أنوار الأصول - ج ٣

أنوار الأصول - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-15-6
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٢٤

لأجل التعلّم ثمّ العمل على وفقه أو عقد القلب عليه إذا كان في اصول الدين.

نعم ، هيهنا إشكالات أوجبت الذهاب إلى الأقوال الثلاث الاخر ، وعمدتها أمران :

أحدهما : أنّ المفروض كون الجاهل عاجزاً عن العمل في مقام الامتثال فلا معنى لأن يعاقب على ترك ما لم يكن مقدوراً له ، نعم أنّه كان قادراً على التعلّم فيعاقب على تركه.

ثانيهما : ( بالنسبة إلى خصوص التكاليف المشروطة أو الموقتة ) أنّ الواقع في التكاليف المشروطة والموقتة لم ينجز على المكلّف كي يعاقب عليه ، إذ لا وجوب قبل تحقّق الشرط وقبل الوقت حتّى تكون المقدّمة ( وهى التفحّص والتعلّم ) واجبة ، وكذلك لا وجوب بعد تحقّق الشرط وبعد دخول الوقت أحياناً لعدم القدرة عليه.

أمّا الجواب عن الأوّل : فهو إنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً ولو كان منافياً له تكليفاً ، ففي ما نحن فيه فإن الواقع وإن كان مغفولاً عنه حين المخالفة ، وكان خارجاً عن تحت الإختيار ، ولكنّه بالنهاية ينتهي إلى الاختيار ، وهو ترك التعلّم عمداً حينما التفت إلى تكاليف في الشريعة ، كما هو الحال في كلّ مسبّب توليدي خارج عن تحت الاختيار إذا كان منتهياً إلى أمر اختياري ، فإذا ألقى مثلاً بنفسه من شاهق فرغم خروجه عن الاختيار بعد ذلك ، فيهلك قهراً بلا اختيار عند سقوطه على الأرض ، ولكن حيث كان الهلاك نتيجة الإلقاء الذي هو أمر اختياري فيكون مصحّحاً للعقاب على ما ليس بالاختيار.

إن قلت : تكليف العبد العاجز حين العجز بما يكون عاجزاً عنه تكليف بما لا يطاق ، وهو قبيح.

قلنا : ليس التكليف هذا تكليفاً بما لا يطاق لأنّه يكون مقدوراً له بالواسطة.

وإن شئت قلت : المعيار في العقاب وعدمه هو صحّة إسناد الترك إلى اختيار المكلّف وعدمها والإسناد ( ولو مع الواسطة ) صادق صحيح فيما إذا كان سقوط التكليف بسوء الاختيار.

وأمّا الإشكال الثاني فيمكن الجواب عنه بوجهين :

الوجه الأوّل : ما مرّ في محلّه من إمكان وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها ، ولا ينافي هذا كون وجوبها وجوباً ترشحياً لأنّ المراد منه الترشّح بحسب الداعوية في نفس المولى لا الترشّح تكويناً ، والأوّل يحصل بمجرّد تصوّر المولى وجوب ذي المقدّمة في المستقبل أيضاً ، فهو

٢٠١

يتصوّر مثلاً وجوب الحجّ في موسم الحجّ ويلاحظ أنّ المكلّف لا يقدر على الإتيان به لو لم يأت بمقدّماته فتترشّح من إرادته بالنسبة إلى الحجّ إرادة اخرى بالنسبة إلى المقدّمات ، وهذا أمر معقول ومتداول عند العقلاء فإذا تصوّر إنسان مجي صديقه غداً في داره فنفس هذا التصوّر يوجب حصول إرادته إيجاد مقدّمات الإستقبال من الآن.

الوجه الثاني : ما مرّ أيضاً كراراً من مسألة وجوب حفظ غرض المولى وأنّ العقل يحكم بأنّ أغراض المولى ليست بأقلّ من أغراض العبد في الأهميّة ، فكما يلزم العبد نفسه بإتيان مقدّمات تحصيل أغراضه الشخصيّة لابدّ له أن يلزم نفسه بإتيان مقدّمات تحصيل أغراض مولاه ولو في المستقبل وإن لم تحصل الإرادة والوجوب فعلاً.

فمن هذين الطريقين وجبت في الشريعة جميع المقدّمات المفوّتة وإن لم يكن الأمر بذي المقدّمة فعليّاً.

نعم ، هيهنا طريقان آخران يمكن المناقشة فيهما :

أحدهما : أنّ الواجب المشروط يرجع إلى الواجب المعلّق الذي يكون الوجوب فيه فعلياً والواجب استقبالياً.

وفيه أوّلاً : أنّه خلاف ظاهر أدلّة الواجبات المشروطة فإنّ ظاهرها أنّ الوجوب استقبالي.

وثانياً : ما ذهب إليه صاحب المدارك والمحقّق الأردبيلي رحمه‌الله من كون وجوب التعلّم وجوباً نفسيّاً.

وفيه أنّه خلاف الوجدان القطعي فإنّا نعلم علماً قطعيّاً بأنّ أمر المولى بالنسبة إلى التعلّم وإرادته له يكون من أجل ما يترتّب عليه من سائر التكاليف ، فهو إرشادي محض لأنّ الحكم المولوي النفسي يحتاج إلى وجود مصلحة في نفس الشيء ، ومعلوم أنّه لا مصلحة في نفس الفحص إلاّحفظ مصلحة الواقع أو عدم الوقوع في مفسدته بقدر الإمكان ، ولا أقلّ من كونه مخالفاً لظواهر أدلّة وجوب تحصيل العلم.

إلى هنا ظهر الحال في القول الأوّل والثاني.

أمّا القول الثالث : ( وهو ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله من استحقاقه العقاب على ترك التعلّم والفحص عند مخالفة الواقع لا مطلقاً ) فحاصل كلامه : إنّ وجوب التعلّم والفحص

٢٠٢

وجوب طريقي ( خلافاً لما ذهب إليه المحقّق الأردبيلي وصاحب المدارك صلى الله عليه وسلم من كونه وجوباً نفسياً استقلالياً ) وعليه تكون مخالفته موجبة لاستحقاق العقاب على ترك الفحص والتعلّم المؤدّي إلى مخالفة الواقع ، وذلك لأنّ وجوبه لأجل حفظ الواقع وطريقيّة التعلّم والفحص إلى إدراك الواقع كوجوب الاحتياط شرعاً في بعض الشبهات البدويّة ( كما في باب الفروج والدماء بل الأموال ) فالمطلوب بالذات هو الواقع ، ومطلوبيّة الاحتياط إنّما هى لأجل الوصول إلى الواقع وحصوله.

إن قلت : إذا كان الأمر كذلك فوجوبه يكون وجوباً غيرياً مقدّمياً ومن قبيل المقدّمات المفوتة على القول بالواجب المعلّق ، أو وجوباً عقلياً على القول بعدم إمكانه ، فلا يكون العقاب إلاّ على مخالفة الواقع لا على ترك التعلّم عند مخالفة الواقع.

قلنا : إنّ مناط وجوب التعلّم غير مناط وجوب حفظ القدرة أو تحصيلها في المقدّمات المفوتة ، ولا يقاس أحدهما بالآخر ، فإنّ القدرة ممّا يتوقّف عليها فعل المأمور به خارجاً ومن المقدّمات الوجوديّة له ، ولا يتمكّن المكلّف من فعل الواجب عند تفويت القدرة ، فيتحقّق عصيان خطاب ذي المقدّمة بمجرّد ترك هذه المقدّمات الوجودية ، ويستحقّ التارك العقاب على تفويت الواجب من زمان ترك المقدّمة ، إذ بتركها يفوت الواجب لا محالة ، ويمتنع عليه بالاختيار ويصدق أنّه فات منه الواجب ، وهذا بخلاف التعلّم والاحتياط ، فإنّه لا يتوقّف فعل الواجبات وترك المحرّمات عليهما في الخارج ، إذ ليس للعلم دخل في القدرة ليكون حاله حال المقدّمة المفوتة ، وليس لهما دخل في الملاك أيضاً ، فلا يكون لإيجاب التعلّم والاحتياط شائبة النفسيّة والاستقلاليّة ، بل الغرض من إيجاب التعلّم مجرّد الوصول إلى الأحكام والعمل على طبقها ، ومن إيجاب الاحتياط التحرّز عن مخالفة الواقع ، من دون أن يكون للتعلّم والاحتياط جهة موجبة لحسنهما الذاتي المستتبع للخطاب المولوي النفسي ، بل الخطاب المتعلّق بهما يكون لمحض الطريقيّة ، ووجوبهما يكون للغير لا نفسياً ولا بالغير.

فإن قلت : الوجوب للغير لا ينافي الوجوب النفسي ، فإنّ غالب الواجبات النفسيّة يكون وجوبها للغير بناءً على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

قلت : الغير الذي يجب الشيء لأجله يختلف ، فتارةً يكون هو ملاكات الأحكام التي اقتضت وجوب الشيء ، واخرى ، يكون هو الخطابات الواقعية ، ففي الأوّل لا يدور وجوب

٢٠٣

الشيء مدار وجود الملاك ، بل الملاك يكون حكمة لتشريع وجوب الشيء كاختلاط المياه في وجوب العدّة على النساء ، وفي الثاني يدور وجوب الشيء مدار وجود الخطاب الواقعي ، ويكون علّة للحكم لا حكمة للتشريع ، كوجوب ذي المقدّمة بالنسبة إلى وجوب المقدّمة ، والخطابات الواقعية بالنسبة إلى وجوب التعلّم والاحتياط تكون كوجوب ذي المقدّمة علّة للحكم لا حكمة للتشريع ، فوجوب التعلّم والاحتياط يكون من هذه الجهة كوجوب المقدّمة ، وإن كان يفترق من جهة اخرى وهى : أنّ وجوب المقدّمة يترشّح من وجوب ذيها بخلاف وجوب التعلّم والاحتياط ، وبما ذكرنا يظهر ضعف ما ينسب إلى المدارك من كون العقاب على نفس ترك التعلّم ، فإنّ المستتبع للعقاب إنّما هو ترك الواجب النفسي لا ترك الواجب الطريقي ، ويتلو ذلك في الضعف ما ينسب إلى المشهور من كون العقاب على ترك الواقع لا على ترك التعلّم ، فإنّ العقاب على الواقع المجهول قبيح ، وإيجاب التعلّم لا يخرجه عن الجهالة.

فالأقوى : أن يكون العقاب على ترك التعلّم المؤدّي إلى ترك الواقع لا على ترك التعلّم وإن لم يؤدّ إلى ذلك لينافي وجوبه الطريقي ، ولا على ترك الواقع لينافي جهالته ( انتهى ) (١).

هذا ـ ولكن لا يخلو كلامه من إبهامات وإشكالات :

أوّلها : ( بالنسبة إلى قوله : إنّ العلم لا دخل له في القدرة حتّى يكون حاله حال المقدّمات المفوتة ) إنّ للعلم دخلاً في القدرة لأنّه لا إشكال في أنّه مع الجهل بمناسك الحجّ مثلاً لا يكون قادراً على إتيانها ولو من طريق الاحتياط لأنّ الاحتياط أيضاً لابدّ فيه من وجود علم إجمالي بالتكليف.

ثانيها : كون العلم طريقيّاً لا ينافي وجوبه النفسي لجواز أن تلاحظ الطريقيّة بعنوان الحكمة لا العلّة ، نظير وجوب انتباه المأمورين لإطفاء الحريق لنوبتهم في تمام ساعات الليل والنهار ، الذي لا إشكال في أنّه طريقي للإطفاء ، ولكن حيث يكون طريقاً بنحو الحكمة فلا يسقط وجوب الانتباه والكون في محلّ الإنتظار بعنوان واجب نفسي.

ثالثها : ( وهو العمدة ) أنّ الوجوب إمّا غيري أو نفسي ولا ثالث لهما ، لأنّ الطريقيّة إمّا أن تكون من قبيل العلّة للحكم فترجع إلى الواجب الغيري ، أو تكون من قبيل الحكمة فترجع

__________________

(١) راجع فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٢٨١ ـ ٢٨٥ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢٠٤

إلى الواجب النفسي ، وهناك تناقض يشاهد في كلامه ، حيث يقول تارةً : « والخطابات الواقعية بالنسبة إلى وجوب التعلّم والاحتياط تكون كوجوب ذي المقدّمة علّة للحكم » واخرى يقول : « إنّ وجوب المقدّمة يترشّح من وجوب ذيّها بخلاف وجوب التعلّم والاحتياط » وليت شعري كيف لا يترشّح وجوب التعلّم من الخطابات الواقعية مع كونه معلولاً لها؟ والمعلول يترشّح دائماً من علّته.

فتحصّل أنّ الصحيح هو ما ذهب إليه المشهور من كون العقاب على ترك الواقع لكونه مقدوراً بالواسطة وهى تحصيل العلم ، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

يبقى الإشكال بالنسبة إلى الواجبات المشروطة أو الموقتة ، ولكنّه يرتفع بما مرّ من أنّ علّة الأحكام إنّما هى إرادة المولى التي تصدر منه بعد ملاحظة وجوب ذي المقدّمة في محلّه وملاحظة عدم إمكان تحقّقه بدون إتيان المقدّمة من الآن.

هذا كلّه في المقام الأوّل.

أمّا المقام الثاني : ( وهو البحث في الحكم الوضعي وصحّة العمل المأتي به وفساده ) فلا إشكال في صحّة العمل إذا أتى بالمأمور به على وجهه ، أي واجداً لجميع الشرائط والاجزاء وفاقداً لجميع الموانع ، ومن الشرائط قصد القربة في العبادات التي يمكن تمشيه فيها إمّا لأجل الغفلة ( كما يتصوّر في العوام ) أو رجاءً ( كما في الخواص ) ، ومنها قصد الإنشاء في المعاملات فإنّه أيضاً يمكن تمشّيه من الجاهل بالحكم الشرعي لإمكان تعلّق القصد بإنشاء المسبّبات الممضاة عند العقلاء وإن لم تكن شرعية ، ولذلك حكموا بصحّة بيع الغاصب لنفسه فضولة.

فالمدار كلّ المدار في صحّة العمل وفساده مطابقة المأتي به للمأمور به الواقعي لعدم موضوعيّة للاجتهاد أو التقليد بل إنّهما طريقان إلى الواقع محضاً.

ثمّ إنّه تارةً يحصل للمكلّف العلم بالمطابقة فلا إشكال حينئذٍ في صحّة العمل المأتي به.

واخرى يقع المأتي به مطابقاً لاجتهاده الفعلي أو تقليده الفعلي فلا إشكال أيضاً في الصحّة.

وثالثة لا يقع مطابقاً مع اجتهاده الفعلي أو تقليده الفعلي بل يقع موافقاً لمن يجب عليه

٢٠٥

تقليده عند صدور العمل منه ، ففي هذه الصورة يكون العمل باطلاً ويجب عليه الإعادة أو القضاء.

إن قلت : كيف تكون فتوى مرجعه الفعلي حجّة بالنسبة إليه ولا تكون فتوى المرجع السابق كذلك؟

قلنا : أوّلاً : أنّ فتوى المجتهد الفعلي تكون كاشفةً عن حكم الله الواقعي المطلق غير المقيّد بزمان خاصّ ، ومجرّد مطابقته لفتوى المجتهد السابق غير كافٍ لصحّة عمله لأنّ المفروض عدم استناده إليه.

وإن شئت قلت : إنّ فتوى المجتهد السابق كانت حجّة بالنسبة إلى من أسند عمله إليها ، وأمّا من لم يكن عمله مستنداً إليها فلا حجّة له حتّى يعتذر بها عند الله لو خالف الواقع ، لأنّه لم يسند عمله إلى فتوى المجتهد السابق حتّى تكون تلك حجّة له ، ولم يقع مطابقاً مع فتوى المجتهد الفعلي حتّى تكون هذه حجّة له.

بقي هنا شيء :

وهو أنّ المشهور بين الفقهاء صحّة عمل الجاهل المقصّر مع استحقاقه للعقوبة في موردين :

أحدهما : الإتمام في موضع القصر.

والثاني : كلّ من الجهر والإخفات في موضع الآخر.

حيث يرد عليه أوّلاً : أنّه كيف يمكن الحكم بصحّة العبادة بدون الأمر؟

وثانياً : كيف يحكم بإستحقاق العقوبة مع فرض صحّة العمل؟

وثالثاً : كيف يصحّ الحكم باستحقاق العقوبة مع أنّ المكلّف متمكّن من الإعادة إلاّ أنّ الشارع سلب عنه القدرة عليها بسبب حكمه بالإجزاء والصحّة بناءً على عدم وجوب الإعادة حتّى في الوقت إذا علم به ، ففوت المأمور به ناشٍ عن حكمه بالصحّة ، لا عن تقصير المكلّف.

وقد ذكر لدفع هذه الإشكالات وجوه عديدة :

٢٠٦

الوجه الأوّل : ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله وحاصله : أنّ الحكم بالصحّة هنا يكون من باب تعدّد المطلوب ففي مورد الجهر والإخفات يكون أصل الصّلاة وذاتها مطلوبة وإتيانها بالجهر أو الإخفات مطلوباً آخر ، وفي مورد الإتمام في موضع القصر تكون الصّلاة التامّة مشتملة على مصلحة لازمة الاستيفاء بحيث لو لم تجب صلاة القصر كانت الصّلاة التامّة مأموراً بها ، لكن لمّا كانت مصلحة صلاة القصر أهمّ صارت هى الواجبة فعلاً ، وحينئذٍ تكون صحّة الصّلاة المأتي بها مستندة إلى المصلحة لا إلى الأمر الفعلي حتّى يقال بأنّها ليست مأموراً بها ، ( وأمّا استحقاقه للعقوبة مع فرض الصحّة فلعصيانه الأمر بالأهمّ أو المطلوب الأعلى ).

وأمّا عدم وجوب الإعادة فلأنّها لا فائدة فيها إذ لا مصلحة تقتضي الإعادة ، حيث إنّ المصلحة التامّة الكامنة في صلاة القصر مثلاً قد فاتت بسبب الإتيان بالصلاة التامّة ، لمكان التضادّ بين المصلحتين ، وهذا نظير ما إذا أمر المولى عبده بإطعام الفقير بالخبز من الحنطة فأطعمه بالخبز من الشعير فإنّ مصلحة الإطعام بالخبز من الحنطة قد فاتت بإطعامه الخبز من الشعير ، ويمتنع تداركها لعدم بقاء الموضوع.

لا يقال : فيلزم الحكم بصحّة صلاة التمام من العالم بوجوب القصر أيضاً مع استحقاقه العقوبة على مخالفة الواجب.

فإنّه يقال : إنّه لو كان الدليل اشتمال المأتي به على المصلحة اطلاق يشمل صورتي العلم بوجوب القصر والجهل به لقلنا بصحّة التمام وإجزائه عن القصر مطلقاً ، لكن الأمر ليس كذلك ، لأنّه لم يدلّ دليل على كون التمام ذا مصلحة في السفر إلاّفي حال الجهل ، ولا بُعد أصلاً في هذا الاختلاف ، فإنّ لحالات المكلّف دخلاً في المصالح والمفاسد الداعية إلى تشريع الأحكام.

إن قلت : كيف يتمشّى من المكلّف قصد القربة مع عدم كون التمام مأموراً به؟

قلنا : لا حاجة في تحقّق قصد القربة إلى قصد الأمر بل يكفي قصد الملاك والمصلحة ، وقد مرّ كون الصّلاة التامّة أيضاً محبوبة وذات مصلحة ).

إن قلت : على هذا يكون كلّ من التمام والإخفات مثلاً سبباً لتفويت الواجب الفعلي ، وما هو السبب لتفويت الواجب فعلاً حرام ، وحرمة العبادة موجبة لفسادها بلا كلام.

قلت : إنّ التمام مثلاً ليس سبباً لترك الواجب الفعلي وهو القصر ، بل التمام والقصر ضدّان ، وهما في رتبة واحدة ، فعدم كلّ منهما يكون أيضاً في رتبة وجود الآخر لا في طوله حتّى يصير

٢٠٧

عدم أحدهما مقدّمة ومن اجزاء علّة وجود الآخر فلا علّية بينهما ، بل عدم أحدهما ملازم لوجود الآخر لأنّ الضدّ وعدم ضدّه متلازمان ليس بينهما توقّف أصلاً. ( انتهى ).

وقد أورد عليه المحقّق النائيني رحمه‌الله بما لا يكون وارداً فأورد عليه :

أوّلاً : بما حاصله : أنّ الخصوصيّة الزائدة ( كخصوصيّة القصر أو خصوصيّة الإخفات ) إن كان لها دخل في حصول الغرض من الواجب فلا يعقل سقوطه بالفاقد لها ، وإن لم يكن لها دخل فاللازم هو الحكم بالتخيير بين القصر والتمام مثلاً ، غايته أن يكون القصر أفضل فردي التخيير لاشتماله على الخصوصيّة الزائدة ولا وجه لاستحقاق العقاب (١).

وقد ظهرت المناقشة فيه والجواب عنه ممّا سبق من كون المطلوب متعدّداً وأنّ الصّلاة التامّة مشتملة على مقدار من المصلحة يوجب تفويت المقدار الزائد القائم بالقصر وخروجه عن قابلية الاستيفاء والتدارك ، وهذا ليس بعزيز ، ومجرّد القدرة على فعل الصّلاة قصراً في الخارج غير كافٍ بعد فرض فناء موضوع التدارك.

وثانياً : « بأنّ الظاهر من أدلّة الباب كون المأتي به في حال الجهل مأموراً به فراجع أدلّة الباب » (٢).

ويرد عليه : أنّ الدليل على صحّة المأتي به في المقام إنّما هو الإجماع ، وهو يدلّ على صحّة العمل إجمالاً ، ولا يستفاد منه كونه مأموراً به.

هذا كلّه هو الوجه الأوّل من الوجوه المذكورة في كلمات القوم لدفع الإشكالات الثلاثة المزبورة.

الوجه الثاني : ما أجاب به الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله وهو عدم كون المأتي به مأموراً به بل أنّه يوجب سقوط الأمر بالواقع المتروك ، فلا يجب عليه الإعادة أو القضاء لسقوط الأمر بالواقع حينئذٍ ، وأمّا العقاب فلعدم إتيانه للمأمور به على الفرض.

أقول : الظاهر أنّ هذا الوجه في الحقيقة يرجع إلى الوجه الأوّل ( بل الظاهر أنّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله أخذه منه ) لأنّه لا وجه لسقوط الأمر بالواقع إلاّمن ناحية تعدّد المطلوب.

الوجه الثالث : ما أجاب به كاشف الغطاء رحمه‌الله وهو الالتزام بأمرين على نحو الترتّب بمعنى

__________________

(١) راجع فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٢٩٢ ، طبع جماعة المدرّسين.

(٢) المصدر السابق.

٢٠٨

أنّ الأمر حال الجهل أوّلاً تعلّق بالصلاة الواجدة للخصوصيّة الزائدة ، وعند عصيانه وفي طوله تعلّق بالفاقد لها ، فقهراً إذا عصى الأمر الأوّل لجهله المستند إلى ترك التعلّم أو الفحص يعدّ عاصياً لمخالفة الأمر الأهمّ فيوجب استحقاق العقاب ، ومطيعاً للأمر الثاني فيكون عمله صحيحاً ، ولا تجب عليه الإعادة أو القضاء.

أقول : الصحيح تماميّة هذا الوجه أيضاً وإن أورد عليه إشكالات أربع من ناحية المحقّق الخراساني والشيخ الأعظم والمحقّق النائيني رضوان الله عليهم :

أوّلها : ما أورده المحقّق الخراساني رحمه‌الله من ناحية المبنى ، وهو إنكاره صحّة الترتّب ، ولكن قد مرّ في محلّه أنّ الحقّ صحّته.

ثانيها : ما أورده الشيخ الأعظم رحمه‌الله من أنّه لا موضوع للترتّب في المقام لأنّ الترتّب عبارة عن اشتراط الأمر بالمهمّ بعصيان الأهمّ ، ولا يمكن حصول هذا الشرط في الوقت لأنّه ما دام وقت الأهمّ باقٍ لا معنى لتحقّق عصيانه.

وفيه : أنّه لا يشترط في باب الترتّب كون العصيان مأخوذاً بعنوان الشرط المقارن بل يمكن أخذه بنحو الشرط المتأخّر ، أي إذا كان بانياً على العصيان لأمر القصر إلى آخر وقت الصّلاة كان مأموراً بالتمام بل يمكن إرجاعه إلى الشرط المقارن لأنّ بناءه على العصيان إلى آخر الوقت فعليّ.

ثالثها : ما أورده المحقّق النائيني رحمه‌الله من « أنّه يعتبر في الخطاب الترتّبي أن يكون خطاب المهمّ مشروطاً بعصيان خطاب الأهمّ ، وفي المقام لا يمكن ذلك ، إذ لا يعقل أن يخاطب التارك للقصر بعنوان العاصي فإنّه لا يلتفت إلى هذا العنوان لجهله بالحكم » (١).

ويمكن الجواب عنه : بكفاية ثبوت الخطاب في متن الواقع وعلم الله تعالى ، والمفروض أنّ المكلّف قصد الأمر الواقعي ولا حاجة إلى أزيد من ذلك في صحّة صلاته.

رابعها : ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله أيضاً وهو « أنّ المقام أجنبيّ عن الخطاب الترتّبي لأنّه يعتبر فيه أن يكون كلّ من متعلّق الخطابين واجداً لتمام ما هو الملاك ومناط الحكم بلا قصور لأحدهما في ذلك ، ويكون المانع عن تعلّق الأمر بكلّ منهما هو عدم القدرة عن الجمع بين

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٢٩٣ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢٠٩

المتعلّقين في الامتثال ، لما بين المتعلّقين من التضادّ والمقام لا يكون من هذا القبيل » (١).

ويمكن الجواب عنه : بأنّه غير قادر على الجمع بينهما بحسب الواقع ، لوجود التضادّ بينهما شرعاً ، وإن كان قادراً بحسب الظاهر على الإتيان بكلّ منهما.

هذا كلّه هو الوجه الثالث من الوجوه المذكورة في كلمات القوم لدفع الإشكالات الثلاثة المزبورة.

الوجه الرابع : ما اختاره المحقّق النائيني رحمه‌الله لدفع الإشكالات ، وهو : أنّ الإشكال إنّما كان مبنيّاً على تسليم مقدّمتين :

الاولى : أن يكون العمل المأتي به حال الجهل مأموراً به ، كما يستكشف ذلك من أدلّة صحّة العمل والإجزاء ولو بعد زوال صفة الجهل وبقاء الوقت.

الثانية : استحقاق الجاهل العامل للعقاب وأنّ استحقاقه له لأجل تفويت ما كان واجباً عليه في حال الجهل ، ومع المنع عن إحدى المقدّمتين يرتفع الإشكال ، والمقدّمة الاولى مسلّمة لا سبيل للمنع عنها ، إذ لا ينبغي الإشكال في استكشاف تعلّق الأمر بالعمل من أدلّة الصحّة ، وأمّا المقدّمة الثانية فللمنع عنها مجال ، إذ استحقاق العقاب وعدمه ليس من المسائل الفقهيّة الشرعيّة التي ينعقد عليه الإجماع ( بل إنّه حكم العقل ) وليس في أدلّة الباب ما يدلّ على العقاب مع أنّه لو سلّم انعقاد الإجماع على إستحقاق العقاب ففي اعتبار مثل هذا الإجماع ( لعلّ نظره إلى كونه مدركيّاً وأنّ مباني المجمعين مختلفة ) إشكال.

ثمّ إنّه ـ مع إعترافه بتماميّة هذا الوجه حيث إنّ مبنى الإشكال كان على تسليم المقدّمتين ـ تخلّص عنه بعد فرض صحّتهما بوجه آخر ضمن ثلاث مسائل : الاولى : مسألة الجهر في موضع الإخفات وبالعكس ، والثانية : مسألة القصر في موضع الإتمام ، والثالثة مسألة الإتمام في موضع القصر ، التي ينبغي حذفها في المقام لكونها شاذّة ولم يقل بها إلاّقليل فتبقى المسألتان الأوّليان.

أمّا المسألة الاولى فقال فيها : يمكن أن يكون الواجب على عامّة المكلّفين هو القدر المشترك بين الجهل والإخفات ، سواء في ذلك العالم والجاهل ، ويكون الجهر والإخفات في موارد وجوبهما واجبين مستقلّين نفسيين في الصّلاة ، وتكون الصّلاة ظرفاً لامتثالهما ، ولكن

__________________

(١) فوائد الأصول : ج ٤ ، ص ٢٩٢ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢١٠

وجوبهما الاستقلالي عند العلم به ينقلب إلى الوجوب الغيري ويصير قيداً للصلاة ولا مانع من أن تكون صفة العلم موجبة لتبدّل صفة الوجوب من النفسي إلى الغيري ومن الاستقلالي إلى القيدي ، فيرتفع الإشكال بحذافيره لأنّ العقاب إنّما يكون على ترك الواجب النفسي ( وهو الجهر أو الإخفات ) في حال الجهل ، مع كون المأتي به هو المأمور به في ذلك الحال لأنّ المفروض أنّ المأمور به هو القدر المشترك.

إن قلت : فيلزم منه صحّة العمل في حال العلم أيضاً. قلنا : لا يلزم ذلك لما عرفت أنّ بالعلم يتبدّل الاستقلالي النفسي إلى الغيري القيدي.

وأمّا المسألة الثانية : فتفصّى عن الإشكال فيها : بأنّ الواجب على المسافر الجاهل بالحكم خصوص الركعتين الأوّليين لكن لا بشرط عدم الزيادة ، بل لا بشرط عن الزيادة ، فلا تكون الأخيرتان مانعتين عن صحّة الصّلاة ، إلاّ أنّ العلم بالحكم يوجب الانقلاب ويصير الواجب على المسافر خصوص الركعتين الأوّليين بشرط عدم الزيادة فتصحّ الصّلاة التامّة عند الجهل وتفسد عند العلم.

وتفصّى عن إشكال العقاب بأنّه يمكن أن يكون العقاب لأجل ترك السلام بعد التشهّد الثاني ، بأن يكون أصل التسليم في الصّلاة جزءً لها ، ولكن وقوعه عقيب التشهّد الثاني واجب نفسي ، فيكون المتمّم في موضع القصر قد أخلّ بهذا الواجب النفسي ، فيعاقب عليه مع صحّة صلاته.

ثمّ إعترف بأنّ هذا الوجه لا تساعد عليه كلمات الأصحاب ، بل لا ينطبق عليه بعض الفروع المتسالم عليها بينهم ، فإنّ الظاهر تسالمهم على أنّ الجاهل لو نوى التمام وأتمّ الصّلاة بهذا العنوان صحّت صلاته بعنوان ما نواها ، وهذا لا يمكن إلاّ أن يكون المأمور به في هذا الحال هو الإتمام ، إذ لو كان المأمور به هو خصوص الركعتين الأوّليين ( ولولا بشرط عن الزيادة ) كان اللازم هو فساد صلاة من نوى التمام لعدم نيّة المأمور به (١) ( انتهى ما أردناه من كلامه ).

أقول : يرد عليه :

أوّلاً : أنّ طريقه هذا مملوّ بالتكلّفات الشديدة ولا يساعد عليه الوجدان الفقهي أصلاً.

__________________

(١) راجع فوائد الاصول : ج ٤ ص ٢٩٤ ـ ٢٩٩ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢١١

ثانياً : ( بالنسبة إلى قوله لا يجوز الاستدلال بالإجماع في مثل هذه المسألة ) أنّ لازم انعقاد الإجماع على العقاب هو الإجماع على وجود حكم شرعي في البين ترك امتثاله ، أي أنّ الإجماع على العقاب مستلزم لوجود تكليف شرعي في البين أوجبت مخالفته العقاب.

ثالثاً : أنّ لازم كلامه تبدّل الواجب المعلوم بعد العلم به إلى واجب آخر حيث تبدّل ، فيتبدّل وجوب الركعتين الأوّليين لا بشرط الزيادة بعد العلم به إلى وجوبهما بشرط عدم الزيادة ، وهذا أمر محال لاستلزامه الدور فإنّ الوجوب فرع العلم به ، والعلم به فرع تحقّق الوجوب.

الأمر الثاني : في كلام الفاضل التوني في المقام

قد ذكر الفاضل التوني رحمه‌الله لجريان أصالة البراءة شرطين آخرين :

أحدهما : أن لا يلزم من العمل بالبراءة إثبات حكم آخر ، وإلاّ لا تجري ، كما في أطراف العلم الإجمالي فإنّ جريان الأصل في بعضها يثبت وجوب الإجتناب عن الآخر.

ثانيهما : أن لا يلزم من جريانها ضرر على الغير ، كما إذا فتح إنسان قفص طائر فطار ، أو حبس شاة فمات ولدها ، أو أمسك رجلاً فهربت دابته على المالك فلا يصحّ اجراؤها فيها لإثبات عدم الضمان.

أقول : أمّا الشرط الأوّل : فله ثلاث صور : تارةً يكون ما يترتّب على البراءة من الآثار الشرعيّة كجريان أصالة الحلّية في الحيوان المتولّد من مأكول اللحم ومحرمه ، فيترتّب عليه إباحة جلده ووبره إذا كان المراد من حلّية أجزاء ما يؤكل لحمه الأعمّ من الحلّية الواقعية الظاهرية ، ففي هذه الصورة لا إشكال في جريان البراءة.

واخرى : يكون الأثر من الآثار العقليّة كما في مثال العلم الإجمالي ، فإنّ وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر لازم عقلي لجريان البراءة في الطرف الأوّل ، فلا إشكال أيضاً في عدم ترتّب ذاك الأثر عليه لكونه من الأصل المثبت ، ولكن هذا غير مانع عن جريانها في مورده.

وثالثة : يكون الأثر من الآثار الشرعيّة المترتّبة على عدم الحكم الواقعي ، كما إذا فرضنا

٢١٢

أنّ إباحة الجلد والوبر في مثال الحيوان المشكوك الحلّية هى من آثار عدم الحرمة في الواقع ، ففي هذه الصورة أيضاً لا تجري أصالة الإباحة لأنّها تثبت الإباحة الظاهرية لا الواقعية.

فظهر أنّ كلام الفاضل التوني رحمه‌الله بالنسبة إلى هذا الشرط تام إذا كان مراده منه الصورتين الأخيرتين ، نعم إنّه لا يختصّ بأصالة البراءة ، بل هو جارٍ في سائر الاصول العمليّة حتّى الاستصحاب ، فإنّها لا تجري في ما إذا كانت مثبتة ، وفيما إذا كان الأثر الشرعي مترتّباً على الحكم الواقعي.

أمّا الشرط الثاني : فهو أيضاً لا اختصاص له بأصالة البراءة فكلّ أصل عملي لا يجري إذا أوجب الضرر ، هذا مضافاً إلى أنّه لا يختصّ بقاعدة لا ضرر بل يعمّ سائر الأدلّة الاجتهاديّة فإنّها مقدّمة على الاصول العمليّة.

وإن شئت قلت : لا ينبغي عدّ هذا الشرط من شرائط جريان الاصول ، إذ مع وجود الأدلّة الاجتهاديّة ينتفي موضوع الاصول العمليّة وهو الشكّ ، ولا مجال حينئذٍ للرجوع إلى الأصل.

وأمّا الأمثلة المذكورة في كلام الفاضل التوني رحمه‌الله فهى أجنبية عمّا نحن فيه ، لأنّ المرجع فيها قاعدة الإتلاف والضمان ، لإطلاق قوله عليه‌السلام : « من أتلف مال الغير فهو له ضامن » فيشمل الإتلاف المباشري والتسبيبي ، لصدق الإتلاف عليهما عرفاً ، وما نحن فيه من قبيل الثاني.

الكلام في قاعدة لا ضرر

قد عنون كثير من الأعاظم تبعاً للشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني صلى الله عليه وسلم بمناسبة كلام الفاضل التوني رحمه‌الله قاعدة لا ضرر ، حيث عقدوها للبحث بعنوان أنّها قاعدة فقهيّة ، كما أنّ جماعة منهم كتبوا لها رسائل مستقلّة ، ونحن نتعرّض لها هنا أيضاً اقتفاءً لآثارهم.

ولكن قبل الورود في البحث عن أصل القاعدة تنبغي الإشارة إلى أمرين :

الأوّل : أنّ القواعد الفقهيّة مع كثرتها وأهميّتها لها مصير مؤسف ، فقد تعنونت عدّة منها في الكتب الاصوليّة للمتأخّرين كقاعدة لا ضرر وقاعدة الفراغ والتجاوز ، والقرعة ، والميسور ، وعدّة اخرى في الكتب الفقهيّة كقاعدة ما لا يضمن وقاعدة اللزوم في أبواب المعاملات ، ولكن قسم عظيم منها لم يُبحث عنها لا في الفقه ولا في الاصول مع كثرة استدلالهم بها وشدّة

٢١٣

حاجتهم إليها في طيّات كتب الفقه وشتّى أبواب العبادات والمعاملات (١) ، فكان من حقّها أن تفرد من علمي الاصول والفقه ، وتبحث بصورة مستقلّة وفي علم مستقلّ ، كما صنّفناه في كتابنا الموسوم بالقواعد الفقهيّة ، فبحثنا فيه عن مهمّاتها وهى ثلاثون قاعدة.

الثاني : في تعريف القاعدة الفقهيّة ووجه إفتراقها عن المسائل الاصوليّة والفقهيّة.

ولابدّ أوّلاً من الإشارة الإجماليّة إلى تعريف المسائل الاصوليّة والفقهيّة ، فنقول :

أمّا المسائل الاصوليّة فالمشهور إنّها « قواعد تقع في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة » وفي كلمات بعضهم « هى القواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة » وفي كلمات بعض آخر : « هى قضايا تقع كبرى لقياس يستفاد منها حكم شرعي » والمختار عندنا ( كما ذكرنا في محلّه ) إنّها « القواعد التي لا تشتمل على حكم شرعي وتقع في طريق استنتاج الأحكام الكلّية الفرعيّة الإلهيّة أو الوظيفة العمليّة ».

وأمّا المسائل الفقهيّة فهى : « ما يشتمل على حكم شرعي في موضوع خاصّ أمّا تكليفي أو وضعي ».

وأمّا القواعد الفقهيّة فهى كالبرازخ بينهما وامور تكون بنفسها من الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ( إثباتاً أو نفياً ) لا أنّها تقع في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة حتّى تدخل في المسائل الاصوليّة ، بل تكون أحكاماً فرعية كلّية لا تختصّ بباب دون باب ، وتجري في أبواب مختلفة ، وليست أحكاماً جزئيّة لموضوعات خاصّة حتّى تدخل في المسائل الفقهيّة وتكون معدّة للورود في الرسائل العمليّة والوصول إلى أيدي المقلّدين مباشرة.

وهى على أقسام عديدة : فقسم منها ما يكون جارياً في جميع أبواب الفقه كقاعدة لا ضرر ولا حرج ، وقسم منها يختصّ بكتاب خاصّ كقاعدة لا تعاد التي تختصّ بكتاب الصّلاة مع سريانها في أبواب مختلفة منها ، وقاعدة الطهارة المختصّة بكتاب الطهارة ، وقسم ثالث منها

__________________

(١) ولقد أجاد شيخنا الاستاذ دام ظلّه حيث قال في هذا المجال : « من أهمّ ما يجب على الفقيه تحقيقه والبحث عنه هى القواعد الفقهيّة التي تكون ذريعة للوصول إلى أحكام كثيرة من أوّل الفقه إلى آخره ، وتبتني عليها فروع هامّة في شتّى المباحث والأبواب ، لكن ـ رغماً لهذا الموقف ـ لم يبحث عنها بما يليق بها ، ولم يؤدّ حقّها من البحث ... ( إلى أن قال ) فأصبحت هذه القواعد النفيسة كالمشرّدين لا تأوي داراً ولا تجد قراراً ، لا تعدّ من الاصول ولا من الفقه ، مع أنّ من حقّها أن يفرد لها علم مستقلّ ... » القواعد الفقهيّة : ج ١ ، ص ١١.

٢١٤

مختصّ بجميع أبواب المعاملات كقاعدة ما يضمن ، أو بجميع أبواب العبادات كقاعدة الفراغ.

وبهذا ظهر أنّ القاعدة الفقهيّة لا تكون من المسائل الاصوليّة ولا من المسائل الفقهيّة ، وظهر أيضاً الخلط الواقع في كلام الشهيد رحمه‌الله في قواعده بين القواعد الفقهيّة والفروع الفقهيّة ، وما وقع من الخلط في كلمات بعض المتأخّرين بين الامور الثلاثة.

إذا عرفت هذا فنقول : يقع الكلام في قاعدة لا ضرر في مقامات ثلاثة :

المقام الأوّل : في مداركها.

المقام الثاني : في مضمونها ومحتواها.

المقام الثالث : في بعض خصوصيّاتها وجزئياتها وفي ايضاح نسبتها إلى الأدلّة المتكفّلة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأوّلية كأدلّة وجوب الصّلاة والصيام ونحوها ، أو الثانوية كأدلّة نفي العسر والحرج ونحوها.

المقام الأوّل : في مدرك القاعدة

يمكن الاستدلال للقاعدة بالأدلّة الأربعة في الجملة ، وإن كانت العمدة هى السنّة.

١ ـ الكتاب :

فقد وردت فيه آيات عديدة في موارد خاصّة كباب الطلاق والإرث والرضاع والشهادة والوصيّة نهى فيها عن الضرر بحيث يمكن اصطياد القاعدة من مجموعها ، وبعد ضمّ بعضها إلى بعض ، ولا أقل من كونها مؤيّدة لما يأتي من الأدلّة.

منها : قوله تعالى في باب الرضاع : ( لَاتُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ) (١).

وقد ذكر له تفسيران :

أحدهما : أن تكون صيغة « لا تضارّ » مبنية على الفاعل ، وتكون الباء زائدة و « ولدها »

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٣٤.

٢١٥

مفعولاً بدون الواسطة ، فإنّ المضارّة تتعدّى بنفسها ، والمعنى حينئذٍ هو النهي عن اضرار الامّ بولدها بترك ارضاعه غيظاً على أبيه لبعض الجهات ، وتمسّكاً بعموم ما يدلّ على عدم وجوب الارضاع عليها ، وعن اضرار الأب بولده بأن يأخذ للولد امرأة مرضعة ويمنع امّه عن ارضاعه ( فيتضرّر منه الولد ) تمسّكاً بعمومات ولايته على ابنه ، وعلى هذا تكون الآية حاكمة على عموم عدم وجوب الارضاع وعموم الولاية.

ثانيهما : أن تكون « لا تضارّ » مبنية على المفعول والباء للسببيّة ، والمعنى لا تضارّ الوالدة بسبب الولد بأن يترك مجامعتها خوفاً من الحمل ، ولا يضارّ الوالد بامتناع الامّ عن الجماع خوفاً من الحمل ، وبناءً على هذا المعنى تكون الآية بالإضافة إلى فقرتها الاولى مقدّمة على العموم ما يدلّ على جواز ترك الجماع مدّة أربعة أشهر ، وأمّا بالنسبة إلى الفقرة الثانية فلا حكومة لها على عموم دليل ، لأنّه لا عموم يدلّ على جواز امتناعها وعدم تمكينها ، بل الدليل على العكس فيدلّ على وجوب التمكين وحرمة الامتناع ، فتكون الآية حينئذٍ مؤيّدة لذاك الدليل لا حاكمة عليه.

ومنها : قوله تعالى في باب الطلاق : ( وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا ) (١). حيث ينهى عن الرجوع إلى المطلّقات الرجعيّة وتكراره لا لرغبة فيهنّ بل لطلب الاضرار بهنّ تمسّكاً بعموم ما يدلّ على جواز الرجوع في الرجعيّات في مدّة العدّة ، فتكون الآية حاكمة على هذا العموم.

ومنها : قوله تعالى في باب الطلاق أيضاً : ( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ) (٢) حيث ينهى عن الإضرار والتضييق على المطلّقات في السكنى والنفقة في أيّام عدّتهنّ ، ويكون مفيداً لنا في المقام إذا كان المراد من التضييق الاكتفاء بالمقدار الأقلّ من الواجب بقصد الاضرار بها تمسّكاً بعموم ما يدلّ على جواز هذا الاكتفاء ، فتحكم الآية حينئذٍ على ذلك العموم وتقيّده بغير صورة الاضرار.

وأمّا إذا كان المراد منه اعطاء الأقلّ من مقدار الواجب فتكون الآية أجنبيّة عمّا نحن فيه لأنّ الاعطاء هذا بنفسه حرام ، ولا حاجة في إثبات حرمته إلى التمسّك بعنوان الاضرار.

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٣١.

(٢) سورة الطلاق : الآية ٧.

٢١٦

ومنها : قوله تعالى في باب الشهادة : ( وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ) (١) بناءً على كون « لا يضارّ » مبنيّاً على المفعول ، حيث إنّه حينئذٍ ينهى عن الاضرار بالكتّاب والشهداء بالرجوع إليهم للكتابة أو الشهادة في أيّ وقت وساعة ، تمسّكاً بعموم ما يدلّ على وجوبهما عليهم ( وهو ما ورد في صدر الآية من قوله تعالى : ( وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ) وقوله تعالى : ( وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ) فيكون ذيل الآية حينئذٍ حاكماً على عموم صدرها ، وأمّا بناءً على البناء على الفاعل فهى أجنبيّة عمّا نحن فيه ، لأنّ المعنى حينئذٍ النهي عن اضرار كاتب الدَين والشاهد عليه بكتابة ما لم يمل والشهادة بما لم يستشهد عليه ، أي بكتابة غير صحيحة وشهادة غير صادقة ، وهو حرام من غير حاجة إلى عنوان الاضرار.

ومنها : قوله تعالى في باب الوصيّة : ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ) (٢) الذي ينهي عن الاضرار بالورّاث بالاقرار بدَين ليس عليه ، دفعاً للميراث عنهم ، وتمسّكاً بعموم « الناس مسلّطون على أموالهم » فتحكم الآية على هذا العموم ويكون مفيداً لنا في المقصود.

هذه هى الآيات الخاصّة التي وردت في موارد مختلفة وتدلّ على حرمة الاضرار في خصوص تلك الموارد وبنحو الموجبة الجزئيّة ، ولا يبعد ـ كما مرّ ـ أن يصطاد منها عرفاً قاعدة لا ضرر بنحو كلّي وموجبة كلّية بإلغاء الخصوصيّة عن مواردها ، فإنّ العرف إذا ضمّ بعضها إلى بعض ونظر إلى مجموعها يمكن أن يستخرج منها قاعدة كلّية تحت عنوان « لا ضرر » ، وإن أبيت عن هذا فلا أقلّ من كونها مؤيّدة لسائر الأدلّة.

٢ ـ الإجماع :

فلا إشكال في أنّ القاعدة مجمع عليها في الجملة ، أي توجد موارد عديدة في الفقه تكون عمدة الدليل فيها هى قاعدة لا ضرر ، نظير خيار الغبن ، ولكن لم ينعقد الإجماع عليها بعرضها العريض بحيث يمكن التعدّي إلى سائر موارد وجود الضرر ، مضافاً إلى أنّه مدركيّ فليس بحجّة.

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٨٢.

(٢) سورة النساء : الآية ١٢.

٢١٧

٣ ـ العقل :

فأيضاً توجد موارد كثيرة يمكن إندراجها تحت قاعدة قبح الظلم العقلي ، منها نفس مثال خيار الغبن وأشباهه إذا كان فاحشاً ، حيث إنّ العقل يحكم بقبح مثل هذا النحو من الضرر ، ومنها ما إذا جعل بيته فيما بين البيوت بيت حدّاد أو طبّاخ بحيث ينتهي إلى أذى الجيران. فلا إشكال في كونها من مصاديق الظلم القبيح ، نعم إثباته بالنسبة إلى جميع مصاديق الضرر مشكل جدّاً ، فيمكن أن نجد موارد يصدق فيها عنوان الضرر ولا يصدق عنوان الظلم عرفاً كالغبن في بعض مراتبه ، فدعوى دلالة العقل على القاعدة بنطاقها الواسع غير خالٍ عن الإشكال.

٤ ـ السنّة :

( التي هى العمدة في المقام ) فتنقسم إلى الروايات الواردة من طرق الخاصّة والواردة من طرق العامّة.

أمّا الواردة من طرق الخاصّة : فهى على طائفتين : طائفة تدلّ على هذه القاعدة بعمومها ، وطائفة وردت في موارد خاصّة يمكن اصطياد العموم من ملاحظة مجموعها ولا أقل من كونها مؤيّدة للطائفة الاولى.

أمّا الطائفة الاولى فهى كثيرة :

منها : قضيّة سمرة بن جندب التي وردت بثلاثة طرق :

الأوّل : طريق ابن بكير عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إنّ سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار ، وكان منزل الأنصاري بباب البستان فكان يمرّ به إلى نخلته ولا يستأذن ، فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء ، فأبى سمرة ، فلمّا تأبّى جاء الأنصاري إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فشكا إليه وخبّره الخبر ، فأرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخبّره بقول الأنصاري وما شكى وقال : إذا أردت الدخول فاستأذن فأبى ، فلمّا أبى ساومه حتّى بلغ به من الثمن ما شاء الله فأبى أن يبيع فقال : لك بها عذق يمدّ لك في الجنّة فأبى أن يقبل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

٢١٨

للأنصاري : إذهب فاقلعها وارم بها إليه فإنّه لا ضرر ولا ضرار » (١).

وهذه الرواية أحسن الرّوايات من جهة الدلالة على المطلوب ، لعدم ذكر قيد « على مؤمن » فيها ، وسيأتي دخله في المقصود من القاعدة.

الثاني : ما رواه ابن مسكان عن بعض أصحابنا عن زرارة ( أيضاً ) عن أبي جعفر عليه‌السلام نحوه إلاّ أنّه قال : « فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّك رجل مضارّ ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن ، قال : ثمّ أمر بها فقلعت ورمى بها إليه ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنطلق فاغرسها حيث شئت » (٢).

الثالث : ما رواه أبو عبيدة الحذاء قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : « كان لسمرة بن جندب نخلة في حائط بني فلان فكان إذا جاء إلى نخلته ينظر إلى شيء من أهل الرجل يكرهه الرجل قال : فذهب الرجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فشكاه فقال : يارسول الله إنّ سمرة يدخل عليّ بغير إذني فلو أرسلت إليه فأمرته أن يستأذن حتّى تأخذ أهلي حذرها منه ، فأرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فدعاه فقال : ياسمرة ما شأن فلان يشكوك ويقول : يدخل بغير إذني فترى من أهله ما يكره ذلك ، ياسمرة استأذن إذا أنت دخلت ، ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يسرّك أن يكون لك عذق في الجنّة بنخلتك؟ قال : لا ، قال : لك ثلاثة؟ قال لا قال : ما أراك ياسمرة إلاّمضارّاً ، إذهب يافلان فاقطعها ( فاقلعها ) واضرب بها وجهه » (٣).

هذه طرق ثلاثة وردت فيها قضية سمرة ، ولا إشكال في عدم صدور أصل القضيّة من جانب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاث مرّات ، وإن كان لا يبعد نقلها متعدّداً من أبي جعفر عليه‌السلام ، وعمدة الفرق بينها أنّ في الطريق الأوّل ذكرت كبرى « لا ضرر ولا ضرار » فقط من دون قيد « على مؤمن » ، ومن دون بيان صغرى « إنّك رجل مضارّ » الواردة في الطريق الثالث ، بينما في الطريق الثاني مضافاً إلى بيان الكبرى ذكر كلا القيدين ، وفي الطريق الثالث ذكرت الصغرى فحسب ، ولا يخفى أنّ للحديث إذا كان شاملاً للكبرى قيمة اخرى.

ثمّ إنّ هاهنا نكات ينبغي الإشارة إليها ، ولتكن هى على ذكر منك :

الاولى : أنّ الظاهر من مجموع هذه الثلاثة أنّه كان لسمرة بن جندب حقّ العبور إلى نخلته

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٧ ، كتاب إحياء الموات ، الباب ١٢ ، ح ٣.

(٢) المصدر السابق : ح ٤.

(٣) المصدر السابق : ح ١.

٢١٩

من باب البستان الذي كان دار الأنصاري.

الثانية : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أراد الجمع بين حقّين : حقّ العبور وحقّ السكنى ، وتحقّق هذا الجمع كان باستئذان سمرة.

الثالثة : أنّ شفاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله للاستبدال بهذه النخلة ترشدنا إلى أنّه قد يلزم على القاضي أن يعطى من بيت المال ما يرفع الغائلة ويندفع به الخلاف ، كما ورد في بعض الرّوايات اعطاء الإمام الصادق عليه‌السلام مفضّل بن عمر مقداراً من المال ليرفع بها المنازعات الواقعة بين أصحابه.

ثمّ إنّه هل كان استدلال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بكبرى لا ضرر ولا ضرار على قلع الشجرة أو للجمع بين الحقّين؟

وهذا ممّا لم يطرح في كلمات القوم فيما رأيناه ، فيحتمل كونه للجمع بين الحقّين ، أي لتبدّل حقّ العبور من الاطلاق إلى الاشتراط ، ولقائل أن يقول بأنّ الجمع بين الحقّين لا يحتاج إلى الاستدلال بقاعدة لا ضرر لأنّه لازم قاعدة العدل والإنصاف ( إلاّ أن يكون من باب التأكيد ) فيكون الاستدلال على قلع الشجرة ، فأراد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يدفع الضرر من طريق قلع الشجرة.

ومنها : ما رواه عقبة بن خالد عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع نفع الشيء ، وقضى بين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء ، فقال : لا ضرر ولا ضرار » (١).

وقد ذكر لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء » احتمالات أحسنها : أنّه ورد في الآبار التي كانت واقعة في أطراف المدينة ، التي يرفع بها ملاّكهم حوائجهم مع زيادة لها ، ولكن كانوا يمنعونها عن أهل البادية لسقي مواشيهم عند العطش الحاصل عادةً بعد الرعي في المراتع الواقعة حول الآبار ، فلم يقدروا على الاستفادة من كلائها فكان منع فضل الماء يمنع عن فضل الكلاء.

ويحتمل أيضاً أن يكون مفاده المقابلة بالمثل ، فإنّ المضايقة عن فضل الماء توجب

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٧ ، كتاب إحياء الموات ، الباب ٧ ، ح ٢.

٢٢٠