أنوار الأصول - ج ٢

أنوار الأصول - ج ٢

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-14-8
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٥٠٤

وهو العمدة في المقام ، فلا تنجّز للأحكام العقليّة ولا يجب امتثالها في النتيجة ، مع أنّ القائل بالملازمة يريد أن يجعل دليل العقل من الأدلّة الأربعة التي تنكشف بها القوانين الشرعيّة الإلزاميّة.

الثاني : أنّ العقل أيضاً داخل في زمرة الرسل ، فإنّه رسول وحجّة باطنة كما أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حجّة ظاهرة ، وقد ورد في رواية هشام : « أنّ لله على الناس حجّتين : حجّة ظاهرة وحجّة باطنة فأمّا الظاهر فالرسل والأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام ، وأمّا الباطنة فالعقول » (١) وفي رواية عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « حجّة الله على العباد النبي ، والحجّة فيما بين العباد وبين الله العقل » (٢).

وفيه : أنّ الرسول في الآية بقرينة كلمة البعث ظاهر في الرسول الظاهري ومنصرف إلى الحجج الظاهرة.

الثالث : ( وهو الحقّ ) أنّ المراد من العذاب في الآية ليس مطلق العذاب ، بل المراد منه عذاب الإستئصال الذي يوجب الهدم والهلاك في الدنيا كالطوفان لقوم نوح عليه‌السلام والغرق لقوم فرعون والصيحة السماويّة لأقوام اخر ، فالآية إشارة إلى هذا النوع من العذاب ، ولذلك عبّرت عنه بصيغة الماضي بقوله تعالى : « ما كنّا » ويشهد لذلك أيضاً ما وردت بعدها من قوله تعالى : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) (٣). ولا أقلّ من أنّه ليس للآية إطلاق يشمل غير عذاب الإستئصال فإنّها محفوفة بما يصلح للقرينة.

الرابع : أنّ الآية كناية عن إتمام الحجّة ويكون ذكر بعث الرسل فيها من باب الغلبة لأنّ جلّ الأحكام وصلت إلينا من طريق الأدلّة السمعيّة ، فيكون مفاد الآية « إنّا لا نعذّب العباد حتّى نتمّ الحجّة عليهم » ويشهد على هذا قوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ) (٤).

وهذا الجواب أيضاً لا بأس به.

__________________

(١) اصول الكافي : باب العقل والجهل ، ح ١٢.

(٢) المصدر السابق : ح ٢٢.

(٣) سورة الإسراء : الآية ١٦ و ١٧.

(٤) سورة طه : الآية ١٣٤.

٤٦١

الخامس : سلّمنا ولكن إطلاق الآية قابل للتقييد بالمستقلاّت العقليّة ، فإنّ هذا الظهور دليل ظنّي وذاك دليل قطعي.

فتلخّص من جميع ما ذكر أنّ الاستدلال بالآية لنفي الملازمة غير تامّ بالوجوه الثلاثة الأخيرة.

الوجه الثاني : لعدم الملازمة : ما يدلّ من الرّوايات على خلوّ كلّ شيء عن الحكم قبل ورود الشرع وأنّ كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي (١).

والجواب عن هذا الاستدلال هو الوجهان الأخيران من الوجوه الخمسة المذكورة في الجواب عن الدليل الأوّل :

أحدهما : انصراف إطلاقها إلى الغالب ، والثاني : أنّ الإطلاق على فرض ثبوته قابل للتقييد.

الوجه الثالث : ما ذكر في علم الكلام من استناد لزوم بعث الرسل إلى قاعدة اللطف لأنّ تمام اللطف وكماله متوقّف على تأكيد أحكام العقل بأدلّة سمعية وإمضائها من ناحية بعث الرسل.

والجواب عن هذا واضح ، وهو ما مرّ في البحث عن الإجماع اللطفي ، فقد ذكرنا هناك أنّ الواجب من اللطف عبارة عن إيجاد الحدّ الأقل من تهيئة أسباب الرشد والكمال بحيث لو لم يعدّها المولى لكان مقصّراً في أداء وظيفته وناقضاً لغرضه.

الوجه الرابع : ثبوت الأحكام العقليّة في حقّ الصبي المراهق إذا كان كامل العقل لطيف القريحة مع عدم كونه مكلّفاً بوجوب ولا تحريم باتّفاق جميع الفقهاء لحديث رفع القلم.

وفيه : أنّه يمكن أن يقال أنّ حديث رفع القلم ناظر إلى غالب الأحكام ويكون منصرفاً عن المستقلاّت العقليّة ، فهل يمكن أن يفتي أحد من الفقهاء بجواز قتل النفس المحترمة والظلم على الناس وغير ذلك من القبائح لمثل هذا الصبي ويحكم بعدم عقابه في الآخرة؟ كلاّ ـ ولا زال فكري مشغولاً بهذا وكنت أستبعده منذ الزمن القديم ، والإنصاف هو الحكم بتحريم مثل هذه الامور على الصبي المذكور.

فإن قلت : فلماذا لا يجري عليه أحكام القصاص بل يكتفي فيه بأخذ الديّة وصرّح الفقهاء بأنّ عمد الصبي خطأ.

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ١٢ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٦٠.

٤٦٢

قلنا : البحث في القصاص والديّات خارج عن محلّ النزاع ، لأنّ النزاع في العقاب وعدمه ، ونفي القصاص عنه في الدنيا لمصلحة خاصّة أو مفسدة خاصّة لا يلازم نفي العقاب في الآخرة ، مضافاً إلى أنّ أحكام الحدود والديّات والقصاص لا تصاب بالعقول كما يشهد عليه قصّة أبان ، فإنّ الحدّ مثلاً ثابت بالنسبة إلى معصية وغير ثابت بالنسبة إلى معصية اخرى أشدّ منها ظاهراً.

هذه هي أدلّة منكري الملازمة مع الجواب عن كلّ منها على حدة ، ويمكن الجواب عن جميعها بالنقض بوجوب النظر في معجزة من يدّعي النبوّة ويقول : « انظروا في معجزتي لتعلموا صدقي » فلا إشكال في وجوب النظر عقلاً ، ولو أنكرنا الملازمة وقلنا بلزوم الاكتفاء بالشرع لزم عدم وجوب هذا النظر وسدّ باب دعوة الأنبياء.

هذا كلّه في القول الثاني وهو إنكار الملازمة مطلقاً.

وأمّا القول الثالث : وهو ما ذهب إليه صاحب الفصول ( من التفصيل بين حكم العقل بحسن التكليف وحكمه بحسن الفعل وأنّ الملازمة ثابتة في الأوّل دون الثاني ) فقد ذكر لذلك وجوهاً :

أحدها : حسن التكليف الابتلائي فإنّ الضرورة قاضية بحسن أمر المولى عبده بما لا يستحقّ فاعله ( من حيث إنّه فاعله ) المدح في نظره استخباراً لأمر العبد أو إظهاراً لحاله عند غيره ، ولو كان حسن التكليف مقصوراً

على حسن الفعل لما حسن ذلك.

وحاصله : أنّ الأوامر الإمتحانيّة ممّا لا يمكن إنكارها مع عدم وجود الحسن في نفس الفعل بل في التكليف.

والجواب عن هذا الوجه يتمّ بذكر أمرين :

الأمر الأول : أنّه فرق بين الإمتحانات الإلهية والإمتحانات الواقعة من جانب الموالي العرفيّة ، لأنّ الاولى ليست للاستخبار ولا معنى له فيها لأنّ الله تبارك وتعالى عالم السرّ والخفيّات ، بل إنّها أسباب تربوية لتكامل العباد ورشدهم وبمنزلة تمرينات يعمل بها قبل الورود في ميدان المسابقات ، التي تعدّ نوعاً من التقوية والتهيّؤ الروحاني نظير التهيّؤ الجسماني ، فتكون المصلحة في نفس الفعل والمقدّمات التي تتحقّق في الخارج ، فإنّ جميعها تحوي على المصلحة ، والمصلحة هي ما ذكر من التعليم والتربيّة والتقوية الروحانيّة كما حصلت لإبراهيم

٤٦٣

في قصّة ذبحه لإسماعيل أشار إليه تبارك وتعالى بقوله : ( وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) (١) ، فإنّ المصلحة فيها موجودة في الفعل ، أي في جميع المقدّمات قبل حصول ذي المقدّمة والوصول إليها ، فإذا وصلت إلى ذي المقدّمة منع عن تحقّقه مانع من جانب الله تعالى.

الأمر الثاني : وإن أبيت عن ما ذكر ( من وجود المصلحة في الفعل ) فنقول : الأوامر الإمتحانية خارجة عن محلّ النزاع ، لأنّ النزاع في الأوامر الجدّية التي تنشأ عن جدٍّ ، والأوامر الإمتحانية إنشاءات صادرة بالإرادة الاستعماليّة بداعي الإمتحان لا بداعي الجدّ.

ثانيها : التكاليف التي ترد مورد التقيّة إذا لم يكن في نفس العمل تقيّة فإنّ إمكانها بل وقوعها في الأخبار المأثورة عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام ممّا لا يكاد يعتريه شوب الإنكار ، وإن منعنا وقوعه في حقّه تعالى بل وفي حقّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً فإنّ تلك التكاليف متّصفة بالحسن والرجحان لما فيها من صون المكلّف أو المكلَّف عن مكائد الأعادي وشرورهم وإن تجرّد ما كلّف به عن الحسن الابتدائي.

والجواب عنه هو الجواب عن الوجه الأوّل ، فإنّ هذا القسم من الأوامر أيضاً خارجة عن محلّ النزاع لخلوّها عن الإرادة الجدّية.

ثالثها : أنّ كثيراً من الأحكام المقرّرة في الشريعة معلّلة في الحقيقة ولو بحسب الظنّ أو الاحتمال بحكم غير مطرد في جميع مواردها ، ومع ذلك فقد حافظ الشارع على عمومها وكلّيتها حذراً من الأداء إلى الاخلال بموارد الحكم كتشريع العدّة لحفظ الأنساب من الاختلاط حيث أثبتها الشارع بشرائطها على سبيل الكلّية حتّى مع القطع بعدم النسب أو بعدم الاختلاط كما في المطلّقة المدخول بها دبراً أو مجرّداً عن الإنزال والغائب عنها زوجها أو المتروك وطيها مدّة الحمل وغير ذلك.

وفيه : أنّه يظهر بالتأمّل والدقّة في هذه الموارد أنّ الفعل أيضاً حسن وذو مصلحة لأنّ العدّة في موارد القطع بعدم الاختلاط مثلاً يوجب الممارسة والتربيّة لإحراز القانون وحفظها في موارد الاختلاط والالتباس ، فله حسن مقدّمي غيري نظير رعاية مقرّرات السياقة في جوف

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٢٤.

٤٦٤

الليل وحين خلوة الشارع فإنّ فيها مصلحة حفظ هذه المقرّرات في غير ذلك الزمان.

رابعها : « الأخبار الدالّة على عدم تعلّق بعض التكاليف بهذه الامّة دفعاً للكلفة والمشقّة عنهم كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « لولا أن أشقّ على امّتي لأمرتهم بالسواك » فإنّ وجود المشقّة في الفعل قد يقدح في حسن الإلزام به وإن لم يقدح في حسن الفعل ، إلاّ أن يكون في الفعل مزيد حسن بحيث يرجّح الإلزام به مع المشقّة كما في الجهاد ، فإنّ الفعل الشاقّ قد يكون حسناً بل واجباً عقليّاً لكن لا يحسن الإلزام به لما فيه من التضييق على المكلّف مع قضاء الحكمة بعدمه ».

ويرد عليه : أنّ الإنصاف في مثال السواك أنّ المشقّة موجودة في الفعل بوصف الدوام وهو لا يناسب الشريعة السمحة السهلة فلا توجد فيه مصلحة حينئذٍ ، أي عمل السواك الدائمي ليس ذا مصلحة بل المصلحة موجودة فيه في الجملة ، وبعبارة اخرى : أنّ الرّواية وإن دلّت بظاهرها على وجود المشقّة في الوجوب والإلزام لكن بعد التأمّل يظهر لنا أنّ مشقّة الإلزام تنشأ من مشقّة دوام الفعل لأنّه لو كان الواجب السواك في بعض الأحيان مثلاً لم يكن في الفعل مشقّة ، فالمشقّة ناشئة من الفعل بوصف الدوام ، فلا ينشأ عدم الإلزام من عدم حسن التكليف بل ينشأ في الواقع من عدم حسن الفعل المكلّف به.

خامسها : « أنّ الصبي المراهق إذا كان كامل العقل لطيف القريحة تثبت الأحكام العقليّة في حقّه كغيره من الكاملين ومع ذلك لم يكلّفه الشارع بوجوب ولا تحريم لمصالح داعية إلى ترك تكليفه بهما من التوسعة عليه وحفظ القوانين الشرعيّة عن التشويش وعدم الانضباط ».

والجواب عنه قد مرّ سابقاً من منع عدم العقاب الاخروي في المستقلاّت العقليّة في مثل هذا الصبي ، وأمّا حديث رفع القلم فالظاهر أنّه ناظر إلى غالب الأحكام الشرعيّة.

سادسها : « أنّ جملة من الأوامر الشرعيّة المتعلّقة بجملة من الأفعال مشروطة بقصد القربه والامتثال حتّى أنّها لو تجرّدت عنه لتجرّدت عن وصف الوجوب كالصوم والصّلاة والحجّ والزّكاة ، فإنّ وقوعها موصوف بالوجوب الشرعي أو رجحانه مشروط بنيّة القربة حتّى أنّها لو وقعت بدونها لم تتّصف به ، مع أنّ تلك الأفعال بحسب الواقع لا تخلو إمّا أن تكون واجبات عقليّة مطلقاً ، أو بشرط الأمر بها ووقوعها بقصد الامتثال ، وعلى التقديرين يثبت المقصود ، أمّا على الحكم الأوّل فلحكم العقل بوجوبها عند عدم قصد الامتثال وحكم الشارع بعدم وجوبه ، وأمّا على الثاني فلانتفاء الحسن قبل التكليف وحصوله بعده فلم يتفرّع حسن التكليف على حسن الفعل ».

٤٦٥

ويرد عليه :

أوّلاً : ما مرّ في مبحث الأوامر من عدم اعتبار قصد الأمر في تحقّق قصد القربة بل يكفي قصد كونه لله تعالى وقصد حسنه الذاتي.

وثانياً : أنّ المدّعى في المقام هو حسن الفعل في ظرف الامتثال لا حسنه في ظرف التكليف ، وأمر الشارع وإلزامه متوقّف على الأوّل لا الثاني ، ولا إشكال في أنّ حسن الفعل حاصل في ظرف الامتثال ، هذا ـ مضافاً إلى أنّه بالتأمّل يظهر أنّ أكثر هذه الإشكالات مربوطة بعكس القضيه ، وهي « كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل » ، وقد مرّ أنّ المدّعى والمختار هو الأصل والعكس معاً.

هذا كلّه في القول الثالث.

وأمّا القول الرابع : وهو ما ذهب إليه بعض فضلاء العصر من التفصيل بين ما إذا تطابقت آراء العقلاء على مصلحة أو مفسدة وبين ما إذا لم تتطابق آرائهم على ذلك ، فقال في مقام توجيهه والاستدلال عليه بما نصّه : « الحقّ أنّ الملازمة ثابتة عقلاً فإنّ العقل إذا حكم بحسن شيء أو قبحه ( أي إنّه إذا تطابقت آراء العقلاء جميعاً بما هم عقلاء على حسن شيء لما فيه من حفظ النظام وبقاء النوع أو على قبحه لما فيه من الاخلال بذلك ) فإنّ الحكم هذا يكون بادىء رأي الجميع فلا بدّ أن يحكم الشارع بحكمهم لأنّه منهم بل رئيسهم فهو بما هو عاقل ( بل خالق العقل ) كسائر العقلاء لابدّ أن يحكم بما يحكمون ولو فرضنا أنّه لم يشاركهم في حكمهم لما كان ذلك الحكم بادىء رأي الجميع ( حاصل رأي الجميع ) وهذا خلاف الفرض » (١) بل في مثل هذه الحالة صرّح في موضع آخر من كلامه بأنّ « حكم العقل حينئذٍ عين حكم الشارع لا أنّه كاشف عنه » وقال في محلّ آخر ما نصّه : « وعلى هذا فلا سبيل للعقل بما هو عقل إلى إدراك جميع ملاكات الأحكام الشرعيّة فإذا أدرك العقل المصلحة في شيء أو المفسدة في آخر ولم يكن إدراكه مستنداً إلى إدراك المصلحة أو المفسدة العامتين اللتين يتساوى في إدراكهما جميع العقلاء فإنّه ( أعني العقل ) لا سبيل له إلى الحكم بأنّ هذا المدرك يجب أن يحكم به الشارع على طبق حكم العقل ، إذ يحتمل أنّ هناك ما هو مناط لحكم الشارع غير ما أدركه العقل ، أو أنّ

__________________

(١) اصول الفقه : المجلّد الأوّل ( ص ٢٣٧ ، طبع دار النعمان بالنجف ، الطبعة الثانية ) للعلاّمة المحقّق الشيخ محمّد رضا المظفّر رحمه‌الله.

٤٦٦

هناك مانعاً يمنع من حكم الشارع على طبق ما أدركه العقل وإن كان ما أدركه مقتضياً لحكم الشارع » (١).

فملخّص كلامه هذا ثبوت الملازمة في صورة التطابق وعدم ثبوتها في صورة عدم التطابق وأنّ الوجه في الأوّل كون الشارع من العقلاء ، فلو لم يكن له حكم يستلزم الخلف ، وفي الثاني احتمال كون المناط في نظر الشارع غير ما هو المناط في نظر العقل ، أو وجود المانع في فرض اتّحاد المناط ، وقال أيضاً في موضع آخر : « والقضايا المشهورة ليس لها واقع وراء تطابق الآراء ، أي أنّ واقعها ذلك فمعنى حسن العدل أو العلم عندهم أنّ فاعله ممدوح لدى العقلاء ، ومعنى قبح الظلم والجهل أنّ فاعله مذموم لديهم » (٢).

ثمّ إنّه قال في محلّ آخر من كلامه ( بعد تقسيمه الأمر إلى المولوي والإرشادي وتفسيره الأمر المولوي بالتأسيسي والإرشادي بالتأكيدي ) ما نصّه : « والحقّ أنّه للإرشاد حيث يفرض أنّ حكم العقل هذا كافٍ لدعوة المكلّف إلى الفعل الحسن وإندفاع إرادته للقيام به فلا حاجة إلى جعل الداعي من قبل المولى ثانياً بل يكون عبثاً ولغواً بل هو مستحيل لأنّه يكون من باب تحصيل الحاصل » (٣).

ونتيجة هذا الكلام أنّ حكم الشارع في مثل قوله تعالى : ( كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ) وقوله : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ) بالقسط والعدل والاحسان إرشادي لأنّ العقل أيضاً يحكم بكلّ واحد منها.

أقول : كلّ هذا من عجائب الكلام لأنّه أوّلاً : أنّه لا دخل لتطابق آراء العقلاء في المباحث العقليّة ، بل الميزان فيها هو القطع الحاصل ببداهة العقل أو النظر والاستدلال وكلّ إنسان من هذه الناحية تابع لعقله ويقينه ، فلو قطع أحد بوجوب المقدّمة في مبحث وجود الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذي المقدّمة يكون قطعه هذا حجّة عليه ولو خالفه غيره.

وبعبارة اخرى : القطع في المقام نظير القطع في الامور الحسّية فكما أنّه حجّة للقاطع في الامور الحسّية ولا يضرّ بها مخالفة السائرين ، فكذلك في الامور العقليّة البرهانية ، وقد مرّ فيما

__________________

(١) اصول الفقه : ص ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

(٢) المصدر السابق : ص ٢٢٥.

(٣) المصدر السابق : ص ٢٣٧.

٤٦٧

سبق أنّ النزاع في المقام ليس منحصراً في الضروريات فقط فلا دور لإجماع العقلاء وتطابقهم في حجّية القطع الحاصل من الدليل العقلي ، نعم أنّها مفيدة على حدّ التأييد وإيجاد اطمئنان القلب.

وثانياً : أنّ استدلاله لعدم الملازمة في صورة عدم تطابق آراء العقلاء باحتمال أن يكون هناك مناط لحكم الشارع غير ما أدركه العقل أو مانع يمنع عنه ـ مخالف لما هو المفروض في محلّ الكلام ، لأنّ المفروض في هذه الصورة أيضاً حصول اليقين بالحسن أو القبح ( كاليقين بحسن العدل أو قبح الظلم في صورة تطابق الآراء ) جامعاً للشرائط وفاقداً للموانع ، واليقين حجّة بذاته من دون حاجة إلى تطابق الآراء.

وثالثاً : أنّ قوله باعتبار تطابق آراء العقلاء واتّفاقهم في حكم العقل بالملازمة أشبه بالتمسّك بدليل الاستقراء الذي يرجع إلى استنباط حكم عام من مشاهدة الجزئيات والمصاديق ، مع أنّ الدليل العقلي في المقام قياس يتشكّل من صغرى وكبرى ، وعبارة عن الحركة من الكلّي إلى الجزئي.

وإن شئت قلت : إن كان الاستقراء هنا استقراءً ناقصاً لا يوجب القطع بالمصلحة أو المفسدة فلا فائدة فيه ولا يستكشف منه الحكم الشرعي ، وإن كان استقراء تامّاً يشمل حكم الشارع أيضاً ، فحينئذٍ يكون الملاك ما استكشفناه من حكم الشرع ، ولا دخل أيضاً لتطابق الآراء.

ورابعاً : أنّ الملاك في مولويّة الحكم إنّما هو صدوره من المولى بما أنّه مولى ومفترض الطاعة ، أي صدوره من ناحية مولويته ، وإذاً يمكن الجمع بين التأكيد والمولويّة ، أي يمكن تأكيد أمر مولوي بأمر مولوي آخر ، فلا يكون الأمر المولوي منحصراً في التأسيس ، كما أنّ الملاك في إرشاديّة الحكم صدوره من ناحية المولى بما أنّه ناصح مرشد ( لا بما أنّه مولى ) وحينئذٍ يكون إرشاديّاً ولو كان أوّل ما صدر من المولى ، فليس منحصراً في التأكيد فالأمر في مثل قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ) أو قوله : ( كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ) مولوي قطعاً ، وإن حكم العقل أيضاً بالعدل والاحسان والقسط ، لصدوره منه تعالى بما أنّه مولى مفترض الطاعة لا بما أنّه ناصح ومرشد إلى حكم العقل.

وخامساً : أنّ قوله باستحالة حكم الشارع في مورد حكم العقل أيضاً كلام عجيب لأنّه

٤٦٨

كيف يمكن أن يكون التأكيد تحصيلاً للحاصل ، وقد قرّر في علم الكلام أنّ من غايات بعث الأنبياء تأكيد الأحكام العقليّة بواسطة التشريع ، ولم يقل أحد هناك بأنّه تحصيل للحاصل ، وقد اشتهر بينهم أنّ الواجبات الشرعيّة ألطاف في الواجبات العقليّة.

وسادساً : ما اشتهر بينهم من أنّ الحسن والقبح من المشهورات المبنية على التدريب والتربيّة ( والظاهر أنّهم أخذوه ممّا ذكره ابن سينا في منطق الإشارات ) (١) الظاهر أنّه من المشهورات التي لا أصل لها وكذا ما ورد في كلمات بعضهم من أنّ الحسن والقبح من الامور الإنشائيّة المجعولة من جانب العقلاء ، بل الحقّ أنّه في كثير من مصاديقها من الامور الواقعيّة البديهيّة أو ما يقرب من البداهة ولا دخل للتربية ولا للإنشاء فيهما.

توضيح ذلك : أنّ العدالة والظلم ( المذكورين في المثال ) لهما آثار في المجتمع الإنساني بل في الافراد من الصلاح والفساد لا يقدر أحد على إنكارها ، لا أقول : إنّه من قبيل « الواحد نصف الإثنين » بل أقول : إنّها تدرك بأدنى تأمّل وتفكّر ، فمن ذا الذي لا يدرك المفاسد الحاصلة من الظلم ، والمصالح والعمران والتكامل الحاصلة من العدل ، ولو كان هناك اختلاف فإنّما هو في موضوعاته ومصاديقه لا في أصله.

وإن شئت قلت : هناك امور ثلاثة : المصالح والمفاسد الحاصلة من العدل والظلم ونفس هذين الوصفين ( العدل والظلم ) ثمّ مدح العقلاء وذمّهم على فعلهما.

فالمصالح والمفاسد امور واقعيّة تكوينيّة ( مثل إراقة الدماء ومصادرة الأموال والاضطرابات الحاصلة منها وخراب البلاد والعدوان على العباد أو الهدوء والراحة وعمارة البلاد ورفاه العباد ، كلّ هذه وأشباهها امور تكوينيّة ) وعلى أثر ذلك يستحسن عقل الإنسان العدالة ويستقبح الظلم من غير حاجة إلى من يعلّمه ويدرّبه أو يقوم بالجعل والإنشاء.

ثمّ بعد ذلك يمدح العادل ويذمّ الظالم ، والإنشاء إنّما هو في هذه المرحلة فقط ( أعني مرحلة المدح والذمّ ) وأمّا الاستحسان والتقبيح العقلييان فهما ينشئآن عن المبادىء الحاصلة من المصالح والمفاسد الخارجيّة وكأنّ الخلط بين هذه الامور الثلاثة كان سبباً للمباني الفاسدة التي أشرنا إليها آنفاً.

__________________

(١) بناءً على ما نقله عنه في اصول الفقه : المجلّد الأوّل ، ص ٢٢٥ ، من الطبع القديم ( دار النعمان بالنجف ).

٤٦٩

وفي الواقع أنّ الحسن والقبح من المعقولات الثانويّة التي يكون محلّ عروضها هو الذهن ومنشأها في الخارج ، لا من المعقولات الأوّليّة أو الامور المجعولة المحضة.

إلى هنا تمّ البحث عن المرحلة الاولى من المراحل الثلاثة المبحوث عنها في الأدلّة العقليّة ، وهو أن يكشف العقل عن حكم الشرع ويحصل القطع به من ناحية علل الأحكام التامّة ، أي المصالح والمفاسد المقتضية لحكم الشرع مع العلم بفقدان موانعها واجتماع شرائطها.

ومن هنا يظهر الكلام في المرحلة الثانية ، وهي كشف العقل حكم الشرع من ناحية معلولات الأحكام ، أي من ناحية ثبوت العقاب وعدمه ، نظير حكم العقل في الاصول العمليّة العقليّة ، وهي ثلاثة : البراءة العقليّة ، الاحتياط العقلي والتخيير العقلي.

أمّا البراءة العقليّة : فهي مبنية على كون قاعدة قبح العقاب بلا بيان قاعدة عقليّة لا عقلائيّة ، فيستكشف من حكم العقل بقبح العقاب حكم الشارع بعدم فعلية الوجوب والحرمة الواقعيين لو كانا في البين.

وأمّا الاحتياط العقلي : فهو حكم العقل بصحّة العقاب في صورة وجود العلم الإجمالي في الشبهات المحصورة ، وكذلك في الشبهات البدويّة قبل الفحص ، فيحكم العقل بفعلية الحكم الواقعي في أطراف الشبهة في الشبهات المحصورة ، ويحكم في الشبهات قبل الفحص بأنّه لو كان هناك حكم واقعي كان فعليّاً يؤخذ العبد به.

وكذلك التخيير العقلي : فإذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة يحكم العقل بقبح العقاب لمن إرتكب الفعل أو تركه ، ويكشف من هذا الطريق عدم فعلية الحكم الواقعي الشرعي ، ففي تمام موارد جريان الاصول العقليّة يكشف العقل عن حكم الشرع من طريق نتيجة الحكم ، وهي ثبوت العقاب وعدمه ، والموضع الأصلي للبحث التفصيلي عن هذه الاصول هذا المقام ، ولكن حيث إن عادة المتأخّرين من الاصوليين جرت على أن يبحثوا عنها تفصيلاً في مبحث مستقلّ تحت عنوان الاصول العمليّة فينبغي أن نتركه هنا ونحذو حذوهم.

أمّا المرحلة الثالثة : أو القسم الثالث من الأحكام العقليّة ( وهي العلاقات والملازمات العقليّة بأن يحكم العقل بالتلازم ويحصل القطع به ) فالمبحوث عنها في الاصول هي سبعة أبواب :

١ ـ باب وجوب مقدّمة الواجب ، فيدرك العقل في هذا الباب التلازم بين وجوب المقدّمة وذي المقدّمة.

٤٧٠

٢ ـ باب اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه ، وهو فيما إذا قلنا بأنّ المسألة عقليّة لا لفظيّة ( كما قال به بعض ).

٣ ـ باب اجتماع الأمر والنهي فإنّ القائلين بعدم الجواز يعتقدون بأنّ الأمر يلازم عدم النهي دائماً ، وكذا العكس فلا يجتمعان في شيء واحد ولو بعنوانين.

٤ ـ باب الأهمّ والمهمّ ، فيحكم العقل بوجود الملازمة بين أهمّية شيء وفعلية حكمه وتقديمه على المهمّ.

٥ ـ باب قياس الأولويّة ، فيحكم العقل بوجود الملازمة بين حرمة مرتبة نازلة من الشيء أو الفرد الأدنى منه مثلاً وبين حرمة المرتبة العالية أو الفرد الأعلى منه.

٦ ـ باب الأدلّة النهي على الفساد بناءً على كون الدليل عليه عقليّاً كما هو المعروف فيدلّ العقل على وجوب الملازمة بين النهي عن عبادة وفسادها.

٧ ـ باب الإجزاء فيبحث فيه عن وجود الملازمة بين الأمر بشيء وإجزائه.

ثمّ إنّ غالب هذه المسائل يبحث عنها في مباحث الألفاظ مع أنّ جميعها من الملازمات العقليّة ولذلك نقول : أنّ اصولنا وإن تكاملت في مفرداتها إلاّ أنّه ليس لها نظم سليم منطقي.

وحيث إنّه مرّ البحث في هذه المسائل السبعة في أبواب الألفاظ فلا وجه لتكرارها هنا.

ثمّ إنّه سيأتي إن شاء الله قياس المنصوص العلّة ليست من الأدلّة العقليّة بل هو دليل لفظي ، لأنّ كبراه مقدّرة في اللفظ ، ففي مثل « الخمر حرام لأنّه مسكر » يكون المقدّر « وكلّ مسكر حرام » والقرينة قائمة عليه.

إلى هنا تمّ الكلام في الأدلّة العقليّة القطعيّة.

٤٧١
٤٧٢

المقام الثاني ـ الأدلّة العقليّة الظنّية

وهي على أقسام عديدة :

الأوّل : القياس :

والحديث عنه يقع في مراحل أربعة :

١ ـ تعريف القياس

أمّا تعريفه ، ففي اللغة كما في المقاييس : « القياس هو تقدير الشيء بشيء ( قست الثوب بالذرع ) والمقدار مقياس ، تقول : قايست الأمرين مقايسة وقياساً » (١).

وفي الاصطلاح فقد عرّفوه بتعاريف مختلفة ننقل هنا بعضها ، ففي الاصول العامّة للفقه المقارن : « أنّه مساواة فرع لأصله في علّة حكمه الشرعي » (٢) وفي الفصول : « إلحاق فرع بأصله في الحكم لقيام علّته به عند المجتهد » (٣).

والظاهر أنّ ما ذكره في الفصول أدقّ وإن كان مآل كليهما إلى شيء واحد.

ثمّ إنّ للقياس معنيين آخرين أحدهما : في مصطلح المنطق ، وهو أنّه قضايا مستلزمة لذاتها قضية اخرى ، والآخر : في مصطلح الفقه وهو التماس العلل الواقعيّة للأحكام الشرعيّة من طريق العقل ، أي وجدان دليل عقلي للأحكام الشرعيّة كما يقال أنّ وجوب الخمر موافق للقياس لما يجده العقل فيه من الإسكار.

ثمّ إنّه يظهر من تعريف القياس أنّ له أركاناً أربعة : ١ ـ الأصل ( الخمر مثلاً ) ، ٢ ـ الفرع

__________________

(١) مقاييس اللغة : ج ٥ ، ص ٤٠ ، مادّة قوس.

(٢) الاصول العامّة للفقه المقارن : ص ٣٠٥.

(٣) الفصول : ص ٣٨٠.

٤٧٣

( الفقّاع مثلاً ) ، ٣ ـ الحكم ( الحرمة ) ، ٤ ـ العلّة ( الإسكار ).

٢ ـ أقسام القياس.

أمّا أقسام فأربعة : ١ ـ قياس المنصوص العلّة ، ٢ ـ قياس الأولويّة ، ٣ ـ تنقيح المناط ، ٤ ـ قياس المستنبط العلّة.

أمّا المنصوص العلّة فهو ما نصّ فيه بالعلّة كما إذا قيل : « لا تشرب الخمر لأنّه مسكر » ولا يخفى أنّ هذا القسم خارج عن التعريف لعدم تصوّر أصل وفرع فيه ، بل كلّ من الخمر والنبيذ مثلاً أصل ، لأنّ الحكم تعلّق في الحقيقة بعنوان المسكر بدلالة مطابقية ، ويستفاد الحكم في كلّ منهما من اللفظ ومن نصّ الشارع لا من العقل.

وأمّا قياس الأولويّة فهو أن يلحق شيء بحكم الأصل بالأولويّة القطعيّة ، وهو أيضاً خارج عن محلّ البحث ، وداخل في مباحث القطع ، مضافاً إلى أنّه فيه أيضاً لا يتصوّر أصل ولا فرع لأنّ الدالّ في كلا الفردين هو اللفظ غاية الأمر أنّه في أحدهما بالأدلّة المطابقيّة وفي الآخر بالدلالة الالتزاميّة.

وأمّا تنقيح المناط ، فمورده ما إذا إقترن بالموضوع أوصاف وخصوصيّات لا مدخل لها في الحكم عند العرف فهو يحذفها عن الاعتبار ، ويوسّع الحكم إلى ما يكون فاقداً لها ، كما إذا سئل عن رجل شكّ في المسجد بين الثلاث والأربع في صلاة الظهر فاجيب بوجوب البناء على الأكثر ، ويعلم من القرائن أنّه لا خصوصيّة للرجوليّة ووقوع الصّلاة في المسجد ولكون الصّلاة ظهراً ، بل المناط والموضوع للحكم هو الشكّ بين الثلاث والأربع.

فتنقيح المناط هو الأخذ بأصل الحكم وما انيط به ، وحذف خصوصيّاته التي لا دخل لها في الحكم ، وهذا أيضاً خارج عن القياس المصطلح لعدم تصوّر الأصل والفرع فيه ، كما لا يوجد فيه الركن الرابع من القياس وهو العلّة بل الكلام فيه في كشف تمام الموضوع عن لسان الدليل.

فيتعيّن القسم الرابع وهو قياس المستنبط العلّة وهو أن تثبت العلّة باستنباط ظنّي فيتصوّر فيه تمام أركان القياس ، وينطبق عليه التعريف وهو محلّ النزاع في المقام.

٤٧٤

٣ ـ الأقوال والآراء فيه.

وهي كثيرة تعود جميعها إلى ثلاثة أقوال رئيسة :

١ ـ الاحالة العقليّة ، وقد نسبها الغزالي في المستصفى إلى الشيعة وبعض المعتزلة (١) وإن لم يثبت هذا المعنى بالنسبة إلى الشيعة ، كما نسبه بعض آخر إلى أحمد بن حنبل.

٢ ـ الوجوب العقلي ونسبه الغزالي أيضاً إلى قوم من العامّة.

٣ ـ الإمكان العقلي.

أمّا القول الأوّل والثاني فلا اعتبار لهما ولا طائل لنقل ما استدلّ به لإثباتهما كالاستدلال بما تمسّك به ابن قبّة لاستحالة الأحكام الظاهريّة ( ومنها ما يثبت بالقياس ) للقول الأوّل والاستدلال بمقدّمات الانسداد للقول الثاني لكونهما واضح البطلان ، وقد مرّ الجواب عن هذين الوجهين في مبحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ومباحث الانسداد.

أمّا القول بالإمكان فذهب إليه أهل الظاهر من العامّة وابن حزم في كتاب « إبطال القياس » وقاطبة الشيعة مع القول بعدم جوازه الشرعي ، وذهب قوم إلى وجوبه الشرعي ، وأكثر العامّة إلى جوازه الشرعي ، نعم يمكن أن يقال أنّ الجواز الشرعي في باب الحجّية مساوق مع الوجوب ولا معنى لأنّ يكون شيء حجّة مع الجواز ، وسيأتي البحث عنه في مباحث الحجّة إن شاء الله.

٤ ـ أدلّة الأقوال.

أدلّة النافين :

وقبل الورود في البحث عنها ينبغي أن نذكر هنا علّة اهتمام العامّة بالقياس وبحثهم عنه في نطاق واسع.

فنقول : المنشأ الأساسي فيه أنّهم وجدوا أنفسهم في قبال موارد كثيرة ممّا لا نصّ فيه لاكتفائهم بخصوص ما روي عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فقط وعدم اعتنائهم بروايات أهل بيت العصمة عليهم‌السلام اعراضاً عن حديث الثقلين.

__________________

(١) المستصفى : ج ٢ ، ص ٥٦ ، نقل عنه الاصول العامّة : ص ٣٢٠.

٤٧٥

والأحاديث الصحيحة السند المرويّة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قليلة في غاية القلّة ، وقد نقل عن أبي حنيفة أنّ الرّوايات الموجودة عنده المنقولة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم تبلغ إلى ثلاثين حديثاً ، ومن الواضح عدم إمكان تدوين الفقه في مختلف أبوابه واصوله وفروعه بهذا المقدار من الرّوايات ، وإن انضمّ إليها آيات الكتاب الحكيم في هذا الباب.

نعم ، ضمّ بعضهم أقوال الصحابة إلى الأحاديث النبويّة لكنّها مع عدم ثبوت حجّيتها حتّى عند كثير منهم وردت أكثرها في التاريخ والتفسير.

فمن أجل هذا الخلأ الكبير مع ملاحظة المسائل المستحدثة التي توجد في عمود الزمان وفي كلّ عصر وعصر بل كلّ يوم ويوم التمسوا منابع جديدة أوّلها القياس ( وسيأتي وجه أولويته ) وغيره من الامور التي نشير إليه في المباحث الآتية إن شاء الله تعالى.

وأمّا الإماميّة فحيث أنّهم تمسّكوا بأهل بيت الوحي وقالوا بحجّية سنّتهم بمقتضى حديث الثقلين وغيره التي جعلت العترة فيها مقارناً مع الكتاب غير منفكٍ عنه بل ورد في روايات عديدة أنّ قولهم قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّهم عليهم‌السلام رواة الأحاديث (١) فلأجل هذه الوجوه لا يوجد لديهم خلأ في الفقه أصلاً ، وذلك لكثرة النصوص الواردة عنهم عليهم‌السلام ولإرجاعهم شيعتهم إلى الاصول العمليّة في موارد فقدان النصّ.

إذا عرفت هذا فنقول : يدلّ على بطلان القياس أوّلاً : ما مرّ من أدلّة عدم حجّية الظنّ ولا حاجة إلى تكرارها.

وثانياً : الرّوايات الكثيرة البالغة حدّ التواتر الواردة في الباب السادس من أبواب صفات القاضي وغيرها ( مضافاً إلى ما سيأتي ممّا وردت من طرق العامّة ) وهي أكثر من عشرين حديثاً ( ح ٢ ، ٤ ، ١٠ ، ١١ ، ١٥ ، ١٨ ، ٢٠ ، ٢٢ ، ٢٣ ، ٢٤ ، ٢٥ ، ٢٦ ، ٢٧ ، ٢٨ ، ٣٣ ، ٣٦ ، ٣٧ ، ٣٩ ، ٤٠ ، ٤٣ ، ٤٥ ).

وهذه الرّوايات تنقسم إلى طوائف مختلفة بمقتضى ألسنتها المتفاوتة ، ففي طائفة منها : « أنّ أوّل من قاس إبليس » فيبيّن الإمام عليه‌السلام فيها علّة قياس إبليس ، وقد ورد في مرفوعة عيسى بن عبدالله القرشي قال : دخل أبو حنيفة على أبي عبدالله عليه‌السلام فقال له : يا أبا حنيفة بلغني أنّك

__________________

(١) ومن أراد الوقوف على هذه الأحاديث وطرق أحاديث الثقلين فليراجع مقدّمة كتاب جامع أحاديث الشيعة فإنّه من أحسن الكتب في هذا الباب.

٤٧٦

تقيس؟ قال : نعم أنا أقيس ، قال : لا تقس فإنّ أوّل من قاس إبليس حين قال : « خلقتني من نار وخلقته من طين » (١).

فقد اعترض إبليس على الله تعالى بأنّ ملاك وجوب السجدة على آدم موجود فيه بطريق أولى فقد توهّم باستنباطه الفاسد وقياسه الكاسد أنّ أصله وهو النار أشرف من أصل آدم وهو الطين بل الحمأ المسنون ولم يتوجّه إلى الروح الإلهي الذي نفخه الله في آدم.

وفي طائفة اخرى منها : تذكر مصاديق من أحكام الله التي تنفي القياس وتبطله ومن جملتها ما رواه ابن شبرمة قال : دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمّد عليه‌السلام فقال لأبي حنيفة : اتّق الله ولا تقس في الدين برأيك فإنّ أوّل من قاس إبليس ( إلى أن قال ) : « ويحك أيّهما أعظم قتل النفس أو الزنا قال : قتل النفس قال : فإنّ الله عزّوجلّ قد قبل في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا إلاّ أربعة ، ثمّ أيّهما أعظم الصّلاة أم الصّوم؟ قال : الصّلاة ، قال : فما بال الحائض تقضي الصّيام ولا تقضي الصّلاة؟ فكيف يقوم لك القياس؟ فاتّق الله ولا تقس » (٢).

وفي طائفة ثالثة منها : « أنّ أمر الله لا يقاس » فمنها : ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « في كتاب آداب أمير المؤمنين عليه‌السلام لا تقيس الدين فإنّ أمر الله لا يقاس وسيأتي قوم يقيسون وهم أعداء الدين » (٣).

إلى غيرها من الرّوايات التي قد يمكن جمع بعضها تحت عنوان واحد آخر غير ما ذكر (٤).

إن قلت : أنّ العمل بهذه الرّوايات يستلزم حرمة العمل بالقياس بأقسامه الأربعة والتالي باطل إجماعاً.

قلنا : أوّلاً : إنّ العمل في الأقسام الثلاثة الاخر لا يكون حقيقة إلاّعملاً بنفس السنّة ومفاد النصّ واللفظ فهي لا تتجاوز عن حدّ التسمية بالقياس ، وأمّا حقيقة فليس شيء منها من القياس.

وثانياً : يتعيّن بنفس الرّوايات معنى القياس الوارد فيها ، لأنّ قياسات أبي حنيفة التي

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة : ح ٢٤.

(٢) المصدر السابق : ح ٢٥.

(٣) المصدر السابق : ح ٣٦.

(٤) وقد وردت روايات كثيرة في هذا المجال في بحار الأنوار : ج ٢ ، باب البدع والرأي والمقاييس فراجع.

٤٧٧

وردت في عدّة منها كانت قياسات ظنّية مبتنية على آرائه الشخصية ، كما أنّ قياس إبليس أيضاً كان قياساً ظنّياً مبنيّاً على حدسه ورأيه وعدم اعتنائه إلى قوله تعالى في حقّ آدم : ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ).

أضف إلى جميع ذلك ضرورة المذهب فإنّه لم ينقل جواز القياس من أحد من الإماميّة إلاّ من ابن الجنيد في أوائل إستبصاره وذلك لأجل ما بقى له من الرسوبات الذهنية من قبل الاستبصار.

ثمّ إنّه قد يستدلّ برواية أبان المعروفة لعدم حجّية القطع الحاصل من القياس أيضاً لأنّه كان قاطعاً كما يشهد عليه استعجابه وقوله في جواب الإمام عليه‌السلام : « سبحان الله يقطع ثلاث ... » (١) إلى آخر قوله.

ولكن فيه أوّلاً : أنّه لا دلالة فيها على كونه قاطعاً بالحكم ، نعم يظهر منها أنّه كان مطمئناً به.

وثانياً : سلّمنا كونه قاطعاً لكن لا تدلّ الرّواية على المنع عن العمل بالقطع بل أن الإمام أزال قطعه ببيان الفرق بين ديّة المرأة بالنسبة إلى الثلث وما بعده.

وأمّا النقاش فيها من حيث السند فليس تامّاً لأنّها وردت من طريقين لو أمكن الإشكال في أحدهما لإبراهيم بن هاشم فلا يمكن الإشكال في الآخر لأنّ رجاله كلّهم ثقات ، مضافاً إلى أنّ إبراهيم بن هاشم أيضاً من الثقات بلا إشكال.

وقال بعض الأعلام : « أنّ ظهورها في المنع عن الغور في المقدّمات العقليّة لاستنباط الأحكام الشرعيّة غير قابل للإنكار بل لا يبعد أن يقال : إنّه إذا حصل منها القطع وخالف الواقع ربّما يعاقب على ذلك في بعض الوجوه » (٢).

وفيه : أنّا نمنع عن ذلك ، لأنّ كلام الإمام عليه‌السلام يرجع إلى أمرين : أحدهما : أنّه حصل له القطع بلا وجه ، ولو تأمّل في المسألة لما كاد أن يحصل له ، ثانيهما : أنّ الإمام عليه‌السلام أزال قطعه حيث قال : « مهلاً يا أبان : هذا حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الديّة فإذا بلغت الثلث رجعت المرأة إلى النصف ، يا أبان إنّك أخذتني بالقياس ، والسنّة إذا قيست محق الدين ».

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٩ ، الباب ٤٤ ، من أبواب ديّات الأعضاء ، ص ٢٦٨.

(٢) الاصول العامّة : ص ٣٢٧ ، نقلاً عن دراسات في الاصول العمليّة : ص ٢٩.

٤٧٨

فإنّ هذه العبارة منصرفة إلى القياس الظنّي ، ولو شمل القياس القطعي بإطلاقه يقيّد بما مرّ في مباحث القطع من أنّه حجّة ذاتاً لا يمكن الردع عنه.

ثمّ إنّ صاحب الفصول نقل عن العامّة في ردّ القياس روايتين : إحديهما : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « تعمل هذه الامّة برهة بالكتاب وبرهة بالسنّة وبرهة بالقياس ، فإذا فعلوا ذلك فقد ضلّوا » (١).

ثانيهما : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « ستفرّق امّتي على بضع وسبعين فرقة أعظمهم فتنة قوم يقيسون الامور برأيهم فيحرّمون الحلال ويحلّلون الحرام » (٢).

كما في سنن الدارمي (٣) المتوفّى سنة ٢٥٥ ه‍ أيضاً رويت روايات عديدة في هذا المجال :

منها : ما روي عن عبدالله : « لا يأتي عليكم عام إلاّوهو شرّ من الذي كان قبله أما أنّي لست أعني عاماً ولا أميراً أخيراً من أمير ولكن علماءكم وخياركم وفقهاءكم يذهبون ثمّ لا تجدون منهم خلفاً وتجيء قوم يقيسون الأمر برأيهم ».

منها : ما روي عن ابن سيرين : « أوّل من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلاّ بالمقاييس ».

ومنها : ما روي عن الحسن ( البصري ) « أنّه تلا هذه الآية خلقتني من نار وخلقته من طين قال قاس إبليس وهو أوّل من قاس ».

ومنها : ما روي عن مسروق « أنّه قال أنّي أخاف وأخشى أن أقيس فتزلّ قدمي ».

ومنها : ما روي عن الشعبي قال : « والله لئن أخذتم بالمقاييس لتحرّمنّ الحلال ولتحلّن الحرام ».

ومنها : ما روي عن عامر : « أنّه كان يقول ما أبغض إليّ أرأيت أرأيت يسأل الرجل صاحب فيقول : أرأيت ، وكان لا يقايس ».

وهذه الرّوايات أيضاً دالّة على ما نحن بصدده من بطلان العمل بالقياس.

__________________

(١) راجع كنز العمّال : ج ١ ، ص ١٨٠ ح ٩١٦ ، وهامش عوالي اللئالي نقلاً عن جامع الصغير للسيوطي : ج ١ ، ص ١٣٢.

(٢) مستدرك الحاكم : ج ٤ ، ص ٤٢٠.

(٣) راجع سنن الدارمي : ج ١ ، باب تغيّر الزمان ، ص ٦٥.

٤٧٩

أدلّة القائلين بحجّية القياس

وأمّا القائلون بجواز القياس فاستدلّوا بالأدلّة الأربعة والمهمّ منها الذي يليق ذكره إنّما هو السنّة وأمّا الآيات فضعفها في الدلالة على مدّعاهم لا يحتاج إلى البيان ، بل يشكل فهم أصل ربطها بهذه المسألة فضلاً عن صحّة الاستدلال بها ، وهذا يدلّ على وقوعهم في ضيق شديد في مقام إقامة الدليل على ما دبّروها من قبل من صحّة القياس.

أمّا الآيات المستدلّ بها قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ... ) (١) ببيان أنّ القياس أيضاً نوع إرجاع للأمر إلى سنّة الرسول حيث إن القائس يرجع في استنباط حكم الفرع إلى الأصل الذي ثبت حكمه بالسنّة ، أو يستنبطه من العلّة التي اكتشفها من السنّة.

ويرد عليه أوّلاً : إنّ وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة لا يحتاج إلى الاستدلال بهذه الآية بل هو أمر واضح مستفاد من أدلّة حجّية الظهور.

وثانياً : إنّ الإشكال إنّما هو صغرى الردّ إلى الله وكشف العلّة ، وإنّ القياس الظنّي واستنباط الحكم من العلّة الظنّية ليسا من الردّ إلى الله والرسول ، لأنّ هذا هو موضع النزاع ، وإلاّ لو كانت العلّة قطعية وتامّة فلا كلام في أنّ مقتضى حكمة الحكيم عدم التفريق بين الأصل والفرع وهو خارج عن محلّ الكلام.

ومنها : قوله تعالى : ( فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ) « بتقريب أنّ الاعتبار في الآية مأخوذ من العبور والمجاوزة وأنّ القياس عبور من حكم الأصل ومجاوزة عنه إلى حكم الفرع فإذا كنا مأمورين بالاعتبار فقد أمرنا بالعمل بالقياس وهو معنى حجّيته.

وهذا الاستدلال ركيك جدّاً يظهر بأدنى تأمّل.

ومنها : قوله تعالى : ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ) ببيان أنّ الله عزّوجلّ استدلّ بالقياس على ما أنكره منكرو البعث ، فقاس عزّوجلّ إعادة المخلوقات بعد فنائها على إنشائها أوّل مرّة ، وهذا الاستدلال بالقياس إقرار لحجّية القياس وصحّة الاستدلال به.

وفيه : أوّلاً : أنّها لا تدلّ على حجّية القياس إلاّبضرب من القياس ، وهو قياس عمل

__________________

(١) سورة النساء : الآية ٥٩.

٤٨٠