أنوار الأصول - ج ٢

أنوار الأصول - ج ٢

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-14-8
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٥٠٤

الفصل الأول

ألفاظ العموم

وتنبغي الإشارة مقدّمة إلى أنّ البحث فيها لغوي لا اصولي لكن يذكر في علم الاصول لعدم استيفاء البحث عنه في محلّه.

وكيف كان قد وقع النزاع في ألفاظ العموم بين القوم بالنسبة إلى أربعة ألفاظ :

١ ـ النكرة في سياق النفي أو النهي.

٢ ـ لفظة كلّ وما شابهه مثل جميع وكافّة وقاطبة.

٣ ـ الجمع المحلّى باللام نحو « العلماء » و « الملائكة » و « المؤمنون ».

٤ ـ المفرد المحلّى باللام مثل البيع والإنسان.

أمّا الأوّل : أمّا النكرة في سياق النفي أو النهي

فقد يقال بأنّها تدلّ على العموم ولعلّه هو المشهور ، كقول المولى « لا تعتق رقبة » وكقولك « ما جاءني أحد » ، واستدلّ له بأنّ مدلول النكرة هو طبيعة الأفراد ، ولا تنعدم الطبيعة إلاّ بانعدام جميع أفرادها ، وذكر المحقّق الخراساني رحمه‌الله في بعض كلماته أنّ دلالتها على العموم موقوفة على أخذها مرسلة لا مبهمة ، أي إذا أحرز إرسالها بمقدّمات الحكمة ، فلا بدّ في استفادة العموم منها من إجراء مقدّمات الحكمة ، واستشهد بأنّه لو لم تكن الطبيعة مطلقة بل كانت مقيّدة لم يقتض دخول النفي عليها عموم النفي لأفراد الطبيعة المطلقة ، بل عموم أفراد ذلك المقدار المقيّد فقط ، كما إذا قال « لا تكرم الفاسق الاموي » فإنّه لا يقتضي نفي وجوب الإكرام عن جميع أفراد طبيعة الفاسق بل عن أفراد الفاسق الأموي فقط ، وكذلك لو كانت الطبيعة مهملة فلا يقتضي دخول النفي عليها إلاّ استيعاب السلب للأفراد المتيقّنة لا مطلق الأفراد ، مع

٨١

أنّه لو قلنا بعدم اشتراط دلالتها على العموم بالإرسال والإطلاق واستفادة العموم من النكرة من دون إجراء مقدّمات الحكمة لدلّت على العموم في صورة التقييد أو الإهمال أيضاً.

وقال في التهذيب ما حاصله : إنّ الطبيعة تنتفي بانتفاء الفرد كما توجد بوجوده ولا يحتاج انتفائها إلى انتفاء جميع الأفراد ، لأنّ الفاظ النفي والنهي وضعت لنفي مدخولها أو الزجر عنه ، والمدخول في ما نحن فيه هو اسم الجنس ، وهو موضوع لنفس الطبيعة بلا شرط ، فلا دلالة فيها على نفي الافراد التي هي المناط في صدق العموم ، ولا وضع على حدة للمركّب ، وقولنا : اعتق رقبة. وقولنا : لا تعتق رقبة سيّان في أنّ الماهيّة متعلّقة للحكم وفي عدم الدلالة على الأفراد وفي أنّ كلاًّ منهما محتاج إلى مقدّمات الحكمة حتّى يثبت أنّ ما يليه تمام الموضوع ، نعم هذا ممّا يقتضيه البرهان ، وأمّا العرف فيفرّق بين الموردين ويحكم بأنّ المهملة توجد بوجود فرد مّا وتنعدم بعدم جميع الأفراد (١).

أقول : الأولى في كلّ بحث سلوك الطريق اللائقة به ، ففي مباحث الألفاظ لابدّ من الرجوع إلى التبادر والمتفاهم العرفي لا إلى وجوه فلسفيّة وتدقيقات عقليّة ، وكذلك لابدّ من ملاحظة تراكيبها كما تلاحظ مفرداتها ، وفي المقام يجب الفات النظر إلى تركيب قول العربي بعد أن سرق ماله مثلاً : « لم يبق منه شيء » أو قوله تعالى حكاية قول بلقيس : ( ما كنت قاطعة أمراً حتّى تشهدون ) أو كلمة « لا إله إلاّ الله » وهكذا قوله « ولا تضاروهنّ ... » فهل يتبادر منها العموم أو لا؟ الإنصاف أنّ تركيب النكرة في سياق النفي أو النهي في أمثال هذه التراكيب يتبادر منه العموم من دون حاجة إلى مقدّمات الحكمة ، كما يشهد له الوجدان أيضاً.

أمّا الثاني : لفظة كلّ وما شابهها

فقد يقال فيها أيضاً أنّ دلالتها على العموم واستيعاب المدخول يتمّ بمعونة مقدّمات الحكمة المحرزة بها سعة المدخول وإرساله ، واستشهد لذلك بعدم دلالتها في صورة تقييد مدخولها على أزيد من المقدار المقيّد فقولك : « أكرم كلّ رجل عالم » يدلّ على إكرام الرجال العدول فقط لا مطلق الرجال.

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٨ ، طبع مهر.

٨٢

وقد يقال بأنّها ظاهرة في العموم من دون حاجة إلى مقدّمات الحكمة وهو الصحيح كما قال به في المحاضرات ـ ولنعم ما قال ـ : « إنّ لفظة « كلّ » أو ما شاكلها تدلّ بنفسها على إطلاق مدخولها وعدم أخذ خصوصيّة فيه ولا يتوقّف ذلك على إجراء المقدّمات ، ففي مثل قولنا « أكرم كلّ رجل » تدلّ لفظة « كلّ » على سراية الحكم إلى جميع من ينطبق عليه الرجل من دون فرق بين الغني والفقير والعالم والجاهل وما شاكل ذلك ، فتكون هذه اللفظة بيان على عدم أخذ خصوصيّة وقيد في مدخولها » (١).

أمّا الثالث : الجمع المحلّى باللام

فاستدلّ لدلالته على العموم بالتبادر أوّلاً ، وبوجه عقلي ثانياً ، وهو أنّ الجمع له عرض عريض ومصاديق كثيرة ، واللام للتعريف ، ولا إشكال في أنّ المتعيّن من مصاديق الجمع ومراتبه إنّما هو أقصى المراتب ، وغيره لا تعيّن له حتّى أدنى المراتب ، ونتيجة ذلك أن لا يستفاد العموم لا من اللام ولا من نفس الجمع بل يستفاد من تعريف الجمع بأقصى مراتبه.

إن قلت : إنّ أدنى المراتب وهو الثلاث أيضاً متعيّن.

قلنا : بل إنّه نكرة بالنسبة إلى ما ينطبق عليه من الأفراد ، ولذلك يعقل السؤال في قولنا : « جاءني ثلاث نفرات » بقولك : « أي ثلاث نفرات؟ » حيث يمكن صدقه على كلّ ثلاثة ثلاثة من الأفراد خلافاً لأقصى المراتب ، فالمتعيّن في الخارج بحيث لا يكون مردّداً بين شيئين أو أشياء إنّما هو مجموع الأفراد دون غيره من مراتب الجمع.

أقول : أمّا الوجه العقلي فيمكن النقاش فيه بما مرّ من عدم تطرّق الوجوه العقليّة والتحليل العقلي في مباحث الألفاظ كما ذكرنا آنفاً أيضاً بل لابدّ فيها من ملاحظة ما يتبادر منها عرفاً. هذا أوّلاً.

وثانياً : أنّ المرتبة العليا من مراتب الجمع لا بشرط بالنسبة إلى التعريف والتنكير ، فلا يصدق عليها إنّها معرفة أو نكرة لأنّ المقسم للمعرفة والنكرة هو اسم الجنس المفرد كما لا يخفى ، فلا يقال مثلاً أنّ « كلّ عالم » أو « جميع العلماء » معرفة أو نكرة.

__________________

(١) المحاضرات : ج ٥ ، ص ١٥٨ ـ ١٥٩.

٨٣

أمّا التبادر فهو تامّ مقبول فلا يبعد تبادر العموم من الجمع المحلّى باللام كما لا إشكال في إرادة الجنس منه بمؤونة القرينة في كثير من الموارد ، كقولنا : « سَلِ العلماء ما شئت » أو « اختر المؤمنين للُاخوّة » أو « شارك الأخيار » حيث إنّ تناسب الحكم والموضوع فيها يقتضي أن لا يكون السؤال عن جميع العلماء واختيار جميع المؤمنين للُاخوّة ومشاركة جميع الأخيار. كما لا يخفى.

وعلى أي حال المتبادر من الجمع المحلّى باللام في صورة فقد القرينة هو العموم ولا حاجة فيه إلى إجراء مقدّمات الحكمة.

أمّا الرابع : المفرد المحلّى باللام

فقال بعض بدلالته على العموم ، ويستدلّ لها أوّلاً : باتّصافه أحياناً بالجمع كقوله : « أهلك الناس الدرهم البيض والدينار الصفر ».

وثانياً : بوقوعه مستثنى منه كقوله تعالى : ( إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا ... ).

وثالثاً : ما مرّ في الجمع المحلّى باللام من أنّ اللام للتعريف ، والمعرفة هي أقصى المراتب.

واجيب عنه : بأنّ التوصيف بالجمع في موارد معدودة محدودة لا ينافي عدم كونه حقيقة في الجمع لأنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز ، وهكذا وقوعه مستثنى منه في بعض الموارد ، وأمّا الوجه الثالث : فقد عرفت بطلانه في الجمع المحلّى باللام فكيف بالمفرد ، والإنصاف أنّه لا يستفاد من المفرد المحلّى باللام ـ لولا وجود القرينة ـ عموم.

٨٤

الفصل الثاني

حجّية العام المخصّص في الباقي

وهي مسألة يكثر الابتلاء بها ، لأنّ العمومات غالباً مخصّصة مع أنّ رحى الاجتهاد تدور على العمل بها فيشكل الأمر لو لم يكن العام المخصّص حجّة في الباقي.

وفيها ثلاثة أقوال :

الأوّل : ما ذهب إليه المشهور من الإماميّة كما أنّ الظاهر ذهاب المشهور العامّة إليه وهو كون العام حجّة في الباقي مطلقاً سواء كان المخصّص متّصلاً أم منفصلاً.

الثاني : عدم الحجّية مطلقاً كما نسب إلى بعض العامّة.

الثالث : التفصيل بين المتّصل والمنفصل فيكون حجّة في الأوّل دون الثاني.

ثمّ إنّ هذه المسألة مبنيّة على مسألة اخرى لابدّ من تقديمها عليها ، وهي « هل العام حقيقة في الباقي فيكون حجّة فيه بلا إشكال أو لا؟ » فنقول : قد نقل فيها صاحب الفصول ثمانية أقوال ، ولا يهمّنا ذكرها بتمامها إلاّثلاثة منها ، وهي القول بالحقيقة مطلقاً ، والقول بالمجاز مطلقاً ، والقول بالتفصيل بين المتّصل والمنفصل وكونه حقيقة في الأوّل ومجازاً في الثاني.

والأوّل هو ما ذهب إليه كثير من المتأخّرين ، واستدلّ له بأنّ التخصيص يكون في الإرادة الجدّية لا الإرادة الاستعماليّة ولا إشكال في أنّ المدار في الحقيقة والمجاز هي الإرادة الاستعماليّة.

توضيح ذلك : ذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله وجماعة اخرى ممّن تبعه إلى أنّ للمتكلّم في كلّ كلام إرادتين إرادة جدّية وإرادة استعماليّة ، وهما تارةً تتوافقان واخرى تتخالفان ( وإن كان قد يتوهّم في بدو النظر أنّ للمتكلّم إرادة واحدة ) ويستكشف هذا من الكنايات في الجمل الإخباريّة ، ومن الأوامر الإمتحانيّة في الجمل الإنشائيّة حيث إنّ في كلّ واحد منهما توجد

٨٥

إرادتان إرادة استعماليّة وإرادة جدّيّة ، ففي الكنايات إذا قيل مثلاً « زيد كثير الرماد » نرى بوضوح وجود إرادتين لأنّ كلّ واحد من لفظي « زيد » و « كثير الرماد » استعمل في معناه الحقيقي بلا شكّ ، لكنّه لم يردّه المتكلّم جدّاً كما هو المفروض ، بل المراد الجدّي منهما هو سخاوة زيد ، فالإرادة الاستعماليّة تعلّقت بما وضع له اللفظ واستعمل فيه ، والإرادة الجدّية تعلّقت بشيء آخر خارج عن دائرة الوضع والاستعمال ، وهو سخاوة زيد ، فتخالف الإرادتان وإفترقتا ، وكذلك في الأوامر الإمتحانيّة ، لأنّ الطلب الظاهري فيها تعلّق بذبح إسماعيل مثلاً في قصّة إبراهيم عليه‌السلام ، لكن المراد الجدّي فيها هو إمتحان إبراهيم عليه‌السلام كما لا يخفى.

وبالجملة ، إنّ هيهنا ثلاث نكات لابدّ من الالتفات إليها والتوجّه بها :

الاولى : إنّ الأصل الأوّلي العقلائي اللفظي في باب الألفاظ هو تطابق الإرادتين وقد سمّي هذا بأصالة الجدّ ، ولا إشكال فيه.

الثانية : إنّه لا تختلف الإرادتان إلاّلنكتة وداعٍ يدعو إليه.

الثالثة : إنّ المدار في الحقيقة والمجاز هو الإرادة الاستعماليّة لا الجدّية ، ولذلك يعدّ الاستعمال في الكنايات استعمالاً حقيقياً ، لأنّ الإرادة الاستعماليّة فيها تتعلّق بالمعنى الموضوع له كما مرّ ، والتصرّف إنّما وقع في الإرادة الجدّية ، وهذا هو الفرق بينها وبين المجازات بناءً على مذاق المشهور من أنّ المجاز إنّما هو في الكلمة لا في الأمر العقلي الذي هو المختار.

إذا عرفت هذا فاعلم : قد ذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله إلى كون العام حقيقة في الباقي مطلقاً سواء كان المخصّص متّصلاً أم منفصلاً ، أمّا في المتّصل فاستدلّ بأنّه إذا كان المخصّص متّصلاً بالعام تستعمل أداة العموم حينئذٍ فيما هو معناها الحقيقي من استغراق تمام أفراد المدخول ، غاية الأمر إنّ دائرة المدخول مضيّقة من جهة التقييد ، فلا يتحقّق إخراج بالنسبة إلى أداة العام لكي نبحث في أنّه هل هو حقيقة في الباقي أو لا؟

وأمّا في المنفصل فاستدلّ بأنّه وإن تحقّق فيه الإخراج بالنسبة إلى أداة العام إلاّ أنّ ظهورها في العموم يكون دليلاً على استعمالها في العموم لا في الخصوص ، أي تعلّقت الإرادة الاستعماليّة بالعموم ، ويكون الخاصّ قرينة على إرادة الخصوص لبّاً وجدّاً ، وما تعلّقت بالخصوص إنّما هو الإرادة الجدّية فقط ، والمدار في الحقيقة والمجاز هو الإرادة الاستعماليّة لا الجدّية ( انتهى ).

وأورد عليه المحقّق النائيني رحمه‌الله : بأنّ « الإرادة الاستعماليّة إن اريد بها إرادة إيجاد المعنى

٨٦

البسيط العقلاني باللفظ بحيث كان اللفظ والإرادة مغفولين عنهما حين الاستعمال ، فهذه بعينها هي الإرادة الجدّية التي بها يتقوّم استعمال اللفظ في معنى مّا ، وإن اريد بها الإرادة الهزليّة المقابلة للإرادة الجدّية والداعية إلى إرادة إيجاد المعنى باللفظ فهي وإن كانت لا تنافي استعمال اللفظ في معناه الموضوع له لوضوح أنّ الاستعمال الحقيقي لا يدور مدار كون الداعي إلى الاستعمال هو خصوص الإرادة الجدّية إلاّ أنّه لا يعقل الالتزام بكون الداعي إلى استعمال العمومات الواردة في الكتاب والسنّة في معانيها هي الإرادة الهزليّة » (١).

ثمّ إنّه تصدّى لحلّ المسألة بطريق آخر يرجع بالمآل إلى ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله من تعدّد الدالّ والمدلول ، فقال : « إنّ أداة العموم لا تستعمل إلاّفي ما وضعت له كما أنّ مدخولها لم يستعمل إلاّفيما وضع له ، أمّا عدم استعمال المدخول إلاّفي نفس ما وضع له فلأنّه لم يوضع إلاّ لنفس الطبيعة المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيّدة ، ومن الواضح أنّه لم يستعمل إلاّفيها وإفادة التقييد بدالّ آخر لا تنافي استعمال اللفظ في نفس الطبيعة المهملة كما هو ظاهر ، وأمّا عدم استعمال الأداة إلاّفيما وضعت له فلأنّها لا يستعمل أبداً إلاّفي تعميم الحكم لجميع أفراد ما اريد من مدخولها ، غاية الأمر أنّ المراد من مدخولها ربّما يكون أمراً وسيعاً واخرى يكون أمراً ضيّقاً ، وهذا لا يوجب فرقاً في ناحية الأداة أصلاً » (٢).

أقول : يرد عليه :

أوّلاً : إنّ كلا المعنيين اللذين ذكرهما في تفسير المراد من الإرادة الاستعماليّة غير مقصود في المقام ، بل المراد منها هنا أنّ اللفظ تارةً يستعمل في معناه الموضوع له ويريد به المتكلّم تفهيم المخاطب لتمام معناه من دون أن تكون إرادته ناشئة عن كون الحكم المجعول على عنوان ذلك اللفظ ثابتاً له واقعاً بل هي ناشئة من غرض آخر ، واخرى يكون الغرض تفهيمه ، وهذا مقدّمة له.

ثانياً : ما مرّ في باب دلالات الألفاظ من الإشكال المبنائي ، وهو أنّ دلالة اللفظ ترجع إلى الحكاية والعلاّمة لا إلى الإيجاد والإنشاء إلاّفي بعض الألفاظ مثل أداة التمنّي والترجّي كما مرّ بيانه هناك. ( وفي كلامه إشكال آخر ستأتي الإشارة إليه ).

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٤٤٧.

(٢) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٤٤٩ ـ ٤٥٠.

٨٧

وأمّا ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله ( من الفرق بين المتّصل والمنفصل وأنّ العام في المخصّص المتّصل باقٍ على عمومه واستعمل في استغراق تمام الأفراد وإنّما تحقّق التقييد والإخراج بالنسبة إلى خصوص المدخول ، وإنّ في المنفصل وإن حصل الإخراج بالنسبة إلى العام إلاّ أنّه تعلّق بالإرادة الاستعماليّة لا الجدّية ).

فيرد عليه :

أوّلاً : أنّه حصر لتخصيص المتّصل في الوصف وما يشبهه من القيود الراجعة إلى الموضوع ، مع أنّ التخصيص بكلمة « إلاّ » أيضاً تخصيص متّصل وهو قيد للحكم لا للموضوع.

نعم ، إنّها ترجع إلى الموضوع في خصوص الأعداد كما مرّ ، ففي قوله تعالى : ( فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً ) يرجع قيد « إلاّ خمسين » إلى كلمة « الف سنة » لا إلى « لبث » وأمّا في غير الأعداد فلا إشكال في رجوعه إلى الحكم ، والشاهد على ذلك تصريحهم بأنّ كلمة « إلاّ » بمعنى « استثنى » لا بمعنى كلمة « غير » حتّى يكون وصفاً.

إن قلت : لو كان الأمر كذلك فما هو الحكم في العام المخصّص بكلمة إلاّ؟

قلنا : لا فرق بينه وبين التخصيص بالمنفصل ، فكما أنّ التخصيص بالمنفصل إخراج عن خصوص الإرادة الجدّية ، والعام فيه باقٍ على عمومه بالنسبة إلى الإرادة الاستعماليّة فكذلك في التخصيص المتّصل بكلمة « إلاّ ».

إن قلت : لو كان القيد راجعاً إلى خصوص الإرادة الجدّية ، والعام استعمل في عمومه واستغراقه فلماذا لم يبيّن المولى مراده الجدّي ابتداءً؟ وما هو الداعي في استعماله العام فيما لم يردّه جدّاً؟

قلنا : يتصوّر لذلك فوائد كثيرة :

الاولى : كونه في مقام ضرب قاعدة للتمسّك بها في الموارد المشكوكة.

الثانية : عدم إمكان بيان الباقي بدون الاستثناء لعدم عنوان أو اسم له ، كأن لا يكون للقوم غير زيد عنوان يختصّ بهم كي يرد الحكم عليه ، فلا بدّ حينئذٍ من استثناء القوم بكلمة « إلاّ زيد ».

الثالثة : التأكيد وبيان الشأن الذي تقتضيه البلاغة والفصاحة أحياناً كما في قوله تعالى : ( فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً ) فالفرق بين هذا التأكيد الذي يوجد في التعبير

٨٨

بـ « الف سنة » وبين قولنا « فلبث فيهم تسعمائة وخمسين سنة » واضح.

وثانياً : الحقّ عدم تعارف التخصيص بالمنفصل بين العرف والعقلاء ، بل إنّهم يحملونه على التناقض ، فإذا قال أحد : « بعت جميع كتبي » ، ثمّ قال بعد مدّة : « لم أبع كتابي هذا وذاك » أو قال : « أدّيت جميع ديوني » ثمّ قال بعد مدّة : « بقى عليّ كذا وكذا من الديون » يحكم العرف بأنّه نقض كلامه وكذب فيه.

ويشهد لما ذكرنا بعض الرّوايات التي عومل فيها العام والخاص المنفصل معاملة التناقض والتعارض ، وهو مكاتبة محمّد بن عبدالله بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان عليه‌السلام ـ حيث ورد فيها أنّه قال عليه‌السلام : « في الجواب عن ذلك حديثان أمّا أحدهما فإذا انتقل من حاجة إلى اخرى فعليه التكبير ، وأمّا الآخر فإنّه روى أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى ، وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً » (١).

فإنّ ذيل هذا الخبر وهو جملة « وبأيّهما أخذت ... » يدلّ على أنّ الإمام عليه‌السلام عامل الحديثين معاملة المتعارضين مع أنّهما من قبيل العام والخاصّ.

إن قلت : كيف اكتفى الإمام عليه‌السلام في مقام الجواب بنقل روايتين متعارضتين مع أنّه منبع الأحكام وهو عالم بواقعها؟

قلت : كان عليه‌السلام في مقام إعطاء قاعدة كلّية يمكن تطبيقها في سائر موارد التعارض بين الخبرين عند عدم إمكان الوصول إليه في غيبته.

هذا ـ لكن لا يخفى أنّ للشارع المقنّن المشرّع كسائر العقلاء في مقام التقنين عرفاً خاصّاً لا يعامل العام والخاصّ معاملة التعارض ، لأنّ تدريجيّة بيان الأحكام والقوانين تقتضي أن يبيّنها أوّلاً بشكل العام أو المطلق ثمّ يأتي بعد ذلك بالمخصّص أو المقيّد في ظرفه الخاصّ ، ولا يحكم العرف والعقلاء عند ملاحظة هذه السيرة وهذا المقام بالتناقض والتنافي كما لا يخفى.

إن قلت : فكيف حكم به الإمام عليه‌السلام في مكاتبة الحميري؟

قلنا : لخصوصيّة في المستحبّات ، وهي أنّ العمومات والخصوصات فيها تحمل على بيان

__________________

(١) وسائل الشيعة : ح ٣٩ ، الباب ٩ ، من أبواب صفات القاضي.

٨٩

مراتب الاستحباب وتعدّد المطلوب.

هذا كلّه في البحث عن أنّ العام هل هو مجاز في الباقي أو حقيقة حيث ذكرناه بعنوان المقدّمة لمسألة اخرى ، وهي أنّ العام هل هو حجّة في الباقي أو لا؟

فنرجع إلى البحث فيها ونقول ـ ومن الله نستمدّ التوفيق والهداية ـ : أمّا بناءً على مبنى المحقّق الخراساني رحمه‌الله من رجوع التخصيص في المتّصل إلى تقييد المدخول ومن تعلّقه بخصوص الإرادة الاستعماليّة في المنفصل فالأمر واضح ، لأنّه لا إشكال حينئذٍ في تطابق الإرادتين بالنسبة إلى غير أفراد المخصّص فيكون العام حجّة فيها ، وأمّا بناءً على مبنى المحقّق النائيني رحمه‌الله من تقييد المدخول في المتّصل والمنفصل كليهما فالأمر أوضح كما لا يخفى ، وكذلك بناءً على ما اخترناه من بقاء الإرادة الجدّية على حالها في كلا القسمين وتخصيص خصوص الإرادة الاستعماليّة ، حيث إنّ العام على هذه المباني ليس مجازاً في الباقي ، فلا إشكال حينئذٍ في كونه حجّة فيه.

أمّا إذا قلنا بكونه مجازاً فيه فقال بعض أيضاً بأن العام حجّة في الباقي ، ولإثباته طريقان :

الأوّل : طريق المشهور وهو أنّ الباقي أقرب المجازات ، فيحمل اللفظ عليه إذا علم أنّه لم يستعمل في معناه الحقيقي.

الثاني : طريق شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه‌الله وهو أنّ دلالة العام على كلّ فرد من أفراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من أفراده ، فإذا لم يدلّ على فرد لخروجه عنه بدليل خاصّ لم يستلزم عدم دلالته على بقيّة الأفراد ولو كانت دلالته على الباقي مجازاً ، فإنّ كونه مجازاً ليس من ناحية دخول فرد أجنبي بل بسبب خروج فرد من أفراده ، فالمقتضي لحمل العام على الباقي موجود والمانع مفقود أيضاً ، لأنّ المانع ليس إلاّ المخصّص ، ولا مخصّص إلاّبالنسبة إلى ما علم خروجه بدليل خاصّ ، ولو فرض الشكّ في وجود مانع آخر غير المخصّص المعلوم فهو مرفوع بالأصل ، فإذا كان المقتضي وهو دلالة العام موجوداً والمانع عنه وهو المخصّص الآخر مفقوداً ولو بالأصل ـ وجب الحمل على الباقي.

أقول : حاصل كلامه قدس‌سره بالنسبة إلى وجود المقتضي هو أنّ هنا دلالات متعدّدة ، كما عبّر عنه المحقّق العراقي رحمه‌الله بأنّ الحكايات متعدّدة بتعدّد المحكي وإن كان الحاكي واحداً.

واستشكل عليه بأنّ تعدّد المحكي والمدلول لا يوجب تعدّد الحكاية والدلالة بعد كون

٩٠

الحاكي والدالّ واحداً ، فلفظ العام بعنوان واحد وحكاية واحدة يحكي عن الكثير ، فإذا علم أنّ اللفظ لم يستعمل في معناه بدليل منفصل ( كما هو المفروض ) لم تبق حكاية بالنسبة إلى غيره (١).

وأمّا طريق المشهور فاجيب عنه بأنّ مجرّد الأقربيّة إلى المعنى الحقيقي لا يوجب تعيّناً للمجاز الأقرب.

لكن يمكن الدفاع عنه بأنّ المراد من الأقربيّة الأقربيّة لأجل كثرة استعمال لفظ العام وغلبته في الباقي بحيث يوجب ظهور العام وتعيّنه في خصوص الباقي من بين المجازات والخصوصات.

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ١٣ ، طبع مهر.

٩١
٩٢

الفصل الثالث

التمسّك بالعام في الشبهات المفهوميّة للمخصّص

ربّما يكون المخصّص مجملاً مفهوماً وهو على أربعة أقسام ، فتارةً يكون متّصلاً بالعام ، واخرى يكون منفصلاً عنه ، وكلّ منها تارةً يكون إجماله لأجل الدوران بين الأقل والأكثر بأن علم في مثل « أكرم العلماء إلاّ الفسّاق » أو « لا تكرم فسّاقهم » إنّ مرتكب الكبيرة فاسق قطعاً ، ولم يعلم أنّ المصرّ على الصغيرة أيضاً فاسق أو لا؟ واخرى يكون إجماله لأجل الدوران بين المتباينين بأن لم يعلم في مثل « أكرم العلماء إلاّزيداً » أو « لا تكرم زيداً » إنّ زيداً هل هو زيد بن خالد أو زيد بن بكر؟

والمحقّق الخراساني رحمه‌الله قد فصّل بين هذه الأربعة وتبعه في تهذيب الاصول وقال بعدم جواز التمسّك بالعام في ثلاثة منها ، وهي صورتا المتّصل وصورة المتباينين في المنفصل ، وبجوازه في

خصوص المخصّص المنفصل إذا دار أمره بين الأقل والأكثر.

ولا يخفى أنّ المراد من جواز التمسّك وعدمه أو سراية الإجمال إلى العام وعدمها هو سرايته بالنسبة إلى خصوص الفرد المشكوك وفي دائرة الشكّ لا بالنسبة إلى غيرها كما هو واضح.

واستدلّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله لما ذهب إليه من التفصيل بوجهين : أحدهما : بالنسبة إلى المخصّص المتّصل ، والثاني : بالنسبة إلى المنفصل.

أمّا في المتّصل سواء كان إجماله لأجل الدوران بين الأقل والأكثر أو بين المتباينين فاستدلّ لعدم الجواز بأنّ العام حينئذٍ ممّا لا ظهور له في الفرد المشكوك أصلاً فضلاً عن أن يكون حجّة فيه إذا كان المجمل المتّصل بالعام ممّا يمنع عن انعقاد الظهور للعام إلاّفيما علم خروجه عن المخصّص على كلّ حال.

وأمّا في المنفصل إذا كان إجماله لأجل الدوران بين المتباينين فاستدلّ له بأنّ العام وإن كان

٩٣

ظاهراً في كليهما لانفصال المخصّص عنه وانعقاد الظهور له في الجميع ولكن لا يكون حجّة في شيء منهما لأنّهما من أطراف العلم الإجمالي ، وأصالة التطابق بين الإرادتين بالنسبة إلى أحدهما تعارض أصالة التطابق الجاريّة في الآخر ، كما أنّه لا يكون الخاصّ أيضاً حجّة في شيء منهما ، فاللازم حينئذٍ هو الرجوع إلى الأصل العملي ومقتضاه مختلف باختلاف المقامات.

أمّا إذا كان إجماله لأجل الدوران بين الأقل والأكثر فدليله على جواز الرجوع إلى العام فيه أنّ العام ظاهر في القدر الزائد وحجّة فيه ، أمّا ظهوره فيه فواضح لجهة انفصاله عن الخاصّ ، وأمّا حجّيته فيه فلأنّ الثابت من مزاحمة الخاصّ لحجّية ظهور العام إنّما هو في المتيقّن منه لا في غيره ، فيكون العام حجّة فيما لا يكون الخاصّ حجّة فيه ، وتكون أصالة التطابق جارية فيما لم يثبت خروجه عن الإرادة الجدّية.

وهنا بيان آخر ذكره في التهذيب لعدم جواز التمسّك بالعام في المخصّص المتّصل بكلا قسميه ، وهو « أنّ الحكم في العام الذي استثنى منه أو اتّصف بصفة مجملة ، متعلّق بموضوع وحداني عرفاً ، فكما أنّ الموضوع في قولنا « أكرم العالم العادل » هو الموصوف بما هو كذلك فهكذا قولنا : « أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم » وحينئذٍ كما لا يجوز التمسّك بالعام كقولنا : « لا تكرم الفسّاق » إذا كان مجمل الصدق بالنسبة إلى مورد ، كذلك لا يجوز في العام المتّصف أو المستثنى منه بشيء مجمل بلا فرق بينهما » (١).

فملخّص كلامه : أنّ عنوان العام في المتّصل يتبدّل إلى عنوان آخر ، فعنوان العام في مثل « أكرم العلماء إلاّ الفسّاق » يتبدّل إلى عنوان « العالم غير الفاسق » ولا إشكال في عدم جواز التمسّك بالعام في الشبهة المفهوميّة لنفس العام.

أقول : وفي كلامه مواقع للنظر :

الأوّل : ما عرفت سابقاً من أنّ الاستثناء بإلاّ يرجع إلى تقييد الحكم لا إلى تقييد الموضوع.

الثاني : أنّه قد مرّ أيضاً مختارنا في الاستثناء بكلمة « إلاّ » وقلنا إنّ التصرّف فيها أيضاً تصرّف في الإرادة الجدّية فقط ، فالتخصيص بها وبالمخصّص المنفصل سيّان في الحكم وفي عدم تبدّل عنوان العام إلى عنوان مضيّق.

الثالث : ما أفاده شيخنا الحائري رحمه‌الله في الدرر من « أنّه يمكن أن يقال : إنّه بعد ما صارت

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ١٤ ، طبع مهر.

٩٤

عادة المتكلّم جارية على ذكر التخصيص منفصلاً عن كلامه فحال المنفصل في كلامه حال المتّصل في كلام غيره ، فكما أنّه يحتاج في التمسّك بعموم كلام سائر المتكلّمين إلى إحراز عدم المخصّص المتّصل إمّا بالقطع وإمّا بالأصل ، كذلك يحتاج في التمسّك بعموم كلام المتكلّم المفروض إلى إحراز عدم المخصّص المنفصل ، فإذا احتاج العمل بالعام إلى إحراز عدم التخصيص بالمنفصل فاللازم الإجمال فيما نحن فيه لعدم إحراز عدمه لا بالقطع ولا بالأصل ، أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلما مضى من أنّ جريانه مخصوص بمورد لم يوجد ما يصلح لأن يكون مخصّصاً » (١).

نعم أنّه عدل عنه في هامشه « بأنّ الإنصاف خلاف ما ذكرنا ، ووجهه أنّه لو صحّ ما ذكر لما جاز تمسّك أصحاب الأئمّة بكلام إمام زمانهم لأنّه كالتمسّك بصدر كلام متكلّم قبل مجيء ذيله فحيث جرى ديدنهم على التمسّك ، دلّ ذلك على استقرار ظهور الكلام وعدم كونه مع كلام الإمام اللاحق كصدر الكلام الواحد في المجلس الواحد مع ذيله ».

أقول : الحقّ هو ما ذكره أوّلاً لنفس ما أفاده ، وأمّا الإشكال المذكور في الذيل فيمكن دفعه بأنّ المراد من عدم جواز التمسّك بالعام عدمه بالنسبة إلى أهل الزمان المتأخّر عن صدور الخاصّ ، أي يوجب صدور الخاصّ سقوط العام عن الحجّية بالإضافة إلى ذلك الزمان ، وأمّا بالنسبة إلى أهل الزمان السابق على الخاصّ فيمكن أن يستكشف من ديدن الأصحاب على التمسّك إذن الشارع وحكمه بجواز التمسّك موقتاً إلى أن يرد الخاصّ.

وبعبارة اخرى : استقرار سيرة أصحاب الأئمّة وديدنهم على التمسّك بالعام قبل صدور الخاصّ لا يدلّ على عدم سراية إجمال الخاصّ إلى العام وجواز التمسّك به مطلقاً ، بل يمكن أن يكون لجهة إذن الشارع بالعمل به موقتاً لمصلحة تدريجيّة بيان الأحكام.

وإن أبيت عن هذا وقلت بعدم سراية الإجمال في المخصّص المنفصل الدائر أمره بين الأقلّ والأكثر فلا أقلّ من قبول سراية الإجمال في المخصّص المتّصل بكلمة « إلاّ » ، لما مرّ من عدم تبدّل عنوان العام فيه وانعقاد ظهوره في العموم وأنّ التخصيص يرجع إلى خصوص الإرادة الجدّية فقط.

__________________

(١) درر الفوائد : ج ١ ، ص ٢١٥ ، طبع جماعة المدرّسين.

٩٥
٩٦

الفصل الرابع

التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصّص

وله ثمرات فقهيّة مهمّة تظهر في الأبواب المختلفة من الفقه نشير إلى بعضها :

منها : ما يظهر في أبواب الضمانات إذا دار الأمر بين كون اليد عادية وكونها غير عادية ، فهل يمكن التمسّك لإثبات الضمان بعموم « على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » الذي خرج منه اليد الأماني أو لا؟

ومنها : ما هو معنون في أبواب النكاح من أنّه إذا شكّ في أنّ الشبه المرئي من بعيد رجل أو امرأة أو من المحارم أو غيرهم فهل يجوز الرجوع إلى عموم قوله تعالى ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ) (١) الذي استثنى منه الجنس الموافق والمحارم أو لا؟

ومنها : ما ذكروه في أبواب الطهارة من أنّه إذا دار الأمر بين كون الماء كرّاً فلا يتنجّس بملاقاته للنجس وكونه قليلاً فيتنجّس ، فهل يمكن التمسّك بعموم « الماء إذا لاقى النجس يتنجّس » الذي يصطاد من مجموع الأدلّة الواردة في ذلك الباب وخرج منه الماء الكرّ أو لا؟

ثمّ إنّه يأتي هنا أيضاً الصور الأربعة المذكورة في الشبهة المفهوميّة وأمثلتها واضحة ، وقد نسب إلى المشهور جواز التمسّك بالعام في هذا الفرض ، ولعلّ مقصودهم خصوص صورة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر فيما إذا كان المخصّص منفصلاً ، وذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله إلى عدم الجواز مطلقاً.

والظاهر أنّه لا كلام فيما إذا كان المخصّص متّصلاً سواء كان أمره دائراً بين الأقلّ والأكثر أو المتباينين ، وكذلك إذا كان منفصلاً وأمره دائراً بين المتباينين فإنّه لا فرق بين ما نحن فيه

__________________

(١) سورة النور : الآية ٣٠.

٩٧

والشبهة المفهوميّة للمخصّص في عدم جواز التمسّك بالعام.

إنّما الكلام في الصورة الرابعة وهي ما إذا كان الخاصّ منفصلاً وكان أمره دائراً بين الأقلّ والأكثر ، فاستدلّ لعدم جواز التمسّك حينئذٍ بوجوه ثلاثة :

الوجه الأوّل : ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله وحاصله : أنّ الخاصّ المنفصل إنّما يزاحم حجّية العام في خصوص الأفراد المعلومة دخولها في الخاصّ كمن علم فسقه ، ولا يزاحمه في الأفراد المشكوكة الفسق فيكون العام حجّة فيما لا يكون الخاصّ حجّة فيه ، ثمّ أجاب عنه : بأنّ الخاصّ كما لا يكون حجّة في المصاديق المشكوكة فكذلك العام لا يكون حجّة فيها فلا بدّ فيها من الرجوع إلى الأصل العملي وذلك لأنّ الخاصّ المنفصل وإن لم يصادم أصل ظهور العام بل ظهوره باقٍ على حاله حتّى في الأفراد المعلومة الفسق فضلاً عن المشكوكة ، لكنّه يتعنون بعنوان عدمي فيتبدّل عنوان العالم مثلاً إلى عنوان العالم غير الفاسق ، وهذا يوجب لا محالة قصر حجّيته بما سوى الفاسق ، عليه فالفرد المشتبه كما لا يعلم إندراجه تحت الخاصّ ولا يمكن التمسّك به لإجراء حكمه عليه وهو حرمة الإكرام فكذلك لا يعلم إندراجه تحت العام كي يمكن التمسّك به لإجراء حكم العام عليه وهو وجوب الإكرام.

إن قلت : هذا ينافي مختاركم سابقاً من أن تعنون العام يجري في خصوص المخصوص المتّصل ، وأمّا المنفصل فيوجب التصرّف في الإرادة الجدّية فحسب.

قلنا : إنّه كذلك ، لكنّ المقصود من عدم تعنون العام في المنفصل عدم تعنونه بما هو هو لا بما هو حجّة ، فالمصداق المشتبه وإن كان مصداقاً للعام بما هو هو إلاّ أنّه لم يعلم أنّه من مصاديقه بما هو حجّة لاختصاص حجّيته بغير الفاسق أو لا؟

الوجه الثاني : أنّ العام بعمومه الأفرادي يدلّ على وجوب إكرام كلّ واحد من العلماء في مثال « أكرم العلماء » ويدلّ بعمومه الأحوالي على سراية الحكم إلى كلّ حالة من حالات الموضوع ، ومن جملة حالاته كونه مشكوك الفسق والعدالة ، وقد علم من قوله : « لا تكرم الفسّاق من العلماء » خروج معلوم الفسق منهم ، فمقتضى أصالة العموم بقاء المشكوك على حاله.

والجواب عنه واضح ، لأنّ العام يشمل أفراده الواقعيّة كما أنّ الخاصّ أيضاً يشمل أفراده الواقعيّة ، كما أنّه كذلك في جميع الألفاظ فإنّها ناظرة إلى عناوينها الواقعيّة ، فالموضوع للعام في

٩٨

المثال إنّما هو العالم الواقعي خرج منه الفاسق الواقعي ، وحينئذٍ لا يصحّ أن يحكم بوجوب إكرام المصداق المشتبه مع احتمال كونه فاسقاً في الواقع.

ولو قيل : إنّ العام لوحظ فيه الواقع والظاهر معاً ، أي أنّه شامل للعناوين الواقعيّة والظاهرية ( كعنوان معلوم الفسق ومشكوك الفسق ) كليهما.

قلنا : إنّه يستلزم الجمع بين اللحاظين ، وهما لحاظ ظرف الواقع للحكم الواقعي ولحاظ ظرف الشكّ للحكم الظاهري ، وهو ممنوع ، لا لأنّه محال لما مرّ منّا في البحث عن جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى من أنّ الجميع بين اللحاظين ممكن بل واقع وذكرنا له شواهد ، بل لأنّه إنّما يجري فيما إذا قامت القرينة عليه ، وإلاّ فالظاهر استعمال اللفظ في معنى واحد وكون اللحاظ واحداً ، والألفاظ وضعت للعناوين الواقعيّة مع قطع النظر عن حالة العلم والجهل والشكّ.

الوجه الثالث : التمسّك بقاعدة المقتضي والمانع ، وبيانه : أنّ العام مقتضٍ للحكم والخاصّ مانع عنه ، ففي موارد الاشتباه يؤول الأمر إلى الشكّ في وجود المانع بعد إحراز المقتضي والأصل عدمه فلا بدّ من الحكم بوجود المقتضي ( بالفتح ).

وقد يستشمّ التمسّك بهذا من كلمات المحقّق اليزدي رحمه‌الله في العروة الوثقى في كتاب النكاح فيما إذا دار الأمر بين كون الشبه المرئي من البعيد رجلاً أو امرأة ومن المحارم أو غيرهم فراجع.

ويمكن الجواب عنه :

أوّلاً : بأنّه لا دليل على كبرى القاعدة عقلاً ونقلاً كما سوف يأتي في مبحث الاستصحاب إن شاء الله.

وثانياً : بمنع الصغرى ، لأنّا لا نسلّم كون العام والخاصّ من قبيل المقتضي والمانع ، بل ربّما يكونان من قبيل الاقتضاء واللاّقتضاء أو من قبيل المقتضيين لحكمين متخالفين.

أقول : وقد تلخّص من جميع ما ذكرنا إلى هنا أنّه لم نجد دليلاً تامّ الدلالة على جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة للمخصّص ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر نشاهد موارد عديدة في الفقه ظاهرها التمسّك بالعام في هذه الموارد التي أشرنا إلى بعضها في أوّل هذا الفصل ، نعم هيهنا وجه رابع ووجه خامس على جواز التمسّك.

أمّا الوجه الرابع فحاصله أنّ الحجّة من قبل المولى لا تتمّ إلاّبعد ثبوت الكبرى والصغرى معاً ، والموجود فيما نحن فيه كبريان معلومتان : إحديهما قوله « أكرم كلّ عالم » والثانية قوله : « لا

٩٩

تكرم الفسّاق من العلماء » والظهور وإن إنعقد لكلّ من العامين ، ولكن فرديّة زيد مثلاً للأوّل معلومة وللثاني مشكوك فيها ، فينضمّ هذه الصغرى المعلومة إلى الكبرى الاولى فينتج وجوب إكرام زيد ، وليس في البين حجّة تزاحمها ، إذ الفرض أنّ فرديّة زيد لموضوع الكبرى الثانية مشكوك فيها ، ومجرّد الكبرى لا تكون حجّة ما لم ينضمّ إليها صغرى معلومة.

فالعام حجّة في الفرد المشكوك فيه لا يزاحمه حجّة اخرى.

وأجاب عنه بحقّ في المحاضرات بما حاصله : « أنّ الحجّة قد فسّرت بتفسيرين : أحدهما : أن يراد بها ما يحتجّ به المولى على عبده وبالعكس ، وهو معناها اللغوي والعرفي. وثانيهما : أن يراد بها الكاشفية والطريقية ، يعني أنّ المولى جعله كاشفاً وطريقاً إلى مراده الواقعي الجدّي ، فيحتجّ على عبده بجعله كاشفاً ومبرزاً عنه ، هذا من ناحية ومن ناحية اخرى أنّ الحجّة بالتفسير الأوّل تتوقّف على إحراز الصغرى والكبرى معاً ، وإلاّ فلا أثر لها أصلاً ، وأمّا الحجّة بالتفسير الثاني فلا تتوقّف على إحراز الصغرى ، ضرورة أنّها كاشفة عن مراد المولى واقعاً وطريق إليه سواء أكان لها موضوع في الخاج أم لم يكن.

وإن شئت قلت : إنّ الحجّة بهذا التفسير تتوقّف على إحراز الكبرى فحسب ، لأنّ التمسّك بالعام إنّما هو من ناحية أنّه حجّة وكاشف عن المراد الجدّي لا من ناحية أنّه مستعمل في العموم إذ لا أثر له ما لم يكن المعنى المستعمل فيه مراداً جدّاً وواقعاً ، والمفروض أنّ المراد الجدّي هنا غير المراد الاستعمالي حيث إن المراد الجدّي مقيّد بعدم الفسق في المثال دون المراد الاستعمالي ، وعليه فإذا شكّ في عالم أنّه فاسق أو لا فبطبيعة الحال شكّ في انطباق موضوع العام عليه وعدم انطباقه كما هو الحال بالإضافة إلى الخاصّ ، يعني أنّ نسبة هذا الفرد المشكوك بالإضافة إلى كلّ من العام بما هو حجّة والخاصّ نسبة واحدة فكما لا يمكن التمسّك بالخاصّ بالإضافة إلى هذا الفرد فكذلك لا يمكن التمسّك بالعام بالإضافة إليه (١).

أمّا الوجه الخامس فهو يختصّ بما إذا كان لسان العام لسان المنع وكشفنا من العام أنّ طبيعة الحكم على المنع حيث إنّه حينئذٍ استقرّ بناء العقلاء على الحكم بالمنع في المصاديق المشكوكة كما يستفاد من العمومات الواردة في باب الوقف أنّ طبيعة الوقف على المنع عن بيع الموقوفة

__________________

(١) راجع المحاضرات : ج ٥ ، ص ١٩٢ ـ ١٩٥.

١٠٠