في الشرع المقدّس بأشدّ المجازات لتخلّل إرادة إنسان عاقل مختار فيه ، وهذا هو المراد ممّا يبحث في باب الحدود من أنّه إذا كان السبب أقوى يستند القتل إليه ، وكلّما كان المباشر أقوى يستند القتل إلى المباشر ، والمراد من إقوائيّة المباشر كونه مستقلاً في إرادته ، والمراد من إقوائيّة السبب عدم تخلّل إرادة المباشر.

لكن يمكن دفع هذا بأنّ كون الإسناد حقيقيّاً لايتوقّف على توليديّة الأسباب بل ربّما يكون الإسناد حقيقيّاً ولو لم يكن السبب توليديّاً كما إذا الزم الحاكم بتعطيل السوق فعطّله التجار بإرادتهم فتضرّروا ، فهنا وإن كانت الإرادة متخلّلة لكن حيث إنّها كانت منبعثة من تهديد الحاكم وقوّته القاهرة يستند الضرر حقيقة إلى الحاكم ، وما نحن فيه من هذا القبيل لحكومة الباري القهّار في الأحكام الإلهيّة ، إذاً فأصل ما ذهب إليه المحقّق النائيني من إنّ الإسناد حقيقي أمر صحيح.

لكن يرد عليه : بأنّه لا يختصّ بالأسباب التوليديّة.

وبهذا يندفع الإشكال الأوّل الوارد على الشيخ رحمه‌الله وإن قبله نفسه ، حيث إعترف بأنّ « ما اختاره من المعنى ليس على طريق الحقيقة بل على نحو المجاز ، لتعذّر حمله على الحقيقة ، لوجودها في الخارج ».

ثانياً : أنّه يلزم منه تخصيص الأكثر ، وهو مستهجن عرفاً ، فيعلم من هنا أنّ للقاعدة معنىً آخر غير ما يظهر لنا في بادىء النظر فتصير مجملة ، ولابدّ حينئذٍ من الاقتصار في مقام العمل بها على موارد عمل الأصحاب.

وهذا ما سيأتي تفصيل البحث عنه وعن جوابه في التنبيهات ، ونشير إليه هنا إجمالاً فنقول :

قد وقع الأعلام لدفع هذا الإشكال في حيص وبيص ، والشيخ رحمه‌الله أيضاً كان ملتفتاً إليه وأجاب عنه بأنّ الجميع خرج بعنوان واحد لا بعناوين متعدّدة ، ولا استهجان فيه وإن كان ذلك العنوان معلوماً في علم الله تبارك وتعالى ومجهولاً عندنا.

٢٤٨

واجيب عنه : بأنّ « قبح كثرة التخصيص لا يدور مدار كون الخروج بعنوان واحد أو بعناوين إذا كان المخصّص منفصلاً بل لابدّ في دفعه من أن يكون إخراج الجميع بجامع عرفي يقف عليه المخاطب ، وإلاّ لو فرض وجوده الواقعي وفرض غفلة المخاطب عنه ، بل كان التخصص عنده ، بغير هذا الجامع فلا يخرج الكلام من الاستهجان » (١).

أقول : المراد من كثرة التخصيصات هنا هو « ما يتراءى في بادىء النظر من وجود أحكام ضرريّة كثيرة في الشريعة كوجوب الأخماس والزكوات وأداء الديّات وتحمّل الخسارات عند الاتلاف والضمانات وغير ذلك ممّا تتضمّن ضررياً مالياً ، وكوجوب الجهاد والحجّ وغيرهما ممّا تحتاج إلى بذل الأموال والأنفس ، وكوجوب تحمّل الحدود الشرعيّة والقصاص وأشباهها ممّا تتضمّن ضرراً نفسيّاً أو عرضياً » ، ولكن قد مرّ سابقاً عدم كون هذه الأحكام ضرريّة بأدنى تأمّل ، والشاهد على ذلك وجودها وتداولها عند العرف والعقلاء فإنّهم لا يزالون يحكمون بلزوم بذل الخراج والعشور والخروج إلى الجهاد وأداء وظيفة النظام وغيرها فلا يرونها ضرراً عليهم بل يرونه نفعاً بمنزلة القاء البذر في الأرض ، الذي يعدّ ضرراً في النظر البدوي السطحي ، مع أنّه سوف يترتّب عليه نتائج وثمرات مضاعفة.

وبعبارة اخرى : إنّ صلاح المجتمع صلاح لكلّ فرد فرد ولا يصحّ التفكيك بينهما عند العرف والعقلاء ، فبصلاح المجتمع يقوم صلاح الأفراد ويحفظ منافعهم.

فلا يلزم حينئذٍ تخصيص من هذه الناحية أصلاً ، فضلاً عن لزوم تخصيص الأكثر ، نعم هيهنا اطلاقات قليلة تتقيّد بهذه القاعدة ، وهذا ليس بعزيز.

ثالثاً : ( وهو بحسب الحقيقة تعبير آخر عن الإشكال الثاني ) إنّ قاعدة لا ضرر قاعدة إمتنانيّة ، والأحكام الإمتنانيّة آبية عن التخصيص وإن لم يلزم تخصيص الأكثر ، مع أنّ من المعلوم ورود تخصيصات عليها.

وجوابه ظهر ممّا مرّ آنفاً من أنّه لا يلزم تخصيص أصلاً من ناحية هذه الأحكام التي يتراءى كونها ضرريّة ، والشاهد عليه كون أمثالها متداولة بين العقلاء ، حيث إنّهم لا يجعلون قانوناً على أنفسهم.

__________________

(١) راجع تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٤٧٥ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢٤٩

رابعاً : ما ظهر ممّا حقّقناه سابقاً من أنّ الفاعل في الضرر هم المكلّفون لا الله سبحانه مع أنّ ظاهر كلام الشيخ بل صريحه كون الفاعل هو الله ، وقد عرفت أنّه لا يساعد عليه ظواهر الأدلّة أو صريحها.

أمّا القول الثالث : ( وهو ما نقله الشيخ الأعظم رحمه‌الله من بعض الفحول ، وهو أن يكون المراد من نفي الضرر نفي صفة عدم التدارك ، وهو في نظر الشيخ رحمه‌الله أردأ الوجوه ) فغاية ما يمكن أن يقال في توجيهه « أنّ الضرر إذا كان متداركاً لم يصدق عليه عنوان الضرر بنظر العرف وإن صحّ اطلاقه عليه بالدقّة العقليّة ، فنفي الشارع للضرر على الاطلاق مع ما نرى من وجوده في الخارج دليل على أنّ جميع أنواع الضرر الحاصلة من ناحية المكلّفين متداركة بحكم الشرع ، وأنّ فاعلها مأمور بتداركها وجبرانها ، وإلاّ لم يصحّ نفيها ، فهذا القيد أعني « عدم التدارك » إنّما يستفاد من الخارج من باب دلالة الاقتضاء ».

وقد اجيب عن هذا بوجوه عديدة ، وعمدة الجواب عنه أن يقال : إذا كان الفاعل للضرر هو الله سبحانه صار المعنى عبارة عن أنّ الله تبارك وتعالى لا يجعل الأحكام الضرريّة ، ولا حاجة إلى تقدير « غير متدارك » كما لا يخفى ، وإن كان الفاعل هو المكلّفين فأيضاً لا نحتاج إلى ذلك التقدير لأنّ المعنى حينئذٍ عدم ترخيص إضرار أحد بغيره في مقام التكليف والوضع ، غاية ما يلزم أن تكون « لا » نافية وكناية عن النهي ، ولا إشكال في أنّه إذا دار الأمر بين هذه الكناية وتقدير « غير متدارك » الكناية هى الاولى ، لعدم انس الأذهان بمثل هذا التقدير ، وبالعكس لها بالنسبة إلى الكناية المذكورة انس شديد ، لما مرّت من الشواهد والتراكيب.

أمّا القول الرابع : ( وهو مختار شيخ الشريعة من كون مفاد الحديث حكماً فرعيّاً خاصّاً من دون أن يكون ناظراً إلى سائر الأدلّة وحاكماً عليها ) فقد ظهر جوابه ممّا عرفت في بيان المختار من حكومة القاعدة على جميع الأدلّة الواردة في حقوق الناس والمعاملات بالمعنى الأعمّ.

أما القول الخامس : ( وهو ما نقلناه إجمالاً من تهذيب الاصول ) فهو مبنى على أربع مقدّمات نلخّصها في اثنتين :

إحديهما : أنّ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مقامات ثلاثة :

الأوّل : مقام النبوّة والرسالة فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله بما أنّه نبي ورسول ينبىء عن الله ، ويبلّغ أحكامه

٢٥٠

خطيرها وحقيرها حتّى أرش الخدش.

الثاني : مقام الحكومة والسلطنة ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله سلطان الامّة والحاكم بينهم وسائس العباد في البلاد ، وهو من هذه الجهة يرسل سرية ويأمر بالجهاد ويعدّ القوّة ، إلى غير ذلك من شؤون الحكومة الإلهيّة في الخلق.

والفرق بين المنصبين واضح فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بما أنّه نبي ورسول ليس له أمر ولا نهي ، ولا بعث ولا زجر ، بل كلّ ما يأمر به أو ينهى عنه فإرشاد إلى أمره تعالى ونهيه ، وأمّا إذا أمر بما أنّه سائس الامّة فيجب إطاعته ويحرم مخالفته ، فمن خالف فإنّما خالف أمر الرسول ونهيه ، ومن أطاع فقد أطاعه ، أي يكون المقام ذا دستور وأمر وزجر مستقلاً.

الثالث : مقام القضاء وفصل الخصومة عند التنازع.

ثانيتهما : أنّه كلّما ورد في الروايات من الرسول ووصيّه من أنّه « أمر بكذا » فهو ظاهر في الأمر المولوي السلطاني ، وكلّما ورد من « أنّه قضى » فهو ظاهر في القضاء وفصل الخصومة ، وأمّا قوله « حكم » فهو مردّد بينهما ، وأمّا ما ورد في الآثار من التعبير بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله « قال » فدلالته على أنّه كان أمراً سلطانيّاً يحتاج إلى قرينة دالّة عليه ، وأمّا إذا كان بصيغ الأمر فهى ظاهرة في حدّ نفسها في الأمر المولوي ، فالعدول عنه يحتاج إلى دليل آخر.

ثمّ قال : إن قاعدة لا ضرر من الأحكام السلطانيّة ، ويدلّ عليه :

أوّلاً : ما ورد من طرق العامّة من التعبير بـ « وقضى أن لا ضرر ولا ضرار » في مساق سائر الأقضية ، ولا ينافي هذا ما مرّ أنّ لفظة « قضى » ظاهرة في الحكم القضائي ، فإنّ ذلك صحيح إذا لم تقم قرينة على كونه ليس بصدد فصل الخصومة والقضاء.

وثانياً : قضيّة سمرة ، لأنّ التأمّل في صدرها وذيلها والإمعان في هدف الأنصاري حيث رفع الشكوة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليدفع عنه الظلم ، والتدبّر في أنّه لم يكن لواحد منهما شبهة حكميّة ولا موضوعيّة ، يورث الاطمئنان ويشرف الفقيه بالقطع على أنّ الحكم حكم سلطاني.

إن قلت : إنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قد استند في أمره بالقطع والرمي بها على وجهه بقوله : « فإنّه لا ضرر ولا ضرار » وظاهر الاستناد والفاء المفيد للتعليل أنّه حكم إلهي وقاعدة كلّية من الله تعالى ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله إتّكل على الحكم الإلهي ، فأمر الأنصاري بقلعها ورميها ، فعلّل عمل نفسه بالحكم الصادر من الله ، ولا يناسب أن يفسّر عمل نفسه ويعلّله بحكم نفسه.

٢٥١

قلنا : إنّ الأنصاري لمّا رفع شكواه إلى النبي الأعظم واستدعى النبي سمرة وأمره بالاستئذان عند الدخول وقد كان رجلاً مضارّاً تخلّف عن حكمه ، مسّت الحاجة إلى تأديبه ، فأصدر حكمه السياسي لحفظ النظام وأمر بقلعها ورميها إلى وجهه ، ثمّ علّل هذا الحكم التأديبي بالحكم السياسي الكلّي وأنّه لا ضرر ولا ضرار ، وعلى هذا تتوافق الجمل ويتّضح التناسب بين المعلول ( قلع الشجرة ) وتعليلها ( لا ضرر ولا ضرار ) بلا أدنى تكلّف ، فإنّ كلاً من المعلول وعلّته حكم سياسي تأديبي.

ثمّ ذكر قدس‌سره الشريف في بعض كلماته أنّ نتيجة هذا القول كون القاعدة حكماً صدر من ناحية الحاكم الشرعي لتحديد قاعدة السلطنة فحسب ، فلا حكومة لها على سائر الأحكام الوضعيّة والتكليفية. ( انتهى ) (١).

أقول : يمكن المناقشة في كلامه رحمه‌الله من عدّة جهات :

الجهة الاولى : في الفرق بين الأحكام الإلهيّة والأحكام السلطانيّة ، والحقّ فيه أنّ الأحكام السلطانيّة ليست في عرض الأحكام الإلهيّة بل إنّها في طولها لأنّ الأحكام الإلهيّة أحكام كلّية وردت على موضوعات كلّية ، ولكن الأحكام السلطانيّة أحكام جزئيّة إجرائيّة لأنّ إجراء الأحكام الكلّية الإلهيّة وتحقيقها في الخارج لا يكون إلاّبتأسيس الحكومة ، فينفتح حينئذٍ باب الولاية ، ويكون الوالي فيه شخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وغيره من الأوصياء ، وفي زمن الغيبة الفقيه الجامع للشرائط ، ووظيفة الوالي فيه تشخيص موارد الأحكام الكلّية الإلهيّة وتطبيقها على مصاديقها الجزئيّة الشخصية ، فالأحكام السلطانيّة أحكام تصدر من جانبه في سبيل إجراء تلك الأحكام الإلهيّة الكلّية ، وذلك كالأحكام التي تصدر منه لنصب الولاة وامراء الجيوش وعمّال الصدقات وتهيئة العُدّة والعِدّة لدفع الأعداء وغيرها ممّا تختلف بحسب الأزمنة والظروف ، فالوالي يتوصّل بهذه الأحكام إلى إجراء أحكام الله في أمر الجهاد والزكوات والقضاء وغيرها من الأحكام الكلّية الإلهيّة.

ومن الواضح أنّ إجراء حكم الجهاد مثلاً وتطبيقه في الخارج لا يتمّ بمجرّد الوعظ والإرشاد ، بل يحتاج إلى ولاية وحكومة ، وأمر ونهي ، ونصب أمير وتهيئة عِدّة وعُدّة ، وبرامج

__________________

(١) راجع تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٤٨١ ـ ٤٩٢ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢٥٢

عمليّة لكيفية الهجوم على العدوّ ، كلّ هذه الامور موكولة إلى نظر السلطان وولي الأمر ، وتكون من شؤون ولايته ، فالوالي بما أنّه والٍ لا يكون مأموراً إلاّبما ذكر ، ولذلك سمّينا الأحكام السلطانية بالأحكام الإجرائية الجزئيّة التي تختلف باختلاف الظروف المختلفة.

نعم ، يمكن أن يكون حكم الحاكم كلّياً بالإضافة إلى مقطع خاصّ من الزمان ، كتحريم شرب التتن التي صدرت من ناحية الميرزا الشيرازي رحمه‌الله ، ولكنّها أيضاً كانت حكماً إجرائيّاً صدرت منه في سبيل إجراء حكم إلهي كلّي وهو المنع عن استيلاء الكفّار على المسلمين : ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (١).

بل يمكن أن يقال : إنّها لم تكن من الأحكام السلطانيّة أصلاً بل هى من الأحكام الإلهيّة الثانويّة التي تجب بتحقّق عناوين ثانوية ، فإنّ شرب التتن في ذلك الزمان حيث إنّه صار مقدّمة لإستيلاء الكفّار المحرّم ومصداقاً من مصاديق المحاربة مع صاحب الولاية عليه‌السلام صار حراماً من باب أنّه مقدّمة للحرام ، ومقدّمة الحرام من العناوين الثانوية ، نعم تطبيق العناوين الثانوية على موضوعاتها ومصاديقها أيضاً من شؤون ولاية الحاكم.

إذا عرفت هذا فنقول : لا إشكال في أنّ الضرر والضرار من الموضوعات الكلّية التي لها في الشرع حكم كلّي لا محالة ، وتكون في حيطة التشريع الإلهي ، وليست من سنخ تلك الامور الخاصّة التي تكون في حيطة سلطنة ولي أمر المسلمين.

وبعبارة اخرى : المعلوم من مذهبنا عدم خلوّ واقعة من حكم إلهي ، وإنّه لا فراغ من ناحية القانون في الشريعة المقدّسة الإسلاميّة حتّى بالنسبة إلى أرش الخدش ، وما يسمّى اليوم في الحكومة الإسلاميّة بمجلس التقنين فهو بمعنى تطبيق الكلّيات على موضوعاتها لا الجعل والتشريع كما لا يخفى على أحد.

إن قلت : إن لم يكن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مقام التشريع والتقنين فما هو المراد من فرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض الروايات في مقابل فرض الله تعالى ، كالرواية الواردة في باب الصّلاة ، القائلة بأنّ الركعة الاولى والثانية فرض الله ، والركعة الثالثة والرابعة فرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّه فوّض إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا المنصب؟ فليكن ما نحن فيه أيضاً من هذا القبيل.

__________________

(١) سورة النساء : الآية ١٤١.

٢٥٣

قلنا : سلّمنا كون قاعدة لا ضرر من قبيل فرائض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله التي فوّض أمر تشريعها إليه ، ولكنّها ليست من الأحكام السلطانيّة أيضاً ، لأنّ المفروض حينئذٍ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وضعها بما أنّه مفوّض إليه التشريع لا بما أنّه حاكم ومجرٍ للأحكام الإلهيّة الكلّية.

هذا مضافاً إلى أنّه قد قرّر في محلّه في مبحث ولاية الفقيه أنّ مقام التشريع الذي فوّض إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان على نحو جزئي ومختصّاً بموارد خاصّة معدودة ، كما تشهد عليه شواهد عديدة ، منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في كثير من الموارد : « إنّي أنتظر الوحي » حيث إنّ انتظار الوحي وتعيين التكليف من ناحية الوحي ينافي التفويض الكلّي إليه كما لا يخفى.

وحينئذٍ لابدّ لتعيين فرائض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتمييزها عن غيرها إلى قرينة قطعيّة ( نظير ما يقال في باب النسخ بأنّه بما أنّ موارد النسخ قليلة لابدّ لتعيينها وتشخيصها من قرينة خاصّة ) وإلاّ يكون الظاهر من أوامره ونواهيه أنّه في مقام الحكاية عن أوامر الله تعالى ونواهيه.

مضافاً إلى اختصاص هذا المقام بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما يدلّ عليه قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في رواية حجّة الوداع : « ما من شيء يقرّبكم إلى الله إلاّوقد أمرتكم به وما من شيء يبعّدكم عن الله إلاّوقد نهيتكم عنه » وغيرها ممّا ورد في الباب الذي عقده في الوافي في أنّه ليس شيء ممّا يحتاج إليه الناس إلاّوقد جاء في كتاب أو سنّة (١) ، التي تدلّ على عدم وجود فراغ قانوني كما مرّ آنفاً ، حتّى أنّ الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم إنّما كانوا وارثين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحاملين لعلومه كما وردت روايات متواترة من ناحيتهم تدلّ على أنّ كلّ ما يقولونه ينقلونه عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولذا لم يصدر تشريع حكم منهم عليهم‌السلام في طيلة حياتهم (٢).

الجهة الثانية : في ما هو الظاهر من قضية سمرة ...

فنقول : الظاهر أنّ حكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله في قضيّة سمرة كان بعنوان فصل الخصومة ورفع التنازع في الحقوق والأموال ، وكان النزاع بينه وبين الأنصاري ناشئاً من الجهل بالحكم فإنّه يرى أنّ وجوب الاستئذان من الأنصاري تضييق في دائرة سلطنته ، ولذا قال : أستأذن في طريقي إلى عذقي؟ بينما الأنصاري يرى أنّ له أن يلزم سمرة على الاستئذان ، فشكاه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لفصل الخصومة والنزاع بما أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قاضٍ منصوب من قبل الله تعالى ، نعم بعد قضاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) الوافي : ج ١ ، ص ٢٦٥ ، الطبع الجديد.

(٢) راجع جامع أحاديث الشيعة فإنّه عقد باباً أورد فيه أخباراً متواترة في هذا المعنى : ( ج ١ ، الباب ٤ ، ص ١٢٦ ).

٢٥٤

وأمره سمرة بالاستئذان دخل سمرة باب اللجاج والتمرّد ، وعلى القاضي إجراء حكمه ، ولذلك أمر الأنصاري بعد ذلك بقلع النخلة حسماً لمادّة النزاع.

والحاصل : أنّ الرواية تنادي بأعلى صوتها بأنّها ناظرة إلى مسألة القضاء.

نعم لقائل أن يقول : إنّ صدرها وإن كان وارد في مقام القضاء ، لكن ذيلها يدلّ على أنّ قلع النخلة من باب ولاية الحاكم والحكم السلطاني.

ولكنّا نقول : إنّ تعليله صلى‌الله‌عليه‌وآله بحكم كلّي إلهي في هذه الواقعة الخاصّة من أوضح الدليل على أنّ قاعدة لا ضرر حكم كلّي إلهي ، وإن كان تطبيقها على ذاك المورد من باب ولاية الحاكم الإسلامي ، فأمره بقلع الشجرة أمر سلطاني صدر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله لأجل إجراء قاعدة « لا ضرر ولا ضرار » الذي هو حكم كلّي إلهي.

الجهة الثالثة : أنّ لازم كونه حكماً سلطانياً إجرائياً إختصاصه بزمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّه يجوز لغيره من الحكّام تغييره ، ولا أظنّ التزامه قدس‌سره الشريف به.

الجهة الرابعة : سلّمنا جميع ذلك ، لكن لماذا تختصّ حكومة القاعدة بقاعدة السلطنة ، ولا حكومة لها على سائر الأحكام الضررية ، مع أنّها بحسب الظاهر كبرى كلّية ، والمورد ليس مخصّصاً.

الجهة الخامسة : من العجب أنّه قدس‌سره إكتفى في المسألة بقضية سمرة وما تقتضيه ولم يشر إلى سائر المدارك الموجودة فيها ، فإنّه قد مرّ في المقام الأوّل أنّ دليل القاعدة ليس منحصراً بقضيّة سمرة ، بل هناك روايات عديدة من طرق الفريقين ظاهرة في خلاف هذا القول ، وآيات مختلفة وردت في موارد خاصّة ضررية ، ولا إشكال في أنّ ما يستفاد منها حكم إلهي أوحاه الله تعالى إلى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والنبي إنّما هو مبيّنه ومبلّغه.

إلى هنا تمّ الكلام في تفسير القاعدة والأقوال الواردة فيها ، وظهر أنّ المختار فيها :

١ ـ أنّ « لا » نافية ، ولكنّها كناية عن النهي.

٢ ـ أنّ الفاعل في الضرر هم المكلّفون لا الله سبحانه.

٣ ـ أنّها تعمّ الأحكام التكليفيّة والوضعيّة.

٤ ـ أنّها تختصّ بحقوق الناس ، ولا تشمل حقوق الله تعالى مثل العبادات الضرريّة وغيرها.

٢٥٥

وبهذا تمّ الكلام في المقام الثاني.

المقام الثالث : في تنبيهات قاعدة لا ضرر

التنبه الأوّل : في نسبة القاعدة إلى سائر الأدلّة

إنّ نسبة القاعدة إلى سائر الأدلّة نظير « الناس مسلّطون على أموالهم » وقوله عليه‌السلام : « الطلاق بيد من أخذ بالساق » تختلف باختلاف المباني فيها ، فعلى مبنى الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني رحمهما الله ومن تبعهما لا إشكال في حكومة القاعدة على سائر الأحكام ، لأنّها حينئذٍ تنفي الحكم الضرري ، فتكون ناظرة إلى غيرها من الأحكام ، فإنّ معنى الحكومة أن يكون الدليل الحاكم ناظراً إلى المحكوم ومتصرّفاً أمّا في نفس الحكم ( كما إذا قال المولى : يجب إكرام العلماء ، ثمّ قال : إنّما عنيت وجوب إكرام غير الفسّاق ) أو في متعلّقه ( كما إذا قال : « السلام من الإكرام » أو « تقبيل اليد ليس إكراماً » ) أو في موضوعه ( كما إذا قال : « العالم الفاسق ليس بعالم » أو « العامي العادل عالم » ) وما نحن فيه من القسم الأوّل كما لا يخفى.

وبناء على المختار ( وهو أن تكون القاعدة ناظرة إلى النهي عن اضرار الناس بعضهم ببعض ) فأيضاً لا إشكال في تقدّم القاعدة على سائر الأدلّة ، لكن لا لأجل الحكومة لعدم جريان قسم من الأقسام الثلاثة من الحكومة في المقام ، بل لأظهريتها التي هى الملاك في تقديم أحد الدليلين على الآخر فيما إذا كانت النسبة بينهما العموم من وجه ، ولا يخفى أنّ نسبة القاعدة مع غيرها العموم من وجه ، حيث إنّ دليل « الناس مسلّطون على أموالهم » مثلاً شامل لموارد الضرر وغير الضرر ، وقاعدة « لا ضرر » أيضاً شاملة لموارد السلطة وغيرها.

ووجه الأظهرية : أوّلاً : أنّه في صورة عدم تقديم القاعدة لا يبقى لها مورد ، لأنّه لا مورد إلاّ والقاعدة تعارض فيه إطلاقاً أو عموماً.

وإن شئت قلت : إنّ نسبة القاعدة إلى مجموع سائر الأدلّة بمجموعها نسبة الخاصّ إلى العام ، ولا إشكال في تقديم الخاص على العام ، فتأمّل.

وثانياً : أنّها آبية عن التخصيص كما يظهر بملاحظة مناسبة الحكم والموضوع فيها وكونها في مقام الإمتنان فلا يصحّ أن يقال : إنّه لا يجوز اضرار الناس بعضهم ببعض إلاّفي هذا المورد.

٢٥٦

وثالثاً : نفس قضيّة سمرة ، حيث إنّه أراد أن يستند في عمله إلى قاعدة السلطنة ولكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله منعه عن ذلك وحكم بقاعدة لا ضرر ، وكذلك في حديث الشفعة وحديث منع فضل الماء ، فقدّمت قاعدة لا ضرر فيهما أيضاً على قاعدة السلطنة ، وهكذا في الموارد الخاصّة الواردة في الكتاب والسنّة ، حيث إنّها أيضاً قدّمت على الإطلاقات الواردة في مواردها كإطلاق الدليل الدالّ على جواز الرجوع في العدّة أو اطلاق الدليل الدالّ على جواز الاكتفاء بمقدار الواجب في النفقة والسكنى وغير ذلك.

وأمّا بناءً على مبنى شيخ الشريعة رحمه‌الله أو بناءً على مبنى من قال بإرادة نفي صفة عدم التدارك فلا يبقى وجه لحكومة القاعدة ، فإنّه بناءً على الأوّل يكون النهي الوارد في الحديث كسائر النواهي الشرعيّة الواردة في مواردها التي لا نظر لها إلى سائر الأحكام ، وبناءً على الثاني يكون الحديث دليلاً على اشتغال ذمّة الأنصاري بغرامة ضرره ، فيختصّ حينئذٍ بموارد الغرامات ، ويقدّم على العمومات الدالّة على براءة الذمّة ، لكن لا من باب الحكومة ، بل إمّا من باب إبائه عن التخصيص ، أو من باب عدم بقاء مورد له على فرض عدم التقديم.

التنبيه الثاني : هل القاعدة موهونة بكثرة التخصيصات أو لا؟

وهو ما وعدناه سابقاً حين البحث عن مقالة الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله.

فنقول : ربّما يقال بأنّها موهونة بكثرة تخصيصها بأحكام ضرريّة كثيرة في الشريعة المقدّسة كوجوب الأخماس والزكوات وأداء الديّات وتحمّل الخسارات عند الإتلاف والضمانات ، ووجوب الجهاد والحجّ وتحمّل الحدود والقصاص ، فلابدّ حينئذٍ الاقتصار على موارد عمل الأصحاب بها ، واقتضاء آثارهم لا سيّما الأقدمين منهم فنعمل فيما عملوا بها ، لأنّه يظهر حينئذٍ أنّ المراد من الحديث ليس ما هو الظاهر منه عندنا ، بل كان هو محفوفاً بقرينة لا يلزم منه التخصيص الكثير ، وقد ظفر قدماء الأصحاب بها وخفيت علينا ، فلا مناصّ لنا من الإهتداء بهم.

وقد سلك الأعلام في الجواب عن هذا مسالك عديدة :

منها : ما ذكره شيخنا الأنصاري رحمه‌الله من أنّه ليس تخصيصاً بالأكثر بل إنّه تخصيص

٢٥٧

بالكثير وهو ليس بمستهجن.

ومنها : ما ذكره الشيخ رحمه‌الله أيضاً من كونه تخصيصاً بعنوان واحد لا بعناوين.

ومنها : ما اخترناه من أنّه تخصيص في بادىء النظر فقط ، لأنّا نعلم بعد الدقّة والتأمّل عدم كون تلك الأحكام ضرريّة عند العرف والعقلاء.

توضيح ذلك : أنّ للإنسان حياتين : حياة فردية وحياة اجتماعيّة ، ولكلّ من الحياتين مصارف خاصّة ، فبالنسبة إلى حياته الفردية يحتاج إلى أغذية وألبسة وماء وهواء وغير ذلك من أشباهها ، وأمّا بالنسبة إلى حياته الاجتماعيّة فيحتاج إلى أمن السبل ونظام المجتمع ودفع الأعداء وفصل القضاء واحقاق الحقوق وأمثال ذلك ، فكما أنّ ما يصرفه في طريق حياته الفردية من الأموال لا تعدّ ضرراً عند أحد ولا يتفوّه به واحد من العقلاء ، فكذلك المصارف التي يتحمّلها لحفظ حياته الاجتماعيّة وصيانتها عن الحوادث ، فالنفقات التي يصرف لتقوية الجيوش وأمن السبل وإجراء الحقوق وحفظ منصب القضاء والتعليم والتربية لأبناء المجتمع لا تعدّ ضررية قطعاً ، كيف وتعود منافعها إليه وقتاً بعد وقت وتؤتي اكلها كلّ حين بإذن ربّها ، وما عدّوه من الأحكام الضررية تعود في الغالب إلى أمثال هذه النفقات أو أشباهها من تدارك الخسارات وغيرها ممّا يعلم وجهها.

وليت شعري كيف تعدّ هذه الأحكام ضرريّة مع أنّ أمثالها موجودة بين العقلاء من أهل العرف ، وتكون ضروريّة عندهم فيجعلونها من الواجبات على عاتقهم ويعدّونها ممّا لا تقوم معيشتهم إلاّبها.

أضف إلى ذلك عدم ورود هذا الإشكال من الأساس على مختارنا في معنى الحديث من أنّه بحسب الحقيقة نهى عن إضرار الناس بعضهم ببعض ، ولا ينفي وجود أحكام ضررية في الشريعة حتّى يتوهّم تخصيصها بما يتراءى كونه ضررياً ، كما لا يخفى.

التنبيه الثالث : في ما هو المعروف من الإشكال في خصوص قضية سمرة

وهو منافاة حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقلع الشجرة لسائر القواعد ، لأنّ أقصى ما يستفاد من قاعدة « لا ضرر » هو لزوم استئذان سمرة من الأنصاري ، وأمّا قلعها ورميها إليه فهو ينافي حقّ سمرة

٢٥٨

في بقاء شجرته في البستان.

وقد اجيب عن هذا أو يمكن الجواب عنه بوجوه عديدة :

١ ـ سلّمنا ورود هذا الإشكال بهذه الفقرة من الحديث ، لكنّه لا يمنع من الاستدلال بسائر الفقرات التي هى مورد للاستدلال بالحديث ، لا تلك الفقرة.

ويرد عليه : ما مرّ كراراً من أنّ سقوط فقرة من الحديث عن الحجّية يوجب سريان الشكّ إلى غيرها عند العرف والعقلاء ، وإن أبيت فاختبر نفسك في إسناد الأوقاف والوصايا وغيرهما إذا كان بعض فقراتها مخدوشاً وباطلاً ، فإنّه يوجب جريان الشكّ إلى سائر الفقرات.

هذا ـ مضافاً إلى وجود خصوصيّة في المقام ، وهى ورود قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فإنّه لا ضرر ولا ضرار » في ذيل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذهب فاقلعها وارم بها إليه » فهو بمنزلة الكبرى لذلك الذيل ، وكيف يمكن التفكيك في الحجّية بين الصغرى والكبرى؟

٢ ـ إنّ إصرار سمرة في عدم الاستئذان ولجاجته أوجب اسقاط احترام ماله.

وفيه : إنّه لا دليل على أنّ مجرّد لجاج أحدٍ يوجب سقوط حرمة ماله من دون أن يدخل ذلك في عنوان من العناوين المعروفة عند الفقهاء.

٣ ـ إنّ هذا حكم سلطاني والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أصدره بما أنّه حاكم وولي أمر المسلمين.

وفيه : إنّه قد مرّ أنّ الأحكام السلطانيّة أحكام إجرائيّة تصدر من ناحية الحاكم الإسلامي وفقاً للأحكام الإلهيّة الكلّية ، فما هو الحكم الإلهي الكلّي الذي لأجله صدر ذلك الحكم؟

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الحكم بقلع الشجرة صدر لإجراء حكم « لا ضرر ولا ضرار » ، حيث إنّ ضرر دخول سمرة على الأنصاري بلا إذن منه كان منفيّاً في الشريعة ، وكان طريق دفعه منحصراً بقلع شجرته ، فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لأجل العمل بقاعدة « لا ضرر » وإجرائها أصدر الحكم بقلع الشجرة ، بما أنّه حاكم.

٤ ـ إنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أعمل في هذا الحكم ولايته على الأنفس والأموال : ( النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) وقد حقّق في محلّه أنّها من مقاماته التي هى فوق مسألة الولاية على الحكومة.

وفيه : أنّه حسن في نفسه ، ولكنّه لا يلائم استناده صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذيل الحديث بقاعدة لا ضرر

٢٥٩

دون ولايته على الأنفس والأموال.

٥ ـ ما جاء في بعض كلمات المحقّق النائيني رحمه‌الله وحاصله : أنّ الضرر وإن كان ينشأ من دخول سمرة على الأنصاري بلا استئذان منه ، ولكن كان منشأ جواز دخوله هو إستحقاقه لكون النخلة باقية في البستان ، فالضرر وإن نشأ عن الدخول ، إلاّ أنّه كان معلولاً لإستحقاق إبقاء النخلة ، فرفع هذا الحكم إنّما كان برفع منشأه وهو إستحقاق الإبقاء ، كإرتفاع وجوب المقدّمة برفع وجوب ذيها ، فالقاعدة رافعة لاستحقاق بقاء النخلة ، ولازمه جواز قلعه ، فيصحّ حينئذٍ تعليل الحكم المزبور بالقاعدة ( انتهى ملخّصاً ) (١).

أقول : هذا موافق لظاهر رواية عبدالله بن بكير التي علّل فيها بنفي الضرر ( كما أشار إليه المحقّق نفسه ) حيث ورد فيها : « إذهب فاقلعها وارم بها إليه فإنّه لا ضرر ولا ضرار » فهو تامّ في محلّه.

٦ ـ إنّه كان من باب النهي عن المنكر ، نظير أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله بتخريب مسجد الضرار ، ونظير ما رواه أبو بصير عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « مدّ الفرات عندكم على عهد علي عليه‌السلام فأقبل إليه الناس فقالوا يا أمير المؤمنين نحن نخاف الغرق ، لأنّ في الفرات قد جاء من الماء ما لم ير مثله ، وقد امتلأت جنبتاه فالله فالله ، فركب أمير المؤمنين عليه‌السلام والناس معه وحوله يميناً وشمالاً ، فمرّ بمسجد سقيف فغمزه بعض شبّانهم ، فالتفت إليه مغضباً ، ثمّ أمر بهدم المحلّ الذي كانت الشبّان يتّخذونه لأفعالهم الفاسدة ، وهدم كلّ كوّة وميزاب وبالوعة إلى طريق المسلمين ، وقال : إنّ هذا أذى للمسلمين (٢) ( انتهى ملخّصاً ).

فهو عليه‌السلام في هذا الحديث أعمل ولايته وحكم بالتخريب نهياً عن المنكر ، ولا يخفى أنّ النهي عن المنكر له مراتب بعضها مختصّ بمنصب الحكومة.

وهذا الجواب قريب من الوجه الثالث ، ولكنّه أيضاً لا يلائم ظاهر الاستناد بقاعدة « لا ضرر » وعدم الاستناد بعنوان النهي عن المنكر.

__________________

(١) راجع رسالة المحقّق النائيني رحمه‌الله في لا ضرر ( المطبوعة في منية الطالب : ج ٢ ص ٢٠٩ ـ ٢١٠ ).

(٢) سفينة البحار : مادّة فرات.

٢٦٠