أنوار الأصول - ج ٣

أنوار الأصول - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-15-6
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٦٢٤

الخراساني رحمه‌الله مضافاً إلى أنّه تحصيل للحاصل.

وأمّا القول الثالث : وهو ما مرّ من مختار المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، فإن كان مراده من التخيير التخيير الظاهري فقد عرفت أنّه تحصيل للحاصل لأنّ المقصود من كلّ إلزام هو البعث والتحريك لانبعاث حاصل في المقام ، وإن كان المراد التخيير الواقعي ، فجوابه إنّ مورده باب تزاحم الملاكات وما إذا كان لكلّ من الطرفين ملاكاً مستقلاً مزاحماً لملاك الطرف الآخر ، بينما الملاك في ما نحن فيه موجود في أحد الطرفين فقط.

وأمّا القول الرابع : وهو التخيير عقلاً مع التوقّف شرعاً فقد مرّ الجواب آنفاً عن الجزء الأوّل منه ، وهو التخيير عقلاً ، أمّا الجزء الثاني ففيه : إنّه وإن لم يكن للشارع حكم بالتخيير لما مرّ من أنّه تحصيل للحاصل ولكن لا إشكال في شمول أدلّة الإباحة والبراءة بالنسبة إلى احتمال تعيين أحدهما.

وأمّا القول الخامس : فقد ظهر الجواب عنه ممّا مرّ فلا نعيد.

بقي هنا امور :

الامر الاول : تطبيقات اصالة التخيير في الفقه

إنّا لم نظفر على مثال في الفقه لدوران الأمر بين الفعل والترك بنحو الشبهة الحكميّة ، لأنّ ما ذكرنا من مثال صلاة الجمعة خارج عن محلّ الكلام في الواقع ( لمكان اعتبار قصد القربة فيها ) كما سيأتي إن شاء الله.

نعم يمكن التمثيل له بالشبهة الحكميّة في باب الحدود والتعزيرات كما إذا شككنا في أنّ المجرم الفلاني هل صار مستحقّاً للحدّ أو التعزير ( سواء كان الشكّ في أصل الحدّ والتعزير أو مقدارهما ) فيكون واجباً أو ليس مستحقّاً لهما فيكون حراماً لأنّ أمر الحدود أو التعزيرات في جميع الموارد دائر بين الوجوب والحرمة.

لكنّه مجرّد فرض أيضاً لوجود أمارتين في هذا الباب تمنعان من عروض الشكّ : إحديهما : قاعدة « الحدود تدرأ بالشبهات » والثانية : « حرمة إيذاء المؤمن » وحيث إنّهما من الأدلّة الاجتهاديّة فمع جريانهما لا تصل النوبة إلى الاصول العمليّة.

١٠١

ويمكن التمثيل أيضاً له بما ذكره بعض الأعلام (١) من أنّ مقطوع الذكر المتعذّر عليه الدخول إذا تزوّج وساحق زوجته ثمّ طلّقها فإن كانت المساحقة في حكم الدخول ( كما حكي عن الشيخ في مبسوطه ) فطلاقها رجعيّ ، وحينئذٍ فلو طلب الزوج منها الاستمتاع في العدّة وجبت الإجابة عليها ، وإن لم تكن بحكم الدخول كما هو ظاهر المشهور كان الطلاق بائناً وليس له الاستمتاع بها بالرجوع ، بل بالعقد الجديد ، فلو طلب منها الاستمتاع حرم عليها الإجابة ، وعليه فيدور حكم إجابة الزوجة بين الحرمة والوجوب ، وهذا هو الدوران بين المحذورين.

ولكنّه أيضاً ممنوع لحكومة ما دلّ على اعتبار الدخول المشكوك شموله للمقام على أصالة التخيير فإنّ العام إذا كان مردّداً مفهوماً بين الأقلّ والأكثر يؤخذ بالأقلّ فيبقى غيره تحت استصحاب نفي أحكام الدخول فإنّه قبل المساحقة لم يكن محكوماً بأحكام الدخول ، والاستصحاب يقتضي عدمه بعدها.

الأمر الثاني : التخيير في الواقعة المتكرّرة

لا إشكال في أنّ ما ذكرنا من جريان البراءة عقلاً وشرعاً وعدم جريان التخيير كذلك إنّما هو في صورة وحدة الواقعة كما في مثال الحلف بشرب الماء وعدمه في زمن خاصّ ، وأمّا إذا كانت الواقعة متعدّدة كما إذا لا يعلم أنّه حلف بأن يشرب من هذا المائع في كلّ جمعة أو يتركه كذلك ، فلا إشكال في إمكان جريان التخيير عقلاً سواء قلنا بالتخيير البدوي بناءً على عدم جواز المخالفة القطعيّة في الامور التدريجيّة ، أو قلنا بالتخيير الاستمراري بناءً على حرمة مخالفتها كذلك لعدم كونه من قبيل تحصيل الحاصل ، فيمكن للمكلّف إرتكاب أحد الطرفين في هذا الاسبوع مثلاً وإرتكاب الطرف الآخر في الاسبوع القابل.

الأمر الثالث : التخيير في التعبديّات

كلّ ما ذكر إنّما هو في التوصّليات ، وأمّا إذا كان المورد أمراً تعبّدياً ( سواء كان تعبّدياً بكلا طرفيه كما إذا شكّ في أنّ متعلّق نذره حين الإحرام كان هو غسل الجمعة مثلاً أو تركاً من تروك الإحرام بناءً على كونها عبادية ، أم كان تعبّدياً بأحد طرفيه كما إذا شكّ في أنّ صلاة الجمعة واجبة أو حرام أو شكّ في كونه مسافراً حتّى يحرم عليه الصوم في شهر رمضان أو حاضراً

__________________

(١) أوثق الوسائل في الشرح على الرسائل.

١٠٢

حتّى يجب عليه الصوم ) فحكمه يختلف عمّا سبق بل هو خارج عن مسألة الدوران ، لأنّ الحكم بالتخيير حينئذٍ لا يكون من قبيل تحصيل الحاصل لتصوّر شقّ ثالث بل رابع هنا ، فليس الأمر دائراً بين الفعل أو الترك دائماً بل يدور الأمر بين الفعل من دون قصد القربة أو الترك كذلك ، وبين الفعل من دون قصد القربة أو الترك كذلك وبين الفعل مع قصد القربة أو الترك كذلك ، فيمكن الحكم بالتخيير عقلاً لعدم كونه تحصيلاً للحاصل ، ولإمكان الموافقة الاحتماليّة وإن كانت الموافقة القطعيّة متعذّرة.

نعم لا بأس أيضاً بجريان البراءة عن تعيين أحدهما بالخصوص.

ويمكن أن يقال : أنّ الصورة الثانية ممّا نحن فيه ( أي ما إذا كان أحد الطرفين تعبّدياً ) ترجع بالمآل إلى التوصّليين لأنّ المتصوّر من الشقوق فيها أيضاً شقّان حيث إنّه في مثال صلاة الجمعة مثلاً إمّا أن يأتي بصلاة الجمعة جامعاً للشرائط ، أي مع قصد القربة ، أو لا يأتي بها كذلك ، سواء لم يأت بها أصلاً أو يأت بها من دون جزء من أجزائها أو شرط من شرائطها كقصد القربة والوضوء ، فهو حينئذٍ يأتي بأحد الشقّين على أي حال والبعث إلى أحدهما تخييراً تحصيل للحاصل.

الأمر الرابع : دوران الأمر بين التعيين والتخيير

إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير ( سواء كانت الشبهة حكميّة كما إذا دار الأمر بين وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة تعييناً ووجوبها تخييراً بينها وبين صلاة الظهر ، ومثل دوران الأمر بين صلاة القصر تعييناً وبين التخيير بينها وبين صلاة الإتمام في الأماكن الأربعة بالنسبة إلى الإضافات التي عرضت عليها ، أو كانت الشبهة موضوعيّة كما إذا شككنا في أنّ متعلّق النذر كان هو إكرام زيد تعييناً أو إكرام زيد وعمرو تخييراً ، وكما إذا شككنا في أنّ متعلّق الحلف كان هو الصيام في يوم الجمعة تعييناً أو إتيانها في الجمعة والخميس تخييراً ) فهل المرجع فيه قاعدة الاشتغال أو البراءة؟ مذهبان :

استدلّ القائلون بالبراءة ، بأنّ صفة التعيينية كلفة زائدة توجب الضيق على المكلّف ، بداهة إنّه لو لم يكن الواجب تعيينيّاً لكان المكلّف بالخيار بين الإتيان به أو بعدله ، فيشملها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « رفع ما لا يعلمون » وغير ذلك من أدلّة البراءة ، ويلزمه جواز الإكتفاء بفعل ما يحتمل كونه عدلاً لما علم تعلّق التكليف به.

١٠٣

واستدلّ القائلون بالاشتغال تارةً من طريق مقام الجعل والثبوت ، واخرى من طريق مقام الإمتثال والإثبات :

أمّا الطريق الأوّل : فبأنّ مرجع الواجب التعييني « وجوب هذا ولا سواه » ، أو « هذا ولا بدلاً له » فيتركّب من جزئين أحدهما : وجودي ثابت بالوجدان ، والآخر : عدمي يثبت بأصل العدم من دون أن يرد عليه إشكال الأصل المثبت أو العدم الأزلي لأنّه من قبيل المركّب لا المقيّد ( كصفة القرشية للمرأة ) وأمّا الواجب التخييري فمردّه إلى وجوب « هذا أو هذا » فيكون القيد الثاني وجوديّاً فيحتاج إثباته إلى دليل.

وأمّا الطريق الثاني : فبأنّ رجوع الشكّ فيهما إلى الشكّ في سقوط ما علم تعلّق التكليف به بفعل ما يحتمل كونه عدلاً له فيكون المرجع قاعدة الاشتغال.

ويرد على دليل البراءة بأنّها جارية في الامور الخارجيّة كالكلفة الحاصلة من صيام جديد أو صلاة كذلك أو أجزاء وشرائط جديدة كالسورة ولبس بعض الملابس ، وأمّا في التحليلات التي لا انحياز لها في الخارج فلا ، مثل ما نحن فيه فإنّ الأخذ بالقدر المشترك أي إلزام أحدهما ( إلزام الجمعة أو صلاة الظهر ) ونفي الزائد عنه أي الكلفة الحاصلة من خصوصيّة كونها ظهراً أو جمعه ليس من قبيل الامور الخارجيّة المنحازة بل هذا التحليل والتجزئة إنّما يحصل في العقل لا غير.

وشمول حديث الرفع وأشباهه لها غير ثابت كما أنّ إجراء البراءة العقليّة ( لا سيّما بناءً على المختار من كونها من قبيل بناء العقلاء ) مورد للإشكال فإذا لم تجر البراءة فيها لم يكن هناك مؤمّن في مقابل احتمال العقاب ، فلابدّ من الأخذ بالتعيين.

وهذا هو العمدة في المقام ، وإلاّ فأدلّة القائلين بالاشتغال بكلا شقّيه لا يخلو من تأمّل.

أمّا الأوّل ، فلأنّ الفرق بين الواجب التعييني والتخييري ليس من ناحية قيد زائد عدمي في الواجب التعييني بل الواجب التعييني نوع خاصّ من الوجوب يباين ماهيّة مع الواجب التخييري ، فهما نوعان من الإيجاب ، فمن طلب شيئاً تعييناً كان ذلك لخصوصيّة وجوديّة فيها تعلّقت إرادته بها ، فالمولى إذا طلب التفّاح من عبده تعييناً إنّما يريدها لخصوصيّة فيها تقوم بدواء دائه مثلاً لا إنّه أمر عدمي.

وكذلك بالنسبة إلى الدليل الثاني ، أعني مقام السقوط فإنّه فرع لمقام الثبوت ، فإذا كانا

١٠٤

نوعين مختلفين متباينين في مقام الثبوت فلا تصل النوبة إلى ما ذكروه بالنسبة إلى مقام السقوط ، فتأمّل.

فالحقّ القول بالتعيين لما عرفت من الإشكال في جريان عدم البراءة هنا وعدم الأمن عن العذاب.

بقي هنا شيء :

وهو أنّه قد يقال في مسألة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة بترجيح جانب الحرمة ، لتقديم العقل والعقلاء دفع المفسدة على جلب المنفعة عند دوران الأمر بينهما ، ولا إشكال في أنّ الحرام مشتمل على المفسدة والواجب مشتمل على المصلحة والمنفعة.

ولكنّه غير تامّ صغرى وكبرى : أمّا الكبرى : فلانّ حكم العقل بتقديم المصلحة مجرّد دعوى بلا دليل ، والملاك في تقديم أحد الجانبين على الآخر عند العقلاء إنّما هو كون الشيء أهمّ فإنّهم بعد ملاحظة الملاكين ثمّ بعد الكسر والإنكسار يقدّمون الأهمّ على المهمّ سواء كان الأهمّ من قبيل المصلحة أو من قبيل المفسدة كما أنّ بناءهم على التساوي والتخيير عند تساوي الملاكين.

وأمّا الصغرى : فلأنّ الموجود في جانب الواجب ليس هو مجرّد المصلحة حتّى يترتّب على تركه خصوص فقدان المصلحة فحسب بل ترك المصلحة الملزمة يلازم المفسدة كما يحكم به الوجدان في مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمفاسد التي تترتّب على تركهما ، إلى غير ذلك من أشباههما.

إلى هنا تمّ الكلام في أصالة التخيير ، والحمد لله ربّ العالمين.

١٠٥
١٠٦

٣ ـ أصالة الإشتغال

المقام الأوّل : في دوران الأمر بين المتباينين

الجهة الاولى : حرمة المخالفة القطعيّة

الجهة الثانية : حرمة المخالفة الاحتماليّة

تنبيهات :

١ ـ الإضطرار إلى بعض الأطراف

٢ ـ خروج بعض الأطراف عن محلّ الإبتلاء

٣ ـ عدم الفرق بين الدفعيّات والتدريجيّات في تنجّز العلم الإجمالي

٤ ـ هل الاصول المرخّصة تجري أوّلاً في أطراف العلم الإجمالي أو لا؟

٥ ـ الفرق بين الشبهات المحصورة وغير المحصورة.

٦ ـ اعتبار إندراج طرفي العلم الإجمالي تحت عنوان واحد وعدمه

٧ ـ حكم ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة.

٨ ـ حكم الخنثى المشكل

المقام الثاني : في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الإرتباطيين :

الجهة الاولى : في الأجزاء

الجهة الثانية : في الشرائط

الجهة الثالثة : في القيود

تنبيهات :

١ ـ الشك في جزئية شيء أو شرطيته عند النسيان

٢ ـ في زيادة الاجزاء والشرائط

٣ ـ هل يسقط الوجوب عند تعذّر وجود جزء أو شرط أو عدم مانع

قاعدة الميسور

المقام الثالث : في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليين

١٠٧
١٠٨

٣ ـ أصالة الاشتغال

كان البحث إلى هنا في الشكّ في أصل التكليف ، والآن نبحث في الشكّ في المكلّف به مع العلم بنوع التكليف ، سواء كانت الشبهة حكميّة أو موضوعيّة وسواء كانت وجوبيّة أو تحريميّة ، فالوجوبية الحكميّة نظير ما إذا علمنا بوجوب صلاة في يوم الجمعة ولم نعلم بأنّها صلاة الجمعة أو صلاة الظهر ، والوجوبيّة الموضوعيّة نظير ما إذا كانت القبلة غير معلومة في الخارج مع العلم بوجوب الاستقبال إليها في الصّلاة ، والتحريميّة الحكميّة مثل ما إذا علمنا بأنّ أربعة عشر جزءاً ( أو خمسة عشر جزءاً ) من أجزاء الذبيحة حرام ولم نعلم بأنّها ما هى؟

والتحريميّة الموضوعيّة نظير ما إذا تردّد الخمر ( الثابتة حرمتها ) بين إنائين.

ثمّ إنّ الشكّ في المكلّف به قد يكون لتردّده بين المتباينين ذاتاً كجميع ما ذكرنا من الأمثلة آنفاً وقد يكون لتردّده بين الأقل والأكثر ، وهو على قسمين : فتارةً يكون من قبيل الأقلّ والأكثر الإرتباطيين كالشكّ في أجزاء الواجب أو الحرام ، واخرى من قبيل الأقلّ والأكثر الإستقلاليين كما في دوران دَين بين تسعة دراهم وعشرة دراهم ، أو دوران عدد الصلوات الواجب قضاءها بين التسعة والعشرة ، فيقع الكلام في ثلاث مقامات :

المقام الأوّل : في دوران الأمر بين المتباينين

والأقوال فيه ثلاثة :

١ ـ حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة ( أي حرمة الموافقة الاحتماليّة مضافاً إلى حرمة المخالفة القطعيّة ) وهذا هو المشهور بين الاصوليين رضوان الله عليهم.

٢ ـ التفصيل بين المخالفة القطعيّة والموافقة القطعيّة بأنّ الاولى حرام وإنّ الثانية مباحة ، وذهب إليه المحقّق القمّي رحمه‌الله.

١٠٩

٣ ـ جواز المخالفة مطلقاً سواء كانت قطعيّة أو احتماليّة ، وهو المحكي عن العلاّمة المجلسي رحمه‌الله.

ومنشأ النزاع والاختلاف في المقام هو أنّ العلم الإجمالي هل هو علّة تامّة لحرمة المخالفة ووجوب الموافقة : أو يكون علّة ناقصة لهما؟ وفيه مذاهب ثلاثة :

١ ـ كونه علّة تامّة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعيّة والاحتماليّة معاً وأنّ العقل يحكم مستقلاً بها ولا يمكن ردعه من جانب الشارع المقدّس ، وهو المنسوب إلى المحقّق الخراساني رحمه‌الله في المقام.

٢ ـ كونه مقتضياً في كلا المقامين ، فيمكن إيجاد المانع من ناحية الشارع ، وهو مقتضى القول المنسوب إلى العلاّمة المجلسي رحمه‌الله ومختار المحقّق الخراساني رحمه‌الله في مبحث القطع.

٣ ـ التفصيل بين المخالفة القطعيّة والاحتماليّة بأن يكون العلم الإجمالي علّة تامّة في الاولى ومقتضياً في الثانية وهو مختار الشيخ الأعظم رحمه‌الله.

والظاهر أنّ ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله في المقام ( مبحث الاشتغال ) ليس عدولاً عمّا أفاده في مبحث القطع كما توهّمه بعض ، حيث إنّه قال هناك : « إنّ التكليف حيث لم ينكشف به تمام الانكشاف وكانت مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة جاز الإذن من الشارع بمخالفة احتمالاً بل قطعاً ... نعم كان العلم الإجمالي كالتفصيلي في مجرّد الاقتضاء لا في العلّية التامّة فيوجب تنجّز التكليف أيضاً لو لم يمنع عنه مانع عقلاً » وقال : « إنّ التكليف المعلوم بينهما ( المتباينين ) ... إن كان فعليّاً من جميع الجهات بأن يكون واجداً لما هو العلّة التامّة للبعث أو الزجر الفعلي مع ما هو عليه من الإجمال والتردّد والاحتمال فلا محيص عن تنجّزه وصحّة العقوبة على مخالفته ، وحينئذٍ لا محالة يكون ما دلّ بعمومه على الرفع أو الوضع أو السعة أو الإباحة ممّا يعمّ أطراف العلم مخصّصاً عقلاً لأجل مناقضتها معه ، وإن لم يكن فعليّاً كذلك ـ ولو كان بحيث لو علم تفصيلاً لوجب إمتثاله وصحّ العقاب على مخالفته ـ لم يكن هناك مانع عقلاً ولا شرعاً عن شمول أدلّة البراءة الشرعيّة للأطراف » ( انتهى ).

ولا يخفى أنّ المقصود من كلامه الأوّل أنّه إذا علم بالتكليف إجمالاً فحيث إنّه لم ينكشف تمام الانكشاف كانت رتبة الحكم الظاهري محفوظة ، للشكّ في وجوب التكليف في كلّ واحد من الأطراف وبه يتحقّق موضوع النافي فيجري بلا مانع ، بخلاف ما إذا علم به تفصيلاً فلا يبقى

١١٠

مجال للإذن في مخالفته لعدم بقاء موضوع للحكم الظاهري ( وهو الشكّ في الحكم الواقعي ) لانكشافه تمام الانكشاف حسب الفرض ، ولهذا يكون العلم التفصيلي علّة تامّة للتنجّز كما أنّ العلم الإجمالي يكون مقتضياً له كما صرّح به في تعليقته على الرسائل (١) ، بينما المقصود من كلامه الثاني ( وهو ما أفاده في مبحث الاشتغال ) أنّه لو فرضنا إنّا كشفنا من دليل خارجي كالإجماع إنّ تكليفاً ما فعلي من جميع الجهات (٢) وفعليته تامّة من ناحية إرادة المولى وكراهته بحيث لا يتوقّف العقوبة على مخالفته إلاّعلى مطلق وصوله إلى المكلّف بأي نحو كان من أنحاء الوصول فلا فرق حينئذٍ بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي في تنجّز التكليف وعدم وجوب الموضوع للُاصول المرخّصة ، وأمّا إذا كشفنا من الخارج عدم كونه فعليّاً من جميع الجهات وأنّ فعليته لا تكون تامّة إلاّبالعلم التفصيلي فليس للعلم الإجمالي حينئذٍ تأثير في التنجّز إلاّبنحو الاقتضاء ويكون موضوع الأصل المرخّص موجوداً.

أقول : الإنصاف أنّه لا فرق بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي إذا تعلّقا بما هو فعلي من جميع الجهات بل وكذلك في الشبهة البدوية إذا كان المشكوك على فرض وجوده فعلياً من جميع الجهات كما في الشبهات قبل الفحص وشبهها ، فحينئذٍ يكون الاحتمال منجّزاً لأنّ المفروض إنّ التكليف على فرض وجوده فعلي بتمام معنى الكلمة فلا مؤمّن من العقاب فلابدّ من إمتثاله بالاحتياط.

ثمّ إنّ ما مرّ من التفصيل ناظر إلى مقام الثبوت ويكون على نهج القضية الشرطيّة المعلّقة وأشبه بالضرورة بشرط المحمول فيكون توضيحاً للواضح على وجه.

والمهمّ هو تعيين الحكم في مقام الإثبات وأنّ المستظهر من الأدلّة ما هو؟ فنقول : المستفاد

__________________

(١) تعليقته على الرسائل : ص ٢١.

(٢) اعلم أنّ مراتب الحكم على ما ذكروه أربع ( كما مرّ سابقاً ) : مرتبة الاقتضاء ، ومرتبة وجوب المصالح والمفاسد ، ومرتبة الإنشاء ، ومرتبة الفعليّة أي البعث والزجر ، والفرق بين الأخيرة وبين ما قبلها يظهر من الفرق بين الأحكام التي نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يؤمر بإبلاغها فإنّها إنشائيّة غير فعليّة ، والمرحلة الأخيرة هى مرحلة التنجّز وهى ما إذا اجتمعت الشرائط في المكلّف من العقل والقدرة وغيرهما وانتفت الموانع كالضرورة وغيرها ، والحقّ كما ذكرنا في محلّه كون الحكم ذات مرتبتين فقط لأنّ المصالح والمفاسد امور خارجيّة لا أحكام اعتباريّة ، ومرحلة التنجّز والفعليّة كلتاهما داخلتان تحت عنوان واحد ، وتمام الكلام في محلّه.

١١١

من مجموع أدلّة الأحكام والإجماعات الحاصلة بين الفقهاء أنّ الحلّ القريب من الكلّ من التكاليف عدم كونها فعلية من جميع الجهات ، ولذا نلاحظ استثنائها وتخصيصها بالعناوين الثانوية كالاضطرار والإكراه والتقيّة وغيرها ، فما دام لم يعلم بالعلم التفصيلي أمكن إجراء الاصول المرخّصة أو الأدلّة الخاصّة الواردة فيها أو في مورد العلم التفصيلي تحت عنوان « العناوين الثانوية ».

نعم يستثنى منها موارد الدماء وشبهها ، فيمكن أن يقال بأنّها فعلية من جميع الجهات ، أي إن كان المورد من قبيل الدماء وشبهها كان الحكم فعليّاً من جميع الجهات ، فإذا علم إجمالاً مثلاً بوجود دم محقون مردّد بين شخصين : أحدهما : مؤمن متّقٍ ، والآخر : كافر يكون العلم الإجمالي منجّزاً للتكليف.

بل وكذا الحال في الشبهات البدوية منها ، فإنّ الاحتياط واجب فيها ، ولذا لا تجري فيها أحكام العناوين الثانوية كالتقيّة ومثلها كما ورد في الحديث : « إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم فإذا بلغ الدم فلا تقيّة » (١) ، بخلاف ما إذا كان المورد كالمايع النجس الدائر بين الإنائين فإنّه يمكن ورود الترخيص فيها إمّا بمقتضى أدلّة الاصول ( على القول به ) أو بعنوان « العناوين الثانويّة ».

لكن مسألة الدماء أيضاً ليست فعلية من جميع الجهات لانتقاضها بمسألة التترّس في الجهاد كما لا يخفى ، فإنّ المعروف حينئذٍ هو جواز القتل حتّى إذا كان الدم المحقون معلوماً تفصيلاً.

ثمّ إنّه تصدّى في تهذيب الاصول لتوجيه التكرار الحاصل في المقام في كلمات القوم حيث إنّهم تارةً يبحثون عن العلم الإجمالي في مبحث القطع واخرى في مبحث الاشتغال ، فقال : « إذا علمنا حرمة شيء أو وجوبه لا بعلم وجداني بل بشمول اطلاق الدليل أو عمومه على المورد كما إذا قال : « لا تشرب الخمر » وشمل بالإطلاق على الخمر المردّد بين الإنائين فهل يمكن الترخيص بأدلّة الاصول بتقييد اطلاق الدليل أو لا؟ وهذا هو الذي ينبغي أن يبحث عنه في المقام ( مبحث الاشتغال ) ومثله إذا علم إجمالاً بقيام حجّة على هذا الموضوع أو ذاك ، كما إذا علم بقيام أمارة معتبرة إمّا بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة » وقال في صدر كلامه : « إذا علم

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١١ ، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما ، الباب ٣١ ، ح ١.

١١٢

علماً وجدانياً لا يحتمل الخلاف بالتكليف الفعلي الذي لا يرضى المولى بتركه ... وهذا هو الذي يصلح أن يبحث عنه في باب القطع » (١) فحاصل كلامه أنّ المراد من العلم الإجمالي المبحوث عنه في باب القطع هو العلم الحاصل بالوجدان والمراد منه في مبحث الاشتغال هو ما حصل بإطلاق دليل أو قيام حجّة.

ويرد عليه أوّلاً : أنّه خلاف تعابيرهم والأمثلة التي ذكروها في المقام كالتمثيل بالعلم الإجمالي بالخمر الدائر بين الإنائين حيث إنّه يشمل ما إذا علم به بالوجدان ، وليس المراد منه خصوص ما إذا قامت البيّنة على خمرية أحد الإنائين قطعاً ، وكذلك التمثيل بالصلاة المردّدة بين الجمعة والظهر حيث إنّها معلوم وجوبها في يوم الجمعة بضرورة من الدين وإجماع المسلمين.

ثانياً : إنّ الملاك تمام الملاك في ما نحن فيه كون التكليف فعليّاً من جميع الجهات وعدم كونه كذلك ، من دون فرق بين العلم الوجداني والأمارات المعتبرة ، فإن لم يكن فعليّاً من جميع الجهات يمكن جريان الاصول المرخّصة وإلاّ يكون المورد مجرى قاعدة الاشتغال.

ثالثاً : إنّ الترخيص الصادر من الشارع ليس منحصراً في موارد أدلّة الاصول العمليّة ، بل إنّها إحدى الطرق المرخّصة لما سيأتي من ترخيصه في الشبهات غير المحصورة لملاكات اخر ، والحقّ كما ذكرنا في محلّه أنّ مسألة القطع قائمة بتأثير العلم الإجمالي من حيث الاقتضاء ، ومباحث العلم الإجمالي هنا ناظرة إلى عدم وجود الموانع لهذا المقتضى.

ثمّ إنّ البحث هيهنا يقع في جهتين : حرمة المخالفة القطعيّة ، وحرمة المخالفة الاحتماليّة.

أمّا الجهة الاولى : فقال الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله : « لنا على ذلك وجود المقتضي للحرمة وعدم المانع عنها ، إمّا ثبوت المقتضي فلعموم دليل تحريم ذلك العنوان المشتبه فإنّ قول الشارع « إجتنب عن الخمر » يشمل الخمر الموجود المعلوم المشتبه بين الإنائين أو أزيد ولا وجه لتخصيصه بالخمر المعلوم تفصيلاً مع أنّه لو إختصّ الدليل بالمعلوم تفصيلاً خرج الفرد المعلوم إجمالاً عن كونه حراماً واقعياً وكان حلالاً واقعياً ولا أظنّ أحداً يلتزم بذلك ، وأمّا عدم المانع فلأنّ العقل لا يمنع من التكليف عموماً أو خصوصاً بالاجتناب عن عنوان الحرام

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٢٤٨ ، طبع جماعة المدرّسين.

١١٣

المشتبه في أمرين أو امور والعقاب على مخالفة هذا التكليف ، وأمّا الشرع فلم يرد فيه ما يصلح للمنع عدا ما ورد من قولهم عليهم‌السلام « كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه » و « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه » وغير ذلك. ولكن هذه الأخبار وأمثالها لا يصلح للمنع لأنّها كما تدلّ على حلّية كلّ واحد من المشتبهين كذلك تدلّ على حرمة ذلك المعلوم إجمالاً لأنّه أيضاً شيء علم حرمته » ، انتهى.

فحاصل استدلال الشيخ الأعظم رحمه‌الله لحرمة المخالفة القطعيّة أنّ المقتضي ( وهو إطلاقات أدلّة الأحكام وعموماتها ) موجود ، والمانع ( وهو البراءة العقليّة والنقليّة ) مفقود ، وقد تبعه سائر الأعلام فمشوا في استدلالاتهم على ما يقرب استدلال الشيخ رحمه‌الله ومنهم المحقّق النائيني رحمه‌الله ، غاية الأمر أنّه قسّم الاصول على ثلاثة أقسام : أصالة الحلّية ، والاصول التنزيليّة ، والاصول غير التنزيلية ، وأنكر جريان جميعها للزوم التناقض بين حكم العقل بلزوم الاجتناب عن جميع الأطراف ( مقدّمة للإجتناب عن الحرام المنجّز الموجود في البين ) وبين الترخيص في جميع الأطراف (١).

وكذلك المحقّق العراقي رحمه‌الله فقال : « لا إشكال في أنّه لا قصور في منجّزية العلم الإجمالي لما تعلّق به من التكليف وإنّه بنظر العقل بالإضافة إلى ما تعلّق به كالعلم التفصيلي في حكمه بوجوب الإمتثال ، إذ لا فرق بينهما إلاّمن حيث إجمال المتعلّق وتفصيله وهو غير فارق في المقام بعد كون مناط التحميل بنظر العقل إحراز طبيعة أمر المولى بلا دخل خصوصيّة فيه ...

بل التحقيق إنّ حكمه بالاشتغال ووجوب الإمتثال يكون على نحو التنجيز بحيث يأبى عن الردع عنه بالترخيص على خلاف معلومه في تمام الأطراف كإبائه عنه في العلم التفصيلي لكون ذلك بنظره ترخيصاً من المولى في معصيته وترك طاعته ومثله لا يصدّقه وجدان العقل بعد تصديقه خلافه » (٢).

وقال شيخنا العلاّمة الحائري رحمه‌الله : « لنا إنّ المقتضي للامتثال وهو العلم بخطاب المولى موجود بالفرض والشكّ في تعيين المكلّف به ليس بمانع عند العقل وهل تجوز المخالفة القطعيّة للتكليف المقطوع مع تمكّن المكلّف من الامتثال بمجرّد الشكّ في التعيين حاشاه من ذلك فإنّ

__________________

(١) راجع فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ١٠ ـ ٢٤ ، طبع جماعة المدرّسين.

(٢) نهاية الأفكار : القسم الثاني من الجزء الثالث ، ص ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

١١٤

الملاك المتحقّق في مخالفة العلم التفصيلي موجود هنا بعينه » (١).

أقول : لنا في قبال هذا الوجه أو هذه الوجوه نقض وحلّ :

أمّا النقض : فهو بالشبهات غير المحصورة ، اللهمّ إلاّ أن يقال بعدم لزوم المخالفة القطعيّة فيها لعدم إمكان إرتكاب المكلّف جميع الأطراف عادةً ولو تدريجاً.

وكذلك النقض بالشبهات البدوية لأنّه وإن كان الموجود فيها احتمال الإصابة إلى الواقع لكن لا إشكال في استلزامه احتمال التناقض ، واحتمال اجتماع النقيضين محال كالعلم به ، وهذا هو الشبهة المعروفة لابن قبّة التي تصدّى الأعلام للجواب عنها باسقاط أحد الحكمين عن الفعلية وإرجاعه إلى مرحلة الإنشاء ، وبهذا ذهبوا إلى أنّ العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة والشبهات البدوية يكون مقتضياً للتنجّز ، ونحن نقول : كما يمكن اسقاط أحد الحكمين في هذين الموردين عن الفعليّة والقول باقتضاء العلم الإجمالي للتنجّز ، كذلك يمكن في المقام أيضاً اسقاط الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال عن الفعليّة وبذلك يرتفع إشكال التناقض ، ( وقد عرفت أنّ التناقض كما لا يجوز قطعاً لا يجوز احتمالاً ).

وعلى هذا فلا يمكن إثبات حرمة المخالفة القطعيّة من ناحية لزوم التناقض كما صرّح به في كلمات المحقّق النائيني رحمه‌الله والقول بأنّ العلم الإجمالي علّة تامّة للتنجّز كما هو ظاهر بعض كلمات الأعلام الأربعة المزبورة أو صريحها ، بل للعلم الإجمالي ليس أكثر من الاقتضاء ، فعلينا الفحص عن وجود المانع في الأدلّة النقلية ، فإن ظفرنا على رواية مرخّصة تمنع عن نفوذ المقتضي فهو ، وإلاّ تنجّز العلم الإجمالي لوجود المقتضي وفقدان المانع.

فنقول : هيهنا روايات عديدة يمكن أن يستدلّ بها على الترخيص في أطراف العلم الإجمالي :

أحدها : ما رواه عبدالله بن سليمان قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن فقال لي : « ...

ساخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه » (٢).

فهى تدلّ على الترخيص في أطراف العلم الإجمالي بناءً على أنّ الظاهر من قوله « بعينه »

__________________

(١) درر الفوائد : ج ٢ ، ص ٤٥٧ ، طبع جماعة المدرّسين.

(٢) وسائل الشيعة : الباب ٦١ ، من أبواب الأطعمة المباحة ، ح ١.

١١٥

العلم التفصيلي والمعرفة التفصيليّة ، كما لا إشكال فيها من ناحية السند إلى عبدالله بن سنان ، وأمّا عبدالله بن سليمان فهو مردّد بين خمسة أفراد : الصيرفي والعامري والعبسي والنخعي وعبدالله بن سليمان من دون لقب ، وكلّهم مجاهيل لكن يمكن تصحيح الرواية من ناحية السند من باب أنّ نفس المضمون الوارد فيها نقل عن عبدالله بن سنان (١) من دون وساطة عبدالله بن سليمان وقد نقلها بهذا النحو الصدوق وابن إدريس في السرائر والشيخ الطوسي رحمه‌الله ، في التهذيب.

ثانيها : ما رواه عبدالله بن سليمان أيضاً عن أبي عبدالله عليه‌السلام في الجبن قال : « كلّ شيء لك حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان فيه ميتة » (٢).

بناءً على ظهور كلمة « فيه » في العلم التفصيلي.

ثالثها : ما رواه أبو الجارود قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن فقلت له : أخبرني من رأى إنّه يجعل فيه الميتة ، فقال : « أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم في جميع الأرضين؟ إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل ، والله إنّي لأعترض السوق فأشتري بها اللحم والسمن والجبن ، والله ما أظنّ كلّهم يسمّون هذه البربر وهذه السودان » (٣).

والإنصاف أنّ الضمير في كلمة « إنّه ميتة » أيضاً ظاهر في العلم التفصيلي.

رابعها : ما رواه معاوية بن عمّار عن رجل عن أصحابنا قال : « كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام فسأله رجل عن الجبن فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « إنّه طعام يعجبني وساخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام فتدعه بعينه » (٤).

وهى أظهر من الروايات السابقة في العلم التفصيلي فإنّ قوله « بعينه » قيد للضمير في « تدعه » فلا يمكن حمله على تأكيد العلم كما قد يقال في الرواية الاولى.

خامسها : ما رواه الحلبي قال : سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول : « إذا اختلط الذكي بالميّت باعه

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٦٤ ، من أبواب الأطعمة والأشربة ، ح ٢.

(٢) المصدر السابق : الباب ٦١ ، من أبواب الأطعمة المباحة ، ح ٢.

(٣) المصدر الساق : ح ٥.

(٤) المصدر السابق : ح ٧.

١١٦

ممّن يستحلّ الميتة وأكل ثمنه » (١). ودلالته ظاهرة من جهة إجازة بيع كليهما.

سادسهما : ما رواه الحلبي أيضاً عن أبي عبدالله عليه‌السلام : إنّه سئل عن رجل كان له غنم وبقر فكان يدرك الذكي منها فيعزله ويعزل الميتة ثمّ إنّ الميتة والذكي اختلطا كيف يصنع به؟ قال : « يبيعه ممّن يستحلّ الميتة ويأكل ثمنه فإنّه لا بأس به » (٢).

سابعها : ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن الدقيق يقع فيه خرؤ الفأر هل يصلح أكله إذا عجن مع الدقيق؟ قال : « إذا لم تعرفه فلا بأس وإن عرفته فلتطرحه » (٣).

هذه روايات يمكن أن يستدلّ بها على الترخيص في أطراف العلم الإجمالي وعدم حرمة المخالفة القطعيّة.

لكن الإنصاف إمكان المناقشة في الجميع من ناحية الدلالة.

أمّا روايات الجبن فلا يبعد القول بأنها خارجة عن المقام لأنّ موردها الشبهة غير المحصورة أو الشبهة البدوية وفرض الشبهة المحصورة خارجة عنها كما لا يخفى.

وأمّا روايات اختلاط الميتة بالمذكّى فمدلولها ( وهو جواز بيع الميتة المعلومة بالإجمال ممّن يستحلّها ) بناءً على عدم كونه معرضاً عنه للأصحاب وإمكان الإفتاء على طبقه كما أفتى به بعض الأعاظم ـ أخصّ من المدّعى ، وهى الترخيص في الشبهات المحصورة مطلقاً ، فلا يمكن التعدّي عن موردها إلى سائر الموارد لاحتمال الخصوصيّة ، فلا يصحّ قياس غيرها عليها بل يمكن أن يقال : هى على خلاف المطلوب أدلّ لأنّ تقييد الجواز بمن يستحلّ دليل على عدم الجواز في غيره.

نعم ، إنّه ينافي مقالة القائلين كون العلم الإجمالي علّة تامّة وإنّ الترخيص يستلزم التناقض فإنّ الكفّار مكلّفون بالفروع كما أنّهم مكلّفون بالاصول.

وأمّا الرواية الأخيرة ( وهى رواية خرؤ الفأر ) فهى مخدوشة سنداً ودلالة : أمّا السند فلمكان قرب الإسناد ، وأمّا الدلالة فلاحتمال خصوصية في موردها وهى استهلاك الخرؤ في

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٣٦ ، من أبواب الأطعمة والأشربة ، ح ١.

(٢) المصدر السابق : ح ٢.

(٣) المصدر السابق : ح ٣.

١١٧

الدقيق ، مضافاً إلى أنّ الرواية معرض عنها ظاهراً.

هذا مضافاً إلى تعارض هذه الروايات مع ما سيأتي في المقام الثاني من الروايات الدالّة على حرمة المخالفة الاحتماليّة فضلاً عن المخالفة القطعيّة.

هذا كلّه في المقام الأوّل.

أمّا الجهة الثانية : وهى حرمة المخالفة الاحتماليّة ( وجوب الموافقة القطعيّة ) فالحقّ فيها أيضاً ثبوت الحرمة ، أي وجوب الاجتناب عن جميع أطراف الشبهة بنفس القاعدة العقليّة التي مرّ ذكرها في المقام الأوّل وهى كون المقتضي موجوداً والمانع مفقوداً ، أمّا وجود المقتضي فلشمول أدلّة تحريم المحرّمات للمعلوم إجمالاً ، وأمّا عدم المانع فلأنّ الموضوع في أدلّة البراءة من حديث الرفع وغيره الشكّ وعدم العلم ، وهو مفقود في ما نحن فيه لأنّ العلم أعمّ من العلم التفصيلي والعلم الإجمالي ، وكذلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان لأنّ موضوعها وهو عدم البيان مفقود هنا أيضاً لأنّ العلم الإجمالي بيان كالعلم التفصيلي ، وإن أبيت إلاّعن شمول أدلّة البراءة والحلّية لكلّ واحد منها فلا أقلّ من تساقطهما بالتعارض.

هذا هو مقتضى القاعدة الأوّلية.

أمّا الروايات الخاصّة الواردة في المسألة فهى على طوائف :

الطائفة الاولى : ما تدلّ على وجوب الاحتياط في موارد العلم الإجمالي بشكل كلّي من غير تقييد بموضوع خاصّ.

منها : ما مرّ عند ذكر أدلّة الأخباري ممّا ورد في ذيل حديث التثليث المعروف : « فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الإقتحام في الهلكات » (١).

ومنها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » (٢).

ومنها : قوله « ما اجتمع الحرام والحلال إلاّغلب الحرام الحلال » (٣).

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ١٢ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٩.

(٢) المصدر السابق : الباب ١٢ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٥٦.

(٣) عوالي اللئالي : ج ٢ ، ص ١٣٢ ، طبعة مطبعة سيّد الشهداء.

١١٨

ومنها : قوله : « اتركوا ما لا بأس به حذراً عمّا به البأس » (١) ولا إشكال في أنّ موردها أو القدر المتيقّن منها أطراف العلم الإجمالي.

الطائفة الثانية ما وردت في موارد خاصّة :

منها : ما مرّ سابقاً روايات (٢) القرعة في الغنم الموطوءة ، حيث إنّ الأمر بالقرعة مع عدم حرمة المخالفة الاحتماليّة ممّا لا وجه له.

إن قلت : فلماذا أجاز الشارع إرتكاب الجميع بعد إخراج ما أصابته القرعة؟

قلنا : الجواب عنه واضح ، فإنّ القرعة بمنزلة الأمارة كما يستفاد من أدلّتها فإذا إمتاز الحرام في البين بالأمارة جاز إرتكاب الباقي.

منها : ما مرّ آنفاً من روايات اختلاط الميتة بالمذكّى ، لتقييد جواز البيع فيها بمن يستحلّ كما ذكرنا.

لكن يرد على هذه الطائفة إنّها خارجة عن محلّ النزاع لأنّ محلّ النزاع صورة عدم جريان الاصول الناهية في أطراف العلم الإجمالي وإلاّ لا إشكال في حرمة المخالفة الاحتماليّة حتّى عند القائلين بالجواز لمكان الأصل ، ولا إشكال في جريان استصحاب عدم التذكية في مورد اختلاط الميتة بالمذكّى في جميع الأطراف ، وكذلك في الغنم الموطوءة بناءً على حجّية الاستصحاب التعليقي ( حيث إنّ استصحاب عدم التذكية معلّق على وقوع الذبح خارجاً ) ، لعدم لزوم المخالفة القطعيّة العلميّة حينئذٍ لأنّ غاية ما يترتّب على جريان الاستصحاب إنّما هو ترك جميع الأطراف وهو مخالفة قطعيّة ولا إشكال في عدم مانعيتها عن جريان الاصول.

الطائفة الثالثة : ما وردت في باب النجاسات وتدلّ على لزوم الاجتناب عن أطراف النجاسة المعلومة بالإجمال :

منها : ما رواه محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام ... وقال : « في المني يصيب الثوب ، قال :

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤١٤ ، طبعة جماعة المدرّسين ، ولم نظفر بها بهذا التعبير في الجوامع الروائية ، نعم في بحار الأنوار : ج ٧٠ ، ص ٢٩٦ ، ذيل آية التقوى ( البراءة / ١٠٩ ) عن مصباح الشريعة عن الإمام الصادق عليه‌السلام : وتفسير التقوى ترك ما ليس بأخذه بأس حذراً عمّا به بأس.

(٢) وسائل الشيعة : راجع باب ٣٠ تحريم لحم البهيمة التي ينكحها الآدمي من كتاب الأطعمة والأشربة.

١١٩

« إن عرفت مكانه فاغسله وإن خفى عليك فاغسله كلّه » (١).

ومنها : ما رواه عنبسة بن مصعب قال : سألت أباعبدالله عليه‌السلام عن المني يصيب الثوب فلا يدري أين مكانه قال : « يغسله كلّه » (٢).

ومنها : ما رواه زرارة قال : قلت أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من مني ( إلى أن قلت ) : فإنّي قد عمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟ قال : « تغسل من ثوبك الناحية التي ترى إنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك » (٣).

لكن يرد على هذه الطائفة أيضاً أنّ وجوب غسل الثوب إنّما هو لأجل الصّلاة ، ومن المعلوم أنّ تمام الثوب موضوع واحد بالنسبة إليها ، له حالة سابقة متيقّنة وهى النجاسة ، ومعها لا تجوز الصّلاة فيه إلاّ أن يعلم بطهارته.

الطائفة الرابعة : روايات إهراق الإنائين المعلومة نجاسة أحدهما :

منها : ما رواه سماعة عن أبي عبدالله عليه‌السلام في رجل معه إناءان ، وقع في أحدهما قذر ، ولا يرى أيّهما هو ، وليس يقدر على ماء غيرهما ، قال : « يهريقهما ويتيمّم » (٤).

ومثله حديث عمّار الساباطي عن أبي عبدالله عليه‌السلام ولا إشكال في دلالة هذه الطائفة على المقصود لعدم جريان الاصول الناهية في موردها.

فظهر من جميع ما ذكر أنّ مقتضى القاعدة والروايات العامّة وكذلك مقتضى بعض الروايات الخاصّة حرمة المخالفة القطعيّة والاحتماليّة معاً ، نعم إنّ موردها الشبهات التحريميّة ، ولكن يستفاد منها حرمة المخالفة في الشبهات الوجوبيّة أيضاً بالغاء الخصوصيّة.

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ١٦ ، من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٢) المصدر السالق : ح ٣.

(٣) المصدر السابق : الباب ٧ ، من أبواب النجاسات ، ح ٤.

(٤) المصدر السابق : الباب ١٢ ، من أبواب الماء المطلق ، ح ١.

١٢٠