أنوار الأصول - ج ٢

أنوار الأصول - ج ٢

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-14-8
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٥٠٤

٣ ـ حجّية الشهرة الظنّية

والمراد منها الشهرة الفتوائيّة ، فإنّ الشهرة الروائيّة والعمليّة أجنبيتان عن مقامنا ، لأنّ الاولى عبارة عن اشتهار الرّواية بين أرباب الحديث ونقلها في كتبهم وهي من المرجّحات عند تعارض الخبرين ، والثانية عبارة عن عمل المشهور بالرواية ، أي فتواهم مستنداً إلى تلك الرّواية ، فتكون جابرة لضعفها إذا كانت عند القدماء ، كما أنّ اعراضهم عن العمل بها يكون كاسراً لقوّتها كما سوف يأتي في محلّه.

وأمّا الشهرة الفتوائيّة فهي عبارة عن فتوى المشهور بحكم بحيث يعدّ قول المخالف شاذّاً سواء وجدت في البين رواية أو لم توجد ، وسواء كانوا متّفقين في المدرك أو مختلفين.

والنسبة بينها وبين الإجماع الحدسي هي العموم من وجه ، موضع اشتراكهما ما إذا حدس بالشهرة قول المعصوم عليه‌السلام فإنّه يصدق حينئذٍ الإجماع الحدسي أيضاً لوجود ملاكه ، وهو الحدس من كلام جمع من الفقهاء بقول الإمام عليه‌السلام ، وموضع افتراق الإجماع الحدسي عن الشهرة ما إذا وصل الإجماع إلى اتّفاق الكلّ ، وعكسه الشهرة التي حصل منها مجرّد الظنّ.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه اختلف في حجّية الشهرة الفتوائيّة على أقوال : فقال بعض بحجّيتها مطلقاً سواء كانت شهرة القدماء أو المتأخّرين ، وقال بعض بعدمها مطلقاً ، وفصّل ثالث بين الموردين ، وقال بحجّية شهرة القدماء فقط.

واستدلّ القائلون بالحجّية مطلقاً بامور :

الأمر الأول : أنّ الظنّ الحاصل من الشهرة الفتوائيّة بالحكم أقوى من الظنّ الحاصل من خبر الواحد فتكون حجّة بطريق أولى.

ويجاب عنه :

أوّلاً : بأنّه قياس مع الفارق ، لأنّ الظنّ الحاصل من خبر الواحد ينشأ عن الحسّ وفي الشهرة عن الحدس.

٣٨١

ثانياً : أنّ هذا يتمّ لو كان مناط حجّية خبر الواحد هو حصول الظنّ منه بالحكم الشرعي ، وحينئذٍ لا خصوصيّة للظنّ الحاصل من الشهرة بل إنّه يدلّ على حجّية كلّ ظنّ كان في مرتبة ذلك أو أقوى منه ، وأمّا لو كان مناط حجّيته مجهولاً فلا يتمّ ذلك.

إن قلت : هذا إذا كان دليل حجّية خبر الواحد من الأدلّة النقلية فحينئذٍ وإن علمنا إجمالاً أنّ الشارع جعل حجّية الظنّ لكاشفيته وإماريته على الواقع لكن لا نعلم كونها تمام الملاك ، فلا يقاس بخبر الواحد غيره ، وأمّا إذا قلنا أنّ دليل الحجّية هو بناء العقلاء فلا ريب أنّ الملاك كلّ الملاك عندهم هو الكشف الظنّي عن الواقع والمفروض أنّ هذا الكشف موجود في الشهرة بدرجة أقوى.

قلنا : أوّلاً : يمكن أن يكون شيء حجّة عند العقلاء بملاك ولكن الشارع أمضى بنائهم بملاك آخر ، كما أنّ الكعبة مثلاً كانت في عصر الجاهلية محترمة عند الناس لأنّها مكان أصنامهم ، والشارع أيضاً عدّها محترمة بملاك آخر قطعاً ، وكذلك الصفا والمروة فإنّهما كانا محترمين عندهم لأنّهما مكان نصب صنمين معروفين من أصنامهم : أساف ونائلة ، ولكن الإسلام جعلهما من شعائر الله بملاك آخر قطعاً ، ولعلّ ما نحن فيه كذلك ، فكان خبر الواحد حجّة عند العقلاء بملاك وعند الشارع بملاك آخر ، كما يشهد له حكم الشارع في الخبرين المتعارضين المتساويين بالتخيير مع أنّهما يتساقطان في الحجّية والاعتبار عندهم ، وعلى كلّ حال لا ملازمة بين إمضاء النتيجة وإمضاء الملاك.

ثانياً : نحن لا نقبل كون ملاك الحجّية عند العقلاء أيضاً حصول مطلق الظنّ من خبر الواحد ، بل الحجّية عندهم ظنّ خاصّ حاصل من منشأ خاصّ ، ولذلك لا يُعتنى عندهم بظنّ القاضي ولو كان أقوى من الظنّ الحاصل من شهادة الشهود.

الأمر الثاني : ما ورد في مقبولة ومشهورة :

أمّا الاولى : ما ورد في مقبولة : فهي ما رواه عمر بن حنظلة قال سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما ... ( إلى أن قال ) : فإن كان كلّ واحد اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما واختلف فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم ( حديثنا ) فقال : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر » ، قال فقلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند

٣٨٢

أصحابنا لا يفضل ( ليس بتفاضل ) واحد منهما على صاحبه ، قال : فقال : « ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فانّ المجمع عليه لا ريب فيه » (١).

وتقريب الاستدلال بها : أنّ المجمع عليه في الموضعين منها هو المشهور بقرينة إطلاق المشهور عليه في قوله عليه‌السلام بعد ذلك : « ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور » بل وفي قول الراوي أيضاً : « فإن كان الخبران عنكم مشهورين » وعليه فالتعليل بقوله : « فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » يكون دليلاً على أنّ المشهور مطلقاً سواء كان رواية أو فتوى هو ممّا لا ريب فيه ويجب العمل به ، وإن كان مورد التعليل خصوص الشهرة في الرّواية.

وأمّا ضعف سندها فإنّه يجبر بعمل الأصحاب بها ولذلك يعبّر عنها بالمقبولة.

وأمّا الثانية : ما ورد في المشهورة : فهي مرفوعة العلاّمة رحمه‌الله المنقولة في غوالي اللئالي ( ومن العجب أنّها غير موجودة في كتب العلاّمة رحمه‌الله كما قيل ) قال : روى العلاّمة رحمه‌الله مرفوعة عن زرارة قال سألت الباقر عليه‌السلام قلت جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان بأيّهما نعمل؟ قال عليه‌السلام : « خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر » (٢).

فاستدلّ بقوله عليه‌السلام « خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر » لأنّ الموصول فيها عام يشمل الشهرة بأقسامها.

لكن يرد عليه امور لا يتمّ الاستدلال به من دون الجواب عنها :

الأوّل : أنّ هذا الاستدلال دوري لأنّ حجّية هاتين الروايتين أيضاً متوقّفة على عمل المشهور بهما.

ويمكن الجواب عنه بأنّ الموقوف هنا غير الموقوف عليه ، لأنّ ما يكون حجّيته متوقّفة على هاتين الروايتين هي الشهرة الفتوائيّة بما أنّها دليل مستقلّ يكشف عن قول المعصوم عليه‌السلام بينما المتوقّف عليه حجّية الروايتين هو الشهرة الفتوائيّة بما أنّها جابرة لضعف السند فإنّه سيأتي في البحث عن حجّية خبر الواحد أنّ المهمّ فيها حصول الوثاقة بالرواية وإن لم تكن الرواة موثوقاً بهم ، ومن الامور التي توجب الوثوق بالرواية ( أي كون الرّواية موثوقاً بها ) شهرة الفتوى على وفقها.

__________________

(١) وسائل الشيعة : أبواب صفات القاضي ، الباب ٩ ، ح ١.

(٢) غوالي اللئالي : ج ٤ ، ص ١٣٣ ، ومستدرك الوسائل : ج ١٧ ، ص ٣٠٣.

٣٨٣

الثاني : ما أورده المحقّق الخراساني رحمه‌الله عليهما من أنّ المراد من الموصول ( كلمة « ما » في المشهورة والألف واللام الموصولة في المقبولة ) فيهما هو الرّواية لا ما يعمّ الفتوى (١).

ويمكن أيضاً الجواب عن هذا بأنّه تامّ بالنسبة إلى المشهورة لا المقبولة لأنّ الكبرى فيها عام وإن كانت الصغرى خاصّة ولا سيّما أنّه كدليل عقلي.

الثالث : ما أورده في درر الفوائد : من أنّ غاية ما تدلّ عليه هاتان الروايتان كون الشهرة مرجّحة من المرجّحات مع أنّ النزاع في كونها حجّة مستقلّة في قبال سائر الحجج ولا ملازمة بين المرجّحية والحجّية مستقلّة (٢).

هذا أيضاً يمكن الجواب عنه بأنّ التعليل عام.

الرابع : ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله وهو أنّ التعليل الوارد في المقبولة ليس من العلّة المنصوصة ليكون من الكبرى الكلّية التي يتعدّى عن موردها فإنّ المراد من قوله « فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » إن كان هو الإجماع المصطلح فلا يعمّ الشهرة الفتوائيّة وإن كان المراد منه المشهور فلا يصحّ حمل قوله عليه‌السلام « ممّا لا ريب فيه » عليه بقول مطلق ، بل لابدّ من أن يكون المراد منه عدم الريب بالإضافة إلى ما يقابله ، وهذا يوجب خروج التعليل عن كونه كبرى كلّية لأنّه يعتبر في الكبرى الكلّية صحّة التكليف بها ابتداءً بلا ضمّ المورد إليها كما في قوله : « الخمر حرام لأنّه مسكر » فإنّه يصحّ أن يقال : لا تشرب المسكر بلا ضمّ الخمر إليه ، والتعليل الوارد في المقبولة لا ينطبق على ذلك لأنّه لا يصحّ أن يقال : « يجب الأخذ بكلّ ما لا ريب فيه بالإضافة إلى ما يقابله » وإلاّ لزم الأخذ بكلّ راجح بالنسبة إلى غيره وبأقوى الشهرتين وبالظنّ المطلق وغير ذلك من التوالي الفاسدة التي لا يمكن الالتزام بها فالتعليل أجنبيّ عن أن

__________________

(١) وقد أخذ محقّق الخراساني رحمه‌الله هذا الإشكال من الشيخ أعلى الله مقامه حيث قال : أمّا الاولى ( يعني بها المرفوعة ) فيرد عليها مضافاً إلى ضعفها ـ حتّى أنّه ردّها من ليس دأبه الخدشة في سند الرّوايات كالمحدّث البحراني ـ أنّ المراد من الموصول هو خصوص الرّواية المشهورة من الروايتين دون مطلق الحكم المشهور ، ألا ترى أنّك لو سألت عن أنّ أي المسجدين أحبّ إليك قلت : « ما كان الاجتماع فيه أكثر » لم يحسب للمخاطب أن ينسب إليك محبوبيّة كلّ مكان يكون الاجتماع فيه أكثر بيتاً كان أو خاناً أو سوقاً ، وكذا لو أجبت عن سؤال المرجّح لأحد الرمّانين فقلت ما كان أكبر. ( انتهى ).

(٢) درر الفوائد : ج ٢ ، ص ٣٧٩ ، طبع جماعة المدرّسين.

٣٨٤

يكون من الكبرى الكلّية التي يصحّ التعدّي عن مورده » (١).

وحاصل كلامه : أنّ نفي الريب هيهنا ليس المراد به نفي الريب بقول مطلق لوجود الريب قطعاً وإلاّ لم يكن مورداً للسؤال ، بل المراد به نفي الريب بالنسبة إلى ما يقابله من الخبر الشاذّ النادر ، ومثل هذا المعنى ليس قابلاً لأن يكون علّة سارية لوجوب الأخذ في جميع الموارد ، للقطع بعدم حجّية بعض ما يكون الريب فيه أقلّ بالنسبة إلى ما يقابله ( كاختلاف مراتب الكذّاب في الكذب ).

وأجاب عنه بعض الأعاظم : « أنّ الكبرى ليست مجرّد كون الشيء مسلوباً عند الريب بالإضافة إلى غيره حتّى يتوهّم سعة نطاق الكبرى بل الكبرى كون الشيء ممّا لا ريب فيه بقول مطلق عرفاً بحيث يعدّ الطرف الآخر شاذّاً نادراً لا يعبأ به عند العقلاء وهذا غير موجود في الموارد التي أشار إليها قدس‌سره ، فإنّ ما ذكره من الموارد ليس ممّا لا ريب فيه عند العرف » (٢) وهو جيّد.

الخامس : ( وهو العمدة ) أنّ المراد من الشهرة فيها هو الشهرة بمعنى الوضوح ، أي الشهرة اللغويّة لا الشهرة المصطلحة ( وفي الواقع وقع الخلط بينهما ، ونظيره كثير في طيّات كتب الفقه والاصول ) ففي مقاييس اللغة : « الشهرة وضوح الأمر ، وشهر سيفه إذا انتضاه » وفي النهاية : « الشهر الهلال سمّي به لشهرته وظهوره » وفي لسان العرب : « الشهرة ظهور الشيء في شنعة حتّى يشهره الناس ».

وفي مفردات الراغب : « شهر فلان واشتهر يقال في الخير والشرّ » وفي الصحاح ( نقلاً من لسان العرب ) : « الشهرة وضوح الأمر ».

وفي مجمع البحرين : « الشهرة ظهور الشيء في شَنعة حتّى شهره الناس ».

إذن فيكون معنى قول الإمام في الروايتين : « خذ بما صار واضحاً عند أصحابك » ولا إشكال في أنّ هذا المعنى من الشهرة أو أنّ هذه الدرجة من الشهرة تصل إلى مرتبة القطع العرفي العادي ، فليس المراد من عدم الريب عدم الريب بالنسبة إلى ما يقابله ، بل عدم الريب مطلقاً ، وإذن لا يصحّ الاستدلال بهما في محلّ البحث ، لأنّ المفروض أنّ محلّ النزاع هو الشهرة في

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ١٥٤ ـ ١٥٥.

(٢) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ١٧١ ، من الطبع القديم ، وص ١٠٢ ، من طبع جماعة المدرّسين.

٣٨٥

الاصطلاح ، أي الشهرة الفتوائيّة التي توجب الظنّ بقول المعصوم عليه‌السلام.

هذا كلّه بالنسبة إلى الأمر الثاني لحجّية الشهرة.

الأمر الثالث : فهو ما نقله المحقّق النائيني رحمه‌الله وهو الاستدلال بذيل آية النبأ من التعليل بقوله تعالى : ( أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) بتقريب أنّ المراد من الجهالة السفاهة والاعتماد على ما لا ينبغي الاعتماد عليه ، ومعلوم أنّ العمل بالشهرة والاعتماد عليها ليس من السفاهة وفعل ما لا ينبغي (١).

وفيه : أنّ غاية ما يقتضيه هذا التعليل هو عدم حجّية كلّ ما فيه جهالة وسفاهة ، وهذا لا يقتضي حجّية كلّ ما ليس فيه جهالة وسفاهة إذ ليس له مفهوم حتّى يتمسّك به ، ألا ترى أنّ قوله « لا تأكل الرمّان لأنّه حامض » لا يدلّ على جواز أكل كلّ ما ليس بحامض.

والإنصاف أنّ هذا الدليل لشدّة وهنه لا يليق بالذكر.

هذا كلّه بالنسبة إلى القول بحجّية الشهرة مطلقاً ، وأمّا القول بالتفصيل بين الشهرة عند القدماء والشهرة عند المتأخّرين فيستدلّ القائلون به بتعبّد القدماء بالعمل بالأخبار ومتون الرّوايات وعدم الاعتناء بالأدلّة العقليّة والاستحسانات ( كما مرّ ضمن بيان مقدّمة كتاب المبسوط ) ويتّضح لنا ذلك ببيان التطوّرات الفقهيّة التي مرّ بها تاريخ الفقه الشيعي فنقول : كان فقه الشيعة ينتقل من الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام إلى شيعتهم يداً بيد وجيلاً بعد جيل من دون وجود حلقة مفقودة ، لكن بطيّ مراحل مختلفة ، ففي أوائل عصر الأئمّة عليهم‌السلام كانت الشيعة تأخذ الرّوايات من أئمّتهم من دون أن يكون لهم تدوين وتأليف ، ثمّ في مرحلة اخرى جمعوها في كتب ورسائل عديدة انتهت إلى أربعمائة كتاب ، وسمّيت بالاصول الأربعمائة ، لكن كلّ هذا من دون تنظيم وترتيب وتبويب مطلوب ، ثمّ في مرحلة ثالثة تصدّوا لتنظيمها وتبويبها مع ذكر إسنادها وكانوا يكتفون بها للفتوى ، ثمّ وصلت النوبة إلى مرحلة رابعة وهي مرحلة الفتوى ، فكانوا يفتون في المسألة في بدء هذه المرحلة بألفاظ الأحاديث ومتونها ، وذلك بحذف الإسناد وتخصيص العمومات بمخصّصاتها وتقييد المطلقات بمقيّداتها وحمل التعارضات والجمع أو الترجيح بين المتعارضات نظير ما صنع به علي بن بابويه والد الصدوق رحمه‌الله ، ولذلك كان

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ١٥٥ ، طبع جماعة المدرّسين.

٣٨٦

الأصحاب يرجعون إليها عند اعوزاز النصوص ، ثمّ انتهى الأمر في المرحلة الخامسة إلى التفريعات وتطبيق الاصول والقواعد على الفروع والموضوعات الجديدة والمصاديق المستحدثة.

وحينئذٍ لو تحقّقت شهرة الأصحاب قبل المرحلة الخامسة على مسألة فحيث إنّهم كانوا متعبّدون بالعمل بمتون الأخبار ، ولم يكن لهم تفريع واستنباط من عند أنفسهم يحصل الوثوق والاطمئنان بقول المعصوم عليه‌السلام أو وجود دليل معتبر ، وتكون هذه الشهرة بنفسها كاشفة عن الحكم ، بخلاف الشهرة عند المتأخّرين لكونها مبنية على آرائهم الشخصية من دون أن يكون معقدها متلّقاة من كلمات المعصومين وألفاظ الرّوايات ، فتكون الشهرة عند القدماء حينئذٍ كالإجماع الحدسي وكاشفة عن قول الإمام عليه‌السلام أو مدرك معتبر كشفاً قطعيّاً ، بل هي ترجع في الواقع إلى الإجماع الحدسي وتكون من مصاديقه لعدم اشتراط إجماع الكلّ فيه ، وعندئذٍ يخرج عن محلّ النزاع لأنّ البحث كان في الشهرة الفتوائيّة الظنّية.

هل الشهرة جابرة لضعف السند؟

بقي هنا شيء :

قد مرّ في أوّل البحث أنّ الشهرة على ثلاثة أقسام : الشهرة الفتوائيّة والشهرة الروائيّة والشهرة العمليّة ، ومرّ أيضاً تعريف كلّ واحدة منها ، ولكن وقع البحث بين الأعلام في أنّ وقوع الشهرة العمليّة على وفق رواية ضعيفة هل يوجب جبر ضعفها أو لا؟ فذهب الأكثر إلى كونها جابرة ، وخالف بعض الأعلام وإستشكل في المسألة كبرى وصغرى ، وحاصل كلامه في مصباح الاصول : « أنّ الخبر الضعيف لا يكون حجّة في نفسه كما هو المفروض وكذلك فتوى المشهور غير حجّة على الفرض أيضاً ، وانضمام غير الحجّة إلى غير الحجّة لا يوجب الحجّية فإنّ انضمام العدم إلى العدم لا ينتج إلاّ العدم ، ودعوى : أنّ عمل المشهور بخبر ضعيف توثيق عملي للمخبر به فيثبت به كونه ثقة ، فيدخل في موضوع الحجّية ، مدفوعة : بأنّ العمل مجمل لا يعلم وجهه فيحتمل أن يكون عملهم به لما ظهر لهم من صدق الخبر ومطابقته للواقع بحسب نظرهم واجتهادهم ، لا لكون المخبر ثقة عندهم ، فالعمل بخبر ضعيف لا يدلّ على توثيق المخبر به ، ولا سيّما أنّهم لم يعملوا بخبر آخر لنفس هذا المخبر ، وأمّا آية النبأ فالاستدلال بها أيضاً غير

٣٨٧

تامّ ، إذ التبيّن عبارة عن الاستيضاح واستكشاف صدق الخبر ، وهو تارةً يكون بالوجدان ، واخرى بالتعبّد ، وإن فتوى المشهور لا تكون حجّة فليس هناك تبيّن وجداني ولا تبيّن تعبّدي يوجب حجّية خبر الفاسق.

هذا كلّه بالنسبة إلى الكبرى ( وهي : أنّ عمل المشهور موجب لانجبار ضعف الخبر أو لا؟ ).

وأمّا الصغرى ( وهي استناد المشهور إلى الخبر الضعيف في مقام العمل والفتوى ) فإثباتها أشكل ، لأنّ القدماء لم يتعرّضوا للاستدلال في كتبهم ليعلم استنادهم إلى الخبر الضعيف ، وإنّما المذكور فيها مجرّد الفتوى ، فمن أين نستكشف عمل قدماء الأصحاب بخبر ضعيف واستنادهم إليه ، فإنّ مجرّد مطابقة الفتوى لخبر ضعيف لا يدلّ على أنّهم إستندوا في هذه الفتوى إلى هذا الخبر إذ يحتمل كون الدليل عندهم غيره » (١). ( انتهى ).

أقول : الإنصاف تماميّة الكبرى والصغرى معاً ، أمّا تماميّة الكبرى فليست لأجل آية النبأ بل لوجود ملاك حجّية خبر الواحد هنا ، وهو حصول الوثوق بصدور الرّواية عن المعصوم عليه‌السلام وإن لم تكن رواتها موثوقين فإنّ عمل مشهور القدماء برواية واستنادهم إليها يوجب الاطمئنان والوثوق بصدورها.

وأمّا قوله : « أنّه ضمّ للعدم إلى العدم ».

ففيه : أنّه ليس كذلك ، لأنّ ضمّ احتمال إلى احتمال آخر يوجب شدّة الاحتمال ، وتراكم الاحتمالات توجب قوّة الظنّ ، حتّى أنّه قد ينتهي إلى حصول اليقين ، وإلاّ يلزم من ذلك عدم حجّية الخبر المتواتر أيضاً لأنّه أيضاً ضمّ لا حجّة إلى لا حجّة ، هذا بالنسبة إلى الكبرى.

وكذلك الصغرى ، لأنّه وإن لم يستند الأصحاب في فتواهم إلى الرّواية مباشرة ولكن إذا ذكرت الرّواية في كتب مشهورة معتبرة ، وكانت بمرأى ومنظر الأصحاب وكان عملهم موافقاً لمضمونها ، فإنّ ظاهر الحال يقتضي استناد فتواهم إليها.

وإن شئت قلت : يحصل الوثوق والاطمئنان إجمالاً بأنّ فتواهم إمّا مستندة إلى هذه الرّواية أو ما في معناها ، وعلى أي حال يحصل الوثوق إجمالاً بصدور هذا المعنى من الإمام عليه‌السلام فنأخذ به ويكون حجّة.

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٢٠٢.

٣٨٨

٤ ـ حجّية خبر الواحد

وهذه المسألة من أهمّ المسائل الاصوليّة لاستناد أكثر المسائل الفقهيّة إلى خبر الواحد بحيث لولاها ولولا مسألة التعادل والتراجيح التي تعدّ تكملة لها لتعطّل عمل الاستنباط والاجتهاد ، فلا بدّ من الإهتمام بها.

وقبل الورود في أصل البحث لابدّ من بيان مقدّمة : وهي أنّه مع وجود هذه الأهميّة الشديدة ـ مع ذلك ـ وقع البحث والنزاع بين الأعلام في أنّ هذه المسألة كيف يمكن أن تكون من مسائل الاصول ، ومنشأ الإشكال أنّ موضوع علم الاصول هو الأدلّة الأربعة ، ومن جانب آخر أن موضوع كلّ علم هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ، مع أنّ البحث في هذه المسألة ليس من العوارض الذاتيّة للسنّة التي تكون من الأدلّة الأربعة ، لأنّ البحث فيها يكون بحثاً عن حجّية خبر الواحد ودليلية الدليل ، وهي بحث عن ذات الموضوع لا عن عوارضه ، لأنّ الموضوع هو الأدلّة الأربعة بوصف أنّها أدلّة لا الأدلّة الأربعة بذواتها وبما هي هي.

ولحلّ هذه المشكلة ذكروا طرقاً عديدة نذكر هنا عدّة منها.

الأوّل : التسليم للإشكال والقول بكون البحث عنها استطراديّاً في الاصول كما ذهب إليه صاحب القوانين.

ولكنّه كما ترى لا يناسب كون المسألة من أهمّ مسائل الاصول.

الثاني : ما ارتكبه صاحب الفصول من التكلّف والقول بأنّ الموضوع في علم الاصول هو ذوات الأدلّة فيكون البحث عن وصف الدليلية حينئذٍ من العوارض.

وهذا التكلّف أيضاً خلاف ظاهر تعبيرهم بالأدلّة لأنّ ظاهره الأدلّة بما هي أدلّة.

الثالث : طريق الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في الرسائل ، وحاصله : أنّ الموضوع هو السنّة الواقعيّة ، أي ما صدر واقعاً من ناحية المعصوم عليه‌السلام والبحث في خبر الواحد هو أنّ قول المعصوم عليه‌السلام أو فعله أو تقريره هل يثبت بخبر الواحد أو لا؟

٣٨٩

إن قلت : إنّ الثبوت هنا هو بمعنى الوجود ، فيكون البحث عن وجود الموضوع ، والبحث عن وجود الموضوع ليس بحثاً عن عوارضه لأنّ المراد من العوارض ما يعرض الشيء بعد وجوده.

قلت : إنّ الوجود الذي لا يكون من المسائل والعوارض بل يكون من المبادىء هو الوجود الحقيقي لا التعبّدي ، أمّا الثبوت التعبّدي فهو من العوارض وهو المقصود في المقام ، لأنّ البحث في ما نحن فيه بحسب الواقع في أنّه هل تثبت السنّة الواقعيّة بخبر الواحد تعبّداً أو لا؟ ( انتهى ).

وإستشكل عليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله بما حاصله : أنّ الثبوت التعبّدي ليس هو المبحوث عنه في المسألة بل لازم لما هو المبحوث عنه ، وهو حجّية الخبر ، فإنّ الخبر إن كان حجّة شرعاً لزمه ثبوت السنّة به تعبّداً وإلاّ فلا ، والملاك في كون المسألة من المباحث أم من غيرها هو نفس عنوانها المبحوث عنه لا ما هو لازمه.

أقول : الإنصاف أنّ طريق الشيخ الأنصاري رحمه‌الله أيضاً خلاف تعبيرات القوم ، فإنّا لم نجد أحداً منهم يعبّر عن عنوان المسألة بهذا التعبير ، بل كلامهم يدور مدار عنوان حجّية خبر الواحد.

الرابع : ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله وهو ما مرّ منه في بداية الاصول من عدم اختصاص موضوع علم الاصول بالأدلّة الأربعة كي تكون المسألة الاصوليّة باحثة عن أحوالها وعوارضها بل إنّه الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتّتة ، والملاك في كون المسألة اصوليّة أن تقع نتيجتها في طريق الاستنباط ، وحينئذٍ مسألة حجّية خبر الواحد بحسب هذا الملاك تكون من المسائل الاصوليّة.

ويظهر الإشكال فيه ممّا مرّ في محلّه من ضعف المبنى.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله حاول إحياء طريق الشيخ الأنصاري رحمه‌الله ببيان حاصله : أنّ البحث في حجّية خبر الواحد يرجع إلى البحث عن أنّه هل تنطبق السنّة على مودّى الخبر أو لا (١)؟

واستشكل عليه المحقّق العراقي رحمه‌الله في الهامش بما حاصله : أنّ انطباق الماهيّة على مصداقها

__________________

(١) راجع فوائد الاصول : ج ٣ ص ١٥٧ ـ ١٥٨.

٣٩٠

هو عين البحث عن وجود الماهيّة ، ومثل هذا البحث وإن كان من عوارض الماهيّة تصوّراً ولكنّه عين البحث عن وجودها خارجاً والبحث عن الوجود يكون من المبادىء.

أقول : يرد على المحقّق النائيني رحمه‌الله إشكال آخر ، وهو أنّ هذا البيان أيضاً لا ينطبق على ما عنونه القوم لأنّ عنوانهم هو أنّ خبر الواحد حجّة أو لا؟

والحقّ في المقام أن يقال : إنّه لا دليل على أنّ موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة حتّى لا يكون البحث عن وجود موضوعات المسائل من مسائل ذلك العلم ، بل البحث عن الوجود أيضاً من مسائل العلوم كما نشاهد ذلك في كثير من العلوم كالنجوم والجغرافيا وغيرهما.

هذا مضافاً إلى أنّ موضوع علم الاصول ليس الأدلّة الأربعة بل الموضوع هو الحجّة في الفقه مطلقاً وإلاّ خرج كثير من المسائل ( كمسائل الاصول العمليّة كالبراءة والاستصحاب وغيرهما ) عن مسائل علم الاصول.

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى بيان الأقوال في المسألة فإنّ المسألة ذات قولين : الأوّل ( وهو المشهور بين المتأخّرين ) الحجّية ، والثاني ( وهو المشهور بين جمع من القدماء ، منهم السيّد المرتضى والشيخ المفيد وابن زهرة وابن برّاج وابن إدريس رحمهم‌الله ) عدم الحجّية ، وسيأتي أنّه ليس بين الطائفتين فرق في العمل لأنّ ما يكون حجّة عند المشهور من أخبار الآحاد يكون عند القدماء محفوفاً بقرائن قطعية.

أدلّة القائلين بعدم الحجّية :

واستدلّ لعدم حجّية خبر الواحد بالأدلّة الأربعة : الكتاب والسنّة والإجماع والعقل.

الدليل الأول : الكتاب

أمّا الكتاب فاستدلّ منه بالآيات الناهيّة عن العمل بالظنّ ، وهي قوله تعالى : ( إِنَّ الظَّنَّ لَإ

٣٩١

يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً ) (١) وقوله تعالى : ( وَإِنَّ الظَّنَّ لَايُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً ) (٢) وقوله تعالى : ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (٣).

واجيب عنه بوجوه عديدة :

الوجه الأوّل : أنّ مدلول هذه الآيات عام ، وما من عام إلاّوقد خصّ ، فتخصّص بأدلّة حجّية خبر الواحد.

ولكن هذا الجواب غير تامّ لأنّ لسان الآيات آبية عن التخصيص فإنّ قوله تعالى : ( إِنَّ الظَّنَّ لَايُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً ) مثلاً بمنزلة قولك : « إنّ زيداً ممّن لا اعتبار له ولا يمكن الوثوق به أصلاً » الذي لا يناسب تخصيصك إيّاه بقولك مثلاً : « إلاّ بالنسبة إلى هذه المسألة وهذه المسألة ، فيمكن الاعتماد عليه فيها » كما لا يخفى.

الوجه الثاني : أنّ مورد هذه الآيات هو اصول الدين ولا ربط لها بالفروع.

وفيه : أنّه تامّ بالإضافة إلى بعضها كقوله تعالى : ( وَإِنَّ الظَّنَّ لَايُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً ) فإنّه لا إشكال في أنّه بقرينة الآية السابقه وردت في مسألة الشرك وهي من الاصول ، لكن بالنسبة إلى بعضها الآخر ليس بتامّ كقوله تعالى : ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً ) فلا ريب في أنّه مطلق يشمل الفروع أيضاً لأنّ السمع والبصر مربوطتان بفروع الدين كما يستفاد هذا من استشهاد المعصوم عليه‌السلام بهذه الآية في جواب من سأل عن حكم الغناء الذي يسمعه من دار جاره.

الوجه الثالث : ما أجاب به المحقّق النائيني رحمه‌الله عن هذه الآيات وفقاً لمبناه في باب الأمارات فإنّه قال : « نسبة تلك الأدلّة إلى الآيات ليست نسبة التخصيص بل نسبة الحكومة فإنّ تلك الأدلّة تقتضي إلغاء احتمال الخلاف وجعل الخبر محرزاً للواقع فيكون حاله حال العلم في عالم التشريع » (٤).

أقول : قد مرّ عدم تماميّة هذا مبنى وبناءً ، أمّا المبنى فلأنّ صفة العلم من الصفات التكوينيّة

__________________

(١) سورة يونس : الآية ٣٦.

(٢) سورة النجم : الآية ٢٨.

(٣) سورة الإسراء : الآية ٣٦.

(٤) فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ١٦١.

٣٩٢

التي ليست قابلة للجعل فلا يمكن أن يقال : جعلت هذا حجراً أو شجراً ، وأمّا البناء فلأنّه لو سلّمنا إمكان ذلك فإنّه لا يتمّ بالنسبة إلى أدلّة حجّية خبر الواحد ، لأنّ لسانها ليس لسان جعل صفة العلم كما لا يخفى على من تأمّل فيها.

الوجه الرابع : ما نقله الطبرسي رحمه‌الله في مجمع البيان عن الجصّاص وحاصله : أنّ لسان أدلّة حجّية خبر الواحد لسان الدليل الوارد فيرفع بها موضوع النهي الوارد في الآيات الناهيّة ( وهو الظنّ ) حقيقة.

والجواب عن هذا الوجه واضح ، لأنّ قطعيّة أدلّة حجّية الخبر شيء وقطعيّة نفس الخبر شيء آخر ، والثابت هو الأوّل لا الثاني ، فكأنّه وقع الخلط بين الأمرين.

فظهر إلى هنا أنّه لا تحلّ المشكلة بهذه الوجوه الأربعة.

والإنصاف في حلّها أن نلاحظ الآيات السابقة على هذه الآيات واللاحقة لها فإنّها تدلّ على أنّ الظنّ المستعمل في هذه الآيات ليس بمعناه المصطلح عند الفقهاء والاصوليين ، وهو الاعتقاد الراجح بل المراد منه معناه اللغوي الذي يعمّ الوهم والاحتمال الضعيف أيضاً.

ففي مقاييس اللغة : « الظنّ يدلّ على معنيين مختلفين : يقين وشكّ » واستشهد لمعنى اليقين بقوله تعالى : ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ ) حيث إن معنى « يظنّون » فيه « يوقنون » وقال بالنسبة إلى معنى الشكّ ما إليك نصّه : « والأصل الآخر : الشكّ ، يقال ظننت الشيء إذا لم تتيقّنه ».

وفي مفردات اللغة : « الظنّ اسم لما يحصل عن أمارة ومتى قويت أدّت إلى العلم ومتى ضعفت جدّاً لم يتجاوز حدّ التوهّم ».

وبالجملة أنّ الظنّ الوارد في هذه الآيات إنّما هو بمعنى الوهم الذي لا أساس له ولا اعتبار به عند العقلاء.

أمّا الآية الاولى : فلأنّ الوارد قبلها هو : « إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة يسمّون الملائكة تسمية الانثى » فالتعبير بـ « تسمية الانثى » إشارة إلى ما جاء في بعض الآيات السابقة : ( إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا

٣٩٣

تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى ) (١) من أنّ هذه الأسماء أسماء لا مسمّى لها ، ولا تتعدّى عن حدّ التسمية ولا واقعة لها وهي ممّا لا يتفوّه بها من له علم وعقل بل هو أمر ناشٍ عن الوهم والخرافة وما تهوى الأنفس.

فالمراد بالظنّ في الآية هو هذا المعنى الذي ليس له مبنى ولا أساس كسائر الخرافات الموجودة بين الجهّال ، وحينئذٍ تكون أجنبيّة عمّا نحن فيه وهو الظنّ الذي يكون أمراً معقولاً وموجّهاً ومطابقاً للواقع غالباً والذي يكون مبنى حركة العقلاء في أعمالهم اليوميّة كباب شهادة الشهود في باب القضاء وباب أهل الخبرة وباب ظواهر الألفاظ ونحوها ممّا يوجب إسقاط العمل به من حياة الإنسان ولزوم العمل باليقين القطعي فقط اختلال النظام والهرج والمرج.

وأمّا الآية الثانية : فالآيات السابقة عليها : ( قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ... ) تشهد بأنّ الظنّ الوارد فيها إشارة إلى الذين يعدّونهم بأوهامهم شركاء لله تعالى كما يشهد بهذا قوله تعالى في نفس السورة : ( أَلَا إِنَّ للهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ) (٢) ، فقد جعل الظنّ في هذه الآية في عداد الخرص في أمر الشركاء ، فالممنوع الظنّ الذي يعادل ما تهوى الأنفس والخرص.

هذا كلّه بالإضافة إلى ما استعمل فيه كلمة الظنّ.

أمّا قوله تعالى : ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) الذي نهى فيه عن اتّباع غير العلم ، فإنّه وإن لم يأت فيه ما بيّناه بالنسبة إلى الآيتين السابقتين لكن يأتي فيه ما ذكر في الجواب الأوّل ، وهو القول بالتخصيص ، لأنّ لسان هذه الآية ليس آبياً عن التخصيص كما لا يخفى على المتأمّل فيها.

__________________

(١) سورة النجم : الآية ٢٣.

(٢) سورة يونس : الآية ٦٦.

٣٩٤

الدليل الثاني : السنّة

وأمّا السنّة فلا بدّ من تواترها في المقام وألاّ يكون الاستدلال دوريّاً كما لا يخفى ، ولابدّ أيضاً من كون موردها في غير باب التعارض لأنّ البحث ليس في الخبرين المتعارضين.

والأخبار الواردة في هذا المجال عمدتها نقلت في الباب ٩ من أبواب صفات القاضي من الوسائل ، ونذكر هنا أحد عشر رواية منها ، وهي بنفسها على طوائف خمسة لكلّ واحدة منها لسان يختلف عن لسان غيرها :

الطائفة الاولى : ما يدلّ على حجّية ما علم أنّه قولهم عليهم‌السلام وهي ما رواه نضر الخثعمي قال : سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول : « من عرف إنّا لا نقول إلاّحقّاً فليكتف بما يعلم منّا ، فإن سمع منّا خلاف ما يعلم فليعلم إنّ ذلك دفاع منّا عنه » (١).

الطائفة الثانية : ما تدلّ على حجّية ما وافق الكتاب وهي عديدة :

منها : ما رواه عبدالله بن أبي يعفور قال : وحدّثني الحسين بن أبي العلا أنّه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس قال : سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثقّ به ، ومنهم من لا نثقّ به ، قال : « إذا أورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإلاّ فالذي جاءكم به أولى به » (٢) ، فإنّها وإن وقع السؤال فيها عن اختلاف الخبرين إلاّ أن الجواب عام.

ومنها : ما رواه عبدالله بن بكير عن رجل عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث قال : « إذا جاءكم عنّا حديث فوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به وإلاّ فقفوا عنده ثمّ ردّوه إلينا حتّى يستبين لكم » (٣).

ومنها : ما رواه العياشي في تفسيره عن سدير قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام وأبو عبدالله عليه‌السلام : « لا تصدّق علينا إلاّما وافق كتاب الله وسنّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٤).

الطائفة الثالثة : ما تدلّ على عدم حجّية ما لا يوافق كتاب الله وهي ما رواه أيّوب بن راشد

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٩ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٣.

(٢) المصدر السابق : ح ١١.

(٣) المصدر السابق : ح ١٨.

(٤) المصدر السابق : ح ٤٧.

٣٩٥

عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف » (١).

وما رواه أيّوب بن الحرّ قال : سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول : « كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة ، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف » (٢).

ويمكن إدغام هذه الطائفة في الطائفة الثانية لأنها بمفهومها موافقة لها.

الطائفة الرابعة : ما تدلّ على عدم حجّية ما خالف كتاب الله ، وهي ما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابه قال : سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول : « من خالف كتاب الله وسنّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد كفر » (٣).

الطائفة الخامسة : ما جمع فيها بين لسانين : طرح ما خالف الكتاب وأخذ ما وافقه ، وهي ما رواه السكوني عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ على كلّ حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صواب نوراً فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه » (٤).

وما رواه هشام بن الحكم وغيره عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : خطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنى فقال : « أيّها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته ، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله » (٥).

واجيب عن هذه الرّوايات بوجوه عديدة :

الوجه الأول : أنّه لابدّ في دلالتها على المدّعى من كونها متواترة ، لأنّها لو كانت أخبار آحاد يكون الاستدلال بها دوريّاً ( كما مرّ ) وحينئذٍ لا يكون متواترة (٦) لفظاً ولا معنى بل إنّها

__________________

(١) وسائل الشيعة : ح ١٢ ، الباب ٩ ، من أبواب صفات القاضي.

(٢) المصدر السابق : ح ١٤.

(٣) المصدر السابق : ح ١٦.

(٤) المصدر السابق : ح ١٠.

(٥) المصدر السابق : ح ١٥.

(٦) وينبغي هنا توضيح كلّ واحد من أقسام التواتر فنقول : أمّا التواتر اللفظي فهو عبارة عن إخبار جماعة بلفظ واحد عن واقعة واحدة يوجب حصول العلم سواء كان ذلك اللفظ تمام الخبر مثل قوله عليه‌السلام « إنّما الأعمال بالنيّات » كما ادّعى تواتره ، أو بعضه كلفظ « من كنت مولاه فعلي مولاه » وحديث الثقلين. وأمّا التواتر المعنوي فهو إخبار جماعة بألفاظ مختلفة مع اشتمال كلّ منها على معنى مشترك بينها سواء كان ذلك المعنى المشترك مدلولاً مطابقيّاً أو تضمينياً أو التزامياً ، كالأخبار الواردة في غزوات مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وحروبه فإنّ كلّ واحدة من تلك الحكايات خبر واحد لكن اللازم المترتّب على مجموعها وهي شجاعته عليه‌السلام متواترة. أمّ

٣٩٦

متواترة إجمالاً يقتضي حصول العلم الإجمالي بصدور واحد من الأخبار على الأقلّ ، فلا بدّ من الأخذ بالقدر المتيقّن منها ، وهو أخصّها مضموناً ، ومن المعلوم أنّ أخصّها مضموناً هو المخالف للكتاب والسنّة ( سنّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ) معاً فيختصّ عدم الحجّية بذلك بنحو قضيّة السالبة الجزئيّة ، وهذا لا يضرّ بمدّعى المثبتين ، أي اعتبار خبر الواحد في الجملة لأنّ السالبة الجزئيّة لا تنافي الموجبة الجزئيّة.

ثمّ إنّ المراد من المخالفة هل هي المخالفة على نحو التباين ، أو العموم من وجه؟

الصحيح هو الأوّل ، لأنّه لا إشكال في صدور مخصّصات خصّصت بها عمومات الكتاب ويستلزم من طرحها رفع اليد عن كثير من الأحكام الشرعيّة ، نظير ما ورد في قبال عموم قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ويدلّ على شرطيّة عدم الجهل في المبيع وغير ذلك من الشرائط الشرعيّة المجعولة في العقود ، وهي كثيرة جدّاً ، ونظير ما ورد في قبال إطلاق قوله تعالى : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ ) ممّا يدلّ على النصاب والمقدار والحول وغيرها.

إن قلت : المخالفة على نحو التباين الكلّي لا يوجد لها مصداق في جوامع الحديث التي بأيدينا اليوم ، وهذا لا يناسب كثرة الرّوايات الدالّة على طرح الخبر المخالف للكتاب وشدّة إهتمام الأئمّة عليهم‌السلام به.

قلنا : الأخبار الموجودة في كتب الحديث في يومنا هذا قد خرجت من مصافٍ عديدة تحت أيدي مؤلّفي هذه الكتب كالشيخ الطوسي رحمه‌الله والشيخ الصدوق والكليني رحمه‌الله فمن المسلّم صدور روايات متباينة مع الكتاب والسنّة قبل تأليف هذه الجوامع.

هذا مضافاً إلى وجود روايات متباينة بين الرّوايات الموجودة حاليّاً أيضاً مثل ما نسب إلى أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أنّه قال : أنّي خالق السموات والأرض ... الخ » ، لأنّ هذا مخالف لصريح آيات الكتاب ممّا ينسب الخلق إلى الله تعالى فقط ، ومثل رواية تدلّ على « أنّ الميّت يعذّب ببكاء أهله » (١) ، وهو مخالف لصريح قوله تعالى : ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) إلاّ أن

__________________

التواتر الإجمالي : فهو أن يكون هناك جملة من الأخبار مع اختلافها بحسب اللفظ والمعنى والعلم إجمالاً بصدور بعضها بحيث يستحيل عادةً أن يكون كلّها كاذبة كالعلم بصدور طائفة من الرّوايات الموجودة في الكافي إجمالاً مع ورودها في أبواب مختلفة.

(١) يمكن أن يقال : إنّ هذه الرّواية ليست مخالفة لتلك الآية ، لأنّ وزر الأهل ليس وزراً اخرى للإنسان بل يعدّ وزراً لنفس الإنسان ووزر عمله بالنسبة إلى أهله.

٣٩٧

يقال : إنّ المراد هو العذاب التكويني الحاصل من بكاء الأهل لروح الميّت لا التشريعي الحاصل بفعل الله تعالى.

الوجه الثاني : حملها على أنّها ناظرة إلى زمان الحضور ، ولا إشكال في عدم حجّية خبر الواحد في ذلك الزمان كما يشهد عليه قول الإمام عليه‌السلام في بعضها : « وما لم تعلموا فردّوه إلينا » وقوله عليه‌السلام « وردّوه إلينا حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا ».

لكن الإنصاف أنّه غير تامّ ومخالف للسان أكثر الرّوايات مثل ما ورد في بعضها : « أنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً » وما ورد في بعضها الاخرى : « ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله » فإن هذا اللحن وهذا النحو من السياق عامّ يشمل زمن الحضور والغيبة كما لا يخفى. هذا أوّلاً.

وثانياً : أنّ الصحيح هو حجّية خبر الواحد في زمن الحضور أيضاً كما يدلّ عليه ما سيأتي من الرّوايات المتواترة التي ورد أكثرها في مورد عصر الحضور.

الوجه الثالث : حملها على الخبرين المتعارضين بقرينة سائر الرّوايات التي تجعل الموافقة مع الكتاب من المرجّحات.

والإنصاف أنّ هذا الجواب أيضاً لا يناسب لحن كثير من الرّوايات مثل ما ورد فيها : « وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف » ، وما رواه أيّوب بن راشد عن أبي عبدالله عليه‌السلام : قال : « ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف » ، وكذلك ما ورد فيها : « أنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً » فإنّ هذا القبيل من الرّوايات وردت في مقام تمييز الحجّة عن اللاّحجّة ، لا ترجيح إحدى الحجّتين على الاخرى ، نعم إنّ هذا الجواب تامّ بالنسبة إلى بعض الرّوايات.

الوجه الرابع : أنّه لو فرض شمول هذه الرّوايات لخبر الواحد فإنّها معارضة لما هو أكثر وأظهر وسيأتي ذكرها عند ذكر أدلّة المثبتين.

فظهر أنّ الجواب الأوّل والرابع تامّ لا إشكال فيه.

هذا كلّه هو الاستدلال بالسنّة على عدم حجّية خبر الواحد.

٣٩٨

الدليل الثالث : الإجماع

وأمّا الإجماع فقال الشيخ الأعظم رحمه‌الله في الرسائل : ادّعاه السيّد المرتضى رحمه‌الله وهو ظاهر المحكي عن الطبرسي في مجمع البيان ، والسيّد المرتضى جعل بطلان حجّية خبر الواحد بمنزلة القياس في كون ترك العمل به معروفاً من مذهب الشيعة.

واجيب عن هذا بأنّ حجّية خبر الواحد هو قول أكثر الأصحاب وعليها سيرة أصحاب الأئمّة كما يشهد عليها ما سيأتي من الرّوايات الحاكية عن أحوالهم خصوصاً ما ورد فيها التعليل بأنّه ثقة ، الذي يدلّ على أنّ الملاك في الحجّية هو كون الراوي ثقة.

نعم لابدّ هنا من توجيه وتأويل لكلام السيّد المرتضى رحمه‌الله ( لأنّه ربّما يستشكل في السيره بأنّها لو كانت فكيف لم يلتفت إليها السيّد المرتضى رحمه‌الله مع قرب عهده إلى زمن المعصومين ) كما أوّله شيخ الطائفة رحمه‌الله بأنّ معقد هذا الإجماع ليس هو الأخبار التي محفوفة بقرائن تشهد على صدقها وإن لم تصل إلى حدّ حصول العلم بالصدور ، كما إذا نقلت في الكتب المعتبرة والاصول المتلقّاة من كلمات المعصومين عليهم‌السلام بل المراد من معقد الإجماع الأخبار التي يرويها المخالفون.

الدليل الرابع : العقل

وأمّا العقل فهو ـ كما أشار إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله ـ ما ذكره ابن قبّة من أنّ العمل بخبر الواحد موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال ، والعقل يستقلّ بقبحه.

وقد مرّ الجواب عن هذا في أوّل مباحث الظنّ في مقام الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري مستوفاً فراجع.

هذا كلّه في أدلّة القائلين بعدم حجّية خبر الواحد.

أدلّة القائلين بحجّية خبر الواحد

وبعد ذلك نذكر أدلّة القائلين بالحجّية ، وهم أيضاً استدلّوا بالأدلّة الأربعة :

٣٩٩

الدليل الأول : الكتاب :

فاستدلّوا منه بآيات :

١ ـ آية النبأ

قال الله تعالى : ( إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) (١).

قال الطبرسي رحمه‌الله في مجمع البيان : « قوله « إن جاءكم فاسق » نزل في الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في صدقات بني المصطلق فخرجوا يتلقّونه فرحاً به وكانت بينهم عداوه في الجاهلية فظنّ أنّهم همّوا بقتله فرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال إنّهم منعوا صدقاتهم ، وكان الأمر بخلافه ، فغضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهمّ أن يغزوهم فنزلت الآية » (٢).

ثمّ قال : « عن ابن عبّاس ومجاهد وقتادة » ثمّ ذكر قولاً آخر في شأن نزول الآية وهو لا يناسب مضمون الآية وكلمة القوم المذكورة فيها.

وقد إستشكل بعض العامّة في شأن النزول المذكور بأنّ الوليد آمن يوم فتح مكّة وكان صبيّاً.

ومن المحتمل جدّاً كون الخبر مجعولاً لتنزيه الوليد وتبرئته من ناحية بعض من له صلة بالخلفاء لكونه أخاً لعثمان من جانب الامّ.

إن قلت : فكيف أرسله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لأخذ الزكوات مع أنّه كان فاسقاً؟

قلنا : لعلّ الوليد كان ظاهر الصلاح وكان فسقه أمراً مخفيّاً مستتراً وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً يعمل بحسب الظاهر ولم يكن بنائه على العمل بالغيب.

هذا مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال : إنّ معنى علمه صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلم الأئمّة عليهم‌السلام بالغيب إنّهم « إذا شاؤوا أن يعلموا علموا » كما ورد في الحديث المشهور.

وأمّا الاستدلال بالآية فله ثلاثة وجوه : أحدها : الاستدلال بمفهوم الشرط ، والثاني : بمفهوم الوصف ، والثالث : بمناسبة الحكم والموضوع.

وقبل ذكر هذه الوجوه ونقدها نقول : لو اعطيت هذه الآية بيد العرف يفهم منها حجّية

__________________

(١) سورة الحجرات : الآية ٦.

(٢) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ١٣٢.

٤٠٠