أنوار الأصول - ج ٢

أنوار الأصول - ج ٢

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-14-8
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٥٠٤

٢ ـ الكلام في مفهوم الوصف

ولابدّ فيه من تنقيح محلّ النزاع قبل الخوض في أصل المسألة.

فنقول : قال المحقّق النائيني رحمه‌الله : « إنّ محلّ الكلام في المقام هو الوصف المعتمد على موصوفه ، وامّا غير المعتمد عليه فلا إشكال في عدم دلالته على المفهوم ، فهو حينئذٍ خارج عن محلّ النزاع ، إذ لو كان الوصف على إطلاقه ولو كان غير معتمد على الموصوف محلاً للنزاع لدخلت الجوامد في محلّ النزاع أيضاً ... إلى أن قال :

بل يمكن أن يقال : إنّ كون المبدأ الجوهري مناطاً للحكم بحيث يرتفع الحكم عند عدمه أولى من كون المبدأ العرضي مناطاً له ، فهو أولى بالدلالة على المفهوم من الوصف غير المعتمد » (١).

فحاصل كلامه أنّ الوصف غير المعتمد خارج عن محلّ النزاع لأنّه كاللقب ، بل اللقب أولى منه من هذه الجهة لأنّه حاكٍ عن الذات ، بينما الوصف غير المعتمد يحكي عن الصفة ، وكون الذات مناطاً للحكم بحيث ينتفي بانتفائها أولى من كون الوصف ( الذي يكون مبدأً عرضياً للحكم ) مناطاً له.

ولكن الإنصاف أنّ محلّ النزاع أعمّ كما صرّح به في تهذيب الاصول (٢) ، والشاهد على ذلك أنّ المثبت للمفهوم قد يتمسّك بأمثلة تكون من مصاديق الوصف غير المعتمد من دون أن يعترض عليه النافي للمفهوم بأنّها خارجة عن محلّ الكلام ، نظير التمسّك بفهم أبي عبيدة في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « مطل الغني ظلم » (٣) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ليّ الواجد بالدين يحلّ عقوبته وعرضه » (٤) ونظير

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٤٣٣ ـ ٤٣٤.

(٢) راجع تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٦٢ ، من طبع مهر.

(٣) المطل هو التأخير في أداء الدَين فإذا كان المديون غنيّاً وأخّر أداء دَينه فقد ظلم.

(٤) اللّي بمعنى التأخير في أداء الدَين ، فإذا كان المديون واجداً وأخّر أداء دَينه جازت عقوبته وتوبيخه.

٤١

التمسّك بقوله تعالى : ( إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) » هذا ـ مضافاً إلى أنّه لا يجري بناءً على مبنى القائلين باشتمال المشتقّ على الذات حيث إنّه حينئذٍ لا فرق بين القسمين في الاعتماد على الذات.

وكيف كان ـ فقد استدلّ القائل بعدم المفهوم ( مع أنّه على المنكر إقامة الدليل ) بوجهين :

الوجه الأوّل : إنّ دلالة الوصف على المفهوم امّا بالوضع أو بالقرينة العامّة ، وكلاهما ممنوعان ، إمّا الوضع فلأنّه لو كان الوصف دالاً على المفهوم بالوضع لكان استعماله في غيره مجازاً ، وهو ممنوع.

وأمّا القرينة العامّة فلأنّها لا تخلو من أن تكون واحدة من الثلاثة : لزوم اللغويّة ، كون الوصف مطلقاً مع أنّ المتكلّم في مقام البيان ، وكونه مشعراً بالعلّية المنحصرة.

أمّا لزوم اللغويّة فالجواب عنه إنّ اللغويّة إنّما تلزم فيما إذا انحصرت فائدة الوصف في المفهوم مع أنّه قد يترتّب عليه فوائد كثيرة اخرى فقد يؤتى به لإبراز شدّة الإهتمام بمورد الوصف ، مثل قوله : « إيّاك وظلم اليتيم » ، أو « إيّاك وغيبة العلماء » أو لدفع توهّم عدم شمول الحكم لمورد الوصف كما في قوله تعالى : ( وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ) ( هذا شبيه الوصف ) أو لعدم حاجة السامع إلى ما سوى مورد الوصف كقولك لمن لا يجد غير ماء البئر :

ماء البئر طاهر مطهّر ، أو لغير ذلك من امور اخر كعلم المخاطب بحكم غير مورد الوصف أو توضيح ما اريد بالموصوف والكشف عنه أو غير ذلك.

وأمّا الإطلاق ( والمقصود منه إنّه لو كان للوصف عديل أو جزء آخر لذكره المتكلّم لكونه في مقام البيان فإطلاقه دالّ على أنّه لا عديل له ، كما أنّه دالّ على كونه تمام الموضوع للحكم ).

فيرد عليه : أنّ هذا الإطلاق ـ الذي يكون إطلاقاً مقاميّاً على فرض وجوده ، أي على فرض كون المتكلّم بصدد بيان العلّة المنحصرة أو الموضوع المنحصر للحكم ـ لا يختصّ في دلالته على المفهوم بباب الوصف بل إنّه يجري في اللقب أيضاً ، وحينئذٍ تكون الدلالة على المفهوم مستندة إلى وجود القرينة لا إلى الوصف وإلاّ لكانت الدلالة مختصّة بالوصف فحسب.

وأمّا إشعار الوصف بالعلّية المنحصرة فالجواب عنه : إنّ إشعار الوصف بها وإن كان

٤٢

مسلّماً ، إلاّ أنّه لا يفيد في الدلالة على المفهوم ما لم يصل إلى حدّ الظهور.

هذا كلّه هو الوجه الأوّل لمنكري مفهوم الوصف ، وهو وجه تامّ إلاّمن ناحية حصرهم القرائن العامّة في الثلاثة المزبورة فانّه ممّا لا دليل عليه عقلاً.

الوج الثاني : ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله ( ووافقه على ذلك في هامش أجود التقريرات وصرّح بأنّه متين ) وحاصله : إنّ القيود الواردة في الكلام تارةً ترجع إلى المفهوم الإفرادي ( الموضوع أو المتعلّق ) واخرى إلى الجملة التركيبية بحيث يكون القيد قيداً للمادّة المنتسبة ( الحكم ) ، وملاك الدلالة على المفهوم هو أن يكون القيد راجعاً إلى الحكم ، أي إلى المادّة المنتسبة ليترتّب عليه ارتفاع الحكم عند ارتفاع قيده ، إذ لو كان الحكم ثابتاً عند عدم القيد أيضاً لما كان الحكم مقيّداً به بالضرورة ، ففرض تقييد الحكم بشيء يستلزم فرض انتفائه بانتفائه ، وأمّا إذا كان القيد راجعاً إلى المفهومي الإفرادي والموضوع ، فغاية ما يترتّب على التقييد هو ثبوت الحكم على المقيّد ، ومن الضروري أنّ ثبوت شيء لشيء لا يستلزم نفيه عن غيره ، وإلاّ لكان كلّ قضيّة مشتملة على ثبوت حكم على شيء دالة على المفهوم وذلك واضح البطلان ، وبما أنّ الظاهر في الأوصاف أن تكون قيوداً للمفاهيم الإفراديّة يكون الأصل فيها عدم الدلالة على المفهوم كما هو الحال في اللقب عيناً (١).

أقول : الإنصاف أنّ ما أفاده إنّما هو أحد طرق إثبات المفهوم ، فإنّه ربّما يستفاد من ناحية إحترازيّة القيود مع رجوعها إلى الموضوع والمفهوم الإفرادي على تعبيره ، بل قد لا يكون للكلام مفهوم وان رجع القيد إلى الحكم والمفهوم التركيبي إذا كان المقصود من أخذه في الكلام أمراً آخر غير الانتفاء عند الانتفاء كأن يؤتى به لكون مورده محلاً لابتلاء المخاطب مثلاً.

فظهر إلى هنا عدم تمام كلا الوجهين لإثبات عدم المفهوم فالأولى لمنكره الاكتفاء بما هو مقتضى القاعدة وطلب البرهان من مدّعيه.

فنقول : استدلّ المثبتون بوجوه اشير إلى بعضها ضمن بيان أدلّة المنكرين ( منها اللغويّة لولا المفهوم ، والإطلاق وإشعاره بالعلّية ) وبقى غيرها :

فمنها : أنّ الأصل في القيود أن تكون إحترازيّة وذلك ببيانين :

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٤٣٤ ـ ٤٣٥.

٤٣

أحدهما : أنّ معنى كون شيء قيداً لموضوع حكم هو أنّ ذات الموضوع غير قابلة لتعلّق الحكم بها إلاّبعد تقيّده بهذا القيد واتّصافه بهذا الوصف ، فيكون القيد أو الوصف حينئذٍ متمّماً لقابلية القابل ، وهو في الحقيقة عبارة اخرى عن معنى الاشتراط ، فترجع القضيّة إلى القضيّة الشرطيّة لبّاً ، وبما الظاهر دخل هذا القيد بخصوصه وبعنوانه الخاصّ ( إذ لازم دخل قيد آخر أن تكون العلّة والشرط هو الجامع بين الشرطين لأنّ الواحد لا يصدر إلاّمن الواحد ، وهو خلاف الظاهر ) فلا محالة ينتفي سنخ الحكم بانتفائه وهو معنى المفهوم.

ولكن يرد عليه :

أوّلاً إنّه مبني على قبول قاعدة الواحد ، وقد مرّ عدم جريانها في الامور الاعتباريّة أصلاً وعكساً.

وثانياً : إنّ علّة الأحكام إنّما هي إرادة المولى لا غير كما مرّ مراراً.

ثانيهما : أنّ للإنسان في بيان مقاصده وما ليس مقصوداً له طريقين : فإنّه تارةً يصرّح باسم المقصود ويجعله بعنوان موضوعاً لحكمه ، وهذا يتصوّر فيما إذا كان للمقصود اسم خاصّ ، واخرى لا يكون له اسم خاصّ فيتمسّك بذيل القيود والأوصاف فيذكر مقصوده أوّلاً بنحو كلّي ثمّ يقيّده بقيد بعد قيد حتّى يبيّن مراده بتمامه ويخرج ما ليس بمقصوده ، ففلسفة القيود حينئذٍ هو بيان المقصود وإخراج ما ليس بمقصود ، وهذا معنى إحترازيّة القيود ، ولازمها الانتفاء عند الانتفاء وهو المراد من المفهوم.

ولكن يمكن الجواب عنه أيضاً بأنّ غاية ما يقتضيه هذا البيان وما سبقه هو ظهور القيد في أنّه دخيل في موضوع الحكم ومقصوده ، وأنّ الحكم غير ثابت ومقصوده غير حاصل إلاّمقيّداً بهذا القيد لا مطلقاً ، ولا يقتضي نفي الحكم عن حصّة اخرى من ذات الموضوع ولو بملاك آخر وبقيد آخر ، وبعبارة اخرى : مجرّد أخذ القيد في العنوان لا يكون دليلاً على كونه إحترازيّاً ، نعم لو علمنا من القرائن الحاليّة أو الكلاميّة كون المتكلّم بصدد الإحتراز كان للقيود مفهوم حتّى للألقاب.

ومنها : فهم أهل اللسان ـ ولعلّه أحسنها ـ فإنّ أهل اللسان يفهمون من الوصف المفهوم في موارد مختلفة كما فهم أبو عبيدة فيما رواه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « ليّ الواجد بالدين يحلّ عرضه

٤٤

وعقوبته » (١) أنّ ليّ الفقير لا يحلّ عرضه وعقوبته ، نعم الإشكال في سنده لمكان هارون بن عمرو والمجاشعيّ في طريق الشيخ رحمه‌الله على ما نقله صاحب الوسائل عن مجالسه.

ومن هذه الموارد قوله تعالى : ( وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ) (٢) فالكثير من الاصوليين والمفسّرين يعتذرون عن أخذ المفهوم فيها بأنّ قيد « في حجوركم » من القيود الغالبيّة ، ولذا لا مفهوم له ، فإنّ اعتذارهم هذا دالّ على كون المفهوم في مثل هذه الموارد أمراً وجدانياً وإرتكازيّاً لهم ، إنّما المانع هو كون القيد غالبيّاً ، كما أنّ وصف « دخلتم بهنّ » الوارد في صدر الآية يدلّ على المفهوم وهو قوله تعالى : ( فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ) الوارد في ذيلها ، فإنّ ترتّب هذا الذيل على ذلك الصدر بفاء التفريع يشهد على أنّه لو لم يصرّح به لكنّا نفهمه من نفس الوصف الوارد في الصدر.

ومن هذه الموارد قوله تعالى : ( وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لَايَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ) (٣) فإنّ وصفي « لا يرجون نكاحاً » و « غير متبرّجات » يدلاّن على أنّ القواعد اللاتي يرجون نكاحاً أو يتبرّجنّ بزينة فعليهنّ جناح أن يضعن ثيابهنّ كما أفتى به الفقهاء فحكموا بحرمة وضعهنّ ثيابهنّ.

وكيف كان ، فقد فهم أهل اللسان من هذه الموارد ونظائرها المفهوم ، وهو يدلّ على دلالة الوصف على المفهوم.

نعم يمكن أن يقال : إنّ فهم المفهوم في هذه الموارد إنّما هو لوجود قرينة مقاميّة ، وهي كون المتكلّم في مقام الإحتراز عمّا ليس داخلاً في الحكم ، ومحلّ النزاع هو صورة فقد القرينة ، فتأمّل.

ومنها : « إنّ القضيّة الوصفية لو لم تدلّ على المفهوم وانحصار التكليف بما فيه الوصف لم يكن موجب لحمل المطلق على المقيّد ، حيث إنّ النكتة في هذا الحمل هي دلالة المقيّد على انحصار التكليف به وعدم ثبوته لغيره » (٤).

__________________

(١) سنن أبي داود : ج ٣ ، ص ٣١٣ ؛ الوسائل : ج ١٣ ، الباب ٨ ، من أبواب الدين ، ح ٤.

(٢) سورة النساء : الآية ٢٣.

(٣) سورة النور : الآية ٦٠.

(٤) نقله في المحاضرات : ج ٥ ، ص ١٣١.

٤٥

ولكن يمكن الجواب عنه :

أوّلاً : بأنّ هذا إنّما يتصوّر في ما إذا كان المطلق والمقيّد مثبتين وعلمنا بوحدة المطلوب كما في قولك : « إن ظاهرت فاعتق رقبة » و « إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة » ، وأمّا إذا كان أحدهما مثبتاً والآخر نافياً كما في قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) وقوله عليه‌السلام : « نهى النبي عن بيع الغرر » فالمقيّد حينئذٍ هو نفس المنطوق وهو في المثال منطوق قوله عليه‌السلام « نهى النبي عن بيع الغرر » لا مفهومه كما لا يخفى.

وثانياً : نقول في المثبتين أيضاً : إنّ المفهوم فيهما إنّما هو لأجل قرينية وحدة الحكم التي تستكشف من وحدة الشرط ( وهو « إن ظاهرت » في المثال ) وإلاّ لو لم يكن الشرط واحداً ولم تعلم وحدة الحكم كما في قولك : « أكرم العلماء » و « أكرم العلماء العدول » فلا مفهوم للجملة الثانية ، ولذلك لا تقيّد الاولى بالثانية بل إنّهما من قبيل تعدّد المطلوب كما صرّح به القوم في محلّه ، بل تصريحهم هذا دليل على عدم المفهوم في باب المطلق والمقيّد ، وعلى أنّ فهم المفهوم في مثال « إن ظاهرت » إنّما هو من باب وجود القرينة.

فظهر ممّا ذكرنا كلّه عدم تماميّة وجه من الوجوه التي استدلّوا بها على المفهوم ، ولكن مع ذلك كلّه يستفاد من الوجه الثاني دلالة الوصف على المفهوم غالباً لكون القيد إحترازيّاً في الغالب ، فلا بدّ حينئذٍ من ملاحظة المقامات والمناسبات ، وأنّ خصوصيّة المقام هل تكون قرينة على كون القيد إحترازيّاً أو لا؟

بقي هنا امور

الأمر الأوّل : فيما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله في المقام من أنّ دلالة القضيّة على المفهوم ترتكز على أن يكون القيد فيها راجعاً إلى الحكم دون الموضوع فإن رجع إلى الحكم فلها مفهوم وإلاّ فلا ، وقد مرّ تفصيل بيانه في الوجه الثاني من الوجهين اللذين استدلّ بهما منكروا المفهوم في المقام ، وأجبنا عنه هناك ، ونقول هنا أيضاً :

الإنصاف أنّ القيود بأسرها قيود للحكم وراجعة إلى الحكم إمّا بلا واسطة أو مع الواسطة ، حتّى في مثل قولنا : « في الغنم السائمة زكاة » يكون وصف « السائمة » قيداً للموضوع ( وهو الغنم )

٤٦

بلحاظ الحكم لأنّ الموضوع المفرد من دون تعلّق حكم عليه لا معنى لتقييده بقيد ، هذا أوّلاً.

وثانياً : ليس رجوع القيد إلى الحكم تمام الملاك للدلالة على المفهوم ( كما مرّ بيانه ) لأنّ لتقييده دواعياً مختلفة لا تنحصر في نفي الحكم عن الغير كأن يكون مورد الوصف محلاً لابتلاء المتكلّم فعلاً ونحوه.

الأمر الثاني : أنّ الأوصاف الغالبيّة ليس لها مفهوم حتّى بناءً على القول بمفهوم الوصف ، نظير وصف « في حجوركم » في قوله تعالى : ( وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ ) فإنّه قيد غالبي ورد في الآية ( بلحاظ أنّ الغالب في النساء اللاتي يردن النكاح أن تكون ربائبهنّ في حجورهنّ ومصاحبة معهنّ ، لصغر سنّهن ولم يأت وقت نكاحهنّ حتّى يحصل الفراق بينهنّ وبين امّهاتهنّ ، ولو كنّ مستعدّات للنكاح كانت امّهاتهنّ خارجات عن هذا الاستعداد ) والقيود الغالبيّة قيود توضيحية تصدر من المتكلّم من باب التوضيح والتفسير ، فلا تلزم لغويّة الوصف إن قلنا بعدم دلالتها على المفهوم ، ولا تجري فيها قاعدة إحترازيّة القيود.

نعم القيد الوارد في الآية ـ مضافاً إلى صدوره لأجل التوضيح ـ توجد فيه نكتة اخرى ، وهي الإشارة إلى أنّ حكمة حرمة نكاح الربائب تربيتهنّ ونشوئهنّ في حجوركم ، فلا ينبغي أن يتزوّج الرجل بمن عاشت وكبرت في حجره وكانت بمنزلة بناته في الواقع.

ولكن مع ذلك فهذه النكتة جارية في غالب موارد جعل الحكم بحرمة النكاح بنحو العموم ، فيعمّ الربائب اللاتي لَسْنَ في حجورهم فتكون من قبيل الحكمة لا العلّة.

الأمر الثالث : إنّ الوصف تارةً يكون مساوياً لموصوفه كقولنا : « أكرم إنساناً ضاحكاً » واخرى يكون أعمّ منه مطلقاً كقولنا : « أكرم إنساناً ماشياً » وثالثة يكون أخصّ منه كذلك ، كقولنا : « أضف إنساناً عالماً » ورابعة يكون أعمّ منه من وجه كقوله عليه‌السلام : « في الغنم السائمة زكاة ».

ولا إشكال في خروج الأوّل والثاني عن محلّ البحث لأنّ الوصف فيهما لا يوجب تقييداً للموصوف حتّى يكون له دلالة على المفهوم كما لا يخفى.

وأمّا الثالث فلا إشكال في دخوله في محلّ الكلام لأنّ انتفائه لا يوجب انتفاء الموصوف بل الموصوف باقٍ على حاله فيبحث حينئذٍ في انتفاء الحكم عنه بانتفاء وصفه وعدمه.

وأمّا الرابع فهو أيضاً داخل في محلّ النزاع ، إلاّ أنّه يدلّ على المفهوم ( على القول به ) بالنسبة

٤٧

إلى خصوص ذات الموضوع المذكور في القضيّة ، ففي المثال المزبور يدلّ على أنّه لا زكاة في الغنم المعلومة ، أمّا بالنسبة إلى غير هذا الموضوع فلا يدلّ على انتفاء الحكم عنه ، فلا يدلّ على انتفاء الزّكاة في البقر المعلوفة مثلاً كما نسب إلى بعض الشافعيّة ، إلاّ أن يقال : إنّ المستفاد من الحديث إنّ السوم علّة منحصرة للزكاة بالنسبة إلى جميع الحيوانات ، وذكر الغنم إنّما يكون بعنوان المثال ، لكن أنّى لنا بإثبات ذلك.

ثمّ إنّه تنبغي الإشارة هنا إلى نكتة فقهيّة ، وهي أنّ الملاك في زكاة الغنم ليس هو خصوص كونها سائمة كما هو المعروف ، بل المستفاد من الأخبار أنّ المعيار عدم كونها من العوامل ، وأمّا ذكر وصف السائمة في بعض الرّوايات فإنّه للملازمة الخارجيّة العرفيّة بينها وبين عدم كونها من العوامل في عرف ذلك الزمان ، فكونها سائمة من اللوازم القهريّة لعدم كونها عوامل ، لعدم الداعي حينئذٍ عادةً على إبقائها في بيوتها بل إنّها تسرح في مرجها وتسام إذا ساعدت الظروف ، وقد ذكرنا في تعليقتنا على العروة مؤيّدات عديدة لذلك فراجع (١).

الأمر الرابع : إنّ المراد من الوصف في ما نحن فيه أعمّ من الوصف الاصولي والوصف النحوي ، فهو عبارة عن كلّ ما صار قيداً للحكم في الكلام ، فيعمّ الحال إذا صار قيداً للحكم كقولك : « من جاءك ذاكراً فأكرمه » كما يعمّ ما يكون ظرفاً للحكم كقولك : « أكرم زيداً يوم الجمعة » فتأمّل.

إلى هنا تمّ الكلام في مفهوم الوصف ، وقد ظهر منه عدم إمكان المساعدة على دلالة الوصف على المفهوم في جميع الموارد ، وإن كان لا يمكن إنكاره أيضاً مطلقاً ، فإنّ القيود والأوصاف كثيراً مّا ترد في مقام الإحتراز ، والقرائن الحاليّة والمقاميّة تدلّ عليه.

بل قد يقال : إنّ الأصل في كلّ قيد هو كونه إحترازيّاً ، وإمّا الإتيان بالقيود لمقاصد اخرى مثل كونه محلاً للابتلاء أو قيداً غالبياً أو شبه ذلك فإنّها خلاف الأصل ، وحينئذٍ يستفاد المفهوم من هذه القيود حتّى في غير الأوصاف من القيود الزمانيّة والمكانيّة وغيرهما ( بناءً على عدم شمول الوصف بمعناه الأعمّ لهذه القيود ) من دون فرق بين أن يكون الوصف معتمداً على الموصوف أو لا يكون ، فإنّه أيضاً يرجع إلى التقييد ويكون الأصل فيه الإحتراز ، فلا فرق بين

__________________

(١) راجع تعليقات الاستاذ دام ظلّه على العروة الوثقى : ج ١ ، ص ٣٣٠.

٤٨

أن يقول المولى : « إن ظاهرت أكرم رجلاً عالماً » أو « أكرم عالماً ».

وإن أبيت عن ذلك فلا أقلّ من التأمّل في كلّ مقام ، وملاحظة ما يقتضيه ، وإيّاك أن ترفض مفهوم الوصف والقيود كلّها فإنّه خطأ محض ، والله العالم بحقائق الامور.

٤٩
٥٠

٣ ـ الكلام في مفهوم الغاية

والأولى أن نعبّر عن العنوان بمفهوم أداة الغاية ، لأنّ المفهوم على فرض ثبوته يكون مدلول أداة الغاية لا نفسها.

وكيف كان ، فإنّ للبحث هنا جهتين :

جهة مفهوميّة ، وهي البحث في أنّ الغاية سواء كانت داخلة في المغيّى أم خارجة عنه هل تدلّ مفهوماً على ارتفاع الحكم عمّا بعد الغاية ( بناءً على دخولها في المغيّى ) أو عن نفس الغاية وبعدها ( بناءً على خروجها عن المغيّى ) أو لا؟

وجهة منطوقية ، وهي البحث في نفس الغاية وأنّها هل هي داخلة في المغيّى بحسب الحكم أو خارجة عنه؟

أمّا الجهة الاولى فالمشهور دلالة الأداة على المفهوم ، ولعلّه أشهر من مفهوم الشرط ، ولكن ذهب السيّد المرتضى رحمه‌الله ومن تبعه إلى عدمه مطلقاً ، وهنا قول ثالث ذكره الأعلام ببيانات مختلفة :

الأوّل : ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، وحاصله التفصيل بين أن تكون الغاية قيداً للحكم وبين أن تكون قيداً للموضوع فعلى الأوّل تدلّ على الارتفاع عند حصولها لانسباق ذلك منها ـ أوّلاً ـ وإنّه مقتضى تقييده بها بحيث لو لم تدلّ على الارتفاع لما كان ما جعل غاية له بغاية ـ ثانياً ـ مثل قوله عليه‌السلام « كلّ شيء حلال حتّى تعرف إنّه حرام » فإنّه ظاهر في أنّ الحلّية محدودة بالعلم بالحرمة بحيث إذا حصل العلم بالحرمة لا يبقى موقع للحكم بالحلّية فإنّه تناقض بحت ، بخلاف ما إذا كانت قيداً للموضوع مثل « سر من البصرة إلى الكوفة » فإنّه لا يدلّ على أزيد من أنّ تحديده بذلك إنّما يكون بملاحظة تضييق دائرة موضوع الحكم الشخصي المذكور في القضيّة ، والدلالة على أزيد من ذلك تحتاج إلى إقامة دليل من ثبوت الوضع لذلك أو ثبوت

٥١

قرينة ملازمة لذلك ، لا يقال : على هذا فما هي الفائدة في هذا التحديد؟ لأنّا نقول : الفائدة غير منحصرة في الدلالة على الارتفاع كما مرّ في الوصف. ( انتهى ).

الثاني : ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله ، فإنّه بعد أن وافق تفصيل المحقّق الخراساني رحمه‌الله المزبور ثبوتاً قال بالنسبة إلى مقام الإثبات : « الأدوات الموضوعة للدلالة على كون مدخولها غاية بما إنّها لم توضع لخصوص تقييد المفاهيم الإفراديّة كالوصف ، ولا لخصوص تقييد الجمل التركيبية كأدوات الشرط تكون بحسب الوضع أمراً متوسّطاً بين الوصف وأدوات الشرط في الدلالة على المفهوم وعدمها ، فهي بحسب الوضع لا تكون ظاهرة في المفهوم في جميع الموارد ، ولا غير ظاهرة فيه في جميعها ، لكنّها بحسب التراكيب الكلاميّة لابدّ أن تتعلّق بشيء ، والمتعلّق لها هو الفعل المذكور في الكلام لا محالة ، فتكون حينئذٍ ظاهرة في كونها من قيود الجملة لا من قيود المفهوم الإفرادي فتلحق بأدوات الشرط من هذه الجهة فتكون ظاهرة في المفهوم ، نعم فيما إذا قامت قرينة على دخول الغاية في حكم المغيّى كما في « سر من البصرة إلى الكوفة » كان ظهور القيد في نفسه في رجوعه إلى الجملة معارضاً بظهور كونه قيداً للمعنى الإفرادي من جهة مناسبة ذلك لدخول الغاية في حكم المغيّى ، فيكون الظهوران متصادمين ، فإن كان أحدهما أظهر من الآخر قدّم ذلك ، وإلاّ لم ينعقد للكلام ظهور أصلاً » (١).

الثالث : ما أفاده بعض الأعلام في محاضراته وحاصله : إنّ الغاية إذا كانت قيداً للمتعلّق ( كقوله تعالى : ( أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) ) أو الموضوع ( كما في مثل قوله تعالى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ) ) فحالها حال الوصف فلا تدلّ على المفهوم ، وإذا كانت قيداً للحكم ( كقوله عليه‌السلام : كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام ) فحالها في مقام الثبوت حال القضيّة الشرطيّة ، بل لا يبعد كونها أقوى دلالة منها على المفهوم ، ضرورة أنّه لو لم يدلّ على المفهوم لزم من فرض وجود الغاية عدمه ، يعني ما فرض غاية له ليس بغاية وهذا خلف ، فظهر أنّ دلالة الغاية على المفهوم ترتكز على ظهور القضيّة في رجوعها إلى الحكم (٢).

الرابع : ما أفاده المحقّق العراقي رحمه‌الله وحاصله : أنّ الذي يسهّل الخطب هو ظهور القضايا الغائيّة كلّية في نفسها في رجوع الغاية فيها إلى النسبة الحكميّة ، وأنّ وجوب إكرام زيد في قوله :

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٤٣٧.

(٢) راجع المحاضرات : ج ٥ ، ص ١٣٧ ـ ١٤٠.

٥٢

« أكرم زيداً إلى أن يقدم الحاج » هو المغيّى بالغاية التي هي قدوم الحاج ، وعليه فلا جرم تكون القضيّة دالّة على انتفاء سنخ وجوب الإكرام عن زيد عند الغاية ، من جهة أنّ احتمال ثبوت شخص وجوب آخر له فيما بعد الغاية ممّا يدفعه قضية الإطلاق المثبت لانحصاره في ذلك الفرد من الطلب الشخصي ، نعم لو كانت الغاية في القضيّة راجعة إلى خصوص الموضوع أو المحمول ( لا إلى النسبة الحكميّة ) لكان للمنع عن الدلالة على ارتفاع سنخ الحكم عمّا بعد الغاية كمال مجال (١).

أقول : لا يخفى أنّ مرجع أكثر هذه البيانات إلى أنّ القيد إن كان قيداً للحكم يدلّ على المفهوم ، وإن لم يكن قيداً للحكم لا يدلّ على المفهوم ، مع أنّه قد مرّ أنّ القيد في جميع الموارد يرجع إلى الحكم إلاّ أنّه تارةً يرجع إليه بلا واسطة ، واخرى يرجع إليه مع الواسطة ( وهي الموضوع أو المتعلّق ).

هذا ـ مضافاً إلى أنّ أداة الغاية إنّما هي من أداة الجرّ ، ولا إشكال في أنّ الجار والمجرور متعلّق بالفعل دائماً كما قرّر في محلّه ، وبهذا اللحاظ تكون الغاية قيداً للحكم بلا واسطة في جميع الموارد ولو قلنا بأنّ الوصف قد يكون قيداً للموضوع.

وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله من أنّ قيد « إلى الكوفة » في قولك « سر من البصرة إلى الكوفة » قيد للموضوع ( أي المفهوم الافرادي على تعبيره ) وهو السير ، من باب أنّ الغاية وهي الكوفة في هذا المثال داخلة في المغيّى ـ فهو في غير محلّه ، لأنّ مرجع جميع القيود هو الفعل وإن كانت راجعة ابتداءً إلى الموضوع.

هذا ـ مضافاً إلى عدم الدليل على دخول الغاية ( وهو الكوفة ) في المثال المزبور في المغيّى ولا شاهد له.

ومنه يظهر الحال فيما أفاده في المحاضرات.

وأمّا كلام المحقّق العراقي رحمه‌الله فيرد عليه : أنّ رجوع القيد إلى النسبة الحكميّة لا ينفكّ في الحقيقة عن الرجوع إلى الحكم ، وأيّ فرق بين تقييد وجوب إكرام زيد بمجيئه ، أو تقييد نسبة الوجوب إلى الإكرام بذلك؟

__________________

(١) راجع نهاية الأفكار : ج ١ ، ص ٤٩٧ ـ ٤٩٨.

٥٣

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الغاية تدلّ على المفهوم لأنّ الظاهر رجوع القيد إلى الحكم في جميع الموارد ، وبالنتيجة يكون دالاً على المفهوم ما لم تقم قرينة على خلافه.

هذا كلّه في الجهة الاولى.

وأمّا الجهة الثانية ـ وهي دخول الغاية في المغيّى بحسب الحكم وعدمه :

ففيها خمسة وجوه أو خمسة أقوال :

الأوّل : الدخول مطلقاً.

الثاني : الخروج مطلقاً وقد ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله وفي تهذيب الاصول.

الثالث : التفصيل بين ما إذا كانت الغاية من جنس المغيّى كقوله تعالى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ) ( حيث إنّ المرافق من جنس الأيدي ) فهي داخلة فيه ، وبين ما إذا لم تكن الغاية من جنس المغيّى كقوله تعالى ( أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) فهي خارجة عنه.

الرابع : التفصيل في أدات الغاية بين كلمة « إلى » وكلمة « حتّى » ، فإن كانت الغاية مدخولة لكلمة « إلى » كانت خارجة عن المغيّى ، وإن كانت مدخولة لكلمة « حتّى » كانت داخلة فيه ، وقد ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله.

الخامس : عدم كونها داخلة في المغيّى أو خارجة عنه على نحو العموم بل المقامات مختلفة بحسب اختلاف المقامات والقرائن الموجودة فيها ، مع فقد القرينة يكون المرجع هو الأصل العملي.

ولا إشكال في أنّ محلّ البحث في المقام ما إذا كانت الغاية ذات أجزاء كالكوفة في مثال « سر من البصرة إلى الكوفة » ومثل سورة الإسراء في قولك : « اقرأ القرآن إلى سورة الإسراء » وأمّا إذا لم يتصوّر لها أجزاء مثل قولك : « اقرأ القرآن

من أوّله إلى آخره » أو « اقرأ القرآن إلى آخر الجزء العاشر » فهو خارج عن محلّ الكلام كما لا يخفى.

وكيف كان ، فقد استدلّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله للقول الثاني : ( أي خروج الغاية عن المغيّى مطلقاً ) بأنّ الغاية من حدود المغيّى فلا تكون محكومة بحكمه لأنّ حدّ الشيء خارج عن الشيء.

٥٤

وفيه : إنّ المسألة لفظية لا مدخل للعقل فيها بل لابدّ فيها من الرجوع إلى الاستظهارات العرفيّة من اللفظ.

واستدلّ في تهذيب الاصول بأنّ الكوفة لو كانت اسماً لذلك الموضع المحصور بسورها وجدرانها وفرضنا أنّ المكلّف سار من البصرة منتهياً سيره إلى جدرانها من دون أن يدخل جزء من الكوفة يصدق أنّه أتى بالمأمور به وامتثل ، ويشهد على ما ذكرنا صدق قول القائل : « قرأت القرآن إلى سورة الإسراء » إذا انتهى به القراءة إلى الإسراء ، ولم يقرأ شيئاً من تلك السورة ، وقس عليه نظائره وأشباهه (١).

أقول : لا يرد عليه ما أوردناه على المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، فإنّه قد ورد في المسألة من بابها ، أي من طريق العرف والاستظهارات العرفيّة.

ولكن يرد عليه أيضاً : إنّا لا نحرز كون حكم العرف بذلك من باب ظهور اللفظ ، بل لعلّه لأجل جريان أصل البراءة عن الأكثر ، أي عن وجوب السير في الكوفة ، وذلك من باب عدم قيام دليل على وجوبه وقصور اللفظ عنه ، فتصل النوبة إلى أصالة البراءة ، وتظهر الثمرة بينهما فيما عارضه دليل لفظي آخر ، فعلى الأوّل يكون من قبيل المتعارضين ، وعلى الثاني ترفع اليد عن الأصل العملي بسبب الأمارة.

أمّا القول الثالث : وهو التفصيل بين ما إذا كانت الغاية متّحدة في الجنس مع المغيّى وما إذا كانت مختلفة معه ـ فلم نتحقّق له وجهاً ، والإنصاف أنّه وإن كان من الممكن أن يصير الاتّحاد في الجنس قرينة على الدخول إلاّ أنّ دعواه على نحو كلّي شامل لجميع الموارد مشكلة جدّاً.

وأمّا القول الرابع : وهو التفصيل بين كلمة « حتّى » و « إلى » ـ فاستدلّ له المحقّق النائيني رحمه‌الله بأنّ « كلمة حتّى تستعمل غالباً في ادخال الفرد الخفي في موضع الحكم فتكون الغاية حينئذٍ داخلة في المغيّى لا محالة » (٢) ولكنّه إنّما نشأ من الخلط بين حتّى العاطفة والخافضة ( كما أشار إليه بعض الأعلام في هامش أجود التقريرات ) فهي في جميع الموارد التي استعملت لادخال الفرد الخفي كما في قولنا : « مات الناس كلّهم حتّى الأنبياء » ( فإنّ الأنبياء في هذا المثال يعدّ فرداً خفياً بالنسبة إلى حكم الموت ) لا تدلّ على كون ما بعدها غاية لما قبلها بل هي من أداة العطف حينئذٍ كما لا يخفى.

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٦٦ ، طبع مهر.

(٢) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٤٣٦.

٥٥

وقد ظهر بما ذكرنا ضعف القول الأوّل أيضاً ( وهو الدخول مطلقاً ) كما ظهر أنّ الحقّ هو القول الخامس ، وهو أنّه لا ظهور لأداة الغاية لا في دخول الغاية في المغيّى ولا في خروجها عنه ، فلا بدّ من تعيين ما تقتضيه القرينة ، وهي مختلفة بحسب اختلاف المقامات والمناسبات ، ومع عدم وجود قرينة يصير الكلام مجملاً ، وقد يؤيّد ذلك ما نشاهده في المحاورات العرفيّة من السؤال عن أنّ الغاية داخلة في المغيّى أو خارجة عنه؟ ففي ما إذا قيل مثلاً : « اقرأ القرآن إلى الجزء العاشر » ولا توجد في البين قرينة قإنهّ يتساءل : هل تجب قراءة الجزء العاشر أيضاً أو لا؟

ثمّ إنّ الظاهر أنّ الأصل العملي في صورة الشكّ والإجمال وفقد القرينة هو البراءة لا الاستصحاب ، لأنّ من أركان الاستصحاب وحدة الموضوع ، ولا إشكال في أنّ ما بعد الغاية موضوع آخر غير ما قبلها ، ولا أقلّ في أنّه كذلك في أكثر الموارد.

بقي هنا شيء

وهو كلام شيخنا المحقّق الحائري رحمه‌الله في الدرر : فإنّه قال : « التحقيق في المقام أنّ الغاية التي جعلت محلاً للكلام في هذا النزاع لو كان المراد منها هو الغاية عقلاً أعني انتهاء الشيء فهذا مبني على بطلان الجزء غير القابل للتقسيم وصحّته ، فإن قلنا بالثاني فالغاية داخلة في المغيّى يقيناً فإنّ انتهاء الشيء على هذا عبارة عن جزئه الأخير ، فكما أنّ باقي الأجزاء داخلة في الشيء كذلك الجزء الأخير ، وإن قلنا بالأوّل فالغاية غير داخلة لأنّها حينئذٍ عبارة عن النقطة الموهومة التي لا وجود لها في الخارج ... » ثمّ ذكر احتمالاً ثانياً وهو أن يكون محلّ النزاع مدخول حتّى وإلى ، وأن لا يكون غاية عقلاً ، وفصّل بين ما إذا كانت الغاية قيداً للفعل ( للموضوع ) وما إذا كانت قيداً للحكم (١). ( انتهى محلّ الحاجة ).

أقول : الإنصاف أنّ المسألة لفظيّة لا تناسبها ولا ترتبط بها مسألة عقليّة ، فلا مجال لما ذكره في الشقّ الأوّل من كلامه.

__________________

(١) راجع درر الفوائد ، ص ٢٠٥ ، طبع جماعة المدرّسين.

٥٦

٤ ـ الكلام في مفهوم الحصر

إنّ للحصر أدوات :

منها : كلمة « إلاّ » الاستثنائيّة ( إذا وردت بعد النفي ) فقام الإجماع ووقع الاتّفاق فيها ( غير ما نسب إلى أبي جنيفة ) على انتفاء الحكم الثابت للمستثنى منه عن المستثنى ، والدليل عليه هو التبادر ، ففي قولك « ما جاء القوم إلاّزيداً » لا إشكال في أنّ المتبادر منه إخراج زيد عن حكم المجيء الثابت للقوم ، وهذا جارٍ في كلّ ما يعادل كلمة « إلاّ » في سائر اللغات.

ونسب الخلاف إلى أبي حنيفة ، وحكي إنّه احتجّ لمذهبه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، « لا صلاة إلاّبطهور » وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، « لا صلاة إلاّبفاتحة الكتاب » إذ لو كان الاستثناء من النفي إثباتاً لزم كفاية الطهور أو الفاتحة في صدق الصّلاة ، وإن كانت فاقدة لباقي الشرائط والأجزاء ، وهو كما ترى.

واجيب عنه : بوجوه أحسنها أنّه غفل عن كلمة « الباء » في المثالين ، حيث إنّها فيهما بمعنى « مع » ومفادهما حينئذٍ : إنّ من شرائط صحّة الصّلاة فاتحة الكتاب والطهور ، نعم لو قيل : « لا صلاة إلاّفاتحة الكتاب » أو « لا صلاة إلاّ الطهور » من دون الباء كان لكلامه وجه.

سلّمنا ، ولكن الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز ، ومجرّد الاستعمال لا يكون دليلاً على الحقيقة أو المجاز ، بل الميزان في تشخيص أحدهما عن الآخر هو التبادر ونحوه من الإطّراد وغيره ، ولا إشكال في أنّ التبادر في ما نحن فيه يقضي على دلالة كلمة « إلاّ » على الاستثناء.

وللمحقّق النائيني رحمه‌الله هنا تفصيل مرّ منه في بعض الأبحاث السابقة أيضاً ، فإنّ المعيار الكلّي عنده في باب المفاهيم رجوع القيد إلى الحكم أو إلى الموضوع.

وبعبارة اخرى : رجوع القيد إلى الجملة أو إلى المفرد ، فإن رجع إلى الجملة فله المفهوم ، وإن رجع إلى المفرد فليس له المفهوم ، وهنا صرّح بأنّ كلمة « إلاّ » كلّما رجع إلى المفهوم الإفرادي فهي وصفية لا تدلّ على المفهوم ، وكلّما رجعت إلى المفهوم التركيبي فهي استثنائيّة تدلّ على

٥٧

المفهوم ، ثمّ ذكر فروعاً نقلاً عن المحقّق رحمه‌الله في الشرائع والعلاّمة رحمه‌الله في القواعد ، وفرّعها على هذا البحث ، منها : « ما لو قال المقرّ : عليّ لزيد عشرة إلاّدرهماً » فإنّه يثبت حينئذٍ في ذمّته تسعة دراهم لأنّ كلمة « إلاّ » في هذا الكلام لا تكون إلاّ استثنائيّة إذ لو كانت وصفيّة لوجب أن يتّبع ما بعدها ما قبلها في الاعراب ، وبما أنّ ما بعدها في المثال منصوب مع كون ما قبلها مرفوعاً لا تكون هي وصفية فانحصر الأمر في كونها استثنائيّة ، خلافاً لما إذا قال : « عليّ لزيد عشرة إلاّ درهم » بالرفع فإنّه يثبت في ذمّته تمام العشرة لتمحّض كلمة « إلاّ » حينئذٍ في الوصفيّة ولا يصحّ كونها استثنائيّة وإلاّ لزم أن يكون ما بعدها منصوباً على الاستثناء ، لأنّ الكلام موجب ، فتمام العشرة المتّصفة بأنّها غير درهم واحد تثبت في ذمّة المقرّ » (١).

أقول : هنا نكات ينبغي الإلتفات إليها :

الاولى : أنّه ليست كلمة « إلاّ » الاستثنائيّة منحصرة فيما ترجع إلى الجملة والمفهوم التركيبي بل ربّما ترجع إلى المفرد أيضاً كما في قوله تعالى : « فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً » فلا إشكال في رجوع « إلاّ خمسين عاماً » إلى كلمة « الف سنة » لا إلى « لبث » وكذلك في كلّ مورد يكون الغرض فيه بيان مقدار العدد وتفخيمه وتعظيمه.

الثانية : أنّ كلامه في باب الإقرار إنّما يتمّ فيما إذا كان المتكلّم المقرّ أمثال سيبويه والكسائي العارف بقواعد اللغة العربيّة الفصحى ، وأمّا إذا كان المتكلّم من عامّة الناس فلا بدّ من حمل كلمة « إلاّ » على كونها استثنائيّة لأنّهم ليسوا مقيّدين بأن يستعملوا الألفاظ صحيحاً ، مضافاً إلى أنّ كون كلمة إلاّ استثنائيّة هو مقتضى الأصل الأوّلي ، فحملها على الوصفية يحتاج إلى القرينة.

بقي هنا أمران

الأمر الأوّل : إنّ ما مرّ حول كلمة إلاّ الاستثنائيّة من دلالتها على المفهوم هل هو من باب المفهوم أو المنطوق؟

فيه أقوال :

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٤٣٨.

٥٨

أحدها : إنّه من المفهوم.

ثانيها : إنّه من المنطوق.

ثالثها : التفصيل بين ما إذا قلنا بأنّ كلمة إلاّبمعنى « استثنى » فيكون داخلاً في المنطوق ، وبين ما إذا قلنا بأنّها حرف من الحروف الربطيّة التي ليس لها معنى مستقلّ ، فيكون مدلولها من قبيل المداليل الالتزاميّة ، ويكون داخلاً في المفهوم.

أقول : إنّ مدلول كلمة إلاّ الاستثنائيّة على أي حال ـ سواء كانت بمعنى الفعل أو كانت من الحروف ـ يكون من المنطوق ، أمّا إذا كانت بمعنى الفعل فواضح ، وأمّا إذا كانت حرفاً من الحروف فلأنّها حينئذٍ تكون من الحروف الإيجاديّة يوجد بها معنى الاستثناء كحروف النداء وحروف التمنّي والترجّي التي يوجد بها مفهوم النداء والتمنّي والترجّي ، وتصير حينئذٍ بمنزلة كلمة « استثنى » ويصير مدلولها من قبيل المنطوق كما لا يخفى.

الأمر الثاني : قد يستدلّ لدلالة كلمة إلاّ الاستثنائيّة على الحصر بقبول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إسلام من يشهد بأن « لا إله إلاّ الله » حيث إنّه لولا دلالته على حصر الالوهيّة لله تعالى لما كان مفيداً لذلك.

واستشكل على ذلك بأنّ الاستعمال ليس دليلاً على الحقيقة ولا على المجاز ، ودلالة كلمة التوحيد على الحصر المزبور لعلّها من باب قيام قرينة حاليّة أو مقاميّة عليه لا من باب وضع كلمة إلاّللحصر.

أقول : الإنصاف أنّه خلاف الوجدان ، فإنّه شاهد على أنّ الحصر في هذه الجملة مفهوم من نفس كلمة إلاّومن حاقّها لا من القرينة فيكون الاستدلال بكلمة التوحيد على الحصر من قبيل الاستدلال بالتبادر كما لا يخفى.

نعم هيهنا إشكال آخر ، وهو المهمّ في المقام ، وحاصله : إنّه لابدّ لكلمة « لا » في تلك الجملة من خبر مقدّر ، وهو امّا لفظ « موجود » أو « ممكن » ، وعلى كلّ واحد منهما لا تدلّ الجملة على التوحيد الكامل ، لأنّها تدلّ على التقدير الأوّل على مجرّد حصر الإله في الباري تعالى ، ولا تدلّ على نفي إمكان الغير ، وعلى التقدير الثاني وإن كانت دالّة على نفي إمكان الشريك له تعالى حينئذٍ ولكنّها لا تدلّ على وجوده تعالى في الخارج.

وقد وقع الإعلام في حلّ هذا الإشكال في حيص وبيص وأجابوا عنه بوجوه :

٥٩

الوجه الأوّل : ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله وحاصله : إنّ المقدّر لخبر « لا » هو لفظ « موجود » أي لا إله موجود إلاّ الله ، ولكن المراد من الإله هو واجب الوجود ، وحينئذٍ نفي وجود غيره في الخارج وإثبات فرد من الواجب في الخارج ممّا يدلّ على إمتناع غيره ، إذ لو لم يكن الغير ممتنعاً لوجد في الخارج ، لأنّ المفروض إنّه واجب لا ممكن.

الوجه الثاني : ما أفاده المحقّق الإصفهاني رحمه‌الله وحاصله : سواء كان المقدّر لفظ « موجود » أو لفظ « ممكن » كان وجود الغير وإمكانه معاً منتفيان ، إمّا بناءً على الأوّل فبنفس ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، وأمّا بناءً على الثاني فلأنّه يكون المراد من الإله في هذا الحال أيضاً هو واجب الوجود ، أي لا واجب ممكن إلاّ الله ، فينفي إمكان الغير بالمدلول المطابقي ووجود الغير بالمدلول الالتزامي ( على عكس الصورة الاولى ) لأنّ ما ليس بممكن لا يكون موجوداً بالملازمة كما لا يخفى ، كما أنّه يثبت إمكان وجود الباري تعالى بالمطابقة ووجوده في الخارج بالملازمة لأنّه إذا كان واجب الوجود ممكناً كان موجوداً لا محالة لوجوبه (١).

الوجه الثالث : ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله فإنّه قال : « يمكن أن يقال : إنّ كلمة لا الواقعة في كلمة التوحيد مستغنية عن الخبر كما هو الحال في كلمة لولا الامتناعيّة وفي كلمة ليس التامّة ، وأمّا ما ذكره النحويون من كون الخبر محذوفاً في هذه الموارد فلا يبعد أن يكون مرادهم به عدم الحاجة إلى الخبر فيها لا أنّه محذوف حقيقة ، فكلمة « لا » تدلّ على عدم تقرّر مدخولها في الوعاء المناسب له ، ففي الرّواية المعروفة ( لولا علي لهلك عمر ) يكون المراد ترتّب الهلاك على عدم تقرّر علي عليه‌السلام في الخارج ، لأنّ هذا هو الوعاء المناسب لتقرّره عليه‌السلام ، وإمّا في كلمة التوحيد فالمراد من التقرّر المنفي هو التقرّر مطلقاً ولو في مرحلة الإمكان ، فتدلّ الكلمة المباركة على نفي الوجود والإمكان عن غير الله وإثبات كليهما له تبارك وتعالى » (٢).

أقول : الإنصاف أنّ ما أفاده العلمان الأوّلان ( المحقّق الخراساني والمحقّق الإصفهاني رحمهما الله ) كلاهما لا يكفيان لدفع الإشكال لأنّهما مبنيان على دقّة عقليّة فلسفيّة لا يفهمها إلاّ الفيلسوف ، مع أنّ المفروض أنّ هذه الكلمة من أي شخص صدرت تدلّ على إسلامه ، وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله فإنّه أيضاً غير تامّ لجهة اخرى وهي أنّه لم يثبت استعمال كلمة « لا » تامّة نظير ليس

__________________

(١) راجع نهاية الدراية : ج ١ ، ص ٣٣٢ ، من الطبع القديم.

(٢) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ٤٤٠.

٦٠