أنوار الأصول - ج ٣

أنوار الأصول - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-15-6
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٢٤

٥ ـ وفيه في نفس الباب في مسألة الصّلاة على القطعة ذات العظم : « وكيف كان فيؤيّد ما ذهب إليه الاسكافي بعد الاستصحاب وقاعدة الميسور ... » (١).

٦ ـ وفيه في نفس الباب وفي نفس المسألة أيضاً : « فإن لم يكن له عظم إقتصر على لفّه في خرقة ودفنه ، وقد يؤيّده ما سمعت من القاعدة السابقة ( قاعدة الميسور ) لعدم معارضة الإجماع بها هنا » (٢).

٧ ـ وفيه في نفس الباب في مسألة عدم جواز الاقتصار على أقلّ من الغسلات المذكورة إلاّ عند الضرورة : « ... وكأنّه لقاعدة الميسور والاستصحاب على بعض الوجوه » (٣).

٨ ـ وفيه في ذيل كلام المحقّق رحمه‌الله في كتاب الحجّ ( إذا نذر الحجّ ماشياً وجب أن يقوم في مواضع العبور ) : « لخبر السكوني ... ولأنّ المشي يتضمّن القيام والحركة ، ولا يسقط الميسور منهما بالمعسور » (٤).

٩ ـ وفي كتاب الطهارة لشيخنا الأعظم الأنصاري رحمه‌الله في أحكام الجبائر حاكياً عن الذكرى : « لو التصق بالجرح خرقة أو قطنة أو نحوهما وأمكن النزع وإيصال الماء حال الطهارة وجب كما في الجبيرة ، وإلاّ مسح عليه ، ولو استفاد بالنزع غسل البعض الصحيح ، فالأقرب الوجوب لأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور » (٥).

١٠ ـ وفي موضع آخر منه في نفس الباب : « ولو ألصق الحاجب عبثاً أو التصق به اتّفاقاً وتعذّر نزعه فصرّح في الذكرى بإلحاقه بالجبيرة ، وهو حسن بناءً على أنّ حكم الجبيرة المتعذّر نزعها مطابق للقاعدة المستفادة من قولهم الميسور لا يسقط بالمعسور ... » (٦).

لكن الشيخ رحمه‌الله إستشكل بعد ذلك في ثبوت القاعدة في مثل المقام لُامور تختصّ به ( بالمقام ).

__________________

(١) الجواهر : ج ٤ ، ص ١٠٩.

(٢) المصدر السابق : ج ٤ ، ص ١١٤.

(٣) المصدر السابق : ج ٤ ، ص ١٣٦.

(٤) المصدر السابق : ج ١٧ ، ص ٣٥١.

(٥) وسائل الشيعة : كتاب الطهارة ، ص ١٤٣ ، الطبع الحجري لمؤسسة آل البيت.

(٦) المصدر السابق : ص ١١٤.

١٨١

١١ ـ وفيه أيضاً : « ثمّ إنّك لتعرف ممّا ذكرنا من حكم الجروح والقروح الكائنة في محلّ الغسل حكم الكائن منها في محلّ المسح فيمسح على الجبيرة مراعياً لكيفية المسح على البشرة ، وفي وجوب تكرار الماء حتّى يمسّ البشرة وجه استظهره جامع المقاصد تمسّكاً بقاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور » (١).

١٢ ـ وقال في باب غسل الميّت عند فقد الماء للغسلات الثلاثة : « ... فيه إنّ المستفاد من أدلّة عدم سقوط الميسور بالمعسور وجوب إيجاد الجزء المقدور على النحو الذي وجب إيجاده حال إنضمام غير المقدور إليه » (٢).

١٣ ـ وقال في ذلك الباب عند فقد السدر والكافور في توجيه وجوب الغسل بماء القراح ثلاثاً : « ... فالأولى التمسّك بأدلّة عدم سقوط الميسور بالمعسور حيث إنّها جارية في المقام عرفاً » (٣).

ويتحصّل من جميع ذلك وأشباهه أنّ الاستناد إلى القاعدة في غير أبواب الصّلاة من ناحية أساطين الفنّ مثل صاحب الجواهر وشيخنا الأنصاري والمحقّق الثاني والشهيد رضوان الله عليهم ليس بعزيز.

الأمر الثاني : فيما أورده صاحب الجواهر رحمه‌الله على القاعدة ، وهو : « إنّ الاستدلال بقاعدة الميسور موقوف على الانجبار بفهم الأصحاب ، وإلاّ لو أخذ بظاهره في سائر التكاليف لأثبت فقهاً جديداً لا يقول به أحد من أصحابنا » (٤).

ولعلّ مقصوده من سائر التكاليف مثل الصيام ، فإنّه لا يجوز فيه التبعيض لا من ناحية الزمان بحيث يكتفى ببعض اليوم إذا لم يقدر على الصوم في تمامه ، ولا من ناحية المفطرات بحيث لو قدر على ترك عشرة منها مثلاً ولكن لم يقدر على ترك اثنين منها وجب عليه أن يتركها ( نعم قد يقال في جواز الشرب عند شدّة العطش بلزوم الاكتفاء بقدر ما يمسك به الرمق ، ولكنّه أيضاً غير مسلّم ) ، ومثل الصّلاة إذا لا يقدر المكلّف إلاّعلى بعض ركعاتها فلا يجوز له الاكتفاء

__________________

(١) وسائل الشيعة : كتاب الطهارة ، ص ١٤٨.

(٢) المصدر السابق : ص ٢٩٠.

(٣) المصدر السابق : ص ٢٩١.

(٤) الجواهر : ج ٢ ، أبواب الجبائر في الوضوء ، ص ٣٠٣.

١٨٢

به ، ومثل الغسل إذا لم يجد الماء لتمام الغسل فلا يجوز أن يكتفي بغسل بعض الأعضاء ، استناداً إلى هذه القاعدة ، وهكذا الوضوء فيما إذا لم يجد الماء إلاّلغسل بعض الأعضاء ، وباب الحجّ إذا لم يقدر على بعض الوقوفات أو بعض الطواف ، إلى غير ذلك من أشباهها ، فلو إكتفينا بجميع ذلك للزم منها فقه جديد لا يلزم به أحد.

إن قلت : ما الوجه في كون المعيار في العمل بهذه القاعدة هو عمل الأصحاب مع أنّها عامّة؟

قلنا : الوجه في ذلك أنّ الأخذ بظاهر القاعدة وبعمومها يستلزم تخصيص الأكثر وهو مستهجن ، فيستكشف منه أنّه كان للقاعدة معنى آخر لوجود قرائن خاصّة محفوفة بها لم تصل إلينا ، وحينئذٍ لابدّ من الاكتفاء بتطبيقات أصحابنا الأقدمين رضوان الله عليهم ، وعليه يكون مصير قاعدة الميسور مصير قاعدة لا ضرر في قلّة فائدتها وسقوط عمومها عن الحجّية إلاّفيما عمل به الأصحاب ( للزوم هذا المحذور بعينه فيها أيضاً بناءً على العمل بعمومها ، وذلك لخروج مثل باب الحجّ والزكاة والجهاد وأبواب الحدود وغيرها من الواجبات المشتملة على الضرر ).

أقول : الإنصاف أنّه من المستبعد جدّاً وجود قرائن خاصّة محفوفة بخبر الميسور ( وكذلك خبر لا ضرر ) لم تصل إلينا ، والذي أوجب اختيار مثل صاحب الجواهر رحمه‌الله هذه الفرضيّة أنّه لم يتمكّنوا من حلّ مشكلة التخصيص بالأكثر ، ولكن الصحيح عدم لزوم هذه المشكلة لا في باب قاعدة لا ضرر ولا في المقام.

أمّا في الأوّل فلعدم كون ما يتوهّم شموله على الضرر ضررياً فإنّ مثل الزكاة والجهاد ممّا يتوقّف عليه حفظ نظام المجتمع ، ومصلحة العامّة من الأمن والأمان ، وإيجاد الطرق وتهيئة رجال الأمن والجنود ، والحجّ عزّ للإسلام يوجب شوكة المسلمين ، وهكذا غيرها من الواجبات التي مصالحها ومنافعها أكثر من المصارف المالية والجهود البدنية ، فيحكم العقل قطعاً بعد كسر وإنكسار بعدم كونها ضرريّة ، ولذا قد نشاهد نظائرها بين العقلاء من أهل العرف ، كأخذ الضرائب والمكوس لحفظ نظام المجتمع.

وأمّا قاعدة الميسور فلما مرّ من أنّها لا تدلّ على أكثر ممّا هو ثابت بين العقلاء ، وناظرة إلى إمضاء القاعدة الموجودة عندهم فيما ثبت فيه تعدّد المطلوب والملاك ، فإنّهم يتمسّكون بها فيما إذا ثبت من الخارج أنّ العمل الفلاني اشتمل على ملاكات مختلفة بين ناقص وتامّ ، بعد تعذّر

١٨٣

شيء منها ، والأمثلة المذكورة في توضيح كلام صاحب الجواهر ممّا لم يثبت فيه تعدّد المطلوب فليست مشمولة للقاعدة حتّى يلزم من إخراجها تخصيص الأكثر.

والشاهد على هذا ما ورد في كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة : « ولو أقام لأخذنا ميسوره » (١) حيث إنّ الخطبة وردت فيمن ابتاع سبي بني ناجية من عامل أمير المؤمنين عليه‌السلام وأعتقهم ، فلمّا طالبه بالمال خان به وهرب إلى الشام ، فيكون المورد من الامور المالية التي لا إشكال في كون الملاك فيها متعدّداً.

الأمر الثالث : قد يقال : إنّ جريان قاعدة الميسور يتوقّف على أن يصدق ميسور الطبيعة على الباقي عرفاً ، ويستدلّ له بأنّه المستفاد من قوله ( ع ) : « الميسور لا يسقط بالمعسور » بدعوى « أنّه يحتمل في بادي النظر وجوهاً أربعة : الأوّل : أنّ ميسور الطبيعة لا يسقط بمعسورها. الثاني : أنّ الاجزاء الميسورة من الطبيعة لا يسقط بالمعسور من اجزائها. الثالث : أنّ الطبيعة الميسورة لا يسقط بالمعسور من أجزائها. الرابع : عكس الثالث ، فعلى الأوّل والثالث يدلّ على المقصود وأنّه لابدّ أن يكون المأتي به صادقاً عليه الطبيعة بوجه من الوجوه ، ولا يبعد أظهريّة الاحتمال الأوّل ، ويمكن أن يقال : المتيقّن من الحديث هو ميسور الطبيعة المأمور بها » (٢).

أقول : إنّ وحدة السياق تقتضي كون المراد من المعسور نفس ما اريد من الميسور ، فيسقط حينئذٍ الاحتمال الثالث والرابع ، ويدور الأمر بين الاحتمالين الأوّلين ، والأقرب منهما هو الأوّل كما مرّ ، وهو يقتضي صدق عنوان ميسور الطبيعة عرفاً على الباقي ، ولكن لا يبقى موضوع لهذه الدعوى مع ما مرّ من أنّ الملاك إحراز تعدّد المطلوب ، وإنّ بناء العقلاء على الإتيان بالميسور فيما إذا أحرز تعدّد المطلوب ، سواء صدق على الباقي أنّه ميسور الطبيعة أم أنّه بعضها.

إلى هنا تمّ الكلام في قاعدة الميسور.

__________________

(١) نهج البلاغة : صبحي الصالح ، خ ٤٤.

(٢) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٤٠٩ ، طبع جماعة المدرّسين.

١٨٤

بقي هنا شيء :

وهو ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله في ذيل البحث عن الأقل والأكثر الارتباطيين من أنّه إذا دار الأمر بين جزئيّة شيء أو شرطيّته ، وبين مانعيته أو قاطعيته لكان من قبيل المتباينين ولا يكاد يكون من الدوران بين المحذورين ، فيكون الواجب الاحتياط ( خلافاً لما ربّما يظهر من الشيخ الأنصاري رحمه‌الله من كونه من الدوران بين المحذورين ، وأنّ الأقوى فيه هو التخيير ).

أقول : الفرق بين المانع والقاطع أنّ الأوّل يمنع عن تأثير المقتضي فيقابل الشرط الذي يكمّل اقتضاء المقتضي ، ويوجب إتمام تأثيره ، وأمّا الثاني فهو ما يتخلّل بين الأجزاء ويقطع المقتضي ، فهو يمنع عن وجود المقتضي ، بينما الأوّل يمنع عن تأثيره بعد وجوده.

وكيف كان ، الحقّ مع المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، أي يكون المقام من قبيل دوران الأمر بين المتباينين ، لأنّ دوران الأمر بين المحذورين يتصوّر بالنسبة إلى العمل الواحد ، وفي ما نحن فيه يمكن إتيان العمل مرّتين ، أي تكرار العبادة بقصد الرجاء ، وفعلها تارةً مع ذلك الشيء المشكوك ، واخرى بدونه.

إلى هنا تمّ البحث عن المقام الثاني من المقامات الثلاثة لمبحث الاشتغال ( وهو دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

المقام الثالث : في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليين

الظاهر قيام الإجماع على البراءة عن الأكثر فيه ، ووجهه واضح ، لرجوعه إلى الشبهة البدويّة بالنسبة إلى الأكثر ، كما إذا دار الأمر في الصلوات الفائتة بين عشر صلوات وخمس عشرة ، ( هذا في الشبهة الموضوعيّة ) ، وكما إذا علمنا بفوات عدّة صلوات يوميّة وغيرها كصلاة الآيات ، وشككنا في وجوب قضاء غير اليومية ( وهذا في الشبهة الحكميّة ) فتجري البراءة بالنسبة إلى خمس صلوات في المثال الأوّل وبالنسبة إلى غير اليومية في المثال الثاني.

نعم ، إذا كان في البين أصل موضوعي يوجب ارتفاع موضوع البراءة فلا إشكال في تقدّمه عليها وعدم الحاجة إلى جريانها ، كما إذا علمنا بفوات الصّلاة في يومين ، وشككنا في فواتها في يوم ثالث ، فتجري حينئذ أصالة عدم الإتيان ( استصحاب عدم الإتيان ) ويثبت

١٨٥

بذلك فوت الصّلاة الموضوع لوجوب القضاء ، بناءً على أنّ القضاء بأمر جديد ، وموضوعه عنوان الفوت ، ( وبناءً على كون الفوت أمراً عدميّاً يساوق عدم الإتيان ، لا ما إذا كان من قبيل عدم الملكة فيكون الأصل مثبتاً ، وتوضيح الكلام في محلّه ).

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله قد تفطّن في المقام إلى جريان هذا القسم من الدوران في الشبهات التحريميّة أيضاً ( ونعم ما تفطّن به ) ومثّل له بتردّد الغناء بين أن يكون هو مطلق ترجيع الصوت أو بقيد كونه مطرباً ، وقال : « الظاهر أن تكون الشبهات التحريميّة على عكس الشبهات الوجوبيّة ، فإنّه في الشبهات الوجوبيّة يكون الأقل متيقّن الوجوب والأكثر مشكوكاً ، وفي الشبهات التحريميّة الأكثر متيقّن الحرمة ( وهو في المثال ترجيع الصوت المطرب ) والأقل مشكوكاً ( وهو في المثال الترجيع بلا طرب ) والأقوى جريان البراءة عن حرمة الأقلّ مطلقاً ، الأقلّ سواء كانت الشبهة حكميّة ( كما في المثال ) أو موضوعيّة ( كما إذا شككنا في كون الصوت الفلاني مطرباً أو غير مطرب؟ ) ... وسواء كان الأقلّ والأكثر من الارتباطيين أو غيره (١).

هذا تمام الكلام في أصالة الإشتغال ، والحمد لله أوّلاً وآخراً.

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ١٤٨ ـ ١٤٩ ، طبع جماعة المدرّسين.

١٨٦

خاتمة

في شرائط جريان الاصول

المقام الأوّل : في شرائط جريان أصالة الاحتياط

المقام الثاني : في شرائط جريان سائر الاصول :

١ ـ شرائط الإجراء بالنسبة إلى الشبهة الحكميّة

٢ ـ شرائط الإجراء بالنسبة إلى الشبهة الموضوعيّة

الكلام في الجاهل المقصّر

كلام الفاضل التوني في المقام

الكلام في قاعدة لا ضرر

١٨٧
١٨٨

خاتمة في شرائط جريان الاصول

مقدّمة :

كان ينبغي ذكر هذا البحث بعد الفراغ من مبحث الاستصحاب لأنّه يعمّ شرائط جريان الاستصحاب أيضاً ، والبحث عن شرائط جريانه قبل بيان أدلّته مخالف للترتيب المنطقي في البحث كما لا يخفى.

ثمّ إنّه جاء في بعض شروح الكفاية : أنّ شرائط جريان الاصول على قسمين : قسم منها شرط لأصل الجريان ، وقسم آخر شرط للعمل بها ، وتمثّل للأوّل بالفحص عن الأدلّة الاجتهاديّة في جريان البراءة العقليّة ، حيث إنّه بدون الفحص عنها لا يتحقّق موضوع عدم البيان ، وتمثّل للثاني بالفحص عن الدليل الاجتهادي أيضاً بالنسبة إلى جريان البراءة الشرعيّة ، لأنّ موضوعها إنّما هو الشكّ ، وهو صادق قبل الفحص أيضاً ، فليس الفحص شرطاً لجريانها ، بل إنّها تجري قبل الفحص ولكن العمل بها متوقّف على تحقّق الفحص.

أقول : ليس لهذا التفصيل وجه وجيه ، لأنّ كلّ ما يكون شرطاً للعمل بالاصول شرط لجريانها أيضاً ، وكذلك العكس ، فإنّ البراءة الشرعيّة وإن كان الدليل فيها لفظيّاً فيمكن أن يقال بإطلاقه ، لكن بما أنّ حجّية الأدلّة اللفظيّة متوقّفة على حجّية الظهور ، والدليل على حجّية الظهور إنّما هو بناء العقلاء ، فلا إشكال في أنّ بناءهم لم يستقرّ إلاّعلى حجّيتها بعد الفحص بالنسبة إلى المولى الذي ديدنه بيان أحكامه تدريجاً.

وإن شئت قلت : اطلاق هذه الأدلّة منصرف إلى ما بعد الفحص.

إذا عرفت هذا فاعلم : أنّ البحث يقع في مقامين :

١٨٩

المقام الأوّل : في شرائط جريان أصالة الاحتياط.

فحاصل كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله فيه : أنّه لا يعتبر في حسن الاحتياط شيء أصلاً بل هو حسن على كلّ حال ، إلاّ إذا كان موجباً لاختلال النظام ، ولا تفاوت فيه بين المعاملات والعبادات مطلقاً ولو كان موجباً للتكرار فيها.

إن قلت : التكرار عبث لا يترتّب عليه غرض عقلائي ولعب بأمر المولى ، وهو ينافي قصد الامتثال المعتبر في العبادة.

قلنا : أمّا العبثية فلا تصلح لأن تكون مانعة عن حسن الاحتياط المستلزم لتكرار العبادة لكونها أخصّ من المدّعى ، لإمكان نشوء التكرار عن غرض عقلائي ، كما إذا كان في تحصيل العلم التفصيلي بالامتثال مشقّة وكلفة أو بذل مال وذلّ سؤال.

وأمّا كونه لعباً بأمر المولى ومنافياً مع قصد الامتثال ، ففيه : إنّ مناط القربة المعتبرة في العبادة هو إتيان الفعل بداعي أمر المولى بحيث لا يكون له داعٍ سواه ، فلو أتى بهذا الداعي فقد أدّى وظيفته وإن لم يكن التكرار ناشئاً من غرض عقلائي وكان لاعباً في كيفية الإمتثال ، لأنّ المنافي إنّما هو اللعب في أصل الامتثال لا في كيفيته ( انتهى ).

أقول : أوّلاً : إنّ محلّ البحث في المقام إنّما هو الاحتياط الواجب لا المستحبّ ، ومجرّد الحسن لا يكون دليلاً على وجوبه.

ثانياً : إنّ إشكال التكرار ليس منحصراً في اللغويّة ، بل من الإشكالات دعوى الإجماع على حرمة التكرار ، خصوصاً بعد ملاحظة عدم كونه مأنوساً في الشرع المقدّس باستثناء موارد شاذّة ، مثل إذا اشتبهت القبلة بين الجهات الأربع ، والمعروف فيها تكرار الصّلاة إلى الجهات الأربع ، وإن كان المختار فيها أيضاً عدم وجوب التكرار.

ومن الإشكالات عدم تحقّق قصد الوجه وقصد التميّز ، وإن كان المختار عدم وجوبهما أيضاً.

وثالثاً : لا فرق بين اللعب في الكيفية واللعب في أصل العمل لاتّحادهما خارجاً كما لا يخفى ، والاتّحاد يوجب سراية القبح من أحدهما إلى الآخر.

ورابعاً : أنّه لا دليل على حسن الاحتياط مطلقاً حتّى فيما إذا قامت أمارة على الترخيص

١٩٠

( كما مرّ ) ، بل لعلّ الدليل على الخلاف ، حيث إنّ ديدن الأئمّة وسيرة أصحابهم على العمل بالأمارات الترخيصيّة وترك الاحتياط فيها ولو لم يلزم منه اختلال النظام ، فكانوا عليهم‌السلام يستجيبون دعوة المؤمنين مع وجود احتمال الشبهة في بيوتهم وأموالهم وطعامهم ، ويدخلون في أسواقهم ويشترون ويأخذون ما في أيديهم مع وجود الشبهة فيها أيضاً.

إن قلت : فما هو مورد الأخبار الدالّة على حسن الاحتياط؟

قلنا : لابدّ من حملها على غير موارد قيام الأمارات الترخيصيّة ، أو عليها ولكن فيما إذا حصلت التهمة والظنّ القوي بالحرمة.

وبالجملة : تحقيق البحث في المقام يستدعي لزوم ملاحظة موارد وجوب الاحتياط ثمّ البحث عن شرائط الاحتياط في كلّ واحد منها ، وقد ظهر ممّا مرّ سابقاً أنّها ثلاثة :

أحدها : الشبهات الحكميّة قبل الفحص.

الثاني : أطراف العلم الإجمالي.

الثالث : موارد اليقين بالاشتغال الذي يقتضي البراءة اليقينيّة.

أمّا المورد الأوّل : فلا إشكال في وجوب الاحتياط فيه من دون شرط ، وسيأتي البحث عنه في بيان شرائط جريان أصالة البراءة.

وأمّا المورد الثاني : فهو مشروط بشرائط مرّ ذكرها : منها : أن تكون الشبهة محصورة ، ومنها : كون تمام الأطراف محلاً للابتلاء ، ومنها : عدم كون واحد من الأطراف مضطرّاً إليه.

وأمّا المورد الثالث : فلا إشكال أيضاً في وجوب الاحتياط فيه بلا شرط. إلاّ إذا أوجب طروّ عنوان ثانوي من قبيل العسر والحرج.

ثمّ إنّه هل يجوز العمل بالاحتياط وترك الاجتهاد والتقليد؟

وهذا تارةً يبحث عنه في مباحث العلم الإجمالي ( أي الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي ) واخرى في ما نحن فيه ( أي مطلق الاحتياط ).

والأقوال فيه ثلاثة :

١ ـ ما ذهب إليه المشهور ، وهو عدم الجواز مع إمكان الاجتهاد أو التقليد.

١٩١

٢ ـ ما ذهب إليه المتأخّرون ، وهو الجواز مطلقاً.

٣ ـ التفصيل بين ما يستلزم التكرار فلا يجوز الاحتياط فيه من دون الاجتهاد أو التقليد ، وبين ما لا يستلزم التكرار فيجوز.

واستدلّ القائلون بالجواز مطلقاً بامور :

منها : قوله تعالى في آية النفر أو آية السؤال الذي ظاهره وجوب تحصيل العلم أو وجوب السؤال.

وفيه : أنّ وجوب تحصيل العلم أو وجوب السؤال طريقي لا دليل على كونه نفسيّاً إلاّفي باب اصول الدين ، حيث لابدّ فيه من تحصيل العلم التفصيلي ولا يمكن فيه الجمع بين الأديان المختلفة ، لأنّ الموضوع فيه هو العقد القلبي والاعتقاد ، وهو لا يحصل إلاّبالعلم التفصيلي.

ومنها : وجوب نيّة الوجه.

وفيه : ما مرّ سابقاً من أنّه لا دليل عليه ، مضافاً إلى حصولها في المقام لأنّ قصد الوجه غير الجزم بالوجه.

ومنها : الإجماع الذي مرّ بيانه في مباحث القطع في سؤال السيّد الرضي عن أخيه السيّد المرتضى صلى الله عليه وسلم في مسألة القصر والإتمام بقوله : « الإجماع قائم على أنّ من صلّى صلاة لا يعلم أحكامها فصلاته باطلة » وأجاب السيّد المرتضى رحمه‌الله بأمر آخر غير المناقشة في تحقّق الإجماع ، وظاهره تلقّيه بالقبول.

وفيه : أوّلاً : أنّ الإجماع هنا محتمل المدرك ، ولعلّ مدركه نفس الآيتين ( آية النفر وآية السؤال ) وأشباههما.

وثانياً : لعلّ مورد السؤال والجواب وبالنتيجة معقد الإجماع ما إذا أوجب الجهل فساد العمل لأنّ الصّلاة الرباعية غير الصّلاة الثنائية ، ومحلّ البحث في المقام ما إذا لم يأت بالمأمور به رأساً.

ومنها : الدليل العقلي ببيانين :

أحدهما : أنّه لابدّ في كيفية الإطاعة والعمل من تبعية حكم العقل ، والعقل لا يرى عمل المحتاط القادر على الاجتهاد أو التقليد إطاعة.

ثانيهما : إنّ للإطاعة مراتب أربعة : الإطاعة العمليّة التفصيليّة ، الإطاعة الظنّية التفصيليّة

١٩٢

عن طريق الاجتهاد أو التقليد ، والإطاعة العلميّة الإجماليّة ، والإطاعة الظنّية الإجماليّة ، والعقل حاكم على لزوم رعاية هذه المراتب ، فمع إمكان المرتبة العالية من الإطاعة لا يجوز التنزّل إلى المرتبة الدانية ، وغير خفيّ أنّ العمل بالاحتياط مع القدرة على الاجتهاد أو التقليد تنزّل من الإطاعة التفصيليّة إلى الإطاعة الإجماليّة.

أقول : الإنصاف أنّ هذا ادّعاء محض ، ودعوى بلا دليل ، لأنّ المقصود من الإطاعة هو إتيان المأمور به جامعاً للشرائط ، وهو حاصل بالاحتياط ولو بتكرار العمل أيضاً ، ولما عرفت من عدم اعتبار قصد الوجه والجزم في النيّة ، وعدم المنافاة بينه وبين قصد القربة.

نعم لا يخفى أنّ العمل بالاحتياط ليس شيئاً مقدوراً لكلّ أحد بل لابدّ فيه من تشخيص مواضعه وكيفيّة أدائه ، فيجب أن يكون المحتاط إمّا من أهل العلم والإطّلاع ، أو يسأل منهم ، فالطريق الوحيد لغالب الناس هو العمل بالتقليد على فرض عدم الاجتهاد.

هذا كلّه في المقام الأوّل ( أي شرائط العمل بأصالة الاحتياط ).

المقام الثاني : في شرائط جريان سائر الاصول

فالكلام فيه يقع في موردين :

المورد الأوّل : في شرائط الإجراء بالنسبة إلى الشبهة الحكميّة.

المورد الثاني : في شرائط الإجراء بالنسبة إلى الشبهة الموضوعيّة.

أمّا المورد الأوّل : فبالنسبة إلى أصالة البراءة نقول :

يشترط في جريان البراءة العقليّة التفحّص عن مظانّ أحكام المولى ثمّ إجرائها بعد اليأس عن الضفر بها ، لأنّها عبارة عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، والمراد من البيان إنّما هو البيان في مظانّ أداء المقصود الذي به يتحقّق الوصول ، حيث إنّه لا يشترط فيه الإبلاغ إلى كلّ أحد ، فهو في مثل المعاهد والمنظّمات يتحقّق بنصب الأمر الإداري على لوحة الإعلانات أو إيراده في جريدة رسميّة ، ولا يجوز جريان البراءة إلاّبعد الفحص عن تلك اللوحة وهذه الجريدة ، وبعبارة اخرى : للمولى وظيفة وللعبد وظيفة اخرى ، فوظيفة المولى إنّما هو بيان تكليفه وإبلاغه بنحو متعارف ، ووظيفة العبد هو الفحص عن بيان المولى في مظانّه المعلومة.

هذا في البراءة العقليّة ، وكذلك فيما إذا قلنا بالبراءة العقلائيّة ( كما هو المختار ) لأنّ العقلاء أيضاً لا يجرون البراءة ولا يحكمون ببراءة ذمّة العبد إلاّبعد فحصه عن مظانّ البيان.

أمّا البراءة الشرعيّة : فحيث إنّ أدلّتها لفظيّة ( كحديث الرفع ) وهى بظاهرها مطلقة ،

١٩٣

فمقتضى اطلاقها جواز إجراء البراءة ولو قبل الفحص ، فلابدّ في رفع اليد عن هذا الاطلاق وتقييده بما بعد الفحص من دليل مقيّد ، ولذلك ذكر الأصحاب وجوهاً أربعة للتقييد :

١ ـ الإجماع ، لإتّفاق جميع العلماء من الشيعة والسنّة على عدم جواز إجراء البراءة قبل الفحص عن مظان البيان ، بل عليه ضرورة الفقه.

فانّك لا تجد فقيهاً إذا سئل عن مسألة شرعيّة يفتي بالبراءة من دون الرجوع إلى الكتاب والسنّة.

وأورد على هذا الوجه بأنّ الإجماع هذا لا أقلّ من كونه محتمل المدرك ، فلعلّ منشأه الوجوه الثلاثة الاخر ، ولكن قد عرفت أنّ المسألة بلغت فوق حدّ الإجماع ، وهو الضرورة ، ومن المعلوم أنّه إذا صار الحكم ضرورياً فالواجب الأخذ به من أي طريق كان.

٢ ـ حصول العلم الإجمالي لكلّ أحد قبل الأخذ في استعلام المسائل بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في الشريعة ، ومعه لا يصحّ التمسّك بأصل البراءة لما تقدّم من أنّ مجراها الشكّ في أصل التكليف لا في المكلّف به مع العلم بالتكليف.

ويرد عليه : أنّ هذا أخصّ من المدّعى ، فإنّ المدّعى عدم جواز التمسّك بأصل البراءة حتّى بعد الظفر بمقدار المعلوم بالإجمال في الشبهات البدويّة والمسائل المستحدثة.

٣ ـ الآيات والروايات الدالّة على وجوب تحصيل العلم الذي لازمه وجوب الفحص.

أمّا الآيات فنظير آية السؤال أو النفر حيث تتضمّنان معنى الفحص.

وأمّا الروايات فهى على طائفتين :

الطائفة الاولى : ما تدلّ على وجوب تحصيل العلم وبالتالي على وجوب الفحص بشكل كلّي.

منها : ما رواه مسعدة بن زياد قال سمعت جعفر بن محمّد عليه‌السلام وقد سئل عن قوله تعالى : ( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) فقال : إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي كنت عالماً؟ فإن قال نعم ، قال له : أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال : كنت جاهلاً ، قال : أفلا تعلّمت حتّى تعمل ، فيخصمه فتلك الحجّة البالغة » (١).

ومنها : جلّ الأحاديث الواردة في كتاب فضل العلم من اصول الكافي ( في الباب الأوّل ) كالحديث المعروف من أنّ « طلب العلم فريضة على كلّ مسلم » الذي يدلّ على وجوب التعلّم

__________________

(١) تفسير البرهان : ج ١ ، ص ٥٦٠.

١٩٤

على جمع المكلّفين (١) ، كما يدلّ ذيل آية النفر : ( وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ) على وجوب التعليم كفائياً.

الطائفة الثانية : روايات خاصّة ووردت في موارد خاصّة تدلّ على وجوب تحصيل العلم ووجوب الفحص ، وهى عدّة روايات :

إحديها : ما رواه عبدالرحمن بن الحجّاج قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجلين أصابا صيداً وهما محرمان ، الجزاء بينهما؟ أو على كلّ واحد منهما جزاء إلى أن قال : « إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا » (٢).

ثانيها : ما رواه حمزة بن الطيّار أنّه عرض على أبي عبدالله عليه‌السلام بعض خطب أبيه حتّى إذا بلغ موضعاً منها قال له : كفّ واسكت ، ثمّ قال أبو عبدالله عليه‌السلام : « أنّه لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلاّ الكفّ عنه والتثبّت والردّ إلى أئمّة الهدى حتّى يحملوكم فيه على القصد ويجلو عنكم فيه العمى ، ويعرّفوكم فيه الحقّ قال الله تعالى : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) » (٣).

ثالثها : ما رواه أحمد بن الحسن الميثمي عن الرضا عليه‌السلام في حديث اختلاف الأحاديث قال : « وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه ، فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا » (٤).

__________________

(١) خلافاً لما قد يدّعي من أنّ هذا الحديث يدلّ على وجوب التعلّم على خصوص الرجال من المكلّفين وذلك لأنّه أوّلاً : كلمة « المسلم » هنا بمعنى اسم الجنس تدلّ على جنس المكلّف ، وثانياً : لا إشكال في أنّ المراد من العلم في هذا الحديث علم الدين ، ومن الواضح وجوبه على النساء أيضاً ، وثالثاً : توجد في ذلك الباب روايتان اخريان عبّر فيها بمطلق انّ « طلب العلم فريضة » وهما ح ٢ و ٥ ، ورواية ثالثة ( ح ٦ ) وهى ما رواه أبو حمزة عن أبي عبدالله عليه‌السلام الدالّة على وجوب التفقّه في الدين مطلقاً ، ورواية رابعة ( ح ٨ ) وهى صحيحة أبان بن تغلب عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « لَوَدِدت أنّ أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتّى يتفقّهوا » وهى أيضاً مطلقة كما لا يخفى.

(٢) الباب ١٢ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ١.

(٣) وسائل الشيعة : الباب ١٢ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٣.

(٤) المصدر السابق : ح ٣١.

١٩٥

رابعها : ما رواه جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام في وصية له لأصحابه قال : « إذا اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده ، وردّوه إلينا حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا ... » (١).

خامسها : ما واه عبدالله بن جندب عن الرضا عليه‌السلام في حديث قال : « ... بل كان الفرض عليهم والواجب لهم من ذلك الوقوف عند التحيّر وردّ ما جهلوه من ذلك إلى عالمه ومستنبطه لأنّ الله يقول في كتابه : « ولو ردّوه إلى الله وإلى الرسول وإلى اولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم » ، يعني آل محمّد وهم الذين يستنبطون منهم القرآن ، ويعرفون الحلال والحرام وهم الحجّة لله على خلقه » (٢).

ويظهر من هذه الروايات وأشباهها إنّ وجوب الفحص عن الشبهات الحكميّة أمر مفرو عنه.

٤ ـ لقائل أن يقول : إنّ حديث الرفع وسائر أدلّة البراءة ـ أساساً ـ لا تعمّ ما قبل الفحص ، لأنّ لازمه الإغراء على الجهل ، وبعبارة اخرى : إنّها منصرفة عن موارد القدرة على الفحص وحينئذٍ لا يوجد دليل على البراءة قبل الفحص حتّى يقال بجريانها قبله ، فلا نحتاج إلى محاولة إقامة الدليل على وجوبه لتخصيص إطلاقات أدلّة الأحكام بما بعد الفحص بل يكفي مجرّد عدم وجود دليل على البراءة قبله.

وهذا الوجه لا غبار عليه ، فتلخّص إلى هنا أنّ دلالة الوجه الرابع والثالث على المقصود تامّة.

بقي هنا شيء :

وهو مقدار الواجب من الفحص

لا إشكال في أنّه يختلف باختلاف الأدلّة ، فمن اعتمد في المسألة على العلم الإجمالي ( وهو الوجه الثاني ) وجب عليه الفحص حتّى ينحلّ العلم الإجمالي ، ومن اعتمد على الضرورة والإجماع فيأخذ بالقدر المتيقّن لكون الدليل لبّياً حينئذٍ ، وإن كان الدليل هو الآيات والروايات فالظاهر منها وجوب الفحص في كلّ شيء عن مظانّ ذلك الشيء.

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ١٢ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٤٣.

(٢) المصدر السابق : ح ٤٩.

١٩٦

والذي يمكن أن يقال بعد ملاحظة مجموع الأدلّة أنّه يكفي الفحص عن المخصّصات وشبهها عن مظانّها ( ولو انحلّ العلم الإجمالي ) كما أشرنا إليه سابقاً ، بل هذا هو المعمول بين العقلاء من أهل العرف بالنسبة إلى قوانينهم ، وممّا يوجب سهولة الأمر في ذلك أنّ علماءنا المتقدّمين رضوان الله عليهم بذلوا جهدهم في سبيل التحقيق عن الأحاديث الفقهيّة وتبويبها ووضع الجوامع لها ، كما أنّ الفقهاء الذين جاؤوا بعد المحدّثين بذلوا الجهد في الفحص عن الأحاديث المرتبطة بكلّ مسألة فقهيّة ، وأودعوها في كتبهم الاستدلاليّة ، ولذا يمكن الفحص بالمقدار اللازم للفقيه في عصرنا هذا مع بذل جهد قليل ، فشكر الله سعيهم وأجزل ثوابهم ، وجزاهم عنّا وعن الإسلام خير الجزاء.

هذا تمام الكلام في شرائط جريان أصالة البراءة.

ومنه يظهر الحال في شرائط جريان أصالة التخيير وأصالة الاستصحاب.

أمّا أصالة التخيير فيأتي فيها اعتبار وجوب الفحص الذي هو العمدة من الشرائط لأنّ جميع الوجوه الخمسة المذكورة في أصالة البراءة جارية هنا أيضاً ، أمّا الإجماع وضرورة الفقه فلا شبهة في قيامهما على وجوب الفحص عن وجود دليل على الترجيح في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ، وكذلك آية السؤال والنفر ، لشمولهما موارد الدوران بين المحذورين في الشبهات الحكميّة أيضاً ، وهكذا الروايات ( وقوله عليه‌السلام : هلاّ تعلّمت وشبهه ) والعلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرّمات قبل الفحص ، وكذلك حكم العقل لأنّ العقل يحكم بالتخيير للمكلّف المتحيّر ، والتحيّر المستقرّ إنّما يحصل بعد الفحص وعدم الظفر بالدليل.

وأمّا أصالة الاستصحاب فلأنّ قوله عليه‌السلام ، لا تنقض اليقين بالشكّ ( بناءً على شموله للشبهات الحكميّة أيضاً ) منصرف إلى ما بعد الفحص كما لا يخفى.

إلى هنا تمّ البحث عن المورد الأوّل ، أي اعتبار الفحص في الشبهات الحكميّة.

الفحص في الشبهات الموضوعيّة :

أمّا المورد الثاني ( أي شرائط إجراء سائر الاصول بالنسبة إلى الشبهة الموضوعيّة ) فالمشهور في كلماتهم عدم الفحص مطلقاً سواء كانت الشبهة وجوبيّة أو تحريميّة ، وسواء في البراءة العقليّة أو البراءة النقليّة ، بل الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله صرّح بأنّه ممّا لا خلاف فيه

١٩٧

بالنسبة إلى الشبهات الموضوعيّة التحريميّة ، نعم استدلّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله في حاشية الرسائل لوجوب الفحص مطلقاً بالنسبة إلى البراءة العقليّة بأنّ العقل لا استقلال له بالبراءة قبل الفحص في الشبهات الموضوعيّة مطلقاً كما يظهر ذلك من استحقاق المبادر إليه قبله عند العقلاء للّوم والذمّ (١).

والشيخ الأعظم رحمه‌الله فصّل بين الشبهة الوجوبيّة والتحريميّة ، وذهب إلى عدم وجوب الفحص في التحريميّة ، واستدلّ له بإطلاق الأخبار مثل قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام » وقوله عليه‌السلام : « حتّى يستبين لك غير هذا أو تقوم به البيّنة » وقوله عليه‌السلام : « حتّى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه الميتة » وغير ذلك من الأحاديث السالمة عمّا يصلح لتقييدها.

وأمّا الشبهة الوجوبيّة فقال بالنسبة إليها : إنّ مقتضى أدلّة البراءة حتّى العقل كبعض كلمات العلماء عدم وجوب الفحص أيضاً وهو مقتضى حكم العقلاء في بعض الموارد مثل قول المولى لعبده : « أكرم العلماء أو المؤمنين » فإنّه لا يجب الفحص في المشكوك حاله في المثالين ، إلاّ أنّه قد يترائى أنّ بناء العقلاء في بعض الموارد على الفحص والاحتياط كما إذا أمر المولى باحضار علماء البلد أو أطبّائها أو إضافتهم أو إعطاء كلّ واحد منهم ديناراً ، فإنّه قد يدّعي أنّ بناءهم على الفحص عن اولئك وعدم الاقتصار على المعلوم ابتداءً مع وجود غيرهم في البلد.

ثمّ نقل من صاحب المعالم رحمه‌الله ما يظهر منه وجوب الفحص ، ومن المحقّق القمّي في القوانين أنّه أيّد ذلك بأنّ الواجبات المشروطة بوجود شيء إنّما يتوقّف وجوبها على وجود الشرط لا على العلم بوجوده ، فبالنسبة إلى العلم مطلق لا مشروط ، مثل أنّ من شكّ في كون ماله بمقدار استطاعة الحجّ لعدم علمه بمقدار المال لا يمكنه أن يقول : إنّي لا أعلم أنّي مستطيع ولا يجب عليّ شيء » بل يجب عليه محاسبة ماله ليعلم أنّه واجد للاستطاعة أو فاقد لها ، ونقل من العلاّمة في التحرير في باب نصاب الغلات أنّه قال : ولو شكّ في البلوغ ولا مكيال هنا ولا ميزان ولم يوجد سقط الوجوب دون الاستحباب ( انتهى ) وقال : وظاهره جريان الأصل مع تعذّر الفحص وتحصيل العلم ( فلا يجري مع عدم تعذّره ).

ثمّ ساق الكلام إلى أن قال : ثمّ الذي يمكن أن يقال في وجوب الفحص أنّه إذا كان العلم

__________________

(١) حاشية الرسائل : ص ١٦٨ ، طبع مكتبة بصيرتي.

١٩٨

بالموضوع المنوط به التكليف يتوقّف غالباً على الفحص بحيث لو أهمل الفحص لزم الوقوع في مخالفة التكليف كثيراً تعيّن هنا بحكم العقلاء اعتبار الفحص ثمّ العمل بالبراءة كبعض الأمثلة المتقدّمة فإنّ إضافة جميع علماء البلد أو أطبّائهم لا يمكن للشخص الجاهل إلاّبالفحص ، فإذا حصل العلم ببعض واقتصر على ذلك نافياً لوجوب إضافة ما عداه بأصالة البراءة من غير تفحّص زائد على ما حصل به المعلومين عدّ مستحقّاً للعقاب والملامة عند إنكشاف ترك إضافة من يتمكّن من تحصيل العلم به بفحص زائد ( انتهى كلامه ) (١).

أقول : الإنصاف في المسألة هو التفصيل بين موارد الشبهة ، فتارةً تكون ممّا أحرز إهتمام الشارع به جدّاً كما في الفروج والدماء وإنقاذ نفوس المؤمنين ونحوها فلا تجري البراءة فيها حتّى بعد الفحص بحدّ اليأس إذا كانت الشبهة باقية على حالها ، فإذا احتمل أنّ هذا سمّ قاتل بمجرّد شربه لم يجز شربه ولم تجر البراءة حتّى بعد الفحص إذا بقيت الشبهة على حالها ، هذا بالنسبة إلى البراءة النقليّة ، وكذلك البراءة العقليّة فإنّها لا تجري في مثل هذه الامور المهمّة بناءً على مبنى المشهور فضلاً عن المبنى المختار من عدم كون قاعدة قبح العقاب بلا بيان قاعدة عقليّة بل العقل يحكم بالاحتياط مطلقاً ، وأمّا بناء العقلاء فكذلك ، حيث لا إشكال في أنّ بنائهم على الاحتياط في الامور المهمّة ، وحينئذٍ لا ريب في أنّه باستكشاف وجوب الاحتياط شرعاً في مثل هذه الامور المهمّة من شدّة اهتمام الشارع بها يقيّد إطلاقات أدلّة البراءة الشرعيّة لو سلّم إطلاقها وعدم إنصرافها عن مثل هذه الامور.

واخرى يكون المورد ممّا يحصل العلم فيه بأدنى فحص ونظر ، وبتعبير المحقّق الحائري رحمه‌الله يكون العلم في كُمّه ، فيحصل مثلاً بالمراجعة إلى دفتره الخاصّ ليرى أنّه مديون لزيد مثلاً أو لا فلا إشكال في أنّ بناء العقلاء على وجوب الفحص والمراجعة والتأمّل في مثل هذه الامور ، ولا يجوز الأخذ ببراءة الذمّة عند الشكّ من دون مراجعة.

وثالثة يكون المورد المشكوك من الموارد التي تقتضي بماهيّته الفحص والاختبار ، فيكون ممّا لا يعلم غالباً إلاّبالفحص والمراجعة على نحو كأنّ الأمر به شرعاً مستلزم عرفاً لوجوب الفحص عنه ، وإلاّ لم يمتثل إلاّنادراً ، كما في الشكّ في بلوغ المال بحدّ الاستطاعة أو النصاب ،

__________________

(١) الرسائل : ج ٢ ، ص ٥٢٤ ـ ٥٢٦ ، طبع جماعة المدرّسين.

١٩٩

وكذا في أرباح المكاسب وشبهها ، فلا ينبغي الإشكال أيضاً في وجوب الفحص ، وقد جرت سيرة العقلاء في أوامرهم ونواهيهم في أمثال هذه الموارد على الفحص أيضاً ، ولم يمنع عنه الشارع فلا إشكال أيضاً في وجوب الفحص.

ورابعة يكون المورد من غير الأقسام الثلاثة كما إذا قال مثلاً : أكرم العلماء ، أو أطعم الفقراء ، فلا إشكال في أنّ إطلاقات أدلّة البراءة في الشبهات الموضوعيّة دالّة على عدم وجوب الفحص كالروايات الواردة في مسألة الجبن وغيرها.

بقي هنا أمران :

الأمر الأوّل : في الجاهل المقصر

ثمّ إنّ هيهنا بحثاً لابدّ من طرحه في المقام وإن كان بحثاً فقهيّاً بحتاً ، وهو في حكم من ترك الفحص مع كونه قادراً عليه ، وهو يقع في مقامين :

الأوّل : في حكمه التكليفي وإستحقاق العقاب وعدمه.

الثاني : في حكمه الوضعي وصحّة العمل المأتي به وفساده.

أمّا المقام الأوّل : فالأقول فيه أربعة :

الأوّل : ( وهو الأقوى والمشهور ) أنّه يعاقب على ترك الواقع لا على ترك التعلّم.

الثاني : أنّه يعاقب على ترك التعلّم ، وهو المحكي عن المحقق الاردبيلي رحمه‌الله وصاحب المدارك.

الثالث : أنّه يعاقب على ترك تحصيل العلم الموجب لترك الواقع ، وهو المستفاد من كلمات المحقّق النائيني رحمه‌الله.

الرابع : القول بالتفصيل بين التكاليف المطلقة والتكاليف المشروطة أو الموقتة ، ففي الاولى يعاقب على ترك الواقع ، وفي الثانية على ترك التعلّم ، وهذا يستفاد من بعض كلمات المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية وإن رجع عنه في بعض تعليقاته عليها.

أقول : لو خلّينا وظواهر الأدلّة فالحقّ مع المشهور ، لأنّ ظاهرها طريقيّة وجوب التعلّم ، ولا دليل على كونه واجباً نفسيّاً ، فالظاهر من قوله تعالى : ( لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) مثلاً أو قوله تعالى : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) وجوب التفقّه لأجل الإنذار ثمّ الحذر والعمل ، ووجوب السؤال

٢٠٠