أنوار الأصول - ج ٣

أنوار الأصول - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-15-6
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٢٤

الاطمئنان بعدم التكليف مع ملاحظة أنفراده عن البقيّة ، وهذا لا يلزم منه إلاّ العلم بالموجبة الجزئيّة مع الظنّ بالسلب الجزئي في كلّ طرف ( لا الظنّ بالسلب الكلّي ) ولا تنافي بينهما كما هو ظاهر (١).

أقول : إنّا لا نفهم فرقاً بين كلامه هذا وما أفاده الشيخ الأعظم رحمه‌الله ( وإن صرّح بوجود الفرق بينهما ) لأنّ الشيخ رحمه‌الله جعل الضابطة عدم اعتناء العقلاء باحتمال الإصابة لكونه موهوماً ، وهو يقول بأنّ الضابطة عدم اعتناء العقلاء بالاحتمال لحصول الاطمئنان بالعدم ومرجع الأمرين إلى شيء واحد كما لا يخفى.

فتلخّص من جميع ذلك أنّ المهمّ من بين هذه الأدلّة هو بناء العقلاء لضعف الاحتمال بسبب كثرة الأطراف ، مضافاً إلى رواية الجبن ، ويؤيّده الإجماع المتظافر نقله.

بقي هنا امور :

الأمر الأوّل : في تعيين الضابط في الشبهة غير المحصورة وتحديدها.

لا إشكال في اختلافه باختلاف الأدلّة المذكورة لعدم وجوب الاحتياط فيها ، فإن كان الدليل هو الإجماع وكان له معقد لفظي كما إذا كان المعقد التعبير بـ « غير المحصور » فلابدّ في تعيين مفهومه من الرجوع إلى العرف ، ولعلّ هذا هو مقصود من رأى أنّ الضابط هو صدق مفهوم غير المحصور عرفاً ، وإن لم يكن له معقد فلابدّ من الأخذ بالقدر المتيقّن من كلمات المجمعين.

وإن كان الدليل لزوم العسر والحرج فيكون الضابط كون كثرة الأطراف بحدّ توجب ذلك ، كما إنّه إذا كان الدليل لزوم خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء كان الضابط كون الكثرة بحدّ توجب خروج بعض الأطراف عن ذلك ، وهكذا إذا كان الدليل روايات الجبن كان الضابط شمول الأطراف لتمام البلد ( نظراً إلى قوله عليه‌السلام : والله إنّي لأعترض السوق ... ) وأمّا إذا كان الدليل ما إخترناه من بناء العقلاء كان المناط هو أن تكون كثرة الأطراف بحدّ توجب ضعف الاحتمال في كلّ واحد منها بحيث يكون موهوماً بدرجة لا يعتني العقلاء بذلك الاحتمال ، وهكذا ... إلى سائر الأدلّة.

__________________

(١) راجع نهاية الأفكار : القسم الثاني من الجزء الثالث ، ص ٣٣٠.

١٤١

فقد ظهر أنّ المنهج الصحيح للبحث في ما نحن فيه بيان الأدلّة أوّلاً ثمّ تعيين الضابط ثانياً ، لأنّ الضابطة إنّما تؤخذ من متن الدليل لا غير ، والعجب من غير واحد من الأعاظم حيث عكس الأمر في كلامه فقدّم بيان الضابط على الأدلّة.

وعلي أيّ حال فالمعيار الصحيح عندنا في عدم انحصار الشبهة يرجع في الواقع إلى ما ذكره الشيخ الأعظم والمحقّق العراقي ٠ حيث إنّ الدليل المهمّ عندنا إنّما هو بناء العقلاء بما مرّ توضيحه.

ثمّ إنّه لو فرض تعدّد الدليل ، أي كان الدليل على عدم وجوب الاجتناب عند شخص وجوهاً من الأدلّة المذكورة فلابدّ من الأخذ بالأوسع منها كما لا يخفى.

الأمر الثاني : إذا شكّ في كون الشبهة محصورة أو غير محصورة فهل مقتضى القاعدة هو وجوب الاحتياط مطلقاً أو البراءة مطلقاً أو يختلف باختلاف المباني؟

لا إشكال في اختلافه على اختلاف المباني ، وبناءً على ما تبيّناه من تنجّز العلم الإجمالي مطلقاً عند العقل وأنّ القاعدة الأوّلية إنّما قاعدة الاحتياط واطلاق « اجتنب عن الخمر » يكون المرجع في صورة الشكّ الاحتياط لأنّ المقتضي وهو اطلاق الأدلّة موجود والمانع وهو المخصّص مفقود لعدم ثبوته عند الشكّ ، ومن الواضح أنّه لا ربط لهذا بقاعدة المقتضي والمانع حتّى يقال بعدم حجّيتها لأنّ المقصود من المقتضي هنا هو إطلاقات أدلّة الاجتناب عن المحرّمات لا غير.

وإن شئت قلت : إذا كانت الشبهة شبهة مفهومية للمخصّص فلا كلام في وجوب الرجوع إلى العام ، وإذا كانت الشبهة مصداقية فأيضاً يكون المرجع عموم العام لكون المخصّص لبّياً.

الأمر الثالث : هل المخالفة القطعيّة في الشبهة غير المحصورة أيضاً جائزة أو لا؟

يختلف هذا أيضاً باختلاف المباني ، فبناءً على كون الدليل هو الإجماع فمع فرض وجود معقد له لا إشكال في اطلاق المعقد وشموله للمخالفة القطعيّة والاحتماليّة معاً ، نعم يمكن أن يقال : بانصرافه عن المخالفة القطعيّة كما قال به الشيخ الأعظم رحمه‌الله.

وبناءً على كون الدليل هو لزوم الحرج فترجع المسألة إلى ما مرّ من البحث في أنّ الاضطرار إلى أحد الأطراف هل يوجب سقوط العلم الإجمالي عن التنجّز مطلقاً أو بالنسبة إلى خصوص المضطرّ إليه فالكلام في ما نحن فيه هو الكلام هناك.

١٤٢

وأمّا بناءً على المختار في المقام فلا يجوز المخالفة القطعيّة لأنّه لا يجوز من أوّل الأمر إلاّ إرتكاب مقدار من الأطراف يكون الاحتمال فيه موهوماً ، وأمّا الأزيد منه فلا ، كما أنّه لا يجوز إرتكاب جميعها تدريجاً فعلى هذا لا يجوز إرتكاب نصف الجميع ، بل ولا عشره لأنّه من قبيل الشبهة المحصورة.

وأمّا بناءً على رواية الجبن فحيث إنّ الغاية للحرمة فيها هى العلم التفصيلي بالحرام يجوز المخالفة القطعيّة لعدم حصول العلم التفصيلي ( وهو المعرفة المتعيّنة المتشخّصة ) إلى آخر الأطراف.

الأمر الرابع : فيما إذا كانت الشبهة غير المحصورة وجوبية ( كما إذا تردّد الثوب الطاهر للصلاة بين مائة ثوب فيتوقّف الاحتياط فيه على إتيان الصّلاة مائة مرّة ، وكما إذا تردّد الدائن بين الف شخص وكان الدين الف تومان مثلاً فيتوقّف الاحتياط فيه على إعطاء الف الف تومان ) فلا إشكال في عدم وجوب الموافقة القطعيّة أيضاً ، ولكن حيث إنّ الضابط المختار وهو كون ضعف الاحتمال ووهمه بدرجة لا يعتنى به العقلاء ، لا يأتي فيها ( لعدم ضعف الاحتمال في مثل هذه الأمثلة بالدرجة المذكورة ) بل الضابط الجاري فيها كون كثرة الأطراف بحدّ يلزم منه العسر والحرج ، تجب الموافقة الاحتماليّة ، أي تحرم المخالفة القطعيّة لأنّ هذا الضابط لا يقتضي عدم وجوب الموافقة مطلقاً حتّى فيما إذا لم يلزم منها العسر والحرج الشخصي ، بل لابدّ من الاقتصار على الموارد التي يلزم منها ذلك.

الأمر الخامس : في أنّ شبهة الكثير في الكثير داخلة في الشبهات المحصورة كما مرّت الإشارة إليه لأنّ المعيار المختار المذكور وهو كون الاحتمال موهوماً لا يأتي فيها كما لا يخفى ، نعم بناءً على مختار المحقّق النائيني رحمه‌الله من كون الضابط عدم القدرة على إرتكاب الجميع كان من الشبهة غير المحصورة فلا يجب الاحتياط فيها ، وهذا من التوالي الفاسدة لهذا القول.

التنبيه السادس : اعتبار إندراج طرفي العلم الإجمالي تحت عنوان واحد وعدمه

هل يعتبر في تنجّز العلم الإجمالي تعلّقه بنجاسة هذا أو نجاسة ذاك مثلاً أو يتنجّز أيضاً فيما إذا تعلّق بنجاسة هذا أو غصبية ذاك مثلاً؟ وللمسألة أثر هامّ في الفقه.

١٤٣

الإنصاف عدم اعتبار الإندراج تحت عنوان واحد ، لأنّ منشأ تنجّز العلم الإجمالي وهو فعليّة التكليف الواقعي موجود في كلتا الصورتين ، ولا فرق بين وحدة النجس وتعدّده في حكم العقل كما لا يخفى ، ومن هنا يعلم أنّه إذا خرج من الإنسان بلل مردّد بين البول والمني ، أي حصل العلم الإجمالي بوجود موجب الوضوء أو الغسل فيجب أن يأتي بهما معاً كما عليه الفتوى ، مع أنّ الحدثين لا يكونان من جنس واحد.

نعم لابدّ فيه من التفصيل بين ما إذا كان قبل خروج البلل على وضوء وبين ما إذا كان قبله محدثاً بحدث الوضوء فيجب في الصورة الاولى بإتيان كلا الطهورين ، ويكتفي في الصورة الثانية على خصوص الوضوء ، والوجه في ذلك أنّ العلم الإجمالي في الثانية ينحلّ إلى الشكّ البدوي بالنسبة إلى الحدث الأكبر لأنّ الحدث الحادث على فرض كونه بولاً ليس له أثر ، ولا يحدث به تكليف جديد لأنّه حدث على حدث فتجري البراءة بالنسبة إلى وجوب الغسل فلا يجب عليه إلاّ الوضوء ، بخلافها في الصورة الاولى لأنّ الحدث المزبور يكون مؤثّراً وموجداً لتكليف جديد على كلا الفرضين فلابدّ لحصول البراءة اليقينيّة من إتيان كلا الطهورين.

كما يعلم من هنا الحكم في باب الخنثى المشكل ، فلا يجوز له إجراء البراءة إذا كان هناك تكليف مختصّ بالرجال أو مختصّ بالنساء ، فيحكم بعدم وجوب الستر الواجب على المرأة عليها ، وكذا عدم وجوب الجهر بالقراءة عليها ، كلّ ذلك للبراءة كما توهّمه بعض ، وذلك لأنّ العلم الإجمالي حاصل بوجوب الستر أو الجهر بالقراءة عليها لأنّه في الواقع أمّا تكون امرأة رجلاً ، ولا ضير في عدم إندراج الحكمين تحت جنس واحد ، وكذا في سائر المقامات من أحكام الخنثى ، وسيأتي البحث عنه مستقلاً في التنبيه الثامن.

بل يمكن أن يقال بتنجّز العلم الإجمالي إمّا بكلّ تكاليف الرجال أو كلّ تكاليف النساء ، فالواجب عليها الاحتياط في جميع ذلك.

التنبيه السابع : حكم ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة

هل يحكم بتنجّس ملاقي بعض أطراف النجس المعلوم بالإجمال ، أو يجب أيضاً ترتيب سائر الآثار الشرعيّة المتعلّقة بالحرام التفصيلي أو النجس التفصيلي عليها؟

١٤٤

في المسألة أقوال ثلاثة :

١ ـ ما ذهب إليه المشهور من عدم تنجّس الملاقي مطلقاً.

٢ ـ ما حكي عن العلاّمة في المنتهى وابن زهرة في الغنية من التنجّس ووجوب الاجتناب مطلقاً.

٣ ـ ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية من التفصيل بين صور ثلاث : ففي صورة قال بوجوب الاجتناب عن الملاقي والملاقى معاً ، وفي صورة اخرى قال بوجوب الإجتناب عن خصوص الملاقى ، وفي صورة ثالثة قال بوجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى.

وبما أنّ المسألة ليس لها دليل خاصّ فلابدّ من الرجوع إلى الأدلّة الأوّليّة الجارية في أطراف العلم الإجمالي وملاحظة أنّها هل تشمل ملاقيها أو لا؟

والصحيح عدم الشمول ، لأنّ وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي كان مبنيّاً على وجهين : وجوب المقدّمة العلميّة ، وتعارض الأدلّة المرخّصة ، وكلاهما غير جاريين في المقام.

أمّا الأوّل : فلأنّ ما يكون مقدّمة للعلم بالفراغ عن خطاب « اجتنب عن النجس » مثلاً إنّما هو الاحتياط في نفس الأطراف التي يحتمل إنطباق المعلوم بالإجمال على بعضها ، دون غيرها ممّا لا يحتمل انطباق المعلوم عليه وإن كان محكوماً عليه بحكم بعض الأطراف واقعاً ، لكون ذلك البعض علّة لنجاسة ملاقيه ، لكن الملاقي على هذا التقدير فرد آخر ليس إرتكابه مخالفة لخطاب « اجتنب عن النجس » المعلوم إجمالاً ، بل مخالفة لخطاب آخر وهو « اجتنب عن ملاقي النجس » الذي هو مشكوك الوجود.

وأمّا الثاني : فلأنّ المفروض حصول الملاقاة بعد تساقط الاصول المرخّصة بأحد المنشأين المذكورين سابقاً ( تعارضها أو التناقض بين صدر الأدلّة وذيلها ) فالأصل المرخّص الجاري في الملاقي لا معارض له.

إن قلت : كيف يمكن التفكيك بين الملاقي والملاقى في الحكم مع العلم باتّحادهما في الواقع؟

قلنا : إنّ عدم الفرق في مقام الواقع والثبوت بين شيئين لا ينافي التفكيك بينهما في مقام الإثبات والحكم الظاهري ( كما ثبت في محلّه ) نظير ما أفتى به المحقّقون من التفرقة بين الماء المشكوك الكرّية الذي لم يعلم حالتها السابقة ، والثوب النجس الملاقي به ، فأفتوا ببقاء الماء

١٤٥

على طهارته لاستصحاب الطهارة ، وبقاء الثوب على نجاسته لاستصحاب النجاسة مع القطع باتّحادهما واقعاً أمّا في الطهارة أو في النجاسة.

إن قلت : إنّ الملاقاة بمنزلة تقسيم ما في أحد المشتبهين وجعله في إنائين فتّتسع دائرة الملاقى ، فالملاقي والملاقى معاً طرف واحد للعلم الإجمالي ، والإناء الآخر طرف آخر له ، فيجب الاجتناب عن مجموع الثلاثة.

قلنا : المفروض ـ كما قلنا ـ حصول الملاقاة بعد حصول العلم الإجمالي وتعارض الاصول في الأطراف ، ومعه كيف يصير الملاقي جزءً لأحد الأطراف مع أنّه قد مرّ سابقاً أنّ الاصول تدخل في مجال التعارض مرّة واحدة فيبقى الأصل الجاري في الملاقي بلا معارض؟

إن قلت : إنّ مسألة الاجتناب عن الملاقي يعدّ عرفاً من شؤون الاجتناب عن الملاقى ، وليس تكليفاً جديداً ، وليس وجوب الاجتناب عن الملاقي لأجل تعبّد آخر وراء التعبّد بوجوب الاجتناب عن الملاقى ، أي يدلّ نفس دليل وجوب الاجتناب عن النجس ( « والرجز فاهجر » أو « اجتنب عن النجس » ) على الاجتناب عنه وعن ملاقيه بوزان واحد فلو كان الملاقى هو النجس الواقعي توقّف العلم بهجره على الاجتناب عنه وعن ملاقيه ، كما يتوقّف العلم بإمتثال خطاب « اجتنب عن النجس » على الاجتناب عن طرف الملاقي أيضاً ، بداهة الفراغ اليقيني عن وجوب الاجتناب عن النجس المعلوم المردّد لا يحصل إلاّبذلك.

قلنا : هذه دعوى بلا دليل لأنّ الملاقي ( على فرض تنجّسه كما في النجس المعلوم تفصيلاً ) موضوع جديد للجنس ، وله حكم جديد ، ولشربه معصية جديدة ، فيعدّ شرب الملاقي والملاقى معاً معصيتين لا معصية واحدة ، كما هو الظاهر من بعض الروايات كما أفاد به في تهذيب الاصول ، حيث قال : ويمكن الاستدلال على القول المشهور ( إنّ وجوب الإجتناب عن الملاقي مجعول مستقلاً ) بمفهوم قوله عليه‌السلام : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » ، فإنّ مفهومه إنّ الماء إذا لم يبلغ حدّ الكرّ ينجّسه بعض النجاسات ، أي يجعله نجساً ومصداقاً مستقلاً منه ، وظاهره أنّ الأعيان النجسة واسطة لثبوت النجاسة للماء فيصير الماء لأجل الملاقاة للنجس فرداً من النجس مختصّاً بالجعل (١).

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٢٩٨ ، طبع جماعة المدرّسين.

١٤٦

وأمّا تفصيل المحقّق الخراساني رحمه‌الله فحاصل كلامه أنّ الملاقي بالكسر له صور ثلاث : فتارةً يجب الاجتناب عن الملاقى بالفتح دون الملاقي بالكسر ، واخرى يجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح ، وثالثة يجب الاجتناب عنهما جميعاً.

أمّا الصورة الاولى فهى كما إذا كانت الملاقاة من بعد العلم الإجمالي فحينئذٍ لا يجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر ، وظهر وجهه ممّا ذكرنا آنفاً.

وأمّا الصورة الثالثة : فهى كما إذا حصل العلم الإجمالي من بعد الملاقاة فحينئذٍ يجب الاجتناب عن كلّ من الملاقي والملاقى ، ووجهه أيضاً واضح لما مرّ.

وأمّا الصورة الثانية : وهى ما يجب فيه الاجتناب عن الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح فذكر لها مثالين : أحدهما : ـ الذي لا يمكن المساعدة عليه ـ ما إذا علمنا مثلاً عند الظهر بنجاسة الثوب أو الإناء الأوّل ، ثمّ حصل لنا العلم عند العصر بنجاسة أحد الإنائين من قبل ملاقاة الثوب للإناء الثاني ، فيجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر ـ وهو الثوب ـ والإناء الأوّل إمتثالاً للعلم الإجمالي الأوّل الحادث بينهما عند الظهر ، ولا يجب الاجتناب عن الملاقى بالفتح أعني الإناء الثاني ، لأنّ وجوب الاجتناب عنه إن كان لأجل العلم الإجمالي الثاني الحادث عصراً بينه وبين الإناء الأوّل فهو غير منجّز بعد تنجّز العلم الإجمالي الأوّل الحادث ظهراً وسقوط الاصول الجارية فيها ، وإن كان لأجل ملاقاة الثوب له فهو غير مؤثّر ، لأنّ الثوب على تقدير نجاسته فرد آخر تكون الشبهة فيه بدوية كما لا يخفى ، فلا وجه لوجوب الاجتناب عن ملاقيه.

والوجه في عدم إمكان المساعدة عليه أنّ العلم الإجمالي الأوّل إن كان له منشأ آخر غير الملاقاة كما إذا علمنا بوقوع قطرة دم إمّا على الثوب أو في الإناء الأوّل فهذا خارج عن مفروض البحث ، وإن كان المنشأ فيهما واحداً فلا معنى لحصول علم إجمالي آخر بعد العلم الإجمالي الأوّل لأنّ المفروض أنّ العلم الإجمالي الأوّل نشأ من ناحية الملاقاة بالنسبة إلى أحد الطرفين ، وهذا متوقّف على ثبوت العلم الإجمالي في نفس الإنائين من قبل.

والمثال الثاني : الذي لا إشكال فيه هو ما إذا علمنا في فرض المثال السابق بنجاسة الثوب أو الإناء الثاني ثمّ بملاقاة الثوب للإناء الثاني في الساعة الاولى ، وخرج الإناء الثاني الملاقى بالفتح عن محلّ الابتلاء ثم علمنا في الساعة الثانية بنجاسة الثوب الملاقي بالكسر أو الإناء الأوّل ، ثمّ صار الإناء الثاني مبتلى به ثانياً فيجب الاجتناب عن الثوب الملاقي بالكسر والإناء

١٤٧

الأوّل دون الإناء الثاني الملاقى بالفتح لعدم كونه طرفاً لعلم إجمالي منجّز ، أمّا بالنسبة إلى العلم الإجمالي الأوّل الذي كان بينه وبين الثوب فلخروجه عن محلّ الابتلاء ، وأمّا بالنسبة إلى العلم الإجمالي الثاني فلعدم كونه طرفاً له وأمّا بالنسبة إلى العلم الإجمالي الأوّل بعد صيرورته مبتلى به فلأنّ تنجّز العلم الإجمالي الثاني يكون مانعاً عن تنجّزه لأنّ المنجّز لا يتنجّز ثانياً.

بقي هنا شيء :

وهو أنّ شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه‌الله استدلّ لوجوب الإجتناب عن الملاقي في المقام برواية عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « أتاه رجل فقال : وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله؟ قال : فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : لا تأكله. فقال له الرجل : الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها قال : فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إنّك لم تستخفّ بالفأرة وإنّما استخففت بدينك ، إنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء » (١) حيث إنّ قوله عليه‌السلام : « حرّم » بمعنى الحكم بالنجاسة فيكون مقتضى ذيل هذه الرواية نجاسة الميتة بتمام شؤوناتها التي منها الملاقي ، فالاجتناب عن الملاقي يعدّ من شؤون الاجتناب عن الملاقى ، ثمّ ناقش في سندها لمكان عمرو بن شمر الذي هو ضعيف جدّاً وقال العلاّمة في حقّه : « لا أعتمد على شيء من رواياته » وأيضاً هو متّهم بالدسّ في روايات جابر.

والصحيح أنّ دلالتها أيضاً قابلة للمناقشة ، والوجه في ذلك أنّ أصل النجاسة والاستقذار أمر عرفي كانت موجودة قبل وجود الشرع ، غاية الأمر أنّ الشارع أضاف إليها شيئاً أو نقص منها شيئاً نظير ما هو ثابت في باب المعاملات ، فليست النجاسة من مخترعات الشارع ، كما أنّ الملاقاة وسراية النجاسة إلى الملاقي أيضاً أمر عرفي ، والعرف يحكم بها إذا تحقّقت قذارة جديدة وموضوع جديد للنجاسة بعد الملاقاة ، ولا تعدّ نجاسة الملاقى والملاقي شيئاً واحداً ، فليس الملاقي من شؤون الملاقى حتّى يستفاد من اطلاق دليل الملاقى نجاسة الملاقي ، فليس معنى « الفأرة نجس » مثلاً « إجتنب عنها وعن ملاقيها ».

هذا كلّه بالنسبة إلى ملاقي أحد الأطراف ، وأمّا إذا حصلت الملاقاة بالنسبة إلى جميع

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٥ ، من أبواب الماء المضاف ، ح ٢.

١٤٨

الأطراف كما إذا لاقت إحدى اليدين بأحد الإنائين المعلومة نجاسة أحدهما ، ولاقت اليد الاخرى بالإناء الآخر فلا إشكال في نجاسة الملاقي لحصول علم إجمالي جديد حينئذٍ بالنجاسة كما لا يخفى.

التنبيه الثامن : في حكم الخنثى المشكل

كان البحث إلى هنا في الشكّ في التكليف أو المكلّف به ، وقد يقع الشكّ في المكلّف نفسه ، وهو ما إذا كان المكلّف خنثى يدور أمرها بين أن تكون مذكّراً أو مؤنّثاً ، نعم هذا العلم الإجمالي يوجب العلم الإجمالي بالخطاب والتكليف ، فيعلم إجمالاً ـ مثلاً ـ بكونها مخاطبة أمّا بخطاب ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ) (١) أو بخطاب ( وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَ ... ) (٢).

وعلى أيّ حال لابدّ من الإشارة هنا إلى أنّ الخنثى هل تكون جنساً ثانياً في قبال الرجال والنساء ، أو داخلة في أحدهما؟ فإن كانت جنساً ثالثاً فأمرها سهل لكونها بريئة من مختصّات كلّ من الجنسين بجريان أصالة البراءة في حقّها ، فالتكاليف الشاملة لها إنّما هى خصوص المشتركات بينهما ، وإن لم تكن جنساً ثالثاً بل كانت داخلة أمّا في الرجال أو في النساء فمقتضى أصالة الاشتغال هو الاحتياط.

المستفاد من ظواهر بعض الروايات والآيات هو الثاني ، أمّا الروايات (٣) فنظير ما ورد في أبواب الإرث ممّا يدلّ على لزوم الإختبار ابتداءً في الخنثى ليعلم تفصيلاً بأنّها مذكّر أو مؤنّث ولو أشكل أمرها تعطي نصف حقّ الرجل ونصف حقّ المرأة ، جمعاً بين الحقّين وعملاً بقاعدة العدل والإنصاف وكذلك ما يدلّ على لزوم القرعة في بعض الصور ، فهذه الروايات تدلّ على عدم وجود جنس ثالث في البين ، وإلاّ فلا معنى لقاعدة القرعة وقاعدة العدل والإنصاف كما لا يخفى.

__________________

(١) سورة النور : الآية ٣٠.

(٢) سورة النور : الآية ٣١.

(٣) راجع وسائل الشيعة : ج ١٧ ، الباب ١ و ٢ و ٣ ، من أبواب الاختبار.

١٤٩

وأمّا الآيات فنظير قوله تعالى : ( وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ) (١) ( بناءً على عدم كونه إشارة إلى آدم عليه‌السلام وحوّا ) وقوله تعالى : ( يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ) (٢).

وحينئذٍ إذا فرضنا وجود تكاليف إلزامية خاصّة لكلّ من الطائفتين فلا إشكال في أنّ مقتضى تنجّز العلم الإجمالي وجوب جميعها على الخنثى فيجب عليها مثلاً في اللباس اختيار ما لا يعدّ مخصوصاً بالرجال ولا مخصوصاً بالنساء بناءً على حرمة تشبّه الرجل بالمرأة وبالعكس كذلك ، كما يجب عليه ترك التزوّج بالجنسين ، نعم إذا كان الحكم إلزامياً بالنسبة إلى الرجل ، وتخييرياً بالنسبة إلى المرأة كما في الصلوات الجهرية وصلاة الجمعة فيمكن أن يقال : بإمكان إجراء البراءة عن التعيين ، لكن قد مرّ سابقاً وجوب الاحتياط مطلقاً عليها ، لدوران الأمر في الحقيقة بين كلّ تكاليف الرجال وكلّ تكاليف النساء فلا يلاحظ كلّ واحد من التكاليف مستقلاً عن غيره بل يلاحظ المجموع في مقابل المجموع فيقال : إمّا يجب عليها الجهر في الجهريّة وغضّ النظر عن عن النساء و ... أو يجب عليها غضّ النظر عن الرجال و ....

وإن شئت قلت : إمّا يجب عليه هذه الأربعة مثلاً أو تلك الخمسة ، فهو من قبيل المتباينين ، مثل ما إذا علمنا بأنّ هذه الإناءات الثلاثة نجسة أو تلك الخمسة مثلاً فالواجب الاحتياط في الجميع.

نعم في دوران الأمر بين المحذورين الذي لا يمكن الاحتياط فيه يكون الحكم التخيير ، كما إذا فرضنا وجوب الجهاد على الرجل وحرمته على المرأة.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الاحتياط بالجمع بين جميع تكاليف الرجال والنساء طول حياتها توجب المشقّة الشديدة ، وهو لا يلائم ما نعلم من مذاق الشارع المقدّس ، فيتعيّن حينئذٍ الرجوع إلى القرعة لتبيّن أمرها من الإلحاق بإحدى الطائفتين فيعمل بمقتضاها ما دام عمرها.

إلى هنا تمّ البحث عن المقام الأوّل من المقامات الثلاثة لمبحث الاشتغال ، أي دوران الأمر بين المتباينين.

__________________

(١) سورة النجم : الآية ٤٥.

(٢) سورة الشورى : الآية ٤٩.

١٥٠

الكلام في الأقل والأكثر الارتباطيين

المقام الثاني : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين

إذا شككنا في أنّ الواجب في الصّلاة مثلاً هل هو تسعة أجزاء ( من دون وجوب السورة ) أو عشرة أجزاء ، فهل يجب عليه الاحتياط ، أو لا؟

وينبغي قبل الورود في أصل البحث بيان الفرق بين الأقلّ والأكثر الإرتباطيين ، والأقلّ والأكثر الاستقلاليين ، وأنّ الملاك فيه هل هو تعدّد الأغراض ووحدتها ، أو تعدّد التكاليف ووحدتها؟

ذهب في تهذيب الاصول إلى الأوّل وقال : إنّ الأقل في الاستقلالي مغاير للأكثر غرضاً وملاكاً وأمراً وتكليفاً ، كالفائتة المردّدة بين الواحد وما فوقها ، والدين المردّد بين الدرهم والدرهمين ، فهنا أغراض وموضوعات وأوامر وأحكام على تقدير وجوب الأكثر ... وأمّا الإرتباطي فالغرض قائم بالأجزاء الواقعيّة ، فلو كان الواجب هو الأكثر فالأقل خالٍ عن الغرض والأثر المطلوب ... إلى أن قال : « ومن ذلك يظهر أنّ ملاك الاستقلاليّة والإرتباطيّة باعتبار الغرض القائم بالموضوع قبل تعلّق الأمر » ، ثمّ استدلّ لضعف القول بأنّ الملاك إنّما هو وحدة التكليف وكثرته بقوله : « ضرورة أنّ وحدته وكثرته ( وحدة التكليف وكثرته ) بإعتبار الغرض الباعث على التكليف ، فلا معنى لجعل المتأخّر عن الملاك الواقعي ملاكاً لتمييزهما » (١).

أقول : الصحيح هو الثاني ، أي الميزان هو وحدة التكليف وتعدّده ، وذلك لأنّه ليست الأغراض غالباً في متناول أيدينا ، ولا يمكن لنا الظفر بها والعثور عليها ، بل الواصل إلينا والموجود بأيدينا إنّما هو الأوامر والنواهي المتعلّقة بالمركّبات الشرعيّة ، فالمركّب الإرتباطي ما يتألّف من أشياء تكون الأوامر المتعلّقة بها أمراً واحداً حقيقة منبسطاً عليها ، فتكون بينها ملازمة ثبوتاً وسقوطاً ، وأمّا المركّب الاستقلالي فهو ما يتألّف من أشياء تتعلّق بها أوامر تكون لكلّ منها إطاعة مستقلّة ، فلا ملازمة بينها ثبوتاً وسقوطاً ، هذا مضافاً إلى أنّ ما ذكره لا يصحّ بناءً على مقالة النافين للأغراض.

إذا عرفت هذا فلندخل في أصل البحث فنقول : يقع الكلام في الأقلّ والأكثر

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٣٢١ و ٣٢٢ ، طبع جماعة المدرّسين.

١٥١

الإرتباطيين في جهات ثلاث :

١ ـ الأجزاء ( في ما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الجزء والكلّ ).

٢ ـ الشرائط ( في ما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الشرط والمشروط ، وكان منشأ انتزاع الشرطيّة أمراً خارجاً عن المشروط ، مبايناً له في الوجود كالطهارة بالنسبة إلى الصّلاة ).

٣ ـ القيود ( في ما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الشرط والشروط أيضاً ، ولكن كان منشأ انتزاع الشرطيّة أمراً داخلاً في المشروط متّحداً معه في الوجود ، كوصف الإيمان بالنسبة إلى الرقبة ).

الجهة الاولى : في الأجزاء

والأقوال فيها ثلاثة :

الأوّل : البراءة عن الأكثر ، وهو المشهور بين العامّة والخاصّة.

والثاني : الاحتياط ، وهو ما نقل عن الشيخ الطوسي والسيّد المرتضى رحمهما الله في بعض كلماته ، والشهيد الأوّل والثاني رحمه‌الله وبعض آخر.

الثالث : ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية ، وهو التفصيل بين البراءة العقليّة فلا تجري ، والبراءة النقلية فتجري ، فتكون النتيجة بالمآل وفي مقام الفتوى عنده هو البراءة ، لحكومة أدلّة البراءة الشرعيّة.

واستدلّ الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله في الرسائل للقول الأوّل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وبأحاديث البراءة فهو يقول بانحلال العلم الإجمالي وصيرورة الشبهة بدوية بالنسبة إلى الأكثر.

والمحقّق الخراساني رحمه‌الله أنكر الانحلال ، واستدلّ لوجوب الاحتياط عقلاً بدليلين :

الدليل الأوّل : لزوم المحذور العقلي من الانحلال ، وهو عبارة عن محذور الخلف ، ومحذور لزوم عدم الانحلال من الإنحلال ( أي يلزم من وجود الانحلال عدمه ، وهو التناقض المحال ).

أمّا محذور الخلف فبيانه : أنّ دعوى انحلال العلم الإجمالي في المقام خلاف الفرض لأنّ المفروض توقّف الانحلال على تنجّز وجوب الأقل على كلّ تقدير ، سواء كان الواجب الواقعي

١٥٢

هو الأقل أو الأكثر ، مع أنّه ليس كذلك ، فإنّ الواجب الواقعي لو كان هو الأكثر لم يكن وجوب الأقل منجّزاً ، إذ وجوب الأقل حينئذٍ يكون مقدّمياً ومن باب تبعية وجوب المقدّمة لوجوب ذي المقدّمة في التنجّز ، والمفروض عدم تنجّز وجوب ذي المقدّمة وهو الأكثر لجريان البراءة فيه على الفرض ، فليس وجوب الأقلّ ثابتاً على كلّ تقدير ، مع أنّ المعتبر في الانحلال وجوب كذلك ، وهذا خلف.

وأمّا محذور لزوم عدم الانحلال من الانحلال فتوضيحه : إنّ انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي والشكّ البدوي منوط بالعلم بوجوب الأقلّ تفصيلاً ، وهذا العلم التفصيلي موقوف على تنجّز وجوب الأقلّ مطلقاً ، نفسياً كان أو غيريّاً ، وتنجّز وجوبه الغيري يقتضي تنجّز وجوب الأكثر نفسيّاً حتّى يترشّح منه الوجوب على الأقل ، ويصير واجباً غيريّاً ، ولا يخفى أنّ تنجّز وجوب الأكثر يقتضي عدم الانحلال ، فلزم من الانحلال عدم الانحلال وهو محال.

أقول : لا يخفى رجوع الإشكال الثاني إلى الأوّل ، لأنّ الخلف أيضاً يؤول إلى ما يلزم من وجوده عدمه.

وقد أخذ المحقّقون في الجواب عنهما ، وكلّ اختار طريقاً لحلّ المشكلتين.

فقال المحقّق النائيني رحمه‌الله : يرد عليه أمران :

الأوّل : إنّ ذلك مبنى على أن يكون وجوب الأقل مقدّمياً على تقدير أن يكون متعلّق التكليف هو الأكثر ، إلاّ أنّ ما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، لما تقدّم من أنّ وجوب الأقلّ لا يكون إلاّنفسيّاً على كلّ تقدير ، لأنّ الأجزاء إنّما تجب بعين وجوب الكلّ ، ولا يمكن أن يجتمع في الأجزاء كلّ من الوجوب النفسي والغيري.

الثاني : إنّ دعوى توقّف وجوب الأقل على تنجّز التكليف بالأكثر لا تستقيم ، ولو فرض كون وجوبه مقدّمياً ، وسواء اريد من وجوب الأقلّ تعلّق التكليف به أو تنجّزه ، فإنّ وجوب الأقل على تقدير كونه مقدّمة لوجود الأكثر إنّما يتوقّف على تعلّق واقع الطلب بالأكثر ، لا على تنجّز التكليف به ، لأنّ وجوب المقدّمة يتبع وجوب ذي المقدّمة واقعاً وإن لم يبلغ مرتبة التنجّز ، وكذا تنجّز التكليف بالأقل لا يتوقّف على تنجّز التكليف بالأكثر بل يتوقّف على العلم بوجوب نفسه ، فإنّ تنجّز كلّ تكليف إنّما يتوقّف على العلم بذلك التكليف ، ولا دخل لتنجّز تكليف آخر في ذلك (١).

__________________

(١) راجع فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ١٥٦ ـ ١٥٨ ، طبع جماعة المدرّسين.

١٥٣

أقول : لعلّ نظر المحقّق النائيني رحمه‌الله في هذا الإشكال ( الإشكال الثاني ) إلى وجوب حفظ ماء الوضوء مثلاً قبل الوقت ، أو وجوب أخذ جواز السفر والخروج مع الرفقة قبل مجيء أيّام الحجّ فيكون وجوب المقدّمة فيهما فعليّاً ومنجّزاً مع عدم تنجّز وجوب ذيها.

لكن يرد عليه : بالنسبة إلى إشكاله الأوّل بأنّه لو قبلنا وجوب الجزء العاشر مثلاً على كلّ تقدير وأنّه دخيل في قوام الكلّ فإذا سقط عن الفعلية والتنجّز سقط بالتبع وجوب سائر الأجزاء عن الفعليّة ، سواء قلنا بمقدّميتها أو لم نقل.

وإذاً ينحصر الإشكال في الثاني ، ويردّه أنّه يستحيل وجوب المقدّمة فعلاً مع عدم وجوب ذيها فعلاً لأنّ وجوب المقدّمة بناءً على المقدّميّة مترشّح من وجوب ذيها وفرع عليه ، ولا يمكن زيادة الفرع على الأصل ، وأمّا المثالان المذكوران فوجوب المقدّمة فيهما من أجل العلم بوجوب ذي المقدّمة في موطنهما ، وحكم العقل بوجوب حفظ غرض المولى الذي يتوقّف على الإتيان بالمقدّمة كما ستأتي الإشارة إليه. ولا يخفى أنّ المقام ليس من هذا القبيل.

ثمّ إنّه اجيب عن مقالة المحقّق الخراساني رحمه‌الله بوجوه اخر ، والمختار في الجواب :

أوّلاً : النقض بعكس كلامه ، لأنّه يلزم من وجب الاحتياط أيضاً عدم وجوب الاحتياط فإنّه فرع تنجّز الواقع على كلّ حال ، ولازمه العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ ، ونتيجته انحلال العلم الإجمالي وجريان البراءة في الأكثر.

وثانياً : أنّ لزوم الخلف ولزوم عدم الانحلال من وجوده يتصوّر فيما إذا وجد الانحلال وعدم الانحلال في آنٍ واحد ، لا ما إذا كان وعاؤهما زمانين مختلفين ، وكان أحدهما في طول الآخر ، كما أنّه كذلك في الشبهة البدوية ، فيجب الاحتياط قبل الفحص ولا يجب بعده ، وبعبارة اخرى : يشترط في التناقض ولزوم الخلف ثمانية شرائط : منها الوحدة في الزمان ، وهى مفقودة في المقام.

وثالثاً : أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان بناءً على المختار قاعدة عقلائيّة ، والعقلاء ليس بناؤهم في دائرة الموالي والعبيد على إجراء الاحتياط في الاجزاء والشرائط المشكوكة في المركّبات فإذا أمر المولى عبده أو الرئيس مرؤوسه بأمر مركّب ، ولم يذكر فيه إلاّتسعة أجزاء مثلاً ، ثمّ شكّ العبد أو المرؤوس في لزوم جزء عاشر فلا يصحّ مؤاخذته بدون البيان ، والعقاب بلا برهان.

١٥٤

إن قلت : ليس الأمر خالياً من إحدى الحالتين فإمّا ينحلّ العلم الإجمالي أو لا ينحلّ. فإن انحلّ فتكون الشبهة بالنسبة إلى الأكثر بدويّة ، والحكم فيها هو البراءة كسائر مصاديق الشبهات البدويّة فلا خصوصيّة لما نحن فيه ، وإن لم ينحلّ فكيف يكون بناء العقلاء على البراءة مع وجود العلم الإجمالي وتنجّزه عقلاً؟

قلنا : إنّ العلم الإجمالي وإن لم ينحلّ بل كان منجّزاً عند العقل ، لكن مع ذلك جرى بناء العقلاء على البراءة ، وأمضاه الشارع المقدّس كما مرّ تفصيله عند الكلام في البراءة العقليّة مستوفاً.

هذا كلّه هو الدليل الأوّل للمحقّق الخراساني رحمه‌الله على وجوب الاحتياط.

الدليل الثاني : ما يكون مبتنيّاً على مقالة العدليّة من أنّ الواجبات الشرعيّة الطاف في الواجبات العقليّة ، وإنّ الأوامر والنواهي مبنيّة على مصالح ومفاسد واقعيّة لمتعلّقاتها ، وهو إنّا نقطع بوجود ملاك ومصلحة ملزمة قائمة بالأقل أو الأكثر ، وإذا لم يأت بالأكثر يشكّ في حصول الملاك وتلك المصلحة ، فيحكم العقل بلزوم إتيان الأكثر حتّى يحصل العلم بحصول الملاك.

إن قلت : هذا لا يلائم مقالة الأشاعرة ومبنى من يقول بوجود المصلحة في خصوص الأمر نفسه لا في متعلّقه.

قلنا : إنّا لسنا مسؤولين عن عقائد الأشاعرة بل علينا أن نبحث وفقاً لمبانينا.

إن قلت : لا يمكن في المقام تحصيل الغرض ، لاحتمال اعتبار قصد الوجه ( وهو إتيان الأجزاء بقصد الوجوب ) فيه ، وهو لا يمكن بالنسبة إلى الأكثر.

قلنا : قد مرّ كراراً عدم وجوب قصد الوجه ، ولو سلّمنا بوجوبه فإنّه واجب بالإضافة إلى مجموع العمل لا كلّ جزء جزء.

أقول : هذا الدليل أيضاً غير تامّ لأنّه لا دليل على لزوم تحصيل الغرض إلاّفي ثلاث حالات :

الاولى : فيما إذا لم يكن المولى قادراً على البيان كما إذا كان محبوساً.

الثانية : فيما إذا وقع الغرض بنفسه تحت أمر المولى كما إذا كان المأمور به في الوضوء مثلاً عنوان الطهارة المعنوية التي هى من الامور البسيطة ، فيجب الاحتياط في الأجزاء حتّى يعلم بحصولها.

١٥٥

الثالثة : فيما إذا حصل لنا العلم من ناحية دليل خارجي كالإجماع ونحوه بعدم حصول غرض المولى فيجب الاحتياط حتّى يعلم بحصوله.

وفي غير هذه الموارد لا يجب تحصيل الغرض ، ولا دليل على وجوبه ، وإنّما الواجب على المكلّف الإتيان بالتكاليف الواصلة وامتثال الأوامر والنواهي الثابتة ، فإنّها هى حلقة الإتّصال بين المولى والعبد ، ولا علم للعبد بأغراض المولى ، لأنّ أغراضه تحت إختياره ومربوطة به ، ولا ربط للعبد بها إلاّفي ما ذكر ، فيدور أمره في غيره مدار الإبلاغ والوصول. هذا أوّلاً.

وثانياً : قد وقع في هذا الوجه الخلط بين قصد الوجه وقصد الجزم ، فإنّ قصد الوجه حاصل في المقام لأنّه يأتي بالأكثر بقصد الوجوب لكن لا جزماً بل احتمالاً ، فالمفقود هو قصد الجزم ( لا قصد الوجه ) ، ولا دليل على اعتباره ، ولذلك اخترنا إمكان الاحتياط في العبادات ، ولو سلّمنا باعتبار قصد الجزم فإنّه منحصر بصورة التمكّن عنه ، والمقام ليس كذلك.

ثالثاً : في قول المستدلّ من أنّ المصلحة قد تكون في نفس الإنشاء : إن كان المقصود إمكان تصوّر ذلك في مقام الثبوت فلا إشكال في إمكانه ، وإلاّ فإنّا لم نظفر به في الشرعيّات في مقام الإثبات حتّى في مورد واحد.

نعم قد يتوهّم بوجوده في ثلاثة موارد :

أحدها : الأوامر الامتحانيّة كما في قصّة ذبح إسماعيل عليه‌السلام.

والصحيح أنّ المصلحة فيها أيضاً في نفس العمل لا في خصوص الإنشاء : فإنّ في قصّته عليه‌السلام وإن لم تكن المصلحة في المأمور به المباشري وهو الذبح ، لكنّها كانت موجودة في مقدّماته وفعل التهيّؤ للذبح والإقدام به ، ولعلّ المأمور به الواقعي عند المولى كان هو الإتيان بمقدّمات الذبح الدالّة على كمال إيثار الخليل والذبيح وإخلاصهما ، كما يشهد عليه قوله تعالى ( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ) كما لا يخفى.

ثانيها : الأوامر الجزائيّة كما في قصّة البقرة لنبي إسرائيل فقد ورد في الحديث : « ولكن شدّدوا فشدّ الله عليهم » (١) فإنّ ظاهره عدم وجود المصلحة في لونها وسنّها ، بل المصلحة كانت في مجازاتهم بالتضييق عليهم.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٣ ، ص ٢٦٢ ، ح ٢.

١٥٦

لكن الإنصاف فيه أيضاً أنّ المصلحة في المنشأ لا في الإنشاء ، فإنّ اللون الخاصّ مثلاً وإن لم يكن ذا مصلحة بعنوان الأوّلي ( لعدم كونه قيداً في المأمور به في إبتداء الأمر ) لكنّه صار ذا مصلحة بعنوان ثانوي وهو سدّ باب الأعذار الواهيّة واللجاج من المكلّفين في مقابل الأوامر الإلهيّة.

ثالثها : بعض الأوامر الواردة في مقام التقيّة ، حيث إنّ الإمام عليه‌السلام ينشأ الوجوب في ذلك المقام ، مع أنّه لا وجوب في الواقع ولا مصلحة في الفعل المتعلّق للأمر الذي صدر تقيّة ، وإنّما المصلحة في نفس الإنشاء.

والصحيح خروج هذا القسم عن محلّ البحث أيضاً ، لأنّ محلّه هو الأوامر الجدّية ، أي البحث في المقام في أنّه هل يوجد في الشريعة قانون جدّي كانت المصلحة فيه في نفس الإنشاء ، أو لا؟ والأوامر الصادرة تقيّة ليست جدّية ، ولذا يقال : إنّ أصالة الجدّ فيها ساقطة.

هذا كلّه في البراءة العقليّة.

وأمّا البراءة النقلية فالمحقّق الخراساني رحمه‌الله تبعاً للمشهور ذهب إلى جريانها ، لأنّ عموم حديث الرفع قاضٍ برفع جزئية ما شكّ في جزئيّته ، ويعيّن الواجب في الأقلّ.

ثمّ يستشكل على نفسه بما حاصله : أنّ البراءة تجري فيما تناله يد الوضع والرفع التشريعيين ، وجزئيّة السورة المجهولة مثلاً ليست بمجعولة شرعاً ، لأنّها ليست أثراً شرعيّاً ( كحرمة شرب التتن أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ) وممّا يترتّب عليها أثر شرعي ( كالشكّ في الالتزام النفساني المجرّد عن اللفظ في باب النذر الذي يكون سبباً لوجوب الوفاء شرعاً ).

ويجيب عنه : بأنّ الجزئيّة وإن لم تكن مجعولة لكونها أمراً انتزاعياً ، إلاّ أنّ منشأ انتزاعها وهو الأمر مجعول شرعي ، وهذا كافٍ في صحّة جريان البراءة فيها.

ثمّ إستشكل ثانياً : بأنّه بعد جريان البراءة في الأمر بالأكثر ( الذي هو منشأ انتزاع الجزئيّة ) لا يبقى أمر يتعلّق بالأقل لأنّ متعلّق الأمر هو الكلّ لا الجزء ، وحينئذٍ لا وجه لجريان البراءة وتعيّن الواجب في الأقل.

وأجاب عنه أيضاً : بأنّ الأمر بالأقلّ يثبت بالجمع بين أدلّة الاجزاء وأدلّة البراءة الشرعيّة ، حيث إنّ وجوب الأقل معلوم بنفس أدلّة الاجزاء ، ووجوب الأكثر منفي بالبراءة

١٥٧

الشرعيّة فيكون حديث الرفع بمنزلة الإستثناء لأدلّة الأجزاء ، ويقيّد إطلاقها لحالتي العلم والجهل بجزئيّة الأجزاء فكأنّ الشارع قال : « يجب في الصّلاة التكبير والقراءة والركوع والسجود والتشهّد مطلقاً ، علم بها المكلّف أم لا ، وأمّا السورة فهى واجبة في خصوص ما إذا علم بجزئيّتها » ، أو أنّه قال : « ايت بالكلّ إلاّ السورة لأنّك لا تعلم أنّه واجب ».

أقول : لا حاجة في حلّ المشكلة إلى طيّ هذا الطريق ، لإمكان حلّها بالأوامر الضمنيّة فيقال : إنّ حديث الرفع ينفي خصوص الوجوب الضمني المتعلّق بما شكّ في جزئيته ، ولا ينفي الوجوب عن الباقي.

بقي هنا أمران :

الأوّل : قد يقال أنّ المحقّق الخراساني قد عدل عن مقالته في بعض كلماته ، وذهب إلى عدم جريان البراءة عقلاً وشرعاً فقال في تعليقته على كتابه ( كفاية الاصول ) ما لفظه « لكنّه لا يخفى أنّه لا مجال للنقل فيما هو مورد حكم العقل بالاحتياط ، وهو ما إذا علم إجمالاً بالتكليف الفعلي ، ضرورة أنّه ينافيه رفع الجزئيّة المجهولة ، وإنّما يكون مورده ما إذا لم يعلم به ، بل علم مجرّد ثبوته واقعاً ( يعني ولو لم يكن فعليّاً ) (١).

ولعلّه مبنيّ على ما اختاره سابقاً من أنّ العلم الإجمالي إذا علم كونه فعلياً من جميع الجهات يكون علّة تامّة للتنجّز فلا يمكن صدور الترخيص لأطرافه من ناحية الشارع.

ولكن بما أنّ الصحيح المختار في ذلك البحث عدم كون العلم الإجمالي علّة تامّة ، وإنّه ليس إلاّ مجرّد المقتضي للإحتياط ( وذلك لأنّه لا يستفاد من أدلّة الواجبات والمحرّمات إلاّكونها مقتضية للفعليّة ، غير

منافية لما يعرض عليها من العناوين الثانوية وغيرها ممّا يمنعها عن الفعليّة ، وإنّه لا طريق لنا إلى كشف الفعليّة من جميع الجهات من ظواهر الأدلّة نعم إذا ثبت المقتضي ولم يمنع منه مانع نحكم بفعليّته ) فلا مانع حينئذٍ من جريان البراءة في ما نحن فيه.

الثاني : قد يتصوّر إمكان جريان أصالة الاشتغال في ما نحن فيه ، وذلك من طريقين :

أحدهما : استصحاب اشتغال الذمّة بالتكليف.

__________________

(١) كفاية الاصول : ص ٣٦٦ ، طبع مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٥٨

وفيه : أنّ البراءة مقدّمة على الإشتغال لأنّها في محلّ الكلام بمنزلة الأصل السببي ، وأصالة الاشتغال أصل مسبّبي ، لأنّ منشأ الشكّ في فراغ الذمّة إنّما هو الشكّ في جزئية السورة مثلاً ، وهو يرتفع بجريان البراءة فيرتفع موضوع أصالة الاشتغال.

ثانيهما : أنّ الشكّ في المقام يرجع إلى الشكّ في المحصّل ، لأنّ المأمور به وهو عنوان الصّلاة مثلاً عنوان بسيط ، ولا نعلم أنّه هل يحصل بإتيان تسعة أجزاء ، أو لا؟ فلابدّ لإحرازه من إتيان الجزء العاشر أيضاً.

وفيه : أنّه ليست الصّلاة أمراً خارجاً وراء الاجزاء ، حاصلاً منها ومسبّباً عنها حتّى يكون الشكّ شكّاً في المحصّل ، بل إنّما هى عين الاجزاء ، والأمر بها منبسط على الاجزاء.

هذا كلّه في الجهة الاولى ، وهى ما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الجزء والكلّ.

الجهة الثانية : في الشرائط

( في ما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الشرط والمشروط ، وكان منشأ انتزاع الشرطيّة أمراً خارجاً عن المشروط مبايناً له في الوجود كالطهارة بالنسبة إلى الصّلاة ).

وقد ذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله هنا أيضاً إلى التفصيل بين البراءة العقليّة والبراءة الشرعيّة كما ذهب إليه في المقام الثالث الآتي أيضاً ( وهو الشكّ في القيود ) فقال بجريان البراءة شرعاً وعدم جريانها عقلاً بناءً على مسلكه المتقدّم في المقام الأوّل ( الشكّ في الأجزاء ) ، وادّعى أنّ عدم جريان البراءة العقليّة في الشرائط والقيود أظهر من عدم جريانها في الأجزاء بدعوى أنّ الإنحلال المتوهّم ( هناك بتقريب كون الأقل ممّا علم وجوبه تفصيلاً إمّا نفسياً أو مقدّمياً ) لا يكاد يتوهّم في المقام ، فإنّ الجزء الخارجي ممّا يمكن فيه دعوى اتّصافه بالوجوب الغيري المقدّمي ، إذ لكلّ جزء خارجي وجود آخر مستقلّ غير وجود الجزء الآخر وإن كان العرف يرى للمجموع وجوداً واحداً ، بخلاف الجزء التحليلي المتصوّر في المقام كالتقيّد والاشتراط فلا وجود له خارجاً غير وجود المجموع الواجب بالوجوب النفسي الاستقلالي ، فلا يتّصف بالوجوب حتّى الوجوب النفسي الضمني. هذا في البراءة العقليّة.

وأمّا البراءة النقليّة فقد فصّل فيها بين الشرائط والقيود ، وقال بجريانها في الشرائط

١٥٩

وعدم جريانها في القيود لأنّ المشروط بالشرط المشكوك ( وهو الصّلاة مع الطهارة ) مع المطلق ( وهو الصّلاة المطلق ) يكون في نظر العرف من قبيل الأقل والأكثر ، فيأتي فيه ما ذكره من التفصيل في الاجزاء ، وأمّا المقيّد بالقيد المشكوك ( كالرقبة المؤمنة ) مع المطلق ( وهو الرقبة المطلقة ) يكون في نظر العرف من قبيل المتباينين الأجنبيين فلا تجري فيه البراءة النقليّة كالبراءة العقليّة.

أقول : الحقّ جريان البراءة مطلقاً في الشرائط أيضاً كالأجزاء ( وأمّا القيود فسيوافيك البحث عنها في الجهة الثالثة تفصيلاً فانتظر ) وذلك لشمول الأمر الضمني للشرائط كالأجزاء ، والفرق بينهما أنّ الأمر الضمني في الأجزاء يتعلّق بالجزء نفسه ، وأمّا في الشرائط فيتعلّق بوصف الاشتراط لا بنفس الشرط ، وهذا المقدار من الفرق لا يمنع عن الانحلال في الشرائط.

وبالجملة إنّ مسألة الانحلال في المقام مبنية على تعلّق الأمر الضمني بالشرائط لا على تعلّق الأمر المقدّمي الغيري بها حتّى يتوهّم محذور الخلف أو محذور لزوم عدم الانحلال من الانحلال الذي مرّ بيانهما تفصيلاً في استدلال المحقّق الخراساني رحمه‌الله.

الجهة الثالثة : في القيود

( أي في ما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الشرط والمشروط أيضاً ولكن كان منشأ إنتزاع الشرطيّة أمراً داخلاً في المشروط متّحداً معه في الوجود كوصف الإيمان بالنسبة إلى الرقبة ) وفيها ثلاثة أقوال :

١ ـ ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله من كونها من قبيل المتباينين فيجب فيها الاحتياط مطلقاً.

٢ ـ ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله من التفصيل بين القيود المقوّمة وغير المقوّمة ووجوب الاحتياط في الاولى دون الثانية.

٣ ـ ما ذهب إليه الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله في تهذيب الاصول وهو القول بالبراءة المطلقة.

واستدلّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله للقول الأوّل بأنّ القيود من الاجزاء التحليليّة التي لا

١٦٠