أنوار الأصول - ج ٣

أنوار الأصول - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-15-6
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٢٤

مضايقة ملاّك المراتع عن فضل الكلاء.

ويساعد هذا الاحتمال تكرار الضرر في هذه القاعدة فيكون « لا ضرر » ناظراً إلى الضرر الأوّل ( أي المنع عن فضل الماء ) و « لا ضرار » إلى الضرر الثاني ، أي إلى مقابلة الثاني بالمثل ، وذلك لمكان باب المفاعلة كما سيأتي.

ثمّ إنّه هل كان استدلال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على حكم مستحبّ ، أو على حكم وجوبي ، أي هل اعطاء فضل الماء وعدم المنع عنه واجب على صاحب البئر أو مستحبّ؟

المشهور هو الثاني ، وذهب الشيخ الطوسي رحمه‌الله وجماعة إلى الأوّل ، وتفصيل الكلام في محلّه ، وإن كان قول الشيخ أوفق بظاهر الأدلّة.

ثمّ إنّه لو كانت كلمة « قال » الواردة في ذيل الحديث بالفاء ( فقال ) كان ذيل الحديث جزء من هذه الرواية ، وتصير رواية مستقلّة عمّا سبق ، فيؤخذ بما يستفاد من موردها الخاصّ من نكات وخصوصيّات ، وأمّا إذا كانت بالواو كما ادّعى العلاّمة شيخ الشريعة رحمه‌الله وجوده في النسخة المصحّحة من الكافي عنده ، فيحتمل أن تكون جزء منها ، كما يحتمل أن تكون من باب الجمع في الرواية ، فيشكل ترتيب آثار الإتّصال عليه.

ومنها : ما رواه عقبة بن خالد عن أبي عبدالله عليه‌السلام : « قال قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال : لا ضرر ولا ضرار ، وقال : إذا ارّفت الأرف وحدّت الحدود فلا شفعة » (١).

فهذا الحديث أيضاً يمكن التمسّك به بعنوان رواية مستقلّة غير ما سبق ، إذا كان بمجموعه رواية واحدة كما هو الظاهر من وقوع القاعدة بين فقرتين كلتاهما وردتا في باب الشفعة (٢) ، فتكون حينئذٍ من قبيل الحكمة لجعل الشفعة ( لا العلّة لأنّ البيع بغير الشريك ضرريّ في بعض الموارد لا في تمامها ).

ومنها : مرسلة الصدوق قال : وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الإسلام يزيد ولا ينقص ، ( قال ) وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، فالإسلام يزيد المسلم خيراً ولا يزيد شرّاً ، ( قال )

__________________

(١) وسائل الشيعة : كتاب الشفعة ، الباب ٥ ، ح ١.

(٢) ومعنى الفقرة الثانية أنّ حقّ الشفعة ثابت في المشاع وقبل القسمة ، وأمّا بعدها فلا شفعة ، لأنّ قوله عليه‌السلام « ارّفت الأرف » بمعنى أعلمت علامات القسمة.

٢٢١

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه » (١).

وهو يدلّ على أنّ المسلم يرث من الكافر ولا يرث الكافر من المسلم لأنّ الإسلام يزيد ولا ينقص ، فلا يكون الإسلام من موانع الإرث عن الكافر بل يكون الكفر مانعاً عن إرث المسلم ، ولو كان الإسلام مانعاً لكان موجباً للضرر ولا ضرار في الإسلام.

ثمّ إنّه هل هذه الفقرات الثلاثة هى ثلاثة أحاديث ، أو هى بمجموعها حديث واحد؟ الظاهر هو الأوّل ، لكن كلّ واحد منها يدلّ على أنّ المسلم يرث من الكافر ولا يرث الكافر من المسلم. ( وأمّا عبارة « فالإسلام يزيد المسلم خيراً ولا يزيده شرّاً » الواردة في ذيل الحديث الثاني فلعلّها من استنباط الصدوق وتفسيره ، وليس جزء للحديث ).

والذي يؤيّده ذلك ما رواه أبو الأسود الدؤلي أنّ معاذ بن جبل كان باليمن فاجتمعوا إليه وقالوا : يهودي مات وترك أخاً مسلماً ، فقال معاذ : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : الإسلام يزيد ولا ينقص ، فورّث المسلم من أخيه اليهودي » (٢). حيث إنّ معاذ استدلّ بالحديث الأوّل في قضائه من دون تذييله بالحديث الثاني ( لا ضرر ولا ضرار ).

كما يؤيّده أيضاً رواية الحاكم (٣) إيّاه في المستدرك مجرّداً عن هذا الذيل ( لا ضرر ولا ضرار ).

ومنها : ما رواه هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبدالله عليه‌السلام في رجل شهد بعيراً مريضاً وهو يباع فاشتراه رجل بعشرة دراهم وأشرك فيه رجلاً بدرهمين بالرأس والجلد ، فقضى أنّ البعير برىء ، فبلغ ثمنه ( ثمانية ) دنانير قال فقال : « لصاحب الدرهمين خمس ما بلغ فإن قال اريد الرأس والجلد فليس له ذلك ، هذا الضرار ، وقد أعطى حقّه إذا أعطى الخمس » (٤).

وفي الحديث وإن ورد مجرّد الصغرى لكنّه بمنزلة قوله « لا تشرب الخمر لأنّه مسكر » حيث إنّ الكبرى فيه محذوفة وهى كلّ مسكر حرام ، كذلك في هذا الحديث فكبرى « لا ضرار » محذوفة فيه ، ولذلك تدخل في طائفة الرّوايات الدالّة على القاعدة بالعموم.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٧ ، أبواب موانع الإرث ، الباب ١ ، ح ٩ ـ ١١.

(٢) المصدر السابق : ج ١٧ ، أبواب موانع الإرث ، الباب ١ ، ح ٨.

(٣) المستدرك : ج ٤ ، ص ٣٤٥.

(٤) وسائل الشيعة : ج ١٣ ، أبواب بيع الحيوان ، الباب ٢٢ ، ح ١.

٢٢٢

نعم لو قلنا : بأنّ الفرق بين « ضرر » و « ضرار » أنّ الثاني مخصوص بالضرر العمدي ، فيكون مفاد هذا الحديث أخصّ من مدلول غيرها ويكون ناهياً عن خصوص الضرر العمدي.

ومنها : ما رواه المحدّث الثوري في المستدرك عن دعائم الإسلام عن أبا عبدالله عليه‌السلام إنّه سئل عن جدار الرجل وهو سترة بينه وبين جاره سقط فامتنع من بنيانه قال : « ليس يجبر على ذلك إلاّ أن يكون وجب ذلك لصاحب الدار الاخرى بحقّ أو بشرط في أصل الملك ، ولكن يقال لصاحب المنزل استر على نفسك في حقّك إن شئت ، قيل له فإن كان الجدار لم يسقط ولكنّه هدمه أو أراد هدمه اضراراً بجاره لغير حاجة منه إلى هدمه قال : لا يترك ، وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لا ضرر ولا ضرار ( اضرار ) وإن هدمه كلّف أن يبنيه » (١).

وسيأتي أنّ ذيل هذا الحديث شاهد على أنّ القاعدة يمكن الاستدلال بها لإثبات الحكم أيضاً لا لخصوص نفي الأحكام.

ومنها : ما رواه المحدّث النوري في المستدرك أيضاً عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « لا ضرر ولا ضرار ».

ومنها : ما ورد في عوالي اللئالي عن أبي سعيد الخدري عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « لا ضرر ولا اضرار في الإسلام » (٢).

وقال المصنّف بعد ذلك : وأسنده ابن ماجه والدارقطني وصحّحه الحاكم في المستدرك.

هذه هى الطائفة الاولى ، أي الروايات العامّة الدالّة على القاعدة عموماً.

أمّا الطائفة الثانية : من الروايات الخاصّة ، فمنها ما ورد في حريم البئر وهى اثنتان :

أحداها : ما رواه محمّد بن الحسن ( الحسين ) قال : « كتبت إلى أبي محمّد عليه‌السلام : رجل كانت له قناة في قرية فأراد رجل أن يحفر قناة اخرى إلى قرية له كم يكون بينهما في البعد حتّى لا تضرّ إحداهما بالاخرى في الأرض ، إذا كانت صلبة أو رخوة؟ فوقّع عليه‌السلام : على حسب أن لا تضرّ

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ج ٣ ، ص ١٥٠ ، الباب ٩ ، ح ١ ، الطبع القديم ، وج ١٨ ، ص ١١٨ ، الطبع الجديد.

(٢) عوالي اللئالي : ج ١ ، ص ٣٨٣.

٢٢٣

إحداهما بالاخرى إن شاء الله » (١).

الثانية : ما رواه محمّد بن حفص عن رجل عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « سألته عن قوم كانت لهم عيون في أرض قريبة بعضها من بعض ، فأراد رجل أن يجعل عينه أسفل من موضعها الذي كانت عليه ، وبعض العيون إذا فعل بها ذلك أضرّ بالبقية من العيون وبعضها لا يضرّ من شدّة الأرض ، قال : فقال : ما كان في مكان شديد فلا يضرّ ، وما كان في أرض رخوة بطحاء فإنّه يضرّ ، وإن عرض رجل على جاره أن يضع عينه كما وضعها وهو على مقدار واحد قال : إن تراضيا فلا يضرّ ، وقال : يكون بين العينين الف ذراع » (٢).

والمستفاد من هاتين الروايتين عدم جواز الإضرار بالغير وإن كان منشأه تصرّف الإنسان في ملكه ، نعم مقتضى خصوصية المورد اختصاص الحكم بباب حريم البئر وعدم جواز التعدّي إلى غيره ، ولكن يمكن الغائها عرفاً واسراء الحكم إلى مطلق موارد الإضرار بالغير ، ولا أقلّ من جوازه إلى غير البئر من سائر الجيران والأملاك المتقاربة ، وحينئذٍ تكون الروايتان حاكمتين على عموم الناس مسلّطون على أموالهم.

وقد ورد في كتاب إحياء الموات في باب حريم البئر بحث عنونه الفقهاء في أنّ الميزان في حريم العيون والقنوات هل هو مطلق عدم الاضرار ، أو مقدار الف ذراع في الأرض الرخوة وخمسمائة ذراع في الأرض الصلبة؟

مقتضى الاطلاق في الرواية الاولى بل صريحها هو الأوّل ، وهو المحكي عن الأسكافي والمختلف والمسالك ، ومدلول الرواية الثانية هو الثاني ، وهو مذهب المشهور ، ولقائل أن يقول بكفاية أحد الأمرين : البعد بالمقدار المذكور في الرواية الثانية ، أو العلم بعدم تضرّر الجار ، الذي يستفاد من الرواية الاولى.

ومنها : وما رواه عقبة بن خالد عن أبي عبدالله عليه‌السلام في رجل أتى جبلاً فشقّ فيه قناة فذهبت الآخر بماء قناة الأوّل. قال : فقال : « يتقاسمان ( يتقايسان ) بحقائب (٣) البئر ليلة ليلة

__________________

(١) وسائل الشيعة : كتاب إحياء الموات ، الباب ١٤ ، ح ١.

(٢) المصدر السابق : الباب ١٣ ، ح ١.

(٣) في هامش الوسائل : ج ١٧ ، ص ٣٤٤ : هكذا أورده المجلسي رحمه‌الله في مرآة العقول ، وتكلّف في تفسير

٢٢٤

فينظر أيّتهما أضرّت بصاحبتها ، فإن رأيت الأخيرة أضرّت بالاولى فلتعور » (١).

« حقائب البئر » أو « عقائبه » اعجازها.

وهذه الرواية تحكم على عموم « من أحيى أرضاً فهى له » كما لا يخفى.

وأمّا عدم جريان هذا الحكم بالنسبة إلى الاولى لو أضرّت بالثانية فإنّما هو لقاعدة الإقدام.

ثمّ لا يخفى أنّ المستفاد من هذه الرواية هو الحكم الوضعي ، وهو عدم استحقاق الثاني لبقاء ملكه على حاله.

وبهذا المضمون الرواية الثانية والثالثة الواردتان في نفس الباب ، والظاهر أنّ جميعها رواية واحدة.

ومنها : ما رواه محمّد بن الحسين قال : كتبت إلى أبي محمّد عليه‌السلام : « رجل كانت له رحى على نهر قرية والقرية لرجل فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر ويعطّل هذه الرحى ، أله ذلك أم لا؟ فوقّع عليه‌السلام : يتّقي الله ويعمل في ذلك بالمعروف ولا يضرّ أخاه المؤمن » (٢).

ويرد على الاستدلال بهذه الرواية على المطلوب بأنّ دلالتها عليه متوقّفة على أن يكون موردها ما إذا لم يكن لصاحب الرحى حقّ الانتفاع من النهر من قبل ( فيقال حينئذٍ أنّ مقتضى عموم : « الناس مسلّطون على أموالهم » جواز سوق الماء إلى نهر آخر ولكنّه يمنع لقاعدة لا ضرر ).

وأمّا مع وجود احتمال آخر في موردها وهو : أنّ صاحب الرحى كان له حقّ الانتفاع من قبل ، تصير الرواية مجملة لا تصلح للاستدلال بها لأنّ مقتضى الاحتمال الثاني أن يكون سوق الماء في نهر آخر مزاحماً لحقّ صاحب الرحى ، ومتعدّياً عليه ، وأن يكون منع الإمام عليه‌السلام مستنداً إلى هذه الجهة.

__________________

الحقيقة ، والصحيح عقائب البئر كما أورده في الوافي ، والعقيب كلّ شيء أعقب شيئاً ، والمراد هنا النوبة بأن يمسك كلّ واحد منهما عن إجراء الماء ليلة هذا وليلة ذاك ، فإن أوجب سدّ مجرى إحداهما كثرة ماء الاخرى تبيّن اضرارها بها ، وأن قلّة الماء في إحداهما بسبب جريان ماء الاخرى.

(١) وسائل الشيعة : كتاب إحياء الموات ، الباب ١٦ ، ح ١.

(٢) المصدر السابق : الباب ١٥ ، ح ١.

٢٢٥

هذا ، ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ الإمام عليه‌السلام ( على أي حال ) أسند منعه إلى عنوان الضرر لا إلى عنوان العدوان والتعدّي على حقّ الغير ، وهذا كافٍ في الاستدلال به على المقصود ، ولا يبعد حينئذٍ الغاء الخصوصيّة عن موردها ، والحكم بعدم جواز الاضرار مطلقاً.

ومنها : ما رواه الطبرسي رحمه‌الله في مجمع البيان في ذيل قوله تعالى : ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ... ) قال : جاء في الحديث « أنّ الضرار في الوصيّة من الكبائر » (١).

والظاهر ( بقرينة سائر الروايات الواردة في الباب ) أنّ المراد من الضرار في الوصيّة هو الوصيّة بتمام المال أو بأكثر من الثلث ، وهو بنفسه حرام ، ولذلك لا يتمّ الاستدلال بهذه الرواية لما نحن فيه ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ حكمة جعل هذا الحكم هو حرمة الاضرار ، فيكون حاكماً على عموم قاعدة السلطنة ، ولازمه حكومة قاعدة لا ضرر على تلك القاعدة أيضاً فتأمّل ، ولا يخفى أنّها ناظرة إلى الحكم الوضعي.

ومنها : ما رواه طلحة بن زيد عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « إنّ الجار كالنفس غير مضارّ ولا إثم » (٢).

ومنها : ما رواه أبو بصير عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : « المطلّقة الحبلى ينفق عليها حتّى تضع حملها وهى أحقّ بولدها أن ترضعه بما تقبله امرأة اخرى ، يقول الله عزّوجلّ : ( لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ ) « لا يضارّ بالصبي ولا يضارّ بامّه في إرضاعه ... » (٣).

ومنها : ما رواه الحلبي عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : سألته عن الشيء يوضع على الطريق فتمرّ الدابة فتنفر بصاحبها فتعقره فقال : كلّ شيء يضرّ بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه » (٤).

فتدلّ على أنّ الاضرار بالغير ولو كان بالتصرّف في الشارع العام موجب للضمان وأنّه لا فرق بين أن يكون الاضرار بالمباشرة أو بالتسبيب.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٣ ، أبواب الوصايا ، الباب ٨ ، ح ٤.

(٢) المصدر السابق : إحياء الموات ، الباب ١٢ ، ح ٢.

(٣) المصدر السابق : ج ١٥ ، أبواب أحكام الأولاد ، الباب ٧٠ ، ح ٧.

(٤) المصدر السابق : ج ١٩ ، أبواب موجبات الضمان ، الباب ٩ ، ح ١.

٢٢٦

ومثله ما جاء في حديث أبي الصباح عن أبي عبدالله عليه‌السلام : « كلّ ما أضرّ بشيء من طريق المسلمين فهو له ضامن » (١).

ومنها : ما رواه حسن بن زياد عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « لا ينبغي للرجل أن يطلّق امرأته ثمّ يراجعها وليس له فيها حاجة ثمّ يطلّقها فهذا الضرار الذي نهى الله عزّوجلّ عنه إلاّ أن يطلّق ثمّ يراجع وهو ينوي الإمساك » (٢).

فيحتمل أن يكون المراد من قوله عليه‌السلام : « فهذا الضرار الذي نهى الله عزّوجلّ عنه » ما مرّ من قوله تعالى : ( وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا ) ، وعليه تكون الرواية من الطائفة الخاصّة ، ويحتمل أيضاً أن لا يكون مشيراً إلى تلك الآية فيدلّ على حرمة الاضرار بشكل عام ، فتدخل الرواية حينئذٍ في الروايات العامّة ، والظاهر من الرواية ( خصوصاً بقرينة الروايتين الاخريين الواردتين في نفس الباب اللتين صرّح فيهما بالآية ) هو الأوّل.

ومنها : ما رواه في عقاب الأعمال بإسناده عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث قال : « ومن أضرّ بامرأة حتّى تفتدي منه نفسها لم يرض الله له بعقوبة دون النار ... إلى أن قال : ومن ضارّ مسلماً فليس منّا ولسنا منه في الدنيا والآخرة ... إلى أن قال : ألا وإنّ الله ورسوله بريئان ممّن أضرّ بامرأته حتّى تختلع منه » (٣).

ولا يخفى أنّ هذه الرواية تشمل جميع موارد الضرر الذي يقع بين الناس بعضهم ببعض ، أي المسائل الحقوقية ، ولا يمكن التعدّي عنها إلى غيرها من أبواب العبادات.

ومنها : ما رواه إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال : سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن رجل اكترى أرضاً من أرض أهل الذمّة من الخراج وأهلها كارهون وإنّما تقبلها من السلطان لعجز أهلها عنها أو غير عجز ، فقال : « إذا عجز أربابها عنها فلك أن تأخذها إلاّ أن يضارّوا ... » (٤).

ومنها : ما رواه عبيد بن زرارة قال : قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : الجارية يريد أبوها أن يزوّجها من رجل ويريد جدّها أن يزوّجها من رجل آخر فقال : « الجدّ أولى بذلك ما لم يكن مضارّاً » (٥).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٣ ، أبواب الوصايا ، الباب ٩ ، ح ٢.

(٢) المصدر السابق : ج ١٥ ، أبواب أقسام الطلاق ، الباب ٣٤ ، ح ١.

(٣) المصدر السابق : ج ١٥ ، أبواب الخلع والمباراة ، الباب ٢ ، ح ١.

(٤) المصدر السابق : كتاب التجارة ، الباب ٢١ ، من أبواب عقد البيع ، ح ١٠.

(٥) المصدر السابق : كتاب النكاح ، الباب ١١ ، من أبواب عقد النكاح ، ح ٢.

٢٢٧

ومنها : ما رواه إسحاق بن عمّار قال قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : « الرجل يكون عليه اليمين ( الدَين ) فيحلفه غريمه بالأيمان المغلّظة أن لا يخرج من البلد إلاّبعلمه. فقال : لا يخرج حتّى يعلمه ، قلت : إن أعلمه لم يدعه قال : إن كان علمه ضرراً عليه وعلى عياله فليخرج ولا شيء عليه » (١).

ومنها : ما رواه حمران في حديث طويل قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : « لا يكون ظهار في يمين ولا في إضرار ولا في غضب » (٢).

هذه هى الروايات الواردة من طرق الخاصّة.

وأمّا ما ورد من طريق العامّة فمنها : ما رواه أحمد في مسنده عن عبادة بن صامت (٣) مسنداً قال : « إنّ من قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ المعدن جبّار ، والبئر جبّار ، والعجماء جرحها جبّار ، والعجماء البهيمة من الأنعام ، والجبّار هو الهدي الذي لا يعزم ، وقضى في الركاز الخمس ، وقضى أنّ النخل لمن أبرّها إلاّ أن يشترط المبتاع ، وقضى أنّ مال المملوك لمن باعه ... إلى أن قال : وقضى للجدّتين من الميراث بالسدس بينهما ، وقضى أنّ من أعتق شركاء في المملوك فعليه جواز عتقه إن كان له مال ، وقضى أن لا ضرر ولا ضرار ، وقضى أنّه ليس لعرق ظالم حقّ ، وقضى بين أهل المدينة في النخل لا يمنع نفع بئر ، وقضى بين أهل البادية ( المدينة ) أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل الكلاء » (٤).

ومن الواضح ( بشهادة مضمون الرواية ) عدم صدور هذه الأقضية في زمان واحد وفي رواية واحدة بل صدرت في وقائع مختلفة جمعها عبادة بن صامت في هذا الحديث ، وحينئذٍ لا يبعد عدم كون قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا ضرر ولا ضرار » رواية مستقلّة غير ما ورد في قضيّة سمرة وشبهها التي مرّ ذكرها.

ومنها : ما رواه أحمد أيضاً في مسنده مسنداً عن ابن عبّاس قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٦ ، كتاب الأيمان ، الباب ٤٠ ، ح ١.

(٢) المصدر السابق : ج ١٥ ، كتاب الظهار ، الباب ٢ ، ح ١.

(٣) وهو من جمع أقضيّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٤) مسند أحمد : ج ٥ ، ص ٣٢٧.

٢٢٨

ضرر ولا ضرار ، وللرجل أن يجعل خشبة في حائط جاره والطريق الميثاء سبعة أذرع » (١).

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الميثاء السهل ، ولا يخفى إنصرافه عن الطرق في يومنا هذا.

ومنها : ما رواه مالك في موطّأه عن عمر بن يحيى المازني عن أبيه : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « لا ضرر ولا ضرار » (٢).

ومنها : ما رواه ابن ماجه في سننه عن عبادة بن صامت : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قضى أن لا ضرر ولا ضرار » (٣).

وأيضاً عن ابن عبّاس (٤) قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « لا ضرر ولا ضرار » وعن ابن حرمة (٥) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من ضارّ أضرّ الله به ».

ومنها : ما رواه في كنز العمّال عن ابن عبّاس عن عبادة : « لا ضرر ولا ضرار » (٦).

وعن المازني : « لا ضرر ولا ضرار » وعن ابن عبّاس : « لا ضرر ولا ضرار » (٧).

ومنها : ما رواه ابن الأثير في النهاية أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » (٨).

ومنها : ما رواه أبو داود في سننه عن الإمام الباقر عليه‌السلام عن سمرة بن جندب : « إنّه كان عضد ( عضيد ) من النخل في حائط رجل من الأنصار ، قال : ومع الرجل أهله فكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذّى به ويشقّ عليه فطلب إليه أن يبيعه فأبى ، فطلب إليه أن يناقله فأبى ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فذكر ذلك له فطلب إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبيعه فأبى فطلب إليه أن يناقله فأبى ، قال : فهبه له ولك كذا وكذا أمراً رغّبه فيه فأبى ، فقال : أنت مضارّ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله للأنصاري : إذهب فاقلع نخله » (٩).

__________________

(١) مسند أحمد : ج ١ ، ص ٣١٣.

(٢) موطأ مالك : كتاب الأقضية ، باب القضاء في المرفق ، ج ٢ ، ص ٧٤٥.

(٣) سنن ابن ماجه : ج ٢ ، ص ٧٨٤.

(٤) المصدر السابق : ص ٧٨٤ و ٧٨٥.

(٥) المصدر السابق.

(٦) كنز العمّال : ج ٤ ، ص ٥٩ ، وص ٦١ باب الخلاء والغشّ.

(٧) المصدر السابق.

(٨) المصدر السابق.

(٩) سنن أبي داود : ج ٣ ، ص ٣١٥ ، أبواب من القضاء ، رقم الحديث ٣٦٣٦.

٢٢٩

ومنها : ما رواه أبو داود أيضاً في سننه عن أبي صرمة صاحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « من ضارّ أضرّ الله به ومن شاقّ شاقّ الله عليه » (١).

ونفس المضمون ورد في سنن الترمذي (٢).

هذه ما ورد من طرق العامّة.

وقد ظهر من مجموع ما ورد من الطريقين أنّ الحديث ( لا ضرر ولا ضرار ) لو لم يكن متواتراً فلا أقلّ من كونه متظافراً ، وقد قال العلاّمة المجلسي رحمه‌الله في مرآة العقول في شرح حديث سمرة : « هذا المضمون مروي من طرق العامّة والخاصّة بأسانيد كثيرة فصار أصلاً من الاصول ، وبه يستدلّون في كثير من الأحكام » (٣).

أضف إلى ذلك استدلال فقهائنا بهذا الحديث بعنوان أصل مسلّم ، وهذا هو الشيخ الطوسي رحمه‌الله استدلّ به في الخلاف كتاب البيع في مسائل الغبن ( المسألة ٦٠ ) وكتاب الشفعة المسألة ١٤.

إلى هنا تمّ الكلام في المقام الأوّل.

المقام الثاني : في مفاد الحديث

ولابدّ فيه من تقديم امور :

الأمر الأوّل : في قيد « في الإسلام » الذي سيأتي دخله وتأثيره في معنى الحديث والاستظهار منه.

وقد ورد هذا القيد في أحاديث عديدة من الطريقين ، فورد ( كما مرّ في المقام الأوّل ) من طريق الخاصّة في مرسلة الصدوق الواردة في باب الإرث ، وفي مجمع البحرين في مادّة « ضرر » في ذيل حديث الشفعة ، وفي عوالي اللئالي ، ومن طرق العامّة في نهاية ابن الأثير.

لكن بما أنّ جميع هذه الطرق غير قابلة للإعتماد خصوصاً بعد ملاحظة مخالفة بعضها مع

__________________

(١) سنن أبي داود : ج ٣ ، ص ٣١٥ ، أبواب من القضا ، ٣٦٣٥.

(٢) سنن الترمذي : ج ٤ ، ص ٣٣٢ ، باب ما جاء في الخيانة والغشّ.

(٣) نقلناه من مستدرك سفينة البحار : ج ٦ ، ص ٤٤٤ ، مادّة « ضرر ».

٢٣٠

ما جاء في سائر الطرق ( فإنّ حديث الشفعة الذي جاء في مجمع البحرين مع القيد المذكور مذكور في جوامع أخبارنا بدون هذا القيد ، مضافاً إلى أنّ الظاهر أخذه هذا الحديث من غيره ( ولعلّه من نهاية ابن الأثير ) ومضافاً إلى نقله في بعض الكتب الفتوائية أيضاً بكلتا الصورتين ، فنقل في الخلاف في كتاب الشفعة ( المسألة ١٤ ) مع هذا القيد ، وفي كتاب البيع ( المسألة ٦٠ ) بدون هذا القيد ، فتذييل هذا الحديث بهذا الذيل غير ثابت.

فالحاصل أنّ وجود هذا القيد في الأسانيد المعتبرة ليس بثابت هذا أوّلاً.

وثانياً : لو فرضنا وجوده فيها فهل هو بمعنى أنّ الحديث صدر من جانب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بصورتين أو لا؟

قد يقال : لا يبعد صدوره منه صلى‌الله‌عليه‌وآله كذلك فيما إذا وقعت الصورتان ذيل قضيتين ( كقضية سمرة والشفعة ) وأمّا إذا وقعتا ذيل قضيّة واحدة فنقلت في بعض الطرق مع ذلك القيد وفي بعض آخر بدونه فحينئذٍ يقدّم ما اشتمل على الزيادة على ما لم يشتمل عليها ويؤخذ به ، نظراً إلى تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة بناءً على أنّه أصل عقلائي ، فظهر أنّه بناءً على اعتبار الطريقين وبناءً على ورودهما في ذيل قضية واحدة وبناءً على وجود السيرة العقلائيّة على تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة تكون الحجّة في المقام هى ما اشتملت على قيد « في الإسلام ».

لكن جميع المباني والقيود الثلاثة مشكوكة غير ثابتة ، فلا طريق معتبر ورد فيه هذا القيد ، وليست القضية واحدة ، ولا أصل عقلائي على عدم الزيادة ، كما يشهد عليه ملاحظة رسائل العقود والعهود في يومنا ، هذا فيما إذا وقعت زيادة في واحدة من إثنتين منها مثلاً فإنّهم يعتمدون حينئذٍ على قرائن لفظيّة أو حاليّة أو مقاميّة توجب الاطمئنان بثبوتها ، وإلاّ لا اعتبار لها عندهم ، بل يحكمون بالتساقط بعد التعارض.

فصارت النتيجة في النهاية عدم ثبوت القيد المذكور.

الأمر الثاني : في قيد « على مؤمن » الذي سيأتي تأثيره أيضاً في الاستظهار من الحديث.

وقد ورد في أحد طريقي حديث زرارة ، وهو طريق ابن مسكان عنه مع ورودهما في ذيل قضيّة واحدة وهى قضية سمرة كما مرّ ، فلو قبلنا وجود أصالة عدم الزيادة عند العقلاء وكان السند معتبراً في كليهما يقدّم طريق ابن مسكان عن زرارة على طريق ابن بكير عن زرارة ،

٢٣١

وتصير النتيجة تذييل الحديث بقيد « على مؤمن ».

ولكن أوّلاً : ليس الأصل المذكور ثابتاً كما مرّ آنفاً ، وثانياً : ليس السند في طريق ابن مسكان معتبراً ، لارساله.

الأمر الثالث : في تذييل حديث الشفعة وحديث منع فضل الماء بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا ضرر ولا ضرار » وعدمه.

وسيأتي دخله في كون كلمة « لا » في « لا ضرر ولا ضرار » ناهية أو نافية ، الذي سيأتي البحث عنه وعن الثمرة التي تترتّب عليه.

والظاهر من الروايتين ورود قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ضرر ولا ضرار في ذيل كلّ واحدة منهما كما أشرنا إليه حين نقلهما ، ولكن أصرّ بعض الأعاظم أنّه من عمل عقبة بن خالد الراوي لهما من باب الجمع في الرواية ، وهو العلاّمة شيخ الشريعة الأصفهاني ؛ ، وتبعه المحقّق النائيني رحمه‌الله وبعض الأعلام في مصباح الاصول.

واستشهد شيخ الشريعة رحمه‌الله بأنّ قضيّتي الشفعة ومنع فضل الماء رويتا من طرق العامة المنتهية إلى عبادة بن صامت ، بينما كانت طرق الخاصّة تنتهي إلى عقبة بن خالد ، وهى خالية من هذا الذيل بلاريب ، لأنّ روايته مصدّرة في كلّ فقرة من فقراتها بقوله « وقضى » وهو ينادي بأعلى صوته باستقلال كلّ فقرة عن غيرها ( فراجع متن الرواية التي أوردناها في المقام الأوّل ) كما أنّ رواية عقبة بناءً على النسخة المصحّحة تكون بالواو لا بالفاء وحينئذٍ يدور الأمر بين صراحة رواية عبادة في الانفصال وظهور رواية عقبة في الإتّصال ، فتتقدّم الاولى لصراحتها على الثانية ، خصوصاً بعد ملاحظة ما ورد في عبادة من أنّه كان شيعياً ضابطاً متقناً.

ويرد عليه : أنّه لا دليل على وثاقة كلّ واحد من الراويين ، فإنّ عقبة مجهول في الكتب الرجالية للإماميّة ولم يرد فيه مدح إلاّفي رواية راويها هو نفسه (١) مضافاً إلى أنّها تدلّ على كونه شيعياً لا على وثاقته ، وأمّا عبادة فقد ورد في كتب الإمامية « أنّه كان شيعياً كان ابن أخي أبي ذرّ من السابقين الذين أرجعوا إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام » وهذا لا يدلّ على وثاقته أيضاً ، نعم

__________________

(١) وإليك نصّها : علي بن عقبة عن أبيه ( عقبة بن خالد ) قال : قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام « إنّ لنا خادماً لا تعرف ما نحن عليه ، فإذا أذنبت ذنباً وأرادت أن تحلف بيمين قالت : لا وحقّ الذي إذا ذكرتموه بكيتم ، قال فقال : رحمكم الله من أهل البيت » رجال الكشّي : ص ٣٤٤ ، رقم الحديث ٦٣٦ ، طبعة جامعة مشهد المقدّسة.

٢٣٢

قال شيخ الشريعة بالنسبة إليه : « كان ضابطاً متقناً في نقل الأحاديث ومن خيار الشيعة على ما قيل » لكن لم نر نقل هذه العبارة في كتبنا.

هذا كلّه ما ورد في عبادة ، ولو فرضت وثاقته لا يلزم منه اعتبار الحديث لأنّ سائر رواته مجهول الحال ، هذا أوّلاً.

وثانياً : لا يخفى على المتأمّل في رواية عبادة تقطيعه للأحاديث ، خصوصاً بعد ملاحظة عدم نقله قضيّة سمرة واكتفائه بنقل ذيلها ( لا ضرر ولا ضرار ) مع أنّ الثابت من الطرق المعتبرة تصدير هذا بقضية سمرة.

وثالثاً : لا يختصّ الظهور في الإتّصال بفاء التفريع ، لأنّ العطف بالواو أيضاً ظاهر فيه وإن كان ظهوره أضعف من ظهور الفاء.

وأمّا ما استدلّ به المحقّق النائيني وتلميذه المحقّق في مصباح الاصول على مقالة شيخ الشريعة فهو وجوه :

الوجه الأوّل : « أنّ بين موارد ثبوت حقّ الشفعة وتضرّر الشريك بالبيع عموم من وجه ، فربّما يتضرّر الشريك ولا يكون له حقّ الشفعة كما إذا كان الشركاء أكثر من إثنين ، وقد يثبت حقّ الشفعة بلا ترتّب ضرر على أحد الشريكين ببيع الآخر ، كما إذا كان الشريك البائع مؤذياً ، وكان المشتري ورعاً بارّاً محسناً إلى شريكه ، وربّما يجتمعان كما هو واضح ، فإذاً لا يصحّ إدراج الحكم بثبوت حقّ الشفعة تحت كبرى قاعدة لا ضرر » (١).

إن قلت : يمكن كونها من قبيل الحكمة ، ( أي من قبيل علّة التشريع لا علّة الحكم ) قلت : حكمة الأحكام لو لم تكن دائمية فلا أقلّ من لزوم كونها غالبية مع أنّ الضرر في موارد الشفعة ومنع فضل الماء ليس غالبياً (٢).

والجواب عنه : أنّ الوجدان حاكم على أنّ أغلب الافراد لا يرضون لتشريك شخص في أموالهم إلاّبعد الدقّة والتأمّل في حقّ الشريك ، فلو باع الشريك سهمه من دون إطّلاع صاحبه يحكم العرف بأنّه جعله في معرض الضرر والخسران ، خصوصاً بعد ملاحظة أنّ كلّ إنسان لا يرضى بالشركة إلاّمع أقلّ قليل من افراد المجتمع ، لعدم ركونهم إلى كلّ أحد.

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٥٢١ ، طبع مكتبة الداوري.

(٢) راجع رسالة المحقّق النائيني رحمه‌الله في لا ضرر ( المطبوعة في منية الطالب : ج ٢ ، ص ١٩٥ ).

٢٣٣

وأمّا عدم وجود حقّ الشفعة فيما إذا كان الشركاء أكثر من اثنين فلأنّ وجود فرد ثالث في البين يوجب سهولة الأمر ، وإن أبيت عن هذا فنلتزم باستثناء هذا المورد تعبّداً ولأجل مصلحة خفيت علينا.

الوجه الثاني : أنّ مفاد لا ضرر إنّما هو نفي الحكم الضرري أو نفي الموضوع الضرري ، مع أنّ الضرر في مورد ثبوت حقّ الشفعة موجب لإثبات الحكم ، وهو الخيار (١).

والجواب عنه : أنّ كون مفاد لا ضرر خصوص نفي الحكم الضرري أوّل الكلام ، بل يمكن أن تكون هذه الرواية ( رواية الشفعة ) بنفسها دليلاً على عموم مفاد القاعدة وبطلان المبنى المذكور ، لا أن يكون المبنى دليلاً على اختصاصها بنفي الحكم.

هذا ـ مضافاً إلى أنّ قضيّة سمرة أيضاً تشهد على عمومها لأنّ وجوب الاستئذان وكذلك وجوب قلع الشجرة أو جوازه حكم إثباتي.

الوجه الثالث : « أنّ الضرر لا ينطبق على منع المالك فضل ماله عن الغير ( بالنسبة إلى حديث منع فضل الماء ) إذ من الواضح أنّ منع المالك غيره عن الانتفاع بماله لا يعدّ ضرراً على الغير ، غايته عدم الانتفاع به ، وعدم الانتفاع لا يعدّ ضرراً » (٢).

الوجه الرابع : « أنّ النهي في مورد حديث منع فضل الماء تنزيهي قطعاً لعدم حرمة منع فضل الماء عن الغير بالضرورة فلا يندرج تحت كبرى قاعدة لا ضرر » (٣).

والجواب عنهما : أنّ حكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدم منع فضل الماء يكون مورده بقرينة مكان الصدور ( وهو مناطق الحجاز التي كان تحصيل الماء فيها على الإنسان شاقّاً جدّاً ) ما إذا كان الممنوع في حاجة شديدة ويشقّ عليه تحصيل ماء آخر بحيث يوجب من فضل الماء وقوعه في حرج شديد وضيق في المعيشة ، وفي مثل هذا المورد ليس المنع من فضل الماء مجرّد عدم الانتفاع بل يصدق عليه الضرر قطعاً ، كما أنّه لا يبعد فيه الحكم بحرمة المنع بمقتضى ظاهر الرواية كما أفتى به جماعة من الفقهاء كالشيخ الطوسي وابن جنيد وابن زهرة رحمه‌الله ، وهذا نظير ما

__________________

(١) راجع مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٥٢١ ، طبع مكتبة الداوري.

(٢) المصدر السابق : ج ٢ ، ص ٥٢١ ـ ٥٢٢ ، طبع مكتبة الداوري.

(٣) المصدر السابق : ص ٥٢٢ ، وراجع رسالة النائيني رحمه‌الله في لا ضرر ( المطبوعة في منية الطالب : ج ٢ ، ص ١٩٥ ).

٢٣٤

ورد من الحكم بحرمة الإحتكار وجواز البيع على المحتكر مع أنّ الناس مسلّطون على أموالهم.

الوجه الخامس : أنّ جملة « ولا ضرار » لا تناسب حديث الشفعة ولا حديث منع فضل الماء لأنّها في اللغة مخصوصة بالضرر العمدي وهو أخصّ من مورد الحديثين (١).

وفيه : أنّه كم من قضية تكون مشتملة على فقرات عديدة وأجزاء مختلفة ولكنّها لاشتهارها بعبارة مخصوصة وجيزة تذكر جميعها في مقام الاستشهاد وإن كان مورد الإستشهاد خصوص بعض فقراتها.

من قبيل رواية البزنطي وصفوان المشتملة على ثلاث فقرات : « رفع ما اكرهوا عليه وما لم يطيقوه وما أخطأوا » مع أنّ موردها خصوص الإكراه. وليكن محلّ الكلام من هذا القبيل.

الأمر الرابع : في معنى الضرر والضرار

ولنا في تعيين معاني اللغات وتشخيص حدودها ثلاثة طرق :

١ ـ الرجوع إلى كتب اللغة ، وقد مرّت حجّية قول اللغوي.

٢ ـ الرجوع إلى موارد الاستعمال إذا بلغ إلى حدّ الإطّراد.

٣ ـ الرجوع إلى المتبادر إلى الذهن ، وهى تفيد بالإضافة إلى اللغات التي كثر استعمالها في معانيها بحيث تتبادر المعاني إلى ذهن كلّ من أنس باللسان ولو كان من غير أهله.

ولا يخفى أنّ كلمة « الضرر » من اللغات التي يمكن في تعيين معناها أعمال كلّ واحد من هذه الطرق.

أمّا الطريق الأوّل ففي مفردات الراغب : « الضرّ (٢) سوء الحال إمّا في النفس لقلّة العمل والفضل وإمّا في البدن لعدم جارحة ونقص ، وأمّا في الحال من قلّة مال وجاه ».

ولا تخفى المسامحة الموجودة في هذا التعريف مع أنّه من أحسن التعاريف ومع دقّة نظر الراغب في مفرداته.

__________________

(١) راجع رسالة المحقّق النائيني رحمه‌الله في لا ضرر ، ( المطبوعة في منية الطالب : ج ٣ ، ص ١٩٥ و ١٩٩ ).

(٢) الضرّ بالفتح والضُرّ بالضمّ والضرر بمعنى واحد ومن أصل واحد إنّما الفرق في أنّ الأوّل مصدر والأخيرين إسم المصدر.

٢٣٥

والأولى أن يقال ، إنّه فقد كلّ ما نجده وننتفع به من مواهب الحياة من نفس أو مال أو عرض أو غير ذلك فلا ينحصر الأمر في ما ذكره ، إلاّ أن يكون ما ذكره من قبيل ذكر المثال.

وفي لسان العرب : الضَرّ والضُرّ لغتان ، كلّ ما كان من سوء حال أو فقر أو شدّة في بدن فهو ضُرّ وما كان ضدّاً للنفع فهو ضَرّ.

وفي كتاب العين ( للخليل بن أحمد ) : الضَرّ والضُرّ لغتان فإذا جمعت بين الضرّ والنفع فتحت الضاد ، وإذا افردت الضرّ ضمّمت الضاد إذا لم تجعله مصدراً ، هكذا يستعمله العرف ، والضرر النقصان يدخل في الشيء.

وفي مختار الصحاح : الضرّ ضدّ النفع والضُرّ بالضمّ الهزل وسوء الحال.

ونقل في المفردات عن الكلّيات : الضَرّ بالفتح شائع في كلّ ضرر وبالضمّ خاصّ بما في النفس كمرض وهزل.

وفي المقاييس : له ثلاثة اصول : الأوّل خلاف النفع ، والثاني اجتماع الشيء ، والثالث القوّة ، ثمّ قال : الضَرّة اسم مشتقّ من الضَرّ كأنّها تضرّ الاخرى كما تضرّها تلك ، ثمّ مثّل المعنى الثاني بضرّة الإبهام وهو اللحم المجتمع تحتها ، بضرّة الضرع : لحمته ، قال أبو عبيدة : الضرّة التي لا تخلو من اللبن ، وسمّيت بذلك لاجتماعها ، ومثّل المعنى الثالث بالضرير ، وهو قوّة النفس ، يقال : فلان ذو ضرير أي ذا صبر على الشيء وذا مقاصاة.

أقول : يمكن إرجاع المعنى الثاني والثالث إلى المعنى الأوّل لأنّ استعمال الضرّة مثلاً في « الضرّتان » يكون بلحاظ اضرار كلّ واحدة منهما بالاخرى ، ولازمه اجتماعهما على الاضرار ، ولأنّ الصبر على الشدائد ( في المعنى الثالث ) أيضاً يلازم الضرر غالباً.

وفي القاموس : أنّه ضدّ النفع وأنّه سوء الحال.

وفي المصباح : « ضرّه يضرّه من باب قتل ، إذا فعل به مكروهاً و ... قد اطلق على نقص يدخل الأعيان ».

وفي النهاية : « لا ضرَرَ ولا ضرار في الإسلام ... أي لا يضرّ الرجل أخاه فينقصه شيئاً من حقّه ».

والظاهر أنّ اختلاف أرباب اللغة في تعبيراتهم ليس لاختلافهم في معنى الكلمة بل من جهة وضوح المعنى ، وإنّ كلّ واحد منهم أشار إليه من ناحية ، بل يمكن أن يقال بعدم الحاجة

٢٣٦

إلى الرجوع إلى أقوال علماء اللغة في أمثال المقام بعد إمكان الرجوع إلى ما يتبادر منه إلى أذهاننا ، لأنّ من يزاول هذه اللغة كمزاولتنا يعدّ من أهل الخبرة بالنسبة إلى أمثال هذه اللغات المعروفة التي يكثر دورانها في الألسن كما لا يخفى.

والذي نجده من إرتكازنا الحاصل من تتبّع موارد استعمالات كلمة الضرر هو ما مرّ آنفاً من أنّه عبارة عن فقد كلّ ما نجده وننتفع به من مواهب الحياة في النفس أو المال أو العرض أو غير ذلك.

وبهذا يظهر ما يستفاد من الطريق الثالث ( وهو الرجوع إلى التبادر ) فالمتبادر من الضرر هو ما ذكره في المفردات مع تغيير أشرنا إليه ، وأمّا الطريق الثاني ( وهو الرجوع إلى موارد الاستعمال ) فكذلك يستفاد منه ما يقابل النفع ، والشاهد عليه وقوع عنوان الضرر في كثير من موارد الاستعمال في مقابل عنوان النفع ، ويكفيك في هذا المجال ملاحظة الموارد التي وردت في كتاب الله العزيز كقوله تعالى : ( فَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ) وقوله : ( يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَايَضُرُّهُ وَمَا لَايَنْفَعُهُ ) وقوله : ( لَايَمْلِكُونَ لِانفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً ).

هذا كلّه في معنى كلمة « الضرر ».

وأمّا ( الضرار ) فحيث إنّ استعماله ليس كثيراً مطّرداً فلا يمكن الرجوع فيه إلى الطريق الثالث وهو التبادر ، لعدم حصول إرتكاز وانس ذهني بالنسبة إليه حتّى بالإضافة إلى أهل اللسان ، فلابدّ حينئذٍ من الرجوع إلى الطريقين الآخرين :

أمّا الطريق الأوّل فكلمات اللغويين فيه مختلفة بل ربّما يختلف فيه كلمات لغوي واحد ، فقال في لسان العرب : « وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ولكلّ واحد من اللفظين معنى غير آخر فمعنى قوله لا ضرر ... إلى أن قال : وقوله « لا ضرار » أي لا يضارّ كلّ واحد منهما صاحبه ، فالضرار منهما معاً والضرر فعل واحد ـ ومعنى قوله « ولا ضرار » أي لا يدخل الضرر على الذي ضرّه ولكن يعفو عنه.

والظاهر أنّ ما ذكره معنيان مختلفان : الأوّل : اضرار كلّ واحد بالآخر ، والثاني : المجازاة على الضرر.

٢٣٧

ثمّ قال : « قال ابن الأثير : قوله : لا ضرر ، أي لا يضرّ الرجل أخاه ، والضرار فِعال من الضرّ أي لا يجازيه على اضراره ، والضرر فعل الواحد والضرار فعل الاثنين ، والضرر ابتداء الفعل ، والضرار الجزاء عليه ، وقيل : الضرر ما تضرّ به صاحبك وتنتفع أنت به ، والضرار أن تضرّه من غير أن تنتفع ، وقيل هما بمعنى ، وتكرارهما للتأكيد ».

فقد ذكر إلى هنا أربعة معانٍ تكون هى الأساس والعمدة من المعاني التي ذكرناها في كتابنا القواعد الفقهيّة :

١ ـ أن يكون الضرار بمعنى الضرر.

٢ ـ أنّه الاضرار بالغير بما لا ينتفع به بخلاف الضرر فإنّه الاضرار بما ينتفع.

٣ ـ أنّه فعل الاثنين والضرر فعل الواحد.

٤ ـ أنّه المجازاة على الضرر والمقابلة بالمثل.

وأمّا تفسيره بالتعمّد بالضرر فيرجع إلى المعنى الثاني ، أي الاضرار بالغير بما لا ينتفع به.

هذا ما يستفاد من لسان العرب ، وسائر كتب اللغة اختار كلّ واحد منها بعض هذه الأربعة ، نعم ذكر في القاموس أنّه بمعنى الضيق ، وسيأتي ما فيه في آخر البحث.

وبهذا يظهر أنّ تعيين معنى « الضرار » بالطريق الأوّل مشكل جدّاً.

وأمّا الطريق الثاني ، وهو الإطراد وكثرة الإستعمال فالمستفاد منه عدم كونهما بمعنى واحد ( أي المعنى الأوّل من المعاني الأربعة ) مضافاً إلى أنّه بعيد في نفسه لأنّ أحدهما مصدر الثلاثي المجرّد والآخر مصدر المزيد ، كما أنّ معنى المجازاة على الضرر ( وهو المعنى الرابع ) يكون من لوازم باب المفاعلة ، وهكذا المعنى الثالث وهو كونه فعل الاثنين فليسا هما مستفادين من كثرة الاستعمال بل المستفاد من التتبّع في موارد إستعمال الكلمة في الكتاب والسنّة إنّما هو المعنى الثاني وهو ـ كما أشرنا ـ عبارة عن التعمّد على الضرر بما لا ينتفع به فقوله تعالى : ( وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً ) معناه الإمساك ثمّ الطلاق بقصد الإيذاء لا بقصد الإمساك والانتفاع كما يشهد عليه قوله تعالى : ( لِتَعْتَدُوا ) الوارد في ذيل الآية وكذلك الروايات الواردة في ذيلها ، وهكذا قوله تعالى : ( لَاتُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ) بناءً على أحد التفسيرين المذكورين سابقاً وهو كونه نهياً عن اضرار الامّ بولدها بترك إرضاعه غيظاً على أبيه وعن اضرار الأب بولده بانتزاعه عن امّه طلباً للاضرار بها ، وقوله تعالى : ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى

٢٣٨

بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ) الذي مرّ في تفسيره أنّه نهى عن الاضرار بالورثة بإقراره بدَين ليس عليه ، دفعاً لهم عن ميراثهم ، وقوله تعالى : ( وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ) لأنّه نهي عن الاضرار بالمطلّقات والتضييق عليهنّ في النفقة والسكنى طلباً للاضرار بهنّ.

هذا كلّه في الآيات.

وهكذا الروايات ، فإنّ معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « أنت رجل مضارّ » في قضيّة سمرة الوارد في بعض الطرق ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما أراك ياسمرة إلاّمضارّاً » في طريق آخر ، إنّما هو التعمّد على الضرر مع عدم منفعة عقلائيّة في عمله ، وهكذا رواية ابن حمزة الغنوي لأنّ الوارد فيها : « إذا إزدادت القيمة بالبرء ومع ذلك طلب الرأس والجلد فليس إلاّلقصد الاضرار بصاحبه ».

فظهر أنّ المستفاد من موارد استعمالات هذه الصيغة في الكتاب والسنّة إنّما هو الاضرار العمدي بما لا ينتفع به.

وأمّا كونه بمعنى الضيق كما ذكره في القاموس فإن كان المراد منه هو ما ذكر ، فبها ، وإلاّ فإن كان المراد منه الايقاع في الكلفة والحرج في مقابل الضرر الذي هو إيراد نقص في الأموال والأنفس فهو أيضاً ممّا لا يمكن المساعدة عليه لعدم كونه ملائماً موارد استعماله كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في مفاد كلمتي « الضرر » و « الضرار ».

الأقوال الواردة في معنى الحديث

إذا عرفت ذلك كلّه فلنرجع إلى معنى الحديث والأقوال الواردة فيه ، فنقول ومن الله سبحانه نستمدّ التوفيق والهداية : منشأ الخلاف فيها أنّ كلمة « لا » الواردة في الحديث هل هى ناهية أو نافية ، فبناءً على كونها نافية يحتمل فيه ثلاثة وجوه لكلّ واحد منها قائل من الأصحاب ، فأحدها ما قال به الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله ، والثاني ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، والثالث ما نقله الشيخ الأعظم رحمه‌الله ، عن بعض الفحول ولم يسمّه ، وبناءً على أنّها ناهية يوجد في معنى الحديث قولان : أحدهما قول العلاّمة شيخ الشريعة رحمه‌الله ، والثاني ما ذهب إليه في تهذيب الاصول فتصير الأقوال خمسة :

أمّا القول الأوّل ، أي ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري رحمه‌الله فهو أن تكون « لا » نافية ، ويراد

٢٣٩

به نفي الحكم الشرعي الذي هو ضرر على العباد ، وأنّه ليس في الإسلام مجعول ضرري من دون فرق بين الأحكام الوضعيّة كلزوم البيع العنبي ، والأحكام التكليفيّة كوجوب اعطاء ثمن كثير لشراء ماء قليل للوضوء ، ولازمه حينئذٍ حكومة هذه القاعدة على جميع الأحكام الضررية الوضعيّة أو التكليفيّة وتقييدها لأدلتها.

لكن هنا كلام بين الأعلام في أنّ هذا التركيب ( لا ضرر ولا ضرار ) بناءً على هذا المعنى حقيقة أو مجاز؟ فأصرّ المحقّق النائيني رحمه‌الله على كونه حقيقة لا ادّعاء فيه ولا مجاز ، ولعلّه يستفاد أيضاً من بعض كلمات المحقّق الحائري رحمه‌الله.

وذهب في تهذيب الاصول إلى كونه مجازاً إمّا من باب مجاز الحذف ، أي « لا حكم ضرري » أو « لا حكم موجب للضرر » نظير قوله تعالى : ( وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ ) أي أهلها ، أو من باب المجاز في الكلمة بعلاقة السبب والمسبّب فذكر المسبّب ، وهو الضرر ، واريد منه السبب ، وهو الحكم الضرري ، أو من باب الحقيقة الإدّعائية ( مجاز السكّاكي ) بأن يدّعي أنّ الحكم الموجب للضرر بنفسه ضرر.

وسيأتي أنّ الحقّ عدم كونه مجازاً.

وأمّا القول الثاني ، ( وهو ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله ) فهو أن تكون « لا » نافية ولكن تنفي موضوع الضرر الخارجي ابتداءً ( لا الحكم ) فينفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، ويكون نفي موضوع الضرر كناية عن نفي الأحكام الضرريّة في الشريعة ، فهو داخل في باب الكناية لا المجاز.

والظاهر أنّ هذا القول غير قول الشيخ الأعظم رحمه‌الله وإن حاول في تهذيب الاصول أن يجعلهما قولاً واحداً ، ولعلّه ناظر إلى النتيجة.

وأمّا القول الثالث ، ( وهو ما نقله الشيخ رحمه‌الله عن بعض الفحول ) فهو أيضاً أن تكون « لا » نافية ، ويكون المراد من نفي الضرر نفي صفة من صفاته ، أعني « عدم التدارك » فقوله : لا ضرر أي لا ضرر غير متدارك في الشريعة ، ولازم هذا القول عدم حكومة القاعدة على شيء من أدلّة الأحكام بل إنّها تبيّن حكماً من الأحكام الفرعيّة نظير قاعدة « من أتلف مال الغير فهو له ضامن » التي لا نظر لها إلى سائر الأحكام.

وأمّا القول الرابع ، ( وهو مختار شيخ الشريعة ) فهو أن تكون « لا » ناهية ويراد من

٢٤٠