أنوار الأصول - ج ٢

أنوار الأصول - ج ٢

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-14-8
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٥٠٤

التامّة في كلمات العرب ، إذن لابدّ من دفع الإشكال بطرق اخر فنقول : هيهنا وجوه ثلاثة يمكن دفع الإشكال بها :

الأوّل : إنّ كلمة التوحيد ليست ناظرة إلى توحيد الذات وإثبات أصل وجود واجب الوجود ، بل إنّها سيقت للتوحيد الأفعالي ولنفي ما يعتقده عبدة الأوثان ، ويشهد لذلك أنّ المنكرين الموجودين في صدر الإسلام لم يكونوا مشركين في ذات الواجب تعالى بل كانوا معتقدين بوحدة ذاته وخاطئين في توحيد عبادته فكانوا يعبدون الأصنام ليقربوهم إلى الله زلفى ( بزعمهم ) ، فكلمة الإخلاص حينئذٍ وردت لردّهم ولنفي استحقاق العبوديّة عن غيره تعالى فيكون معناها : « لا مستحقّ للعبوديّة إلاّ الله ».

الثاني : إنّه لا إشكال في إمكان تقدير كلمة « موجود » و « ممكن » معاً ، فكما يجوز إتيان الخبر في الظاهر متعدّداً ، كذلك يجوز تقديره متعدّداً فيما إذا قامت القرينة عليه ، والمقام كذلك.

الثالث : إنّ المعتبر في الشهادة على التوحيد عند الفقهاء هو نفي وجود الغير فقط وأمّا الإمكان فهو من المفاهيم التي لا يمكن تصوّرها لعامّة الناس ، مع أنّ كلّ فقيه يفتي بإسلام كلّ من أقرّ بالتوحيد بهذه الكلمة ، فلا يجب في دلالتها على التوحيد دلالتها على امتناع غيره تعالى ، بل يكفي فيها دلالتها على عدم وجود إله غيره سبحانه ، فيمكن أن يكون المقدّر حينئذٍ خصوص كلمة « موجود » لا كلمة « ممكن » فتأمّل.

هذا تمام الكلام في مفهوم كلمة « إلاّ ».

من أداة الحصر كلمة « إنّما »

وهي تدلّ على المفهوم عند كثير من الاصوليين ، واستدلّ له بوجهين :

الأوّل : إجماع النحات وتنصيص أهل اللغة به.

الثاني : التبادر.

واستشكل في التبادر بأنّه لا سبيل لنا إليه لأنّا لا نعرف المرادف لها في عرفنا حتّى نستكشف منه ما هو المتبادر منها بخلاف ما هو بأيدينا من الألفاظ المترادفة لبعض الكلمات العربيّة كما في أداة الشرط مثلاً نظير كلمة « إنّ » حيث يوجد لها في اللغة الفارسيّة ما يرادفها وهو لفظة « اگر ».

٦١

ولكن يرد عليه :

أوّلاً : أنّ ملاك التبادر ليس هو انسباق المعنى إلى أذهاننا فحسب ، بل انسباق المعنى إلى أذهان أهل اللسان أيضاً حيث يعتبر سبيلاً إلى العلم بالوضع ، وهو موجود في المقام.

وثانياً : أنّ العرب مثلاً ليسوا منحصرين بمن تولّد على ذلك اللسان وعاش عليه ، بل يعمّ أيضاً كلّ عجمي يمارس اللغة العربيّة ، وقد ألّف كثير من الأعاجم الكتب النافعة في العلوم العربيّة من اللغة وغيرها.

ثمّ إنّ الفخر الرازي أنكر دلالة كلمة « إنّما » على الحصر ، وقد صرّح بذلك في ذيل قوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (١) وقال : « قالت الشيعة : هذه الآية دالّة على أنّ الإمام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو علي بن أبي طالب ، وتقريره أن نقول : هذه الآية دالّة على أنّ المراد بهذه الآية إمام ( لأنّ الولي في هذه الآية لا يجوز أن يكون بمعنى الناصر فوجب أن يكون بمعنى المتصرّف لأنّ الولاية المذكورة في هذه الآية غير عامّة لكلّ المؤمنين بدليل إنّه تعالى ذكر بكلمة « إنّما » ، وكلمة « إنّما » للحصر ، والولاية بمعنى النصرة عامّة ) ، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يكون ذلك الإمام هو علي بن أبي طالب ( لأنّ كلّ من أثبت بهذه الآية إمامة شخص قال : إنّ ذلك الشخص هو علي ، مضافاً إلى أنّ الرّوايات تظاهرت على أنّ هذه الآية نزلت في حقّ علي ) ... ـ إلى أن قال ـ « لا نسلّم أنّ الولاية المذكورة في الآية غير عامّة ولا نسلّم أنّ كلمة إنّما للحصر ، والدليل عليه قوله ( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ ) ولا شكّ أنّ اللعب واللهو قد يحصل في غيرها » (٢).

والجواب عنه :

أوّلاً : أنّ مجرّد الاستعمال ليس دليلاً على الحقيقة ولا على المجاز كما مرّ كراراً.

ثانياً : أنّ الحصر في الآية إضافي ، والمقصود منه زوال الدنيا وعدم ثباتها ، أي أنّ الحياة الدنيا بالإضافة إلى أمر الثبات وعدم الثبات منحصرة في عدم الثبات ، فمثلها في هذه الجهة مثل : ( كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٥٥.

(٢) التفسير الكبير : ج ١٢ ، ص ٢٦ ـ ٣٠ ، طبع دار الكتب العلمية طهران ـ الطبعة الثانية.

٦٢

فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ) (١).

هذا ـ مضافاً إلى أنّ كلامه ينتقض بما ورد في الحياة الدنيا في آيات الكتاب بكلمة « إلاّ » نظير قوله تعالى ( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ ) (٢) وقوله سبحانه : ( وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ ) (٣) حيث لا شبهة في إفادة كلمة « إلاّ » الحصر ولا ينكرها أحد فيما نعلم إلاّ أبو حنيفة.

بقي هنا شيء

وهو أنّ دلالة كلمة « إنّما » على الحصر أيضاً ليست بالمفهوم بل هي بالمنطوق حيث إنّها بمنزلة كلمة « فقط » أو كلمة « منحصراً » فكما إنّه لا إشكال في أنّ دلالتهما على الحصر يكون من باب المنطوق كذلك ما تقوم مقامهما.

ومن أداة الحصر كلمة « بل »

وقد ذكر لها ثلاثة معان :

أحدها : الإضراب عن الخطأ ، أي الدلالة على أنّ المضروب عنه وقع عن غفلة أو غلطاً ، نحو « جاءني زيد بل عمرو » ، ولا دلالة لها حينئذٍ على الحصر ، وهو واضح.

ثانيها : الإضراب عن الفرد الضعيف إلى الفرد القوي أو للدلالة على تأكيد المضروب عنه وتقريره ، كقولك : « أنت لا تقدر على ذلك بل ولا أبوك » وقولك : « زيد لا يقدر على الجواب عن هذا بل ولا أعلم منه » وهذا أيضاً كالسابق.

ثالثها : الدلالة على الردع وإبطال ما ثبت أوّلاً كما في قوله تعالى : ( أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ ) (٤) وقوله سبحانه : ( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ) (٥) ،

__________________

(١) سورة يونس : الآية ٢٤.

(٢) سورة الأنعام : الآية ٣٢.

(٣) سورة العنكبوت : الآية ٦٤.

(٤) سورة المؤمنون : الآية ٧٠.

(٥) سورة الأنبياء : الآية ٢٦.

٦٣

فقال بعض بدلالة هذا القسم على الحصر بل المحقّق الخراساني رحمه‌الله ادّعى وضوح دلالته عليه.

لكن الإنصاف أنّها لا تدلّ عليه أيضاً بنفسها بل دلالتها عليه إنّما تكون بمساعدة قرينة المقام.

هذا ـ مضافاً إلى أنّ الحصر المستفاد منها في هذه الموارد إضافي غالباً.

ومنها تعريف المسند إليه باللام

نظير قولك : « الضارب زيد » أو « الضارب عمرو » ، والحصر فيه إمّا يستفاد من مجرّد حمل الخبر على المبتدأ أو من اللام ، أمّا اللام فلا إشكال في أنّها لم توضع للحصر بل تدلّ عليه فيما إذا كانت للاستغراق ، وبما أنّها تارةً تكون للجنس ، واخرى للعهد ، وثالثة للاستغراق فلا تدلّ على الحصر إلاّ إذا قامت قرينة على أنّها للاستغراق ، فيستفاد منه حينئذٍ حصر جميع الافراد في المحمول.

وأمّا الحمل فيدلّ على الحصر فيما إذا كان ذاتياً ( وملاك الحمل الذاتي هو الوحدة في المفهوم ) فيدلّ حينئذٍ على أنّ الموضوع منحصر في المحمول ولا يكون أخصّ وأضيق منه ، وأمّا إذا كان الحمل شائعاً صناعياً فلا يدلّ عليه ، لأنّ ملاك الحمل الشائع هو مجرّد الاتّحاد الخارجي ولو كان الموضوع أخصّ وأضيق من المحمول ، ولا إشكال في أنّ مجرّد حمل شيء على جنس أو ماهيّة بالحمل الشائع لا يقتضي حصر ذلك الجنس به ، وذلك لجواز إرادة قسم خاصّ أو فرد خاصّ منه ، وحيث إنّ الحمل تارةً يكون ذاتياً واخرى صناعياً ( بل الغالب كذلك ) فلا يدلّ على الحصر إلاّ إذا قامت قرينة على أنّه ذاتي.

فظهر ممّا ذكر أنّ مجرّد تعريف المسند إليه باللام لا يدلّ على الحصر ، بل إنّما يدلّ عليه فيما إذا قامت القرينة إمّا على كون اللام للاستغراق أو على كون الحمل ذاتياً ونتيجته عدم ثبوت المفهوم في هذا القسم من الأداة.

٦٤

٥ ـ الكلام في مفهوم اللقب

والمقصود منه في المقام ليس هو اللقب المصطلح عند النحّاة بل كلّ اسم ( سواء كان مشتقّاً أو جامداً ، وسواء كان نكرة أو معرفة ) وقع موضوعاً للحكم من دون أن يكون توصيفاً لشيء ، ولا مفهوم له عند الكلّ لأنّه إنّما يثبت شيئاً لشيء ، وإثبات الشيء لا يكون نفياً لما عداه.

نعم ، ربّما يتوهّم ثبوت المفهوم له ببيان إنّه إذا قال المولى مثلاً : « أكرم زيداً » يستفاد منه عرفاً عدم كفاية إكرام عمرو.

ولكنّه مندفع بأنّ عدم كفاية عمرو في المثال ليس من باب المفهوم بل إنّما هو من باب عدم الإتيان بالمأمور به ، لأنّ التكليف تعلّق بإكرام زيد لا عمرو ، كما أنّه كذلك في أبواب الأوقاف والوصايا والنذور ، فإنّ عدم شمول الحكم فيها لغير المتعلّق ليس من باب المفهوم كما مرّ سابقاً بل لأنّ الوصيّة مثلاً تحتاج إلى الإنشاء ، والإنشاء تعلّق بمورد خاصّ لا غير.

هذا ـ مضافاً إلى ما مرّ في بعض الأبحاث السابقة بالنسبة إلى هذه الامور ، وهو أنّ الواقف أو الموصي أو الناذر إنّما يكون في مقام التحديد والإحتراز ، ومقتضى قاعدة إحترازيّة القيود عدم شمول الحكم للغير.

كما قد مرّ أيضاً أنّ المسألة ليست مبنية على أنّ ما ينتفي هل هو شخص الحكم أو سنخه حتّى يقال : إنّ ما ينتفي في مثل هذه الموارد إنّما هو شخص الحكم ، وانتفاء الشخص ليس من باب المفهوم ـ لأنّ هذا من قبيل الخلط بين الإنشاء والمنشأ كما مرّ.

٦٥
٦٦

٦ ـ الكلام في مفهوم العدد

المشهور على أنّه لا مفهوم للعدد ، والصحيح هو التفصيل بين أنواع العدد فإنّه على ثلاثة أنواع :

أحدها : ما يكون للتكثير كما في قوله تعالى : ( إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ) (١) وقوله سبحانه : ( وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ) (٢) وفي هذا القسم لا مفهوم له بلا إشكال.

ثانيها : ما يكون للتعداد دون تحديد ، ولا إشكال أيضاً في عدم دلالته على المفهوم ، نعم استعمال العدد في هذا النوع قليل ، نظير ما إذا قيل مثلاً بدل قوله تعالى : ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ) : « وليشهد عذابهما عشر نفرات » فإنّه لا مفهوم له من جانب الأكثر وهو عدم جواز شهادة الأكثر من عشر نفرات ، وإن كان له المفهوم من جانب الأقلّ ( إلاّ أن يكون ذكره من باب المثال ).

ثالثها : ما يكون في مقام التحديد ، وهذا بنفسه على ثلاثة أقسام :

فتارةً يكون للتحديد بالإضافة إلى جانب الأقلّ ، فيدلّ حينئذٍ مفهوماً على عدم جواز الاقتصار على الأقلّ ، وإن جاز التعدّي إلى الأكثر ، نحو قوله عليه‌السلام : « الكرّ ثلاثة أشبار ونصف في ثلاثة أشبار ونصف في ثلاثة أشبار ونصف ».

واخرى يكون للتحديد بالإضافة إلى جانب الأكثر ، فيدلّ حينئذٍ مفهوماً على عدم جواز التعدّي عن ذلك العدد ، وإن جاز الاقتصار على الأقلّ ، نظير ما يدلّ على جواز الفصل بين المصلّيْين بمقدار خطوة.

__________________

(١) سورة التوبة : الآية ٨٠.

(٢) سورة لقمان : الآية ٢٧.

٦٧

وثالثة يكون للتحديد بالإضافة إلى جانب الأقلّ والأكثر معاً ، وهو نظير الأعداد الواردة في باب ركعات الصّلاة وأشواط الطواف ، فيدلّ حينئذٍ بالمفهوم على عدم جواز الإقتصار على الأقلّ وعدم جواز التعدّي إلى الأكثر.

ثمّ إنّ دلالة العدد على المفهوم وكونه في مقام التحديد في هذه الأقسام وإن كانت بقرينة الحال أو المقام أو بمناسبات الحكم والموضوع ولكن أنّ جلّ الأعداد الواردة في لسان الشرع ( لولا الكلّ ) تكون في مقام التحديد ـ لابدّ من ذكرها هنا والبحث عنها ، لأنّ القرائن المزبورة حينئذٍ تكون من قبيل القرائن العامّة ، فينبغي للُاصولي أن يتكلّم فيها كما يتكلّم في سائر مباحث الألفاظ ، وإليك نبذة من الأمثلة التي نحتاج فيها إلى هذا المبحث في المسائل الفقهيّة :

١ ـ تعداد أشبار الكبرّ.

٢ ـ تعداد الغسلات للتطهير عن النجاسات : مرّتان في البول وثلاث مرّات في الكلب وسبع مرّات في الخنزير.

٣ ـ عدد منزوحات البئر سواء كان النزح واجباً أو مستحبّاً.

٤ ـ عدد أيّام العادة الأقلّ منها أو الأكثر.

٥ ـ عدد أغسال الميّت.

٦ ـ عدد قطعات الكفن.

٧ ـ عدد الركعات والسجدات والركوعات والقنوت والتسبيحات في الصّلاة.

٨ ـ عدد فصول الأذان والإقامة.

٩ ـ عدد النصاب في الزّكاة والخمس.

١٠ ـ عدد مقدار الزّكاة والخمس ، أي نفس العشر أو نصف العشر الخمس.

١١ ـ عدد من تقوم بهم الجمعة والجماعة.

١٢ ـ عدد أيّام الإقامة في السفر ( عشرة أيّام مع القصد وثلاثون يوماً متردّداً ).

١٣ ـ عدد أيّام الصّيام.

١٤ ـ عدد الكفّارات.

١٥ ـ عدد الجلد في أبواب الحدود والتعزيرات.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ للعدد مفهوماً إذا كان في مقام التحديد كما أنّه كذلك في أغلب الموارد في

٦٨

القوانين الشرعيّة ، بل في القوانين العرفيّة أيضاً.

إلى هنا تمّ الكلام عن مبحث المفاهيم ، والحمد لله ربّ العالمين.

٦٩
٧٠

المقصد الرابع

العام والخاصّ

٧١
٧٢

٤ ـ العام والخاصّ

وقبل الورود في أصل البحث لابدّ من الإشارة إلى عدّة امور :

الأمر الأوّل : في تعريف العام والخاصّ

فقد ذكر للعام تعاريف عديدة فقال في المحاضرات : إنّ العام معناه الشمول لغةً وعرفاً ، وأمّا اصطلاحاً

فالظاهر إنه مستعمل في معناه اللغوي والعرفي ، ومن هنا فسّروه بما دلّ على شمول الحكم لجميع أفراد مدخوله ، وسيأتي عدم تماميّة هذا التعريف لأنّ المطلق أيضاً يشتمل جميع أفراده إلاّ أنّه بسبب جريان مقدّمات الحكمة فلا بدّ من تقييد الشمول في المقام بقيد يوجب إخراج المطلق ، ولذلك نقول : « العام ما كان شاملاً بمفهوم اللفظ لكلّ فرد يصلح أن ينطبق عليه » (١).

أقول : ويمكن أن يعرّف العام أيضاً بأنّه ما يكون مستوعباً لجميع الأفراد التي يصدق عليها بمفهوم اللفظ.

لكن المحقّق الخراساني رحمه‌الله ذكر هنا أيضاً ما مرّ منه كراراً من أنّ التعاريف المذكورة تعاريف لفظيّة من قبيل شرح الاسم ثمّ بسط الكلام بما حاصله : إنّ كلمة « ما » التي تقع في جواب السؤال عن الأشياء على قسمين : ما الشارحة وما الحقيقيّة ، والمستعمل في هذه التعاريف هي الاولى ، فتكون التعاريف الواقعة في جواب السؤال عن العام شارحة لفظية لا حقيقية ماهويّة ، ثمّ استدلّ له بوجهين :

الوجه الأوّل : اعتبار كون المعرّف في التعريف الحقيقي أجلى من المعرّف ، ومن أنّ المعرّف

__________________

(١) المحاضرات : ج ٤ ، ص ١٥١.

٧٣

وهو المعنى المركوز في الأذهان من العام أوضح وأجلى ممّا عرف به ولذلك يجعل المقياس في النقض على التعريف عكساً أو طرداً صدق ذلك المعنى المركوز وعدم صدقه ، فإن صدق المركوز على مورد ولم يشمله التعريف فيشكل عليه بعدم العكس ، وإن لم يصدق هو على مورد وقد شمله التعريف فيشكل عليه بعدم الطرد.

الوجه الثاني عدم كون العام بمفهومه العام الشامل لجميع أفراده ومصاديقه محلاً لحكم من الأحكام كي يجب تعيين مفهومه وتحديد معناه فيترتّب عليه حكمه الخاصّ ، بل الأحكام إنّما هو لمصاديق العام وأفراده ، والمصاديق كلّها معلومة واضحة.

أقول : أوّلاً : قد مرّ كراراً أنّ مقصود القوم في تعاريفهم للألفاظ هو بيان حقيقة الشيء أو ما يكون كالماهيّة في الامور الاعتباريّة فيكون التعريف حقيقيّاً ، كما يدلّ عليه تصريحهم بأنّهم بصدد تعريف الحقيقة والماهيّة ، وأنّ القيد الفلاني هو لإخراج كذا أو لادخال كذا تحفّظاً على عكس التعريف وطرده ، وهكذا جميع التعاريف التي تذكر في العلوم لموضوعاتها وموضوعات مسائلها.

ثانياً : المقصود من هذه التعاريف هو المبتدىء في هذه العلوم حتّى يعرف موضوعات المسائل التي يبحث عنها في العلم لا العلماء البارعون في هذه الفنون حتّى يقال : إنّهم أعرف بمفاهيم هذه الألفاظ ، هذا بالنسة إلى الوجه الأوّل ممّا ذكره في كلامه.

أمّا الوجه الثاني : ففيه : إن كان المراد منه عدم أخذ عنوان العام في لسان الآيات والرّوايات فهو كذلك ، إلاّ أنّه لا يستلزم عدم الحاجة إلى تعريف العام تعريفاً حقيقياً ، لأنّ الداعي إلى تعريف الألفاظ الموجودة في علم الاصول ليس لأنّها مأخوذة في لسان الأدلّة ، بل الداعي إنّما هو ترتّب سلسلة من الأحكام العقلائيّة أو العقليّة عليها في نفس هذا العلم ( علم الاصول ) كالأحكام التي تترتّب مثلاً على تعريف عنوان الاجزاء أو عنوان المشتقّ أو الحقيقة الشرعيّة والحقيقة اللغويّة ، وكذلك سائر العناوين المطروحة في هذا العلم ، وإن كان المراد إنكار انطباق أحكام على خصوص عنوان العام في نفس علم الاصول فهو ممنوع لأنّ بعض الأحكام يترتّب على نفس هذا العنوان كالبحث عن أنّه هل للعام صيغة تخصّه؟ أو أنّ العام حجّة قبل الفحص أم لا؟ وغيرهما من المباحث المنطبقة على عنوان العام.

٧٤

الأمر الثاني : في أقسام العام

قد ذكروا للعام أقساماً ثلاثة : العام الافرادي ( الاستغراقي ) والعام المجموعي ، والعام البدلي ، أمّا الافرادي فهو ما يلاحظ فيه كلّ فرد موضوعاً مستقلاً للحكم كقوله : « أكرم كلّ عالم » فقد لوحظ فيه كلّ فرد من العالم موضوعاً مستقلاً لوجوب الإكرام ، بحيث لا يرتبط فرد من أفراده في تعلّق الحكم به بفرد آخر ، فإذا أكرم بعض العلماء دون بعض فقد أطاع وعصى ، لأنّ لكلّ فرد حكماً مستقلاً.

وأمّا المجموعي فهو ما يلاحظ فيه مجموع الأفراد موضوعاً واحداً لحكم واحد بحيث يكون كلّ واحد من الافراد جزءاً من الموضوع ، ويحصل الامتثال بالإتيان بجميع الأفراد ، فلو أتى بها إلاّواحداً مثلاً لم يتحقّق الامتثال ، وبعبارة اخرى : يكون المجموع من حيث هو المجموع مشمولاً للحكم ، فيكون له إطاعة واحدة وعصيان واحد ، والإطاعة تحصل بالإتيان بالجميع والعصيان يحصل بترك أي فرد من الافراد.

أمّا العام البدلي فهو ما يلاحظ فيه واحد من الأفراد على البدل موضوعاً للحكم كما لو قال : « أكرم عالماً » فإنّه يحصل الامتثال فيه بإكرام واحد من العلماء وبعبارة اخرى : يكون له إطاعة واحدة وعصيان واحد لكن الإطاعة تحصل بإتيان أي فرد من الأفراد.

ولا يخفى عليك الثمرة التي تترتّب على الفرق الموجود بين هذه الأقسام خصوصاً في حنث النذر إذا تعلّق على عنوان عام ، فإنّه لو نذر أحد مثلاً على أن يترك التدخين فإن كان الملحوظ فيه كلّ فرد من أفراد التدخين مستقلاً ( أي على نحو العام الافرادي ) يتحقّق الحنث بتعداد كلّ من الأفراد التي تحقّق في الخارج ، ولا يوجب حنثه بالنسبة إلى فرد حنث سائر الأفراد ، وإن كان الملحوظ المجموع من حيث المجموع ( أي على نحو العام المجموعي ) فله حنث واحد يحصل بالتدخين ضمن أي فرد من الافراد ويسقط سائر الافراد عن الوجوب ، وإن كان الملحوظ ترك التدخين على نحو العام البدلي يحصل الوفاء بترك فرد من الأفراد ويتحقّق الحنث إذا أتى بجميع الأفراد.

بقي هنا امور

الأمر الأوّل : في أنّ تفاوت هذه الأقسام الثلاثة هل هو باعتبار الحكم أو باعتبار ذات

٧٥

العام؟ ذهب المحقّق النائيني رحمه‌الله إلى أنّ التفاوت يكون باعتبار الحكم لا بحسب الذات ، والنتيجة عدم إمكان تصوّر هذه الأقسام قبل تصوّر الحكم ، وذهب بعض إلى أنّ التفاوت بحسب الذات وإنّ لنا ثلاث تصوّرات مختلفة قبل ورود الحكم.

أقول : الصحيح هو الأوّل ، لأنّ العام في جميع هذه الأقسام بمعنى واحد وهو الشمول ، وهذا المعنى موجود في الثلاثة على وزن واحد ، والتفاوت يحصل بتصوّر الحكم المتعلّق به ولو إجمالاً ، حتّى أنّ من يتوهّم أنّه يتصوّر كلّ واحد منها مستقلاً يتصوّر ابتداءً ( وبنحو الإجمال ) حكماً ثمّ بملاك التفاوت في أقسام ذلك الحكم يقسّم العام إلى أقسامه الثلاثة كما يظهر عند التأمّل ، والشاهد على ذلك أنّا نقوّم التفاوت بين العام الاستغراقي والعام المجموعي بوحدة الطاعة والعصيان في أحدهما وتعدّدهما في الآخر ، وتعدّد الطاعة والعصيان ووحدتهما تترتّبان على استغراقيّة الحكم ومجموعيته.

إن قلت : كيف؟ ولكلّ واحد منها لفظ غير ما للآخر ، مثل كلمة « أي » للعموم البدلي وكلمة « كلّ » للعموم الاستغراقي.

قلت : نعم ولكنّه أيضاً بملاحظة اختلاف كيفية تعلّق الأحكام لأنّه لا يمكن تطرّق هذه الأقسام إلاّبهذه الملاحظة ، كما يكون كذلك في باب الحروف ، فإنّ الواضع فيه وضع الألفاظ لمعانيها بملاحظة الأحكام المختلفة التي تتعلّق بها كما لا يخفى.

الأمر الثاني : قال المحقّق النائيني رحمه‌الله : « لا يخفى أنّ في عدّ القسم الثالث ( العموم البدلي ) من أقسام العموم مسامحة واضحة ، بداهة أنّ البدليّة تنافي العموم فإنّ متعلّق الحكم في العموم البدلي ليس إلاّفرداً واحداً ، أعني به الفرد المنتشر وهو ليس بعام ، نعم البدليّة عامّة ، فالعموم إنّما هو في البدليّة لا في الحكم المتعلّق بالفرد على البدل » (١).

أقول : لا يصحّ التفكيك بين البدليّة ومتعلّق الحكم ، لأنّ المتعلّق في العموم البدلي هو نفس البدليّة لا شيء آخر ، وبالنتيجة يكون لمتعلّق الحكم هنا أيضاً شمول ، لكن شمول كلّ شيء بحسبه ، وهو في هذا العموم كفايّة إتيان المأمور به ضمن أيّ فرد من الأفراد ، ولا وجه لأن نتوقّع تلوّنه في جميع الأشياء بلون واحد.

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٤٤٣.

٧٦

إن قلت : إذاً لا فرق بين العام البدلي والمطلق.

قلنا : الفرق بينهما إنّ الشمول والبدليّة في الأوّل يستفاد من اللفظ وهو لفظ « أيّ » مثلاً ، وأمّا في المطلق فالشمول فيه إنّما يستند إلى مقدّمات الحكمة كما لا يخفى.

الأمر الثالث : إذا شكّ في أنّ المراد من العموم هل هو استغراقي أو مجموعي كما إذا نذر على أن يترك التدخين مثلاً ثمّ شكّ في أنّه نذر على نهج العموم الاستغراقي أو المجموعي قال المحقّق النائيني رحمه‌الله : إنّ الأصل يقتضي كونه استغراقياً لأنّ العموم المجموعي يحتاج إلى اعتبار الامور الكثيرة أمراً واحداً ، ليحكم عليها بحكم واحد وهذه عناية زائدة تحتاج إفادتها إلى مؤونة زائدة.

والجواب عنه يتمّ بذكر أمرين :

الأوّل : إنّ المؤونة الزائدة في خصوص أحدهما دون الآخر تتصوّر فيما إذا كان أحد العامّين لا بشرط والآخر بشرط لا كما أنّه كذلك في المطلق والمقيّد. وأمّا إذا كان أحدهما بشرط شيء والآخر بشرط لا فالعناية الزائدة موجودة في كليهما كما لا يخفى ، وفي ما نحن فيه نحتاج في العموم الاستغراقي أيضاً إلى لحاظ كلّ فرد من الأفراد مستقلاً عن غيره ، أي لحاظ كلّ فرد من الأفراد في العموم الاستغراقي مشروط بعدم لحاظ الغير معه فيكون بشرط لا.

وإن شئت قلت : إنّه مشروط بشرط الاستقلال ، فيكون هو أيضاً بشرط شيء ، فلا فرق بين الاستغراقي والمجموعي في هذه الحيثيّة ، والنتيجة حينئذٍ إجمال الدليل وعدم إمكان التمسّك بالاصول اللفظيّة ، نعم يتصوّر الشكّ هذا بالنسبة إلى لفظ « كلّ » في اللغة العربيّة حيث إنّه فيها مشترك بين المجموعي والاستغراقي بخلافه في اللغة الفارسيّة حيث وضع فيها بإزاء كلّ واحد من المعنيين لفظ خاصّ ، فوضع لفظ « همه » للعام المجموعي ولفظ « هو » للعام الاستغراقي ، نعم قد يستعمل لفظ « همه » للافرادي أيضاً.

مضافاً إلى أنّ كلمة « كل » في لغة العرب في الاستغراقي أكثر من استعمالها في المجموعي ، ولعلّ كثرة الاستعمال هذه توجب ظهوراً لها في العموم الاستغراقي ، والشاهد على الكثرة ملاحظة استعمالات هذا اللفظ في القرآن الكريم وهي بالغة إلى ثلاثمائة وخمس وعشرين (٣٢٥) مرّة فإنّه استعمل في جميع الموارد إلاّنادراً في العموم الاستغراقي كما لا يخفى على المتتبّع فيها ، وبهذا يظهر إمكان التمسّك بأصل لفظي في المقام لكن لا كما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله

٧٧

بل بأن نقول : إنّ لفظ « كلّ » صار حقيقة في العام الاستغراقي ولابدّ لاستعماله في المجموعي إلى نصب قرينة ، وحين الشكّ فيها نرجع إلى معناه الحقيقي وهو العموم الاستغراقي.

الثاني : أنّ ما أفاده قدس‌سره يتصوّر فيما إذا كان الدالّ على العموم لفظاً من ألفاظ العموم ، أمّا إذا استفدنا العموم من دليل لبّي فلا يمكن التمسّك بأصل لفظي وحينئذٍ إذا شككنا في أنّ العموم استغراقي أو مجموعي يكون المرجع هو الأصل العملي ، وقد توهّم بعض أنّه هو أصل البراءة لأنّ الشكّ في المقام يرجع إلى الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة ( فهو في الواقع شكّ في اشتراط الجميع بالجميع ) والأصل فيهما هو البراءة كما قرّر في محلّه.

لكن الإنصاف أنّ الأصل في مثل هذه الموارد قاعدة الاشتغال لأنّ البراءة تجري فيما إذا كان في البين قدر متيقّن وشككنا في وجوب الزائد عنه ، وأمّا في المقام فيكون أصل تعلّق الوجوب بجميع الأفراد يقينياً وإنّما الشكّ في كيفية التعلّق ، كما إذا شككنا في شهر رمضان مثلاً في أنّ كلّ يوم من أيّامه يكون الصّيام فيه واجباً مستقلاً أو يكون مشروطاً بإتيان الباقي فيكون المجموع واجباً واحداً؟ مع كون أصل تعلّق الوجوب بكلّ فرد يقينياً ، فحينئذٍ الأصل هو قاعدة الاشتغال لا البراءة كما لا يخفى.

هذا إذا كان العبد قادراً على إتيان الجميع ، أمّا إذا كان قادراً على بعض دون بعض من بداية الأمر كما إذا قال المولى أكرم العلماء وكان الإكرام واجباً موسّعاً والعبد لا يقدر على إكرام الجميع من أوّل الأمر فالأصل هو البراءة ، لأنّه إن كان الوجوب على نهج العام المجموعي يكون التكليف ساقطاً ، وإن كان استغراقياً يكون وجوب البعض المقدور عليه ثابتاً ، فيصير الشكّ بالنسبة إلى وجوب البعض الآخر بدويّاً ، والأصل عندئذ هو البراءة ، وأمّا إذا كان قادراً على الجميع من البداية فطرأ العجز بعد ثبوت التكليف فالأصل هو الاستصحاب إذا لم يصل البعض غير المقدور إلى حدّ يوجب خروج موضوع المستصحب عن الوحدة العرفيّة وكانت وحدة الموضوع محفوظةً.

٧٨

الأمر الثالث : في الفرق بين العام والمطلق

ما هو الفرق بين العام والمطلق مع أنّ المطلق أيضاً ينقسم إلى قسمين : إطلاق شمولي استغراقي وإطلاق شمولي بدلي ، والأوّل نحو قوله تعالى : « أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ » والثاني كقولك « أكرم عالماً »؟

المشهور بين الأعلام كما عرفت أنّ التفاوت بينهما أنّ العام يستفاد الشمول فيه من اللفظ ، وأمّا في المطلق فيستفاد الشمول من مقدّمات الحكمة ، نعم قد خالف في ذلك في التهذيب بعد أن نقل هذا الفرق من بعض الأعاظم ومنع عن ذلك أشدّ المنع ، وحاصل كلامه : إنّ العام والمطلق يفترقان حقيقة ولهما مفهومان متفاوتان لأنّ العام يشمل جميع الأفراد ، وأمّا المطلق فليس له شمول بل هو عبارة عن أنّ تمام موضوع الحكم هو الطبيعة لا بشرط ولا ينظر فيه إلى الفرد أصلاً ، ففي قولك « أعتق رقبة » يكون النظر كلّه إلى طبيعة الرقبة فقط من دون ملاحظة أفرادها ، نعم يلاحظ الفرد ويتوجّه إليه لانطباق الطبيعة عليه.

أقول : هيهنا نكتتان يجب الالتفات إليهما :

إحداهما : إنّ الطبيعة الملحوظة في كلامه هل هي الطبيعة الموجودة في الذهن أو الطبيعة الموجودة في الخارج؟ فإن كان المقصود الطبيعة الموجودة في الذهن فهي ليست مطلوبة للمولى بلا إشكال ، وإن كان المراد الموجودة في الخارج فيلاحظ الفرد حينئذٍ وينظر إليه لا محالة كما لا يخفى.

ثانيهما : إنّا لا نفهم معنى الانطباق في كلامه ، فإمّا أن يكون الفرد الذي تنطبق عليه الطبيعة مأموراً به أو لا يكون ، والأوّل يستلزم الحكم بأنّ الطبيعة إنّما لوحظت بما هي مرآة إلى الخارج لا بما هي هي ، والثاني يستلزم كون الطبيعة بما هي هي مقصودة ، وهو كماترى ، لأنّ الطبيعة بما هي هي مع قطع النظر عن وجودها في الخارج لا تكون منشأً للأثر ولا تترتّب عليها المصالح والمفاسد حتّى يريدها المولى أو يكرهها ويأمر بها أو ينهي عنها.

الأمر الرابع : في أنّ للعموم صيغة تخصّه

ويستدلّ له بالتبادر فإنّه لا إشكال في أنّ المتبادر من ألفاظ من قبيل لفظ « كلّ » العموم.

٧٩

ويمكن أن يستدلّ له أيضاً بحكمة الوضع فبما أنّ الحكمة في وضع الألفاظ رفع الحاجات اليوميّة للناس فلا بدّ من وضع لفظ أو ألفاظ تدلّ على العموم لأنّ من جملة تلك الحاجات الحاجة إلى لفظ يدلّ على مقصود عام.

أضف إلى ذلك : أنّ الخصوص ليس له حدّ خاص ومرتبة معيّنة كي يمكن الالتزام بوضع هذه الألفاظ لذلك الحدّ ، بل إنّه يؤدّى ويستفاد من طريق تخصيص العام فلا يمكن بيان الخاصّ بدون بيان العام ، إذن فلا بدّ من وضع ألفاظ للعام لكي يخصّص ويصير طريقاً إلى بيان الخاصّ.

واستدلّ للخصم أي لوضع هذه الألفاظ للخاصّ بوجهين عقليين.

الأوّل : أنّ إرادة الخصوص ولو في ضمن العموم معلومة بخلاف العموم لاحتمال أن يكون المراد به الخصوص فقط ، وجعل اللفظ حقيقة في المعنى المتيقّن أولى من جعله حقيقة في المعنى المحتمل.

الثاني : إنّه قد اشتهر التخصيص وشاع حتّى قيل « ما من عام إلاّوقد خصّ » الحاقاً للقليل بالعدم مبالغة ، والظاهر يقتضي كون اللفظ حقيقة في الأشهر الأغلب تقليلاً للمجاز.

أقول : كلا الدليلين لا يخلو من لا الضعف جدّاً.

أمّا الأوّل : فلأنّ كون إرادة الخصوص متيقّناً لا يوجب اختصاص الوضع به بل لابدّ في وضع اللفظ من ملاحظة وجود الحاجة وعدمه ، والإنصاف أنّ هذا الاستدلال بهذا البيان في غاية الضعف.

أمّا الدليل الثاني : فلأنّه يتفرّع ويتوقّف على إيجاب التخصيص التجوّز وكون العام مجازاً في الباقي وسيأتي خلافه ، مضافاً إلى أنّه لو سلّمنا كونه مجازاً فلا محذور في كثره المجاز إذا كان المجاز بالقرينة وكان التخصيص مورداً للحاجة.

إلى هنا تمّت الامور التي كان ينبغي ذكرها مقدّمة وأمّا البحث عن مسائل العام والخاصّ فيقع ضمن فصول :

٨٠