أنوار الأصول - ج ٢

أنوار الأصول - ج ٢

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-14-8
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٥٠٤

ويمكن أن تكون من هذا القبيل رواية أحمد بن إسحاق المذكورة آنفاً ، لأنّ رجال السند فيها كلّهم من أجلاّء الأصحاب الذين يعتنى بشأنهم ، ولا إشكال أيضاً أنّ قوله عليه‌السلام : « فإنّه الثقة المأمون » وما ورد في ذيل هذا الحديث من قوله عليه‌السلام : « فإنّهما الثقتان المأمونان » بمنزلة الكبرى الكلّية يدلّ على حجّية خبر الثقة مطلقاً.

فقد ثبت من جميع ما ذكرنا أنّ الاستدلال على حجّية خبر الثقة بالسنّة في محلّه.

الدليل الثالث : الإجماع

وتارةً يراد به الإجماع القولي من العلماء ، واخرى الإجماع العملي منهم بل من كافّة المسلمين ويمكن التعبير عنه بسيرة المسلمين أيضاً ، وثالثة السيرة العقلائيّة.

أمّا الإجماع بالمعنى الأوّل فهو ممنوع لكون المسألة خلافيّة ، وكذا الإجماع بالمعنى الثاني ، ولو سلّمنا تحقّق صغرى الإجماع لكنّه ليس بحجّة لأنّ مدارك المسألة معلومة ، فطائفة منهم تمسّكوا بالدليل العقلي ، واخرى بالأدلّة النقليّة من الآيات والرّوايات.

أمّا الإجماع بمعنى السيرة العقلائيّة : فهو استقرار طريقة العقلاء طرّاً على الرجوع إلى خبر الثقة مطلقاً ، وهو حجّة ما لم يردع عنه الشارع.

إن قلت : يكفي في الردع الآيات الناهيّة عن اتّباع غير العلم.

قلنا : قد مرّ جوابنا عن هذه الآيات بأنّ المقصود من الظنّ الوارد فيها الوهم والخرافة.

إن قلت : إنّ استقرار سيرة العقلاء على العمل بخبر الثقة إنّما هو من جهة حصول الوثوق والاطمئنان منه نوعاً وإلاّ فلا خصوصيّة لخبر الثقة ولا لغيره أصلاً فعملهم بخبر الثقة خصوصاً في الامور المهمّة إنّما يكون فيما إذا أفاد الوثوق والاطمئنان لا بما هو هو ، فلا يثبت بها حجّية الظنّ مطلقاً ولو لم يحصل إلى حدّ الوثوق ، ولو سلّمنا شمولها لمطلق الظنّ إلاّ أن دائرتها تختصّ بالأخبار بلا واسطة ، ولو فرضنا شمولها للأخبار مع الواسطة أيضاً في زماننا هذا ، إلاّ أن رجوعها إلى عصر الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام غير ثابت.

قلنا : لو راجعنا سيرة العقلاء في امورهم العامّة غير الشخصية كتقسيم ضريبة ماليّة وتوزيعها بين الفقراء ونحو ذلك ممّا يصنع به في دائرة واسعة لعلمنا أنّهم يكتفون في تعيين

٤٢١

الفقراء وتشخيص الموضوعات والمصاديق بأخبار الثقات مطلقاً ولو لم يحصل الاطمئنان المقارب للعلم ، بل ولو كان الخبر مع الواسطة فيكتفي مثلاً بوثيقة لتعيين الفقير الفلاني التي ارسلت من جانب شخص موثّق ، كما أنّه المتعارف في الحوالات البنكيّة فإنّها تقبل من حامليها بمجرّد كونهم موثّقين مع أنّ احتمال مجعوليتها موجود ، بل على هذا يدور رحى الحياة الاعتياديّة اليوميّة ، وعليه أيضاً مدار المراجعات إلى التاريخ والأخبار الماضية فيكتفي فيها بتأليفات الموثّقين والكتب المعتبرة الموجودة من دون الإتّكاء على حصول يقين أو اطمئنان وإلاّ لا طريق لنا للوصول إلى أخبار الماضين والاعتبار منها أصلاً.

وإن شئت فاختبر نفسك فيما إذا أردت تقسيم غلّة الأوقاف أو سهم الإمام وشبهها في مصارفها لا سيّما إذا كانت كثيرة فإنّك سوف تعرف أنّه لا مناصّ لك من قبول خبر الثقات في هذه الامور ولو لم يحصل العلم أو الاطمئنان.

وأمّا وجود هذه السيرة في عصر الأئمّة عليهم‌السلام فيشهد له ملاحظة الأسئلة الواردة من الرواة وتقريرات الأئمّة لهم التي مرّت جملة منها ضمن نقل الأخبار الدالّة على حجّية خبر الثقة.

ثمّ إنّ مخالفة أمثال السيّد المرتضى رحمه‌الله لا تضرّنا في المقام ، أي ليست مضرّة بالإجماع المصطلح وذلك لجهتين :

الاولى : لعلّ مخالفتهم كانت من ناحية الضغط الوارد من جانب المخالفين واعتراضهم بأنّه لو كان خبر الواحد حجّة عندكم فكيف لا تعملون بأخبار الآحاد الواردة من طرقنا مع عدم إمكان جرح رواتهم من جانب هؤلاء؟

الثانية : أنّه يمكن حمل مخالفتهم بالنسبة للأخبار غير نقيّة السند المرويّة من غير الثقات من أصحاب الأئمّة أو في الكتب غير المعتمدة ، لأنّه لا شكّ في أنّهم كانوا يعملون بالأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة للشيعة ويستندون إليها في فتاويهم ، نعم كان وجه عملهم بها اعتقادهم بأنّها محفوفة بقرائن قطعية أو اطمئنانيّة وهي ممنوعة عندنا فهم مشتركون معنا في أصل حجّية أخبار الثقات الموجودة في الكتب المعتبرة المعتمدة عليها للشيعة ( التي هي محلّ الكلام في ما نحن فيه ) إنّما الاختلاف في وجه الحجّية فمخالفتهم ليست مضرّة بثبوت الإجماع على العمل بها.

ثمّ إنّ المهمّ في الجواب عن الآيات الناهيّة التي قد يتوهّم رادعيتها للسيرة العقلائيّة هو ما

٤٢٢

مرّ من أنّ المراد من الظنّ الوارد فيها هو الوهم والخرافة التي ليست مبنية على أساس برهاني متين.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه‌الله بوجوه كلّها غير تامّة :

أحدها : أنّها واردة إرشاداً إلى عدم كفاية الظنّ في اصول الدين.

وقد مرّ سابقاً أنّ هذا الجواب صحيح بالنسبة إلى بعض الآيات لا جميعها.

ثانيها : أنّها منصرفة عن الظنّ الذي قام الدليل على حجّيته.

وفيه : أنّه مجرّد دعوى بلا شاهد.

ثالثها : أنّ رادعيّة الآيات عن سيرة العقلاء دوريّة لأنّ رادعيّة الآيات بعمومها متوقّفة على حجّية هذا العموم ، وحجّيته موقوفة على عدم كون السيرة مخصّصة له إذ لو كانت مخصّصة له لم يبق لها عموم حتّى تكون بعمومها حجّة رادعة عن السيرة ، وعدم كون السيرة مخصّصة لعموم الآيات أيضاً موقوف على عموميتها فكون الآيات رادعة عن السيرة متوقّف على عدم كون السيرة مخصّصة ، بينما عدم كون السيرة مخصّصة لها أيضاً متوقّف على كون الآيات رادعة عنها ، وهو دور محال.

أقول : العجب من هذا البيان لأنّ القضيّة على العكس فإنّ المقتضى لحجّية العمومات والإطلاقات خصوصاً في المخصّص المنفصل موجود والمانع عنها يحتاج إلى دليل بخلاف السيرة لأنّها ليست حجّة في حدّ ذاتها بل يتحقّق المقتضي لحجّيتها بإمضاء الشارع وعدم ردعها.

وإن شئت قلت : السيرة العقلائيّة في حدّ ذاتها ناقصة من حيث الحجّية لا تتمّ إلاّبإمضاء الشارع ولكن ظهور العام حجّة تامّة إلاّ أن يمنع عنه مانع ، فما دام لم يثبت المانع نأخذ بهذا الظهور ، وأمّا السيرة فليست كذلك ، فإنّها إذا لم يثبت إمضاء الشارع بقيت غير حجّة ، فحجّية العمومات ليست متوقّفة على إثبات عدم كون السيرة مخصّصة ، ولكن حجّية السيرة تتوقّف على إثبات إمضاء الشارع وعدم كون الآيات رادعة.

٤٢٣

الدليل الرابع : العقل

وتقريره من وجوه :

الوجه الأوّل : العلم الإجمالي بصدور جملة كثيرة من الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة المشتملة على الأحكام الإلزاميّة الوافية بمعظم الفقه بحيث لو علم تفصيلاً ذاك المقدار لأنحلّ علمنا الإجمالي بثبوت التكاليف بين الرّوايات وسائر الأمارات إلى العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعتبرة والشكّ البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر الأمارات غير المعتبرة ، ولازم ذلك وجوب العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة وجواز العمل على طبق النافيّة منها فيما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت للتكليف من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب.

ويرد على هذا الوجه :

أوّلاً : أنّ مقتضى هذا الوجه هو الأخذ بالأخبار احتياطاً لا حجّيتها بالخصوص وأنّ العلم الإجمالي يقتضي هذا المقدار من العمل ، ومن المعلوم أنّ الأخذ من باب الاحتياط يختلف عن الأخذ بها من باب الحجّية فإنّ الحجّة تخصّص وتقيّد وتقدّم على معارضها مع الرجحان وتوجب جواز إسناد الحكم إلى الشارع وجواز قصد الورود ، بخلاف الأخذ بها احتياطاً فإنّه لا يترتّب عليه هذه الآثار.

وثانياً : أنّه يقتضي حجّية أخبار الثقات وغير الثقات جميعاً مع أنّ المدّعى هو حجّية خبر الثقة فقط.

ولكن يمكن الجواب عن هذا الإشكال بأنّ هنا دائرتين من العلم الإجمالي الكبير والصغير ، وإذا ظفرنا بالمقدار المعلوم بالإجمال في الدائرة الصغيرة لأنحلّ العلم الإجمالي من دائرته الكبيرة إلى الدائرة الصغيرة ، نظير ما إذا علمنا إجمالاً بوجود شاة محرّمة في خصوص السود من الغنم ، وعلمنا أيضاً بوجود شاة محرّمة في مجموع القطيع من السود والبيض جميعاً ، فإذا عزلنا الشاة المحرّمة من السود تنحلّ دائرة العلم الإجمالي من مجموع القطيع إلى مقدار السود منها.

وقد يتوهّم انحلال هذا العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير ، أي بالظفر على القدر المتيقّن والمعلوم بالإجمال في أخبار الثقات.

٤٢٤

وأجاب عنه شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه‌الله بدعوى أنّه لو عزلنا بمقدار المعلوم بالإجمال من أطراف الصغير ، أي الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة ، وضممنا الباقي إلى باقي الأطراف من العلم الإجمالي الكبير ( أي سائر الأمارات الظنّية ) لكان العلم الإجمالي باقياً ، وهذا دليل على عدم انحلاله.

ولكن شيخنا العلاّمة الحائري رحمه‌الله في الدرر قال : بعدم صحّة هذه الدعوى ( دعوى الشيخ رحمه‌الله ) واعتبر لعدم الانحلال المذكور وجود علم إجمالي آخر بالنسبة إلى سائر الأمارات وإليك نصّ كلامه : « ومن المعلوم عدم صحّة هذه الدعوى إلاّبعد العلم بالتكاليف زائدة على المقدار المعلوم في الأخبار الصادرة إذ لولا ذلك لما حصل العلم بعد عزل طائفة من الأخبار لإمكان كون المعلوم بتمامه في تلك الطائفة التي عزلناها ... إلى أن قال : نعم يمكن منع العلم زائداً على ما حصل لنا من الأخبار الصادرة » (١).

أقول : الإنصاف صحّة دعوى الشيخ رحمه‌الله في بيان ما هو المعيار في تشخيص ما هو من أطراف العلم الإجمالي والمعرفة بعدم انحلاله ، إذ لا حاجة إلى ملاحظة سائر الأمارات مستقلاً وعلى حدّها بل يمكن أن لا يحصل العلم الإجمالي بملاحظتها مستقلاً ولكنّه يحصل بعد الضمّ من باب تراكم الظنون وعدم كونه من قبيل ضمّ العدم إلى العدم.

ويؤيّد هذا ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله في المقام وحاصله : إنّ هيهنا علوم إجماليّة ثلاثه : العلم الإجمالي الأكبر ، والعلم الإجمالي الكبير ، والعلم الإجمالي الصغير ، والمراد بالعلم الإجمالي الأكبر ما كان دائرة احتمال انطباق المعلوم بالإجمال مطلق مظنون التكليف الإلزامي ومشكوكه وموهومه سواء كان منشأ هذه الاحتمالات هي الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة أو سائر الأمارات الظنّية أو شيء آخر ، والمراد بالعلم الإجمالي الكبير هو ما كان أطرافه خصوص الأمارات الظنّية ، والمراد بالعلم الإجمالي الصغير هو خصوص ما كان أطرافه موجودة في الكتب المعتبرة ، والصحيح هو أنّ الإجمالي الأكبر ينحلّ بالكبير لأنّه لو عزلنا بمقدار المعلوم بالإجمال عن أطراف العلم الإجمالي الكبير وضممنا الباقي إلى باقي أطراف العلم الإجمالي الأكبر الذي أطرافه عبارة عن جميع ما هو مظنون الحرمة والوجوب

__________________

(١) درر الفوائد : ج ٢ ، ص ٣٩٦ ، طبع جماعة المدرّسين.

٤٢٥

ومشكوكهما وموهومهما سواء كان من الأخبار أو من سائر الأمارات الظنّية أو من أي سبب آخر لا يبقى علم إجمالي آخر في البين وينعدم ، وهذا علامة انحلال العلم الإجمالي الأكبر بالكبير ، وأمّا الكبير فلا ينحلّ بالصغير ، لأنّه لو عزلنا بمقدار المعلوم بالإجمال من أطراف العلم الإجمالي الصغير ـ أي الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة ـ وضممنا الباقي إلى باقي الأطراف من العلم الإجمالي الكبير ، أي سائر الأمارات الظنّية ، لكان العلم الإجمالي باقياً ، وهذا علامة عدم انحلاله (١).

الوجه الثاني : وهو ما حكي عن صاحب الوافية من أنّه لا شكّ في تكليفنا بالأحكام الشرعيّة وخصوصاً الواجبات الضروريّة مثل الصّلاة والصّوم والحجّ والزّكاة وغير ذلك من الضروريات ، ولا شكّ أيضاً في بقاء التكليف بهذه الامور إلى قيام يوم القيامة ، ومن المعلوم أنّ أجزاء هذه الامور وشرائطها وموانعها لا تثبت إلاّبالخبر الواحد الموجود في الكتب ، ولو لم يكن حجّة وجاز ترك العمل به لخرجت هذه الامور عن حقائقها وما كنّا نعرف أنّ هذه الامور ما هي؟ وهذا ينافي كونها ضروريّة وبقاء التكليف بها إلى يوم القيامة.

أقول : إنّ كلامه هذا مشتمل على مقدّمتين : الاولى : كون سلسلة من العبادات واجبة بضرورة من الدين إلى يوم القيامة ، الثانية : أنّ لها أجزاء وشرائط مبثوثة في كتب الأخبار.

ويرد عليه :

أوّلاً : أنّه لا فرق بينه وبين الوجه السابق إلاّ أن دائرته أضيق منه مع أنّه لا دليل على هذا التضييق لأنّا نعلم بدخول غير العبادات أيضاً في أطراف العلم الإجمالي.

وإن شئت قلت : لازم كلامه انحصار حجّية خبر الواحد بالعبادات وعدم حجّيته في مثل المعاملات والحدود والديّات ، وهو كما ترى.

وثانياً : ما مرّ في الجواب عن الوجه الأوّل من أنّ هذا الدليل لا يثبت إلاّلزوم الأخذ بخبر الواحد من باب الإحتياط لا الحجّية بالمعنى الذي يكون مخصّصاً للعمومات ومقيّداً للمطلقات والذي لأجله يكون الإسناد إلى الله تعالى جائزاً.

وثالثاً : عدم شمولها للأخبار النافيّة واختصاصها بالمثبتة.

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ١٩٩ ـ ٢٠٠ ، طبع جماعة المدرّسين.

٤٢٦

ورابعاً : حجّية أخبار غير الثقات وعدم اعتبار الوثاقة مع أنّ كلّ من قال بحجّية خبر الواحد اعتبر ، قيوداً مثل قيد الوثاقة أو كون الخبر في الكتب المعتبرة ، اللهمّ إلاّ أن يقال بانحلال العلم الإجمالي بخصوص أخبار الثقات أو ما في الكتب المعتبرة.

وخامساً : ما مرّ أيضاً في الوجه الأوّل من أنّ دائرة العلم الإجمالي أوسع من هذا المقدار لكون جميع الأمارات الظنّية من الشهرات والإجماعات المنقولة داخلة فيها.

الوجه الثالث : ما ذكره المحقّق النحرير صاحب الحاشية ( الشيخ محمّد تقي رحمه‌الله أخو صاحب الفصول ) في حاشيته على المعالم وهو أنّ وجوب العمل بالكتاب والسنّة ثابت بالإجماع والضرورة والأخبار المتواترة ، ولا شكّ في بقاء هذا التكليف بالنسبة إلينا أيضاً بنفس الأدلّة المذكورة ، وحينئذٍ فإن أمكن الرجوع إليهما على نحو يحصل منهما العلم بالحكم أو الظنّ الخاصّ به فهو ، وإلاّ فالمتّبع هو الرجوع إليهما على وجه يحصل الظنّ بالطريق أو بالحكم ، وإذاً يجب العمل بالروايات التي يظنّ بصدورها للظنّ بوجود السنّة فيها (١).

والفرق بين هذا الوجه والوجهين السابقين أنّ متعلّق العلم الإجمالي في هذا الوجه هو ما ورد في الكتاب والسنّة ، وفي الوجهين السابقين هو الأحكام الواقعيّة.

والصحيح في الجواب عنه أن يقال : إن كان المراد من السنّة هذه الأخبار الحاكيّة لقول المعصوم عليه‌السلام أو فعله أو تقريره الموجودة في كتب الحديث بما هي هي ، أي أنّ لهذه الأخبار موضوعيّة فوجوب الرجوع إليها بهذا الوجه أوّل الكلام ، وإن كان المراد أنّها بما هي طريق إلى أحكام الله الواقعيّة وبما أنّا نعلم بصدور كثير منها فإن أمكن الاحتياط والإتيان بجميع الأخبار فيرجع إلى الوجه الأوّل ويكون الجواب هو الجواب ، وإن لم يمكن الاحتياط فيرجع إلى دليل الانسداد الآتي.

نتيجة البحث في حجّية خبر الواحد :

قد تلخّص من جميع ما ذكرنا من أدلّة حجّية خبر الواحد أنّ الأدلّة التامّة الدلالة أو المقبولة عندنا أربعة :

__________________

(١) هداية المسترشدين : ص ٣٩١ ، ( حكى عنه في فرائد الاصول : ج ١ ، ص ١٧٢ ، طبع جماعة المدرّسين ).

٤٢٧

أحدها : آية النبأ حيث تدلّ على حجّية خبر العادل من باب مفهوم الوصف بل تدلّ على حجّية خبر الثقة بقرينة التعليل الوارد فيها.

ثانيها : آية النفر ، وهي منصرفة إلى حجّة خبر الثقة.

ثالثها : الأخبار التي إن لم نقل بتواترها فلا أقلّ من كونها محفوفة بالقرائن القطعيّة ، وهي تدلّ على حجّية مطلق خبر الثقة أيضاً.

رابعها : ( وهو العمدة ) بناء العقلاء ، فإنّه قائم على حجّية الأخبار الموثوق بها وإن لم يكن المخبر ثقة ، أي الملاك عندهم هو الوثوق بالمخبر به لا المخبر ، وهذا الوثوق يثبت تارةً من طريق وثاقة المخبر ، واخرى من طريق وثاقة الكتب ، وثالثة يحصل من عمل المشهور ( الشهرة الفتوائيّة أو الروائيّة ) ، ورابعة من طريق علوّ المضامين كما في الصحيفة السجّاديّة ونهج البلاغة ، وخامسة من طريق أنّ الخبر يكون من الأخبار التي لا داعي فيها على الكذب.

ثمّ إنّه هل الملاك عندهم هو الوثوق الشخصي أو النوعي؟

لا إشكال في أنّ الميزان في الاحتجاجات والمسائل الاجتماعيّة هو الوثوق النوعي ، وأمّا المسائل الشخصية فيكون الملاك فيها هو الوثوق الشخصي.

٤٢٨

٥ ـ حجّية مطلق الظنّ

واستدلّ له بوجوه :

الوجه الأوّل : وجوب دفع الضرر المظنون عقلاً

ما يتشكّل من صغرى وكبرى ، أمّا الصغرى فهي أنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنّة للضرر ، وأمّا الكبرى فهي أنّ دفع الضرر المظنون لازم عقلاً.

والدليل على الصغرى أنّ الظنّ بالوجوب ظنّ باستحقاق العقاب الاخروي على الترك كما أنّ ظنّ الحرمة ظنّ باستحقاق العقاب الاخروي على الفعل ، أو لأنّ الظنّ بالوجوب أو الحرمة ظنّ بوجود المفسدة ( الضرر الدنيوي ) في الترك أو الفعل بناءً على قول العدليّة بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

وأمّا الدليل على الكبرى فليس من باب الحسن أو القبح العقلي بل باب أنّ طبيعة الإنسان أن اجتناب الضرر وجلب إلى المنفعة.

والإشكالات متوجّهة غالباً إلى كبرى هذا الوجه ، والظاهر قبولهم للصغرى مع أنّ كلّ واحد منهما غير تامّ.

أمّا الصغرى فبالنسبة إلى الضرر الاخروي نقول : نحن نعلم بعدمه لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لأنّ العقاب الاخروي يتوقّف على البيان ، والقول بأنّ البيان هو نفس قاعدة دفع الضرر يستلزم الدور المحال لأنّ هذه القاعدة متوقّفة على وجود ضرر في البيان ووجود الضرر متفرّع على البيان ، فالعقاب يتوقّف على جريان قاعدة دفع الضرر ، وهي متوقّفة على وجود البيان في الرتبة السابقة بينما وجود البيان أيضاً متوقّف على جريان القاعدة.

وبالنسبة إلى الضرر الدنيوي فاجيب عنها بوجهين غير تامّين :

أحدهما : نفي الملازمة بين المصلحة والمفسدة الدنيويتين وبين النفع والضرر الدنيويين ، فليس كلّ مصلحة ملازمة مع المنفعة وكلّ مفسدة ملازمة مع الضرر بل كم من شيء ذي

٤٢٩

المفسدة كأكل الربا ليس فيه ضرر دنيوي بل هو ذو منفعة ، وكم من شيء ذو المصلحة كالصدقة ليس فيها نفع دنيوي.

ثانيهما : أنّه قد تكون المصلحة أو المفسدة في نفس إنشاء الأمر أو النهي لا في متعلّقهما ، والملازمة بين الظنّ بالحكم أو الظنّ بالمفسدة أو فوات المصلحة مبنية على حصر المصالح والمفاسد في متعلّقات التكاليف لأنه إذا كانتا في نفس الجعل فهما حاصلتان بنفس الجعل ولا ربط لهما بمخالفة العبد وموافقته للحكم المظنون.

أقول : كلا الوجهين غير تامّ ، أمّا الوجه الأوّل : فلأنّه لا إشكال في وجود الملازمة العاديّة بين المصلحة والمفسدة وبين النفع والضرر أمّا عاجلاً أو آجلاً وفي طول الزمان ، ومن تأمّل في آثار الربا كيف يمكن أن يشكّ في الأضرار والخسارات الناشئة منها في المجتمع ، كما أنّ من تأمّل في تأثير الإنفاق في حفظ المجتمع عن البغضاء والفساد والعدوان على الأموال والأنفس لا يشكّ في ترتّب هذه الامور على ترك الإنفاق وشبهها ، وقد قال الله تبارك وتعالى : ( وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (١) وكذلك في سائر الواجبات والمحرّمات ، ومن الواضح أنّ منافع الفرد لا تنفكّ عن منافع المجتمع ، وإن شئت مزيد توضيح لذلك فراجع ما كتبنا في تنبيهات قاعدة لا ضرر من القواعد الفقهيّة.

وأمّا الوجه الثاني : فلأنّه وإن كان ممكناً عقلاً وفي مقام الثبوت ولكن قد لا يمكن الحصول على مصداق واحد ممّا تكون المصلحة أو المفسدة في نفس جعله إثباتاً في أحكام الشرع ، وعليه يبقى الظنّ بوجود المفسدة أو تفويت المصلحة في متعلّق الحكم على حاله.

فظهر أنّه بالنسبة إلى الضرر الدنيوي تكون الصغرى تامّة فلا بدّ من البحث في الكبرى فنقول :

يمكن إنكار الكبرى في الضرر الدنيوي في الجملة في صورة العلم بالضرر فضلاً عن صورة الظنّ والاحتمال ، فلا يحكم العقل بالقبح في مورد الضرر الدنيوي مطلقاً بل إنّما يحكم به فيما إذا كان الضرر كثيراً هامّاً كالإنتحار وقطع عضو من الأعضاء ، وأمّا في المضارّ الجزئيّة كالضرر الموجود في التدخين وفي الإكثار من الأكل فليس حكم العقل بالقبح ثابتاً فيها ، نعم بالنسبة

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٩٥.

٤٣٠

إلى الضرر الاخروي يحكم العقل به فيما إذا كان محتملاً فضلاً عمّا إذا كان مظنوناً أو مقطوعاً ، ولذلك يجب الاحتياط في الشبهات الحكمية قبل الفحص مع أنّ الضرر وهو العقاب الاخروي يكون فيها محتملاً.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه بالنسبة إلى الضرر الاخروي فالكبرى تامّة دون الصغرى ، وأمّا الضرر الدنيوي فتكون القضيّة فيه بالعكس ، أي الصغرى تامّة دون الكبرى.

هذا كلّه في الدليل الأوّل لحجّية الظنّ.

الوجه الثاني : لزوم ترجيح المرجوح على الراحج

إنّه لو لم يؤخذ بالظنّ لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح.

واجيب عنه : بأنّ هذه الملازمة تتحقّق فيما إذا لم يمكن العمل بطريق ثالث غير الظنّ وأخويه مع أنّه يتصوّر هنا طريق ثالث وهو العمل بالاصول العمليّة أو الإحتياط.

وإن شئت قلت : أنّ هذا مقدّمة من مقدّمات الانسداد ولا يوجب لزوم العمل بالظنّ إلاّ بعد تماميّة مقدّمات الانسداد ، ومعها لا يكون هذا الوجه دليلاً مستقلاً.

هذا ـ والمحقّق الحائري رحمه‌الله إستشكل أيضاً في كبرى استحالة ترجيح المرجوح على الراجح في درر الفوائد ببيان : « أنّه إن أراد من الراجح ما هو راجح بملاحظة أغراض الفاعل ويقابله المرجوح كذلك فترجيح المرجوح بهذا المعنى غير ممكن ( لا أنّه قبيح ) لأنّه راجع إلى نقض الغرض ، ومجرّد الأخذ بالطرف الموهوم ليس ترجيحاً بهذا المعنى ( حتّى يقال بإمكان وقوعه تكويناً ) إذ ما لم يترجّح بملاحظة اغراضه لم يمل إليه في خلاف جهة غرضه ، وإن لم يرد من الراجح ما هو راجح بملاحظة أغراض الفاعل بل أراد من الراجح الظنّ ( أي الراجح بملاحظة أغراض الشارع ) فترجيح الموهوم عليه وإن كان قبيحاً لكن قبحه موقوف على تماميّة سائر مقدّمات الانسداد ومعها ليس هذا الوجه وجهاً مستقلاً » (١).

أقول : الصحيح هو عدم استحالة ترجيح المرجوح على الراجح وكذلك الترجيح بلا

__________________

(١) درر الفوائد : ج ٢ ، ص ٣٩٩ ، طبع جماعة المدرّسين.

٤٣١

مرجّح في الفاعل المختار ( كما هو محلّ البحث في المقام ) لأنّ الاستحالة تنافي الاختيار وتوجب سلب الإرادة ، وإرادة الإنسان ليست بمنزلة كفّتي الميزان حتّى يحتاج تقديم أحدهما على الآخر إلى سبب ومرجّح من الخارج ، فالجائع الذي وضع بين يديه إنائين من الطعام لا يكون لأحدهما ترجيح على الآخر يتوقف عن الأكل حتّى يموت بل يختار أحدهما ويأكل منه ، وكذلك في الإنسان الذي يفرّ من سبع حتّى يصل إلى منشعب طريقين لا ترجيح لأحدهما على الآخر فهل يحكم وجدانك بأنّه يقف ولا يختار أحد الطريقين حتّى يأكله السبع؟ كلاّ.

نعم لا إشكال في قبح الترجيح بلا مرجّح في غير موارد الضرورة كالأمثلة المذكورة آنفاً.

الوجه الثالث : رأي السيد المجاهد رحمه‌الله

ما حكي عن السيّد المجاهد رحمه‌الله من أنّنا نعلم بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة بين المشتبهات ، ومقتضى ذلك وجوب الإحتياط بالإتيان بكلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوماً وترك كلّ ما يحتمل الحرمة كذلك ، لكن لمّا كان هذا الاحتياط موجباً للعسر والحرج فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط والحرج هو العمل بالاحتياط في المظنونات وطرحه في المشكوكات والموهومات ، لأنّ الجمع على غير هذا الوجه بإخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهومات باطل إجماعاً (١).

وأجاب عنه كلّ من تعرّض لهذا الوجه بأنّ هذا متضمّن لبعض مقدّمات الانسداد ، وهي المقدّمة الاولى ( العلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرّمات في الشريعة ) والمقدّمة الرابعة ( عدم وجوب الاحتياط التامّ ) والمقدّمة الخامسة ( وهي لزوم ترجيح المظنونات على المشكوكات والموهومات في مقام رفع العسر ) فيحتاج في تماميته إلى سائر المقدّمات وليس وجهاً آخر في قبال دليل الانسداد.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ ، ص ١٨٢ ، طبع جماعة المدرّسين.

٤٣٢

الوجه الرابع : دليل الانسداد

الدليل الرابع : الانسداد ، وهو مركّب من مقدّمات :

الاولى : العلم الإجمالي بوجود تكاليف كثيرة فعليه في الشريعة في دائرة المشتبهات ومحتملات التكاليف الإلزاميّة.

الثانية : انسداد باب العلم والعلمي إلى معظم الأحكام.

الثالثة : عدم جواز إهمال التكاليف والرجوع إلى أصالة البراءة.

الرابعة : عدم جواز الرجوع إلى الوظائف المقرّرة للجاهل ، وهي الرجوع في كلّ مسألة إلى الأصل الجاري فيها من البراءة والاستصحاب والتخيير والاحتياط ، أو التقليد عن المجتهد القائل بالانفتاح أو الرجوع إلى الاحتياط في جميع الوقائع المشتبهة.

الخامسة : أنّ ترجيح المرجوح على الراجح ، قبيح وهو أن يأخذ بالمشكوكات والموهومات ويترك المظنونات.

فإذا تمّت هذه المقدّمات وجب العمل على مطلق الظنّ بالحكم الإلزامي ولزوم الأخذ به وترك العمل بالمشكوك والموهوم وهو المطلوب في المقام.

لكن قد شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه‌الله ترك المقدّمة الاولى واعتذر له المحقّق النائيني رحمه‌الله بأنّ عدّ هذه المقدّمة من جملة مدارك المقدّمة الثالثة ( أعني عدم جواز إهمال الوقائع والرجوع إلى أصالة العدم ) أولى من عدّها مقدّمة مستقلّة وفي عرض سائر المقدّمات (١).

أقول : الصحيح هو إدغام المقدّمات الثلاثة الأوّل في مقدّمة واحدة ، لأنّ المقدّمة الاولى ـ أي وجود العلم الإجمالي بتكاليف كثيرة ـ متوقّفة على عدم انحلال هذا العلم الإجمالي ، وعدم الانحلال يحتاج إلى انسداد باب العلم والعلمي ، وهو المقدّمة الثانية ، وهكذا بالنسبة إلى المقدّمة الثالثة ، لأنّ ( كما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله ) وجود العلم الإجمالي في المقدّمة الاولى يتوقّف على عدم جواز الإهمال في المقدّمة الثالثة ، فالأولى إدغام هذه الثلاثة في مقدّمة واحدة بأن يقال : إنّ المقدّمة الاولى عبارة عن وجود علم إجمالي بتكاليف كثيرة لا ينحلّ إلى العلم والعلمي التفصيليين ولا يجوز إهماله.

__________________

(١) راجع فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٢٢٦.

٤٣٣

إذا عرفت هذا فلا بدّ من البحث عن صحّة كلّ واحدة من المقدّمات وعدمها فنقول : أمّا المقدّمة الاولى : فأورد عليها المحقّق الخراساني رحمه‌الله بحقّ بأنّ أصل العلم الإجمالي بوجود تكاليف كثيرة وإن كان بديهياً إلاّ أنّه ينحلّ إلى دائرة صغيرة وهي الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة لأنّ المقدار المعلوم في العلم الإجمالي الكبير موجود فيها ، ومعه لا موجب للاحتياط إلاّ في نفس الرّوايات.

وأمّا المقدّمة الثانية : أي انسداد باب العلم والعلمي إلى معظم الأحكام فاجيب عنه بأنّه وإن كان معلوماً بالنسبة إلى انسداد باب العلم إلاّ أنّه بالنسبة إلى انسداد باب العلمي إلى معظم الأحكام غير ثابت لما تقدّم من نهوض الأدلّة على حجّية خبر يوثق بصدوره ولو لم يكن الراوي عدلاً بل ثقة ، ومثل هذا الخبر كثير وافٍ بحمد الله بمعظم الفقه.

وأمّا المقدّمة الثالثة : أي عدم جواز الإهمال فقد ذكر لإثباتها ثلاثة وجوه :

أحدها : الإجماع على عدم جواز الإهمال ، إن قلت : الإجماع هو اتّفاق الكلّ مع أنّ أكثر العلماء يقولون بانفتاح باب العلم أو العلمي.

قلنا : المراد من الإجماع هو الإجماع التقديري لا التحقيقي ، والمراد بالإجماع التقديري هو أنّه لو فرضنا انسداد باب العلم والعلمي عند الأكثر لما خالف أحد منهم في عدم جواز الإهمال.

ثانيهما : حكم العقل بتنجّز العلم الإجمالي ووجوب الاحتياط في مورده.

ثالثها : لزوم الخروج عن الدين لأنّ إهمال معظم الأحكام مستلزم له ومن المعلوم أنّ الشارع راغب عنه.

أقول : التامّ من هذه الوجوه الثلاثة هو الأخيران ، أي تنجّز العلم الإجمالي واستلزام الخروج عن الدين ، وأمّا الوجه الأوّل أي الإجماع فضعفه واضح لأنّ الإجماع هنا مدركي.

إن قلت : ( بالنسبة إلى الوجه الثاني وهو تنجّز العلم الإجمالي ) ، سيأتي في محلّه أنّ العلم الإجمالي ينحلّ بحصول الاضطرار بالنسبة إلى بعض أطرافه ، وبما أن الاحتياط في جميع الوقائع المشتبهة مخلّ بالنظام أو سبب للمشقّة المجوّزة للاقتحام في بعض الأطراف ، فيكون المقام من موارد الاضطرار إلى بعض الأطراف فلا يكون العلم الإجمالي منجزاً فيه.

قلنا : الصحيح في الجواب أنّ الاضطرار إنّما يوجب الانحلال فيما إذا كان المضطرّ إليه بمقدار

٤٣٤

المعلوم بالإجمال ، والمقام ليس من هذا القبيل قطعاً.

ومعه لا تصل النوبة إلى ما أجاب به المحقّق الخراساني رحمه‌الله وحاصله : أنّ العلم الإجمالي في خصوص المقام لا ينحلّ بالاضطرار إلى بعض أطرافه لوجود الدليل الخاصّ على وجوب الاحتياط ، وتنجّز العلم الإجمالي أي الاحتياط هنا شرعي ، وقد عرفت آنفاً أنّ إهمال معظم الأحكام يوجب الخروج عن الدين ، وهو دليل عقلي لا شرعي.

أمّا المقدّمة الرابعة : وهي عدم جواز الرجوع إلى الوظائف المقرّرة للجاهل ( وهي ثلاثة : الرجوع إلى الاحتياط التامّ والرجوع إلى الاصول العمليّة الأربعة والتقليد عن المجتهد الانفتاحي ) :

امّا الطرق الأول : الرجوع إلى الاحتياط التام

فاستدلّ لها بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتياط التامّ بوجهين : أحدهما : لزوم اختلال النظام ، ثانيهما : قاعدة نفي الحرج فإنّ أدلّة نفي العسر والحرج حاكمة على قاعدة الاحتياط.

امّا الوجه الأول : لكن لزوم اختلال النظام عندنا غير ثابت وإن تلقّوه بالقبول ، والظاهر أنّه وقع الخلط بين الشبهات الموضوعيّة والشبهات الحكميّة ، وما يوجب الاختلال في النظام إنّما هو الاحتياط التامّ في الشبهات الموضوعيّة ، وأمّا الشبهات الحكميّة ( التي هي محلّ البحث في المقام ) فحيث إنّ مواردها محدودة معدودة بالنسبة إلى الشبهات الموضوعيّة فلا يوجب الاحتياط التامّ فيها اختلال النظام ، ويشهد عليه وعلى إمكان الاحتياط عملاً في الخارج تصريح كثير منهم في مباحث الاجتهاد والتقليد على جواز الاحتياط التامّ للمكلّف من دون تقليد أو اجتهاد.

وأمّا الوجه الثاني : أي قاعدة نفي الحرج ، فيرد عليه : أنّ المرفوع في أدلّتها هو العسر الناشىء من نفس جعل الشارع وحكمه ، أي المنفي هو نفس الحكم الذي ينشأ منه الحرج مع أنّ العسر في ما نحن فيه ناشٍ من الاشتباه الخارجي وحكم العقل.

وقد وقعوا في الجواب عن هذا في حيص وبيص ، والأولى في مقام الدفع أن يقال : إنّ الحرج في المقام ينشأ على كلّ حال من ناحية التكليف الشرعي إذ لولاه لما حكم العقل بوجوب الاحتياط والجمع بين المحتملات ، كي يلزم منه العسر والحرج.

هذا ـ مضافاً إلى ما مرّت الإشارة إليه من أنّ الضرورات تتقدّر بقدرها فالعسر يوجب

٤٣٥

عدم الاحتياط بقدره لا مطلقاً.

فتلخّص أنّ الدليل على نفي وجوب الاحتياط هو قاعدة نفي الحرج ولكنّها لا تقتضي ترك الاحتياط إلاّفي الجملة.

وأمّا الطريق الثاني : الرجوع إلى الاصول العمليّة الأربعة

فقد ذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله إلى أنّ العلم الإجمالي بالتكليف ربّما ينحلّ ببركة جريان الاصول المثبتة بضميمة ما نهض عليه علم أو علمي ، فلا موجب حينئذٍ للاحتياط عقلاً ولا شرعاً أصلاً كما لا يخفى ، وأنّه لو لم ينحلّ بذلك فاللازم هو الاحتياط في خصوص مجاري الاصول النافيّة مطلقاً ولو من موهومات التكليف ( إلاّ بمقدار رفع اختلال النظام أو رفع العسر ) لا الاحتياط في محتملات التكليف مطلقاً ، ولو كانت في موارد الاصول المثبتة فإنّ العمل بالتكليف فيها يكون من باب قيام الحجّة عليها ، وهي الاصول العمليّة لا من باب الاحتياط كما لا يخفى.

أقول : الإنصاف هو انسداد هذا الطريق أيضاً لقلّة موارد الاصول المثبتة وعدم كونها بمقدار المعلوم بالإجمال ، ولو انضمّ إليها ما علم حكمه تفصيلاً أو نهض عليه الظنّ الخاصّ المعتبر كما لا يخفى على الخبير بموارد هذه الاصول في الفقه.

وأمّا الطريق الثالث : الرجوع إلى العالم القائل بالانفتاح

فلا إشكال في عدم جوازه قطعاً ، لأنّ الانسدادي يعتقد بخطأ الانفتاحي وأنّ مستنده غير صالح للاعتماد عليه ، فالانفتاحي جاهل في نظره فليس رجوعه إليه من باب رجوع الجاهل إلى العالم حتّى يشمله دليله.

أمّا المقدّمة الخامسة : وهي استحالة ترجيح المرجوح على الراجح فقد مرّ البحث عنها وقلنا بأنّه قبيح وإن لم يكن مستحيلاً.

فقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّ المقبول من المقدّمات عندنا إنّما هو المقدّمة الثالثة والخامسة بتمامهما ، والطريق الثاني من المقدّمة الرابعة والثالث منها في الجملة ، ونتيجته عدم تماميّة مقدّمات الانسداد لإثبات وجوب الاحتياط لأنّه يكفي في عدم إنتاجها بطلان واحدة منها.

٤٣٦

تنبيهات :

التنبيه الأوّل : ما هي نتيجة مقدمات الحكمة؟

إنّ نتيجة مقدّمات الانسداد ( بناءً على تماميتها ) هل هي حجّية الظنّ في خصوص الفروع من الفقه كالظنّ بالوجوب أو الحرمة ، أو خصوص الاصول من الفقه ، أو كليهما؟ الأقوال فيه ثلاثة :

القول الأوّل : حجّية الظنّ في خصوص الفروع لاختصاص المقدّمات بالفروع فلتكن نتيجتها أيضاً مختصّة بها.

الثاني : حجّية الظنّ في الاصول فقط لأنّا نعلم بأنّ الشارع لم يجعل أحكام الشرع بدون طريق يوصل إليها ، فعلى المكلّف أن يرجع إلى الطرق المعيّنة للأحكام ويحصل الظنّ بحجّيتها وطريقتها سواء حصل الظنّ بنفس الأحكام أو لم يحصل.

الثالث : حجّيته في كليهما ، فيكفي حصول الظنّ بكلّ واحد منهما ، أي يكفي الظنّ بالحكم ولو لم يكن الطريق المنتهي إليه ظنّياً ، كما يكفي الظنّ بالطريق ولو لم يكن الحكم الحاصل منه مظنوناً.

والأقوى هو القول الثالث : ووجهه واضح لأنّ اللازم هو أداء التكليف وتحصيل الأمن من العذاب وهو يحصل بأحد وجهين : أحدهما هو الحصول على نفس الواقع ، والثاني الإتيان ببدله ، وهو مفاد الأمارات والطرق التي تكون عذراً ، فكما أنّ القطع بالطريق كافٍ في حال الانفتاح سواء كانت الشبهة موضوعيّة كالقطع بقيام البيّنة على إزالة النجاسة عن المسجد بدلاً عن القطع بنفس الإزالة أو كانت الشبهة حكميّة كالقطع بكفاية العمل بالاحتياط في يوم الجمعة بالجمع بين صلاة الجمعة والظهر بدلاً عن القطع التفصيلي بأحدهما ، كذلك في حال الانسداد فيكفي الظنّ بالطريق بدلاً عن الظنّ بالواقع.

وإن شئت قلت : كما أنّ الأحكام ليست مقيّدة بالطرق فيكفي القطع بالواقع أو الظنّ به سواء كان مدلول أمارة أم لا كذلك الأمارات ليست مقيّدة بمطابقة مدلولها للواقع فيكفي العمل بمفاد أمارة كانت حجّة بدليل قطعي ( في حال الانفتاح ) أو بمقدّمات الانسداد سواء كان مطابقاً للواقع أم لم يكن.

٤٣٧

التنبيه الثاني : في الكشف والحكومة

والمراد من الكشف أن نستكشف من مقدّمات الانسداد على تقدير القول بسلامة جميعها أنّ الشارع جعل الظنّ حجّة في هذا الحال ، فيمكن حينئذٍ إسناد الحكم المكشوف إلى الشارع وترتّب سائر الآثار المترتّبة على شرعيّة الحكم من إمكان قصد الورود وتخصيص العمومات وتقييد المطلقات به.

والمراد من الحكومة هو أنّه وإن لم نكشف من هذه المقدّمات حكم الشارع فلا تترتّب الآثار المذكورة لكن لا إشكال في أنّ العقل يحكم عند حصولها بكفاية العمل بالظنّ بحيث يكون مأموناً معه ، نظير ما يقال به في مقام بيان الفرق بين الإباحة الشرعيّة ( كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام ) والإباحة العقليّة ( قبح العقاب بلا بيان ) من أنّها إذا كانت شرعيّة يترتّب عليها آثارها من الأمن من العقاب من دون أن يثبت بها حكم شرعي.

وكيف كان ، ذهب القوم إلى أنّ غاية ما تقتضيه مقدّمات الانسداد هو حكومة العقل بحجّية الظنّ ، والأكثر من هذا المقدار وإثبات كشف حكم الشرع وراءه يحتاج إلى دليل.

إن قلت : إنّ هذا يستلزم التفكيك بين حكمي العقل والشرع وإنكار الملازمة بينهما.

قلنا : أنّ الملازمة بينهما إنّما هي في مورد يكون قابلاً لحكم الشرع ، والمورد في المقام غير قابل له ، لأنّ حجّية الظنّ معناها وجوب الإطاعة الظنّية في حال الانسداد ، فترجع إلى كيفية الإطاعة ، وكما أنّ نفس الإطاعة ممّا يمتنع تعلّق الحكم الشرعي بها إلاّ إرشاداً لما بيّن في محلّه من محذور التسلسل ، كذلك كيفية الإطاعة.

لكن لقائل أن يقول : إنّا نستكشف من دأب الشارع وديدنه أنّه لا يترك الناس بلا تكليف ولا يسرحهم بلا إراءة طريق في كلّ ما يحتاجون إليه حتّى يستلزم منه خلأ قانوني في عالم التشريع كما تدلّ عليه روايات كثيرة وردت في هذا المجال ، وقد عقد في الوافي باب في أنّه ليس شيء ممّا يحتاج إليه الناس إلاّوقد جاء فيه كتاب أو سنّة ، وفي الوسائل باب في « إماطة الأذى عن طريق المسلمين » ويستفاد منه أنّ في الشريعة المقدّسة وضع لكلّ شيء قانون حتّى لقشر البطيخ المطروح في الطريق ، فهل يعقل من حكمة الباري الحكيم إهمال الامّة الإسلاميّة في زمن الغيبة وعدم تعيين طريق لهم للوصول إلى أحكام الشريعة والقوانين المجعولة من ناحيته المقدّسة مع علمه تعالى بقصر مدّة الحضور وطول عصر الغيبة وانسداد باب العلم ( على

٤٣٨

الفرض )؟ ومجرّد وجود أحكام واقعيّة لا تصل إليها أيدي الناس غير كافٍ ، بل لا بدّ من جعل قوانين ظاهريّة لهم وعدم تركهم حائرين.

فيتلخّص من جميع ذلك أنّ طريق الكشف هو الأوفق بسيرة الشارع في الأحكام الفرعيّة.

التنبيه الثالث : نتيجة مقدّمات الانسداد هل هي مهملة ، أو مطلقة

( فيكون الظنّ حجّة بالجملة ) أو مقيّدة ( فيكون الظنّ حجّة في الجملة )؟

ثمّ الإهمال وعدم الإهمال تارةً يعتبران بالنسبة إلى الأسباب ( من الأمارات وغيرها ) ، واخرى بالنسبة إلى مراتب الظنّ ( من حيث الشدّة والضعف ) وثالثة بالنسبة إلى الموارد ( من العبادات والمعاملات وحقّ الله وحقّ الناس ).

وكيف كان فحاصل الكلام في المقام أنّ مقدّمات الانسداد على القول بصحّة جميعها هل تقتضي حجّية الظنّ بنحو القضيّة المهملة من حيث السبب والمورد والمرتبة حتّى تحتاج النتيجة إلى معمّم يعمّمها إلى جميع الأسباب والأمارات وإلى جميع الموارد والمسائل الفرعيّة وإلى جميع مراتب الظنّ من الضعيف والقوي والأقوى ، أو إلى مخصّص يخصّصها ببعض الأسباب وبعض الموارد والمراتب ، أو تقتضي حجّية الظنّ بنحو القضيّة الكلّية أو بنحو القضيّة الجزئيّة المختصّة ببعض الأسباب أو بعض المراتب أو بعض الموارد دون بعض آخر؟

والتحقيق أن نقول أنّ المسألة مبتنية على المسألة السابقة ، فبناءً على تقرير المقدّمات على نحو الحكومة لا إهمال في النتيجة أصلاً لا سبباً ولا مورداً ولا مرتبة إذ لا يعقل تطرّق الإهمال في حكم العقل بحيث يشتبه عليه سعة حكمه وضيقه.

فبالنسبة إلى الأسباب تكون النتيجة كلّية إذ لا تفاوت في نظر العقل بين سبب وسبب. وأمّا بالنسبة إلى الموارد فتكون النتيجة جزئيّة معيّنة حيث يستقلّ العقل بحجّية الظنّ وكفاية الإطاعة الظنّية إلاّفيما يكون للشارع فيه مزيد اهتمام كما في الفروج والدماء ، بل وسائر حقوق الناس من الأموال وغيرها ممّا لا يلزم من الاحتياط فيها العسر ، فيستقلّ العقل بوجوب الاحتياط فيها.

وأمّا بالنسبة إلى المراتب فجزئيّة معيّنة أيضاً حيث يستقلّ العقل بأنّ الحجّة في خصوص

٤٣٩

الظنّ بنفي التكليف هو الاطمئناني منه ، فيرفع اليد عنده عن الإحتياط إلاّعلى تقدير عدم كفايته في دفع محذور العسر ( فيرفع اليد حينئذٍ عن الإحتياط في سائر الظنون أيضاً بمقدار يدفع به محذور العسر ).

هذا بناءً على تقرير الحكومة.

وأمّا بناءً على تقدير الكشف فتكون النتيجة مهملة مطلقاً سبباً ومورداً ومرتبة ، ولا محيص حينئذٍ في وصولنا إلى ذلك الطريق من الاحتياط التامّ في أطراف الطرق فنأخذ بكلّ ما احتمل طريقيته سواء كان مظنون الطريقية أو مشكوكها أو موهومها ، هذا إذا لم يكن بينها متيقّن الاعتبار بمقدار وافٍ ولم يلزم من الاحتياط فيها محذور العسر أو اختلال النظام وإلاّ فإن كان بينها متيقّن الاعتبار بمقدار وافٍ فالأخذ به متعيّن.

نعم ، لا إشكال في أنّه لا فرق بين الحكومة والكشف في النتيجة بناءً على ما سلكناه في المراد من الكشف حيث قلنا بأنّا نستكشف من ديدن الشارع في عدم إهماله في كلّ ما يحتاج إليه الناس من دون فرق بين عصر وعصر ، ومصر ومصر أنّه نصب طريقاً للوصول إلى أحكامه في فرض الانسداد وهو ما يحكم به العقل لا محالة ، فالمرجع حينئذٍ في جميع الشؤون والفروع ما حكم به العقل ، فيأتي حينئذٍ ما ذكرنا آنفاً ( بناءً على تقرير الحكومة ) بعينه من التفصيل بين الأسباب والمراتب والموارد في الكلّية والجزئيّة وعدم الإهمال مطلقاً.

التنبيه الرابع : القياس وعموم مقدّمات الانسداد

إنّ القياس هل هو خارج عن عموم نتيجة مقدّمات الانسداد أو لا؟

وإن شئت فعبّر : هل الظنّ الناشىء من القياس في فرض الانسداد حجّة أو ليس بحجّة؟

قد يقال : إنّ القياس ممنوع مطلقاً حتّى في فرض الانسداد لإطلاق الأدلّة الناهيّة عن القياس.

لكن لا إشكال فيه بناءً على تقرير الكشف بكلا المسلكين ، مسلك القوم والمسلك المختار ، لأنّ زمام الأمر حينئذٍ بيد الشارع وهو منع عن الظنّ القياسي مع جعل سائر الظنون حجّة.

وأمّا بناءً على تقرير الحكومة وأنّ العقل ممّا يستقلّ في الحكم بحجّية الظنّ في حال

٤٤٠