أنوار الأصول - ج ٢

أنوار الأصول - ج ٢

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-14-8
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٥٠٤

مرّ سابقاً من عبارة تلميذه المحدّث الطهراني في مقدّمة المستدرك : « وأمّا عمله فقد رأيناه وهو لا يقم لما ورد في مضامين ( هذه ) الأخبار وزناً بل يراها أخبار آحاد لا تثبت بها القرآنيّة بل يضرب بخصوصيّاتها عرض الجدار سيرة السلف الصالح من أكابر الإماميّة كالسيّد المرتضى والشيخ الطوسي وأمين الإسلام الطبرسي رحمهم‌الله ».

بقي هنا امور :

الأمر الأوّل : الرّوايات الواردة في كتاب فصل الخطاب

إنّ كثيراً من الرّوايات الواردة في كتاب فصل الخطاب سيّما في الدليل الثاني عشر مروية من طريق السياري وهي تبلغ ١٨٨ رواية بناءً على احصاء مؤلّف كتاب « برهان روشن » ، وبالتالي نذكر نماذج من هذه الرّوايات التي يتجلّى فيها وقوع الخطأ :

فمنها : ما روي عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : وإذا المودّة ( بدل الموؤدة ) سئلت ( في سورة الشمس ) قال : « من قتل في مودّتنا ».

ومنها : ما روي عن أبي عبدالله عليه‌السلام : « ( يا أيّتها النفس المطمئنة ) ( في سورة الفجر ) إلى محمّد وأهل بيته ارجعي إلى ربّك راضيّة مرضيّة فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي غير ممنوعة ».

ومنها : ما روي عن أبي عبدالله قال : قرأ رجل بين يدي أبي عبدالله عليه‌السلام : فإنّ مع العسر يسراً إنّ مع العسر يسراً ( الإنشراح ) فقال عليه‌السلام : إنّ مع العسر يسرين هكذا نزلت ».

ومنها : ما روي أبو بصير عن أبي عبدالله عليه‌السلام في قوله تعالى : تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربّهم ( سورة القدر ) من عند ربّهم على محمّد وآل محمّد بكلّ أمر سلام ».

ومنها : ما روي عن أبي عبدالله عليه‌السلام : « إنّا أعطيناك يامحمّد الكوثر فصلّ لربّك وانحر إنّ شانئك هو عمرو بن العاص هو الأبتر ».

ومنها : ما روي عن عابر بن خداعة قال قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : علّمني قل هو الله أحد ، قال : أكتبها لك قال : لا ، احبّ أن أتعلّمها إلاّمن فيك. قال اقرأ : « قل هو الله أحد الله الصمد ثلاثاً آخرها كذلك الله ربّنا ».

٣٤١

وهذه هي نماذج من الرّوايات التي في سندها أحمد بن محمّد السياري الذي مرّ الكلام عنه إجمالاً وقد وقع الخلط فيها بين التفسير والتنزيل ، هذا على فرض صدورها ، ولكن قد عرفت كون الرجل من أضعف الضعاف ، ولكن بما أنّ المحدّث النوري رحمه‌الله سلك في آخر المستدرك مسلك الدفاع عنه لابدّ لنا من سرد كلمات الرجاليين فيه تفصيلاً ، وإليك رأي عدّة كثيرة من كبار علماء الرجال فيه :

١ ـ قال الشيخ الطوسي رحمه‌الله في الفهرست : « أحمد بن محمّد بن سيّار ، أبو عبدالله الكاتب بصري من كتّاب أبي طاهر في زمن أبي محمّد عليه‌السلام ويعرف بـ « السياري » ضعيف الحديث فاسد المذهب ، مجفوّ الرّواية ، كثير المراسيل » (١).

٢ ـ قال العلاّمة في الخلاصة : « هو فاسد المذهب ، كثير المراسيل ، ضعيف الحديث ، مجفوّ الرّواية حكى محمّد بن محبوب عنه » (٢).

٣ ـ قال النجاشي في رجاله نظير ما سمعته من الطوسي في الفهرست (٣).

٤ ـ قال الكشّي في رجاله عن إبراهيم بن محمّد بن حاجب قال : « قرأت في رقعة مع الجواد عليه‌السلام يعلم من سأل عن السياري أنّه ليس في المكان الذي ادّعاه لنفسه وأن لا يدفعوا ( إليه ) شيئاً » (٤).

٥ ـ قال العلاّمة المامقاني الذي من دأبه تصحيح الرجل وإحياء ذكره مهما أمكن : « ضعف الرجل من المسلّمات » (٥).

٦ ـ قال ابن شهر آشوب : « أنّه مجفوّ الرّواية » (٦).

٧ ـ قال ابن داود في رجاله نظير ما سمعته من الخلاصة (٧).

__________________

(١) مجمع الرجال : ج ١ ، ص ١٥١.

(٢) تنقيح المقال : ج ١ ، ص ٨٧.

(٣) مجمع الرجال : ج ١ ، ص ١٥١.

(٤) المصدر السابق : ص ١٤٩.

(٥) تنقيح المقال : ج ١ ، ص ٨٧.

(٦) المصدر السابق : ص ٨٧ ، نقلاً من معالم ابن شهر آشوب.

(٧) المصدر السابق : ص ٨٧ ، نقلاً من رجال ابن داود.

٣٤٢

٨ ـ وضعّفه المجلسي رحمه‌الله في الوجيزة (١).

والمستفاد من هذه الكلمات أنّ ضعف السياري من المسلّمات ، لكن المحدّث النوري رحمه‌الله دافع عن الرجل في خاتمة المستدرك بوجهين :

أحدهما : نقل رواياته في الكافي.

والثاني : أنّ منشأ هذه التضعيفات إنّما هو ابن الغضائري الذي أمر فيه بأخذ توثيقاته وردّ تضعيفاته لأنّه كان شديد الأخذ في الرجال يضعّف الرجل بأدنى شيء.

ويردّ على الأوّل : بأنّا نعلم بورود روايات ضعيفة في الكافي لم يعمل أحد من العلماء بها.

وأمّا الوجه الثاني فيرد عليه : أنّه دعوى بلا دليل لأنّه لم يعتمد أحد من هؤلاء في كلماته على ابن الغضائري ، نعم يشبه كلامه كلام النجاشي في قوله : « إنّه قال بالتناسخ » أي توجد نسبة الرجل إلى القول بالتناسخ في كلّ من رجال النجاشي ورجال ابن الغضائري ، ولكنّه لا دليل على اعتماد النجاشي عليه ، وإن كان هو ( ابن الغضائري ) من مشايخه ، ولو سلّم اعتماده عليه لكنّه لا يحتمل ذلك بالنسبة إلى الشيخ الطوسي الذي لم يكن هو ( ابن الغضائري ) من مشايخه قطعاً ، وبالنسبة إلى الكشّي أيضاً الذي يروي الرّواية عن الجواد عليه‌السلام في حقّه.

ولقد أجاد المحقّق المامقاني رحمه‌الله بعد نقل كلمات علماء الرجال في الرجل حيث قال ما نصّه : « وبالجملة فضعف الرجل من المسلّمات والعجب كلّ العجب من الشيخ الماهر المحدّث النوري رحمه‌الله حيث إنّه رام في خاتمة المستدرك إثبات وثاقة الرجل والاعتماد على كتابه بإكثار الكليني رحمه‌الله والثقة الجليل محمّد بن العبّاس بن ماهيا الرّواية عنه ... إلى أن قال : ووجه التعجّب من هذا النحرير أنّه رفع اليد عن تصريحات من سمعت بنقل هؤلاء رواياته الذي هو فعل مجمل وجعل الإصغاء إلى التنصيصات المذكورة ممّا لا ينبغي ، وهو كما ترى ، إذ كيف يقابل القول الصريح بعدم الاعتماد عليه بالفعل الظاهر سيّما مع تأيّد أقوالهم بما سمعته من مولانا الجواد عليه‌السلام الظاهر في دعواه النيابة عنه من غير أصل؟ » (٢).

__________________

(١) تنقيح المقال : ج ١ ، ص ٨٧ ، نقلاً من الوجيزة.

(٢) تنقيح المقال : ج ١ ، ص ٨٧.

٣٤٣

الأمر الثاني : في نسخ التلاوة

وهو أن تنسخ تلاوة آية من الآيات سواء نسخ حكمها أيضاً أو لم ينسخ فقد يكون الحكم باقياً من دون بقاء الآية الدالّة عليه ، وفي مقابله نسخ الحكم ، وهو أن ينسخ الحكم من دون أن تنسخ الآية الدالّة عليه ، أمّا نسخ الحكم مع بقاء التلاوة فهو أمر ظاهر مفهوماً ومصداقاً ، وأمّا نسخ التلاوة بعد نزولها قرآناً فهو أمر لا معنى محصّل له ، ولكن مع ذلك ذهب جماعة من العامّة إليه في موارد كثيرة ، والظاهر أنّهم أرادوا به توجيه بعض ما ورد في رواياتهم من التحريف في الكتاب العزيز :

منها : ما مرّ من رواية الليث بن سعد قال : « أوّل من جمع القرآن أبو بكر وكتبه زيد ... وإنّ عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنّه كان وحدة » (١).

ومنها : ما مرّ أيضاً من عائشة قالت : « كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مأتي آية ، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلاّما هو الآن » (٢).

ومنها : ما مرّ أيضاً من سورتي الخلع والحفد في ما حكوا عن مصحف ابن عبّاس وابي بن كعب : « اللهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفّرك ونخلع ونترك من يفجرك اللهمّ إيّاك نعبد ولك نصلّي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إنّ عذابك بالكافرين ملحق » (٣).

إلى غير ذلك ممّا روي من طرقهم ، فقد أرادوا بهذا إنكار نسبة القول بالتحريف إلى أنفسهم بتوجيه أنّ هذه الرّوايات من قبيل نسخ التلاوة لا من موارد التحريف.

ولابدّ في الجواب عنه من تعيين معنى نسخ التلاوة والمراد منه فنقول : إن كان المقصود منه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن تلاوة هذا القبيل من الآيات وأن نسخ التلاوة قد وقع من رسول الله فهذا أمر غير معقول ، وإن كان المراد وقوعه ممّن تصدّى للزعامة من بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو عين القول بالتحريف بالنقصان واقعاً وإن لم يسمّ بالتحريف لفظاً ، وعليه فيمكن أن يدّعي أنّ القول بالتحريف هو مذهب كثير من علماء أهل السنّة لأنّهم يقولون بجواز نسخ التلاوة ، بل

__________________

(١) البيان : ص ٢٢٠.

(٢) المصدر السابق :

(٣) المصدر السابق :

٣٤٤

يمكن أن يدّعي أنّ أوّل من قال عندهم بالتحريف هو عائشة ، والثاني عمر ، والثالث ابن عبّاس ، وقد عرفت أنّ المحقّقين منّا ومنهم رفضوا القول بالتحريف مطلقاً.

الأمر الثالث : في اختلاف القراءات

ويبحث فيه أنّ الاختلاف في القراءة هل يوجب سقوط حجّية القرآن في الآية المختلف في قرائتها ، أو لا؟

فنقول : الاختلاف في القراءة على وجهين : تارةً لا يوجب تغييراً في المعنى كالاختلاف في قوله : ( خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ) (١) بالنسبة إلى كلمة « ضعف » التي قرأت بالفتح في قراءة عاصم برواية الحفص ، وبالضمّ في بعض القراءات الاخرى وقراءة عاصم برواية غير الحفص.

واخرى يكون مغيّراً للمعنى كالاختلاف في قوله تعالى : ( فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الَمحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) (٢) بالنسبة إلى قوله « يطهرن » ففي قراءة الحفص وجماعة ورد بالتخفيف ، وفي قراءة جماعة اخرى بالتشديد ، وهو على الأوّل ظاهر في النقاء عن الدمّ ، ونتيجته جواز الوقاع قبل الغسل وبعد انقطاع الدم ، وعلى الثاني ظاهر في الاغتسال ( وإن كان عندنا محلّ كلام ) ونتيجته عدم جواز الوقاع قبل الغسل وبعد النقاء.

وكيف كان ، فإنّ هنا ثلاث مسائل :

المسألة الاولى : في تواتر القراءات وعدمه ، وفيه ثلاث احتمالات :

الأوّل : تواتر القراءات.

الثاني : عدم التواتر مع حجّية جميعها.

الثالث : عدم التواتر مع حجّية واحد منها فقط وإن كانت القراءة في الباقي جائزة.

فنقول : لا دليل على تواتر القراءات وكونها موجودة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نزل بها جبرئيل عليه‌السلام ، لأنّ تواترها يتوقّف على تحقّق التواتر في ثلاث مراحل : التواتر بيننا وبين القرّاء ، والتواتر بين القرّاء أنفسهم ، والتواتر بين القرّاء وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بينما المعروف أنّ لكلّ واحد من القرّاء السبعة راويين فقط ، فلا يتحقّق التواتر في المرحلة الاولى ، مضافاً إلى أنّ هذين الراويين

__________________

(١) سورة الروم : الآية ٥٤.

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٢٢.

٣٤٥

ينقلان عن قارئهما مع واسطة إلاّراوي عاصم.

وهكذا بالنسبة إلى المرحلة الثانية لأنّه في عصر عاصم مثلاً لا يعيش من القرّاء المعروفين أحد إلاّشخص عاصم ، وكذلك بالنسبة إلى المرحلة الثالثة لأنّ هؤلاء القرّاء تولّدوا بعد مدّة طويلة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا دليل على وجود التواتر بينه وبينهم.

نعم نعلم إجمالاً بكون كثير من هذه القراءات مشهورة بين الناس ، ولكن هذا المقدار من الشهرة غير كافٍ في إثبات المقصود.

وعلى هذا فدعوى تواتر القراءات دعوى عجيبة بلا دليل ، بل الدليل موجود على خلافه ، وهو ما مرّ سابقاً أنّ عثمان جمع المسلمين على قراءة واحدة ، لأنّ الاختلاف في القراءة من شأنه أن يؤدّي إلى الاختلاف بين المسلمين وتمزيق صفوفهم ولذلك لم يعترض أحد من الصحابة عليه مع أنّه لو كانت القراءات متواترة لم يكن وجه لسكوتهم.

هذا مضافاً إلى أنّ نزول القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على سبعة أحرف في نفسه أمر غير ثابت بل غير معقول كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لا معنى للاحتمال الثالث وهو جواز القراءة مع عدم الحجّية في العمل لأنّه إذا استفدنا من الرّوايات المتظافرة ( التي تقول : اقرأوا كما قرأ الناس ) جواز القراءة شرعاً نستفيد منها الحجّية بالملازمة العرفيّة ، أي الحجّية حينئذٍ مدلول التزامي لتلك الرّوايات ، فلا وجه لإنكار الملازمة من ناحية المحقّق الخراساني رحمه‌الله وصاحب البيان واستدلالهم بأنّ الرّواية تقول : « اقرأوا » ولا تقول : « اعملوا ».

المسألة الثانية : في مقتضى كلّ واحد من هذه الاحتمالات : فنقول : إذا قلنا بتواتر القراءات فلازمه حجّية جميعها والقطع بصدور الجميع ، وحينئذٍ لا تعارض بينها من ناحية السند بل التعارض ثابت في دلالاتها ، فلو كان واحد منها أظهر من الباقي يؤخذ به وإلاّ تتعارض ثمّ تتساقط الجميع عن الحجّية.

وإن قلنا بالاحتمال الثاني فتكون المسألة من باب الخبرين المتعارضين اللذين كلاهما حجّة ، وحينئذٍ بما أن أدلّة إعمال المرجّحات خاصّة بالسنّة الظنّية تكون النتيجة تساقط الخبرين عن الحجّية ، وإن كان لأحدهما ترجيح على الآخر فتصل النوبة إلى الاصول العمليّة ، وسيأتي ما تقتضيه هذه الاصول إن شاء الله.

٣٤٦

وإن قلنا بالاحتمال الثالث فتكون المسألة من قبيل اشتباه الحجّة بلا حجّة ، فتصير حينئذٍ حجّية كلّ منهما ظنّية ، وقد ثبت في محلّه أنّ احتمال العدم في باب الحجّية يساوق عدم الحجّية.

وإن شئت قلت : قد ثبت في محلّه أنّ الأصل في الظنون عدم الحجّية.

المسألة الثالثة : في مقتضى القاعدة الأوّليّة بعد التساقط فنقول : مقتضى القواعد العامّة الفقهيّة بعد الشكّ في حكم خاصّ وإجمال الدليل هو الرجوع إلى العمومات والأدلّة الاجتهادية أوّلاً فإن ظفرنا بها فهو ، وإلاّ تصل النوبة إلى الاصول العمليّة ، ففي المثال المعنون في محلّ البحث مثلاً لو فرض إجمال قوله تعالى : ( فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الَمحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) لابدّ من الرجوع أوّلاً إلى العمومات الواردة في المسألة ، وقيل أنّ العام فيها قوله : ( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ) لأنّ عموم « أنّى شئتم » يشمل جميع الأزمنة ( لأنّه بمعنى « متى شئتم » أو « أي زمان شئتم » ) وخرج عنه خصوص زمان وجود الدم فقط ، فبمجرّد النقاء يأتي جواز الوقاع لذلك العموم ولا تصل النوبة إلى استصحاب الحرمة.

هذا إذا قلنا أنّ كلمة « أنّى » بمعنى « متى » فحسب ، وأنّ معناها واضح لا إجمال فيه ، وأمّا إذا قلنا بإجماله كما أنّه كذلك لأنّه ذكر لها في اللغة ثلاث معانٍ ففي المجمع البحرين « أنّى » بمعنى « متى » و « أنّى » بمعنى « كيف » و « أنّى » بمعنى « أين » ( كقوله تعالى : أنّى لك هذا ) بل بعض اللغويين لم يذكروا المعنى الأوّل ، وهو الراغب في المفردات ( الذي هو من أئمّة اللغة وكتابه مختصّ بلغات القرآن ومحلّ البحث في المقام من جملتها ) فيثبت حينئذٍ عدم تماميّة الدليل اللفظي الاجتهادي وتصل النوبة إلى الرجوع إلى الاصول العمليّة ، والأصل العملي في المثال هو استصحاب وجوب الاعتزال لأنّ موضوعه هو خصوص النساء وليس سيلان الدم من مقوّماته حتّى يوجب تغيير الموضوع بعد الانقطاع بل هي من حالاته كاستصحاب النجاسة في الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره ، ولو فرض كونه مقوّماً كما إذا قلنا بأنّ معنى قوله تعالى « اعتزلوا النساء » قولك « اعتزلوا الحائض » يجري الاستصحاب أيضاً لوحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك عند العرف في المقام لما عرفت من أنّ الحيض عند العرف ليس من مقدّمات الموضوع بل إنّه من حالاته بخلاف ما إذا صار المجتهد ناسياً لعلومه فلا يجوز تقليده بعد عروض النسيان تمسّكاً باستصحاب جواز التقليد لأنّ الاجتهاد عند العرف من مقوّمات الموضوع بالنسبة إلى هذا الحكم فيلزم تبدّل الموضوع بعد عروض النسيان.

٣٤٧

نعم ، هذا كلّه فيما إذا قلنا بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة ، وسيأتي في مبحث الاستصحاب إن شاء الله أنّ المختار خلافاً للمشهور عدمه ، وحينئذٍ تصل النوبة إلى أصالة الإباحة ( كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام ) ولا إشكال في جريانها في الشبهات الحكمية ، أو إلى البراءة العقليّة.

ولكن هذا كلّه فيما إذا كانت الآية من أمثلة النزاع في ما نحن فيه ، أي كان اختلاف القراءة فيها موجباً لاختلاف المعنى والحكم ، مع أنّه أوّل الكلام ، لأنّه لقائل أن يقول : أنّ قوله تعالى :

« يطهرن » على كلا الوجهين يكون بمعنى النقاء عن الدم لأنّ كون « يطهرن » على الوجه الثاني ( أي كونها من باب التفعّل ) مبني على اعتبار كون الفعل اختياريّاً في باب التفعّل والمطاوعة لأنّه بناءً على هذا الاعتبار لا يمكن أن يكون يطهّرن ( بالتشديد ) بمعنى النقاء لعدم كونه من الأفعال الاختياريّة بخلاف معنى الاغتسال.

لكن لا دليل على هذا الاعتبار ، بل كثيراً مّا يدخل في باب التفعّل ما لا يكون اختياريّاً كما في قوله تعالى : ( وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ) وقوله تعالى : ( تَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ ). مضافاً إلى وجود قرينتين في الآية على كون « يطهرن » بمعنى النقاء : إحديهما : كلمة المحيض وأنّها موجبة لوجوب الاعتزال لأنّ الحيض بمعنى سيلان الدم ، والتطهّر من الحيض يساوق عدم السيلان وانقطاع الدم. الثانية وحدة السياق فإنّها تقتضي كون الغاية في الجملة الاولى ( ولا تقربوهنّ حتّى يطهرن ) والشرط في الجملة الثانية ( فإذا تطهّرن فأتوهنّ ) بمعنى واحد ، وحيث إن « تطهّرن » في الجملة الثانية بمعنى النقاء بلا إشكال فلتكن « يطهرن » في ما نحن فيه أيضاً بهذا المعنى.

ثمّ ليعلم أنّ لهذه المسألة في الفقه روايات خاصّة عديدة ، بعضها تدلّ على جواز الوقاع قبل الغسل وبعضها تدلّ على عدم الجواز ومقتضى الجمع بينهما هو الجواز مع الكراهة ، والكراهة الشديدة إذا لم تغسل الموضع.

بقي هنا شيء :

وهو أنّه كيف يجمع بين القول باختلاف القراءات مع سرايته إلى المعنى أحياناً وبين وعده تعالى بحفظ القرآن في آية الحفظ؟

٣٤٨

والجواب عنه : أنّ الاختلاف ينافي آية الحفظ فيما إذا ثبت عدم القراءة المشهورة المتداولة بين المسلمين.

وإن شئت قلت : يستفاد من الآية بالدلالة الالتزاميّة أنّ القراءة التي تنزل بها جبرئيل هي هذه القراءة ولا دليل على شهرة القراءات الاخرى ولو بالنسبة إلى فترة من الزمان.

هذه مضافاً إلى أنّ كون الاختلاف في القراءة التي بين أيدينا سبباً لتفاوت الأحكام أوّل الكلام كما عرفت في المثال المعروف في آية الحيض.

إلى هنا تمّ الكلام في مباحث حجّية ظواهر الألفاظ والله العالم بحقائق الامور.

٣٤٩
٣٥٠

إثبات صغرى الظهور

( حجّية قول اللغوي )

إلى هنا قد فرغنا عن البحث عن كبرى حجّية ظواهر الألفاظ ، وتصل النوبة إلى بحث صغروي ، وهو إثبات صغرى الظهور وأنّ هذا اللفظ ظاهر في هذا المعنى أو لا؟ فبأيّ شيء يثبت الظهور؟ وما هو المرجع عند الشكّ فيه؟

فنقول : للمسألة خمس صور لا بدّ من التميير بينها والبحث عن كل منها مستقلاً :

الاولى : إذا كان الشكّ في مادّة اللغة كمادّة الكنز أو الغنيمة.

الثانية : إذا كان الشكّ في هيئة المفرد ، كما إذا شككنا في معنى الطهور ، فهل هي بمعنى الطاهر في نفسه والمطهّر لغيره ، أو بمعنى شديد الطهارة في نفسه بمقتضى صيغة المبالغة.

الثالثة : إذا كان الشكّ في هيئة الجملة كالشكّ في الجملة الشرطيّة وأنّها هل تدلّ على العلّية المنحصرة حتّى يكون لها المفهوم أو لا؟

الرابعة : إذا كان الشكّ في وجود قرينة توجب الاختلاف في الظهور.

الخامسة : إذا كان الشكّ في قرينيّة الموجود كقرينيّة الاستثناء بألاّ للجمل السابقة فيما إذا تعقّبت الجمل المتعدّدة باستثناء واحد.

ونبدأ في الجواب بالأخيرتين ونقول :

أمّا الصورة الرابعة : فلا إشكال ولا كلام في أنّ الأصل فيها عدم وجود القرينة ، إنّما الكلام في أنّ أصالة عدم القرينة هل هي أصل تعبّدي وحجّة تعبّداً ، أو أنّها ترجع إلى أصالة الظهور فتكون حجّيتها من باب حجّية أصالة الظهور؟ فعلى الأوّل يكون الأصل عدم وجود قرينة في البين فيؤخذ بالمعنى الظاهر العرفي ، وأمّا على الثاني فلا بدّ من ملاحظة ظهور الكلام وأنّه هل يوجب احتمال وجود القرينة إجمال اللفظ أو الظهور باقٍ على حاله؟ فالملاك كلّه حينئذٍ هو

٣٥١

الظهور اللفظي وعدمه ، ولكن لا فرق بين المبنيين بالنسبة إلى هذه الصورة فإنّ النتيجة واحدة.

أمّا الصورة الخامسة : وهي ما إذا شكّ في قرينية الموجود كالإستثناء المتعقّب للعمومات المتعدّدة فهي مبنيّة على ما مرّ من النزاع آنفاً ، فبناءً على كون أصالة عدم القرينة حجّة تعبّداً فلا إشكال في الأخذ بالعمومات السابقة على العام الأخير ، وبناءً على أصالة الظهور يصبح الكلام مجملاً وتسقط العمومات السابقة عن الحجّية لاحتفافها بما يحتمل القرينية ، وبما أن بناء العقلاء استقرّ على حجّية الظواهر فقط فلا بدّ لإثبات حجّية أصالة عدم القرينة تعبّداً من دليل يدلّ عليها وإلاّ لزم الرجوع إلى أصالة الظهور لا محالة.

أمّا الصورة الثالثة : وهي الشكّ في هيئة الجملة فالمرجع فيها هو علم النحو والمعاني والبيان ، ولكن بما أن عدداً كثيراً من هيئات الجمل لم يبحث عنها في هذه العلوم بحثاً كافياً لابدّ من البحث عنها في مبادىء علم الاصول ، والمتداول اليوم التكلّم عنها في مباحث الألفاظ.

وأمّا الصورة الثانية : وهي الشكّ في هيئة المفردات فالمرجع فيها هو علم الصرف كالبحث عن الفرق بين اسم الفاعل واسم المفعول ، أو بين اسم الفاعل والصفة المشبهة ، أو الفرق بين أبواب الثلاثي المزيد.

نعم يبحث عن عدّة منها في علم الاصول كالبحث عن المشتقّ.

بقيت الصورة الاولى وهي الشكّ في مادّة اللغة ، فالمعروف والمشهور أنّ المرجع فيها هو قول اللغوي وأنّه حجّة فيها بل ادّعى فيه إجماع العلماء ، لكن خالف فيه المحقّق الخراساني رحمه‌الله وقال بعدم حجّية قول اللغوي ، وسيأتي أنّ شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه‌الله مال إلى الحجّية مع تأمّله فيها أخيراً ، فعلينا أن نلاحظ الأدلّة وأنّه ما هو مقتضى الدليل؟

استدلّ للحجّية بوجوه ثلاثة :

الوجه الأوّل : إجماع العلماء ( بل جميع العقلاء ) على ذلك ، فانّهم قديماً وحديثاً يرجعون في استعلام اللغات إلى كتب أهل اللغة ، ولذلك ينقلون في الفقه أقوال اللغويين بالنسبة إلى موضوع من موضوعات الأحكام كالغنيمة والكنز حتّى من أنكر حجّية قولهم كالمحقّق الخراساني رحمه‌الله ، كما يرجعون إليهم في فهم الحديث وتفسير الكتاب الكريم.

لكن يرد عليه : أنّ الإجماع هذا لا يكون كاشفاً عن قول المعصوم عليه‌السلام بما أنّه دليل تعبّدي

٣٥٢

خاصّ قبال الأدلّة الاخرى التي استدلّوا بها في المقام لإمكان نشوئه منها فلا بدّ من الرجوع إليها.

الوجه الثاني : بناء العقلاء وسيرتهم قديماً وحديثاً وفي كلّ عصر وزمان ومكان على الرجوع إلى أهل الخبرة ، وهذا أهمّ الوجوه في المقام.

لكن أُورد عليه إشكالات عديدة :

الأول : أنّ اللغوي ليس من أهل الخبرة ، أي أهل الرأي والاجتهاد بالنسبة إلى تشخيص المعاني الحقيقيّة عن المعاني المجازيّة ، وإن شئت قلت : ليس شأن اللغوي إلاّبيان موارد الاستعمال لا تعيين المعنى الحقيقي من بين المعاني التي يستعمل اللفظ فيها.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ المهم في تعيين مراد المتكلّم هو تشخيص ظهور اللفظ كما مرّ ، ولا ريب في أنّ اللغوي يبيّن المعنى الظاهر للفظ سواء كان حقيقة أو مجازاً مشهوراً.

الثاني : ما اشير إليه في بعض كلمات المحقّق النائيني رحمه‌الله من أنّه يمكن أن يكون رجوع العقلاء إلى كتب اللغويين من جهة حصول الوثوق والاطمئنان من قولهم في بعض الأحيان لا من جهة حصول الظن فقط وحجّية قولهم مطلقاً ، ولا إشكال في أنّ الاطمئنان منزّل منزلة العلم أو أنّه علم عرفي فيكون حجّة (١).

قلنا : الإنصاف أنّ رجوعهم إلى أهل الخبرة ليس متوقّفاً على حصول الاطمئنان كما في الرجوع إلى قول المجتهد فإنّ المقلّد مع الإلتفات إلى اختلاف آراء الفقهاء في كثير من الموارد التي لا يحصل الإطمئنان والوثوق فيها عادةً بقول المجتهد ـ مع ذلك لا يتوقّف عن الرجوع كما أنّه كذلك في باب القضاء ورجوع القضاة إلى المتخصّصين والعارفين بالموضوعات التي هي محلّ الدعوى كالغبن والتدليس وغيرهما ، مع أنّه لا يحصل لهم الاطمئنان بتشخيصهم في كثير من الأحيان.

الثالث : أنّ قول اللغوي من مصاديق خبر الواحد ، وحجّيته في الموضوعات منوطة بحصول شرائط الشهادة.

أقول : إنّ اللغوي من أهل الخبرة ، وحجّية أهل الخبرة لا تتوقّف على شرائط الشهادة كما في مرجع التقليد.

__________________

(١) راجع فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ١٤٢ ، طبع جماعة المدرّسين.

٣٥٣

وإن شئت قلت : الحسّ على نوعين : حسّ دقيق ، وحسّ غير دقيق ، ولا ريب في أنّ الشهادة والإخبار عن حسّ دقيق تحتاج إلى التخصّص والخبرويّة نظير إخبار الطبيب وشهادته على أنّ هذا المريض كذا وكذا ، وما نحن فيه من هذا القبيل لأنّ تشخيص الظهور وتعيين المتفاهم عرفاً بين المعاني والاستعمالات المتعدّدة أمر مشكل دقيق يحتاج إلى دقّة وخبرويّة ، وحينئذٍ يرجع قول اللغوي إلى قول أهل الخبرة لا إلى الشهادة عن حسّ.

هذا ـ مضافاً إلى ما أثبتناه في القواعد الفقهيّة (١) من أنّه لا يعتبر التعدّد في الإخبار عن الموضوعات بل في غير باب القضاء يكفي خبر الواحد الثقة.

رابعها : ما ورد في تهذيب الاصول من « أنّ مجرّد بناء العقلاء على الرجوع في هذه القرون لا يكشف عن وجوده في زمن المعصومين حتّى يستكشف من سكوته رضاهم ، مثل العمل بخبر الواحد وأصالة الصحّة ... ( إلى أن قال ) : والحاصل : أنّ موارد التمسّك ببناء العقلاء إنّما هو فيما إذا احرز كون بناء العقلاء بمرأى ومسمع من المعصومين عليهم‌السلام ولم يحرز رجوع الناس إلى صناعة اللغة في زمن الأئمّة بحيث كان الرجوع إليهم كالرجوع إلى الطبيب » (٢).

قلنا : لا حاجة في حجّية خصوص قول اللغوي الذي هو من مصاديق كبرى بناء العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة إلى وجود خصوص هذا المصداق في زمن المعصومين عليهم‌السلام بل مجرّد وجود الكبرى في ذلك الزمان كافٍ ، وإلاّ يلزم من ذلك عدم جواز الرجوع إلى أهل الخبرة بالنسبة إلى المصاديق المستحدثة. هذا أوّلاً.

وثانياً : أنّه لا ريب في رجوع غير أهل اللسان في زمن المعصومين إلى أهل اللسان في حاجاتهم اليوميّة التي كانت مربوطة بتعيين معاني اللغات والألفاظ المتداولة في ذلك اللسان كرجوع أعجمي إلى أهل لسان العرب في تشخيص رسائل الوصايا والأوقاف وأسناد المعاملات والمراسلات العادية التي كانت مكتوبة باللغة العربيّة ، وعلى الأقلّ في فهم ما يتعلّق بالقرآن والحديث في توضيحهما وتفسيرهما وتبيين مفرداتهما فلا تتوقّف إثبات إتّصال سيرة العقلاء إلى زمن المعصومين عليهم‌السلام على تدوين كتب في اللغة في ذلك الزمان ورجوع الناس إليها كذلك.

__________________

(١) راجع القواعد الفقهيّة : المجلّد الثاني ، ص ٨١ ، الطبعة الثانية.

(٢) تهذيب الاصول : ج ٢ ص ٩٧ ، طبع جماعة المدرّسين.

٣٥٤

الوجه الثالث : من الأدلّة هو التمسّك بالانسداد الصغير ، وهو انسداد باب العلم والعلمي في بعض الموضوعات مقابل الانسداد الكبير الذي هو عبارة عن انسداد باب العلم والعلمي بالنسب إلى معظم الأحكام ، ولذا يعتمد على قول المرأة في الطهر والحيض وشبههما ممّا لا يعلم إلاّ من قبلها ، كما أنّ قول من يكون وكيلاً لعدّة من الأشخاص حجّة في تعيين نيّته وأنّه باع هذا المتاع مثلاً من جانب أي موكّل من موكّيله لأنّ النيّة أيضاً ممّا لا يعلم إلاّمن قبله ، كذلك في ما نحن فيه حيث إن الحاجة بقول اللغوي في المسائل الفقهيّة كثيرة جدّاً لأنّه ( كما أفاد شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه‌الله في رسائله ) « يمكن الوصول الإجمالي إلى معاني اللغات بطريق العرف والتبادر والقواعد العربيّة المستفادة من الاستقراء القطعي واتّفاق أهل العربيّة بضميمة أصالة عدم القرينة إلاّ أنّه لا مناصّ من الرجوع إلى أهل اللغة في فهم تفاصيل المعاني وجزئياتها » كما في لفظ الكنز مثلاً فنعلم إجمالاً أنّه اسم لأمر مستند مخفي ، ولكن هل يعتبر فيه أن يكون مستتراً تحت الأرض ، أو يعمّ مثلاً المخفيّ في جوف الجدار أيضاً؟

وحينئذٍ يأتي الإشكال الذي بيّن في الانسداد الكبير ، وهو محذور جريان الاحتياط مطلقاً أو جريان البراءة مطلقاً ، فالأوّل يوجب العسر والحرج واختلال النظام ، والثاني يوجب تفويت المصالح الكثيرة الواقعيّة التي نعلم أنّ الشارع لا يرضى بتفويتها.

أقول : وإشكاله واضح ما لم يرجع إلى الانسداد الكبير ، لأنّ الاحتياط في موارد الشكّ هنا ممكن أن لا يوجب اختلال النظام ولا العسر والحرج.

فالأولى أن يقال : إنّ المهمّ والأساس في المقام هو الدليل الثاني ، أي بناء العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة ، فأنّ فلسفة كثير من بناءات العقلاء في كثير من الموارد ومنها بناؤهم في الرجوع إلى الخبرة هو هذا الانسداد الصغير ، ففي باب الأمارات مثلاً منشأ بنائهم على حجّية قول ذي اليد وأماريتها على الملك ، أو حمل فعل الناس على الصحّة كحمل فعل الوكيل في المعاملة على صحّة العقد هو الانسداد الصغير كما لا يخفى.

فمنشأ بناء العقلاء في المقام هو هذا النوع من الانسداد كما أنّ منشأ اتّفاق العلماء على الرجوع إلى أهل الخبرة أيضاً لعلّه يكون هذا المعنى ، وعلى هذا الأساس يرجع الدليل الأوّل والثالث إلى الدليل الثاني.

وكان ينبغي للشيخ الأنصاري رحمه‌الله أن يتمسّك بهذا الوجه الثاني لا الوجه الأوّل والثالث

٣٥٥

حتّى ينفي أوّلاً حجّية قول اللغوي ويجيب عن استلزامه الانسداد الصغير ، ثمّ يرجع أخيراً ويقبل الحجّية بنحو قوله « لعلّ » ثمّ يأمر بالتأمّل في النهاية ، وإليك نصّ كلامه : « هذا ولكن الإنصاف أنّ موارد الحاجة إلى قول اللغويين أكثر من أن يحصى في تفاصيل المعاني بحيث يفهم دخول الافراد المشكوكة أو خروجها وإن كان المعنى في الجملة معلوماً من دون مراجعة قول اللغوي كما في مثل الفاظ الوطن والمفازاة والتمر والفاكهة والكنز والمعدن والغوص وغير ذلك من متعلّقات الأحكام ممّا لا يحصى وإن لم تكن الكثرة بحيث يوجب التوقّف فيها محذوراً ، ولعلّ هذا المقدار مع الاتّفاقات المستفيضة كافٍ في المطلب فتأمّل » (١).

هذا كلّه في تعيين الظهور وتشخيصه.

__________________

(١) راجع هامش الرسائل : ص ٤٧ ، الطبع القديم.

٣٥٦

٢ ـ حجّية الإجماع المنقول

وفيه بحث حول الإجماع المحصّل أيضاً

وممّا قيل بحجّيته وخروجه عن تحت أصالة حرمة العمل بالظّن الإجماع المنقول بخبر الواحد.

قال المحقّق الخراساني رحمه‌الله : « أنّه حجّة عند كثير ممّن قال باعتبار الخبر بالخصوص من جهة أنّه من أفراده ».

وفي الحقيقة يستدلّ على هذا بدليل مركّب من صغرى وكبرى ، أمّا الصغرى فهو : أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد مصداق من مصاديق خبر الواحد ، وأمّا الكبرى فهو : كلّ خبر الواحد الثقة حجّة ، فيستنتج أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد حجّة.

وبهذا يظهر أنّ الأنسب والأولى تأخير هذا البحث عن بحث خبر الواحد لأنّه فرع من فروعه ، ولكن نقتفي أثر القوم ونبحث فيه بناءً على حجّية خبر الواحد.

فنقول : تحقيق القول في المسألة يستدعي التكلّم في امور :

الأمر الأوّل : في الإجماع المحصّل.

ووجه البحث عن الإجماع المحصّل أنّه يمكن أن يكون الإجماع المنقول مشمولاً لأدلّة حجّية خبر الواحد على بعض المباني في الإجماع المحصّل دون بعض ، فلا بدّ من البحث أوّلاً عن وجوه حجّية الإجماع المحصّل عندهم والمسالك التي سلكوها في ذلك ، فنقول : يوجد في الإجماع المحصّل مبنيان معروفان : مبنى أهل السنّة ، ومبنى الشيعة ، فالمعروف والمشهور عند السنّة أنّ الإجماع في نفسه حجّة ، أي للُامّة بما هي امّة عصمة تعصمها عن الخطأ ، ولذلك عبّر شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه‌الله عن إجماعهم بالإجماع الذي هو الأصل لهم وهم الأصل له ، وأمّا

٣٥٧

الشيعة فالإجماع عندهم حجّة بالعرض ، أي بما هو كاشف عن قول المعصوم أو مشتمل عليه ، فهو بحسب الحقيقة يرجع إلى السنّة وليس دليلاً على حدة ، فالأدلّة عندنا في الواقع ثلاثة لا أربعة.

وتنبغي الإشارة أيضاً إلى معنى الإجماع لغة واصطلاحاً فنقول : أمّا لغة فهو بمعنى الاتّفاق ، وأمّا في مصطلح الاصوليين فهو اتّفاق مخصوص.

وقد اختلف العامّة في تحديد الإجماع وتعريفه على أقوال : فقال بعضهم أنّه اتّفاق امّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله على أمر من الامور الدينيّة ، وقال بعض آخر أنّه اتّفاق أهل الحلّ والعقد من امّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وثالث : أنّه اتّفاق المجتهدين من امّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في عصر على أمر ، ورابع : أنّه اتّفاق أهل المدينة ، وخامس : أنّه اتّفاق أهل الحرمين ، بل يظهر من بعضهم أنّه اتّفاق الشيخين أو الخلفاء الأربعة.

وأمّا الشيعة فهو عندهم على أربعة أنواع : الدخولي ( التضمّني ) والحدسي والتشرّفي واللطفي ، ولكلّ تعريف يخصّه سيأتي عند البحث عن كلّ واحد منها.

١ ـ دليل حجّية الإجكاع عند العامة

وقد استدلّ العامّة على حجّية الإجماع بالأدلّة الثلاثة : الكتاب والسنّة والعقل.

أمّا الكتاب فاستدلّوا منه بآيات عديدة : الأهمّ منها قوله تعالى : ( وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ) (١) ( الشقاق بمعنى العداوة ).

تقريب دلالتها : أنّ الله تعالى جمع بين مشاقّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله واتّباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد ، فيلزم أن يكون اتّباع غير سبيل المؤمنين محرّماً مثل مشاقّة الرسول ، وإذا حرم اتّباع غير سبيل المؤمنين وجبّ اتّباع سبيلهم إذ لا ثالث لهما ، ويلزم من اتّباع سبيلهم أن يكون الإجماع حجّة لأنّ سبيل الإنسان هو ما يختاره من القول أو الفعل أو الاعتقاد.

ولكن الإنصاف أنّ هذه الآية لا ربط لها بمسألة الإجماع في الأحكام الفرعيّة ، بل إنّها تنهى

__________________

(١) سورة النساء : الآية ١١٥.

٣٥٨

عن معصية الرسول وشقّ عصا المجتمع الإسلامي ، وتتكلّم عن مخالفة الرسول والكفر بعد الإيمان وما يترتّب عليه من العذاب الاخروي ، فالمقصود من اتّباع غير سبيل المؤمنين في قوله تعالى : ( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ) هو مخالفة الرسول واتّباع الكفر بعد الإيمان ، فإنّ سبيل المؤمنين بما هم مجتمعون على الإيمان هو الاجتماع على طاعة الرسول الذي طاعته طاعة الله تعالى.

والشاهد على ذلك امور :

١ ـ ما ورد في شأن نزولها من أنّ قوماً من الأنصار من بني ابيرق اخوة ثلاثة كانوا منافقين : بشير وبشر ومبشّر ، فنقبوا على عمّ قتادة بن النعمان ، وأخرجوا طعاماً كان أعدّه لعياله وسيفاً ودرعاً ، فشكا قتادة ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفضح بنو ابيرق ، فكفر بشر وارتدّ ، ولحق بالمشركين بدل أن يستغفر الله ويتوب إليه من ذنبه فأنزل الله « ومن يشاقق .. » حيث إن اتّباع بشر غير سبيل المؤمنين إنّما هو ارتداده ولحوقه بالمشركين لا مخالفته لإجماع المسلمين في حكم فرعي.

٢ ـ إنّ سبيل المؤمنين في قوله تعالى : ( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ) سبيلهم بما هم مجتمعون على الإيمان ، فيكون المعنى ، سبيل الإيمان ، لأنّ تعليق حكم بوصف مشعر بعلّيته. فالمراد من الآية الخروج من الإيمان إلى الكفر لا المخالفة في المسائل الفرعيّة.

٣ ـ أنّ قوله تعالى : « ويتّبع ... » شرط في الجملة ، وجزاؤه قوله تعالى : « نولّه ما تولّى » ولا إشكال في أنّ المقصود من الجزاء انّا نأخذه على ما جرى عليه من ولاية الطاغوت فوزانه وزان قوله تعالى في ذيل آية الكرسي : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) وقوله تعالى : ( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) (١) فليكن المقصود من الشرط ( اتّباع غير سبيل المؤمنين ) أيضاً قبول ولاية الطاغوت.

٤ ـ لو لم يكن قوله تعالى : ( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ) عطفاً تفسيريّاً لمشاقّة الرسول ، وكان المراد منه مخالفة الإجماع في المسائل الفرعيّة ، أي أمراً آخر وراء مشاقّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فلتكن هي وحدها موجبة للدخول في جهنّم كما أنّ مشاقّة الرسول وحدها موجبة له ، ولازمه

__________________

(١) سورة الإسراء : الآية ٧١.

٣٥٩

حينئذٍ العطف بـ « أو » مع أنّه عطف بالواو ، وهو ظاهر في مطلق الجمع ، ولازمه التفسير والتوضيح.

٥ ـ قوله تعالى : ( مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ) دليل آخر على المقصود ، حيث إنّه يدلّ على أنّ الكلام في الضلالة بعد الهداية ، فيوجب ظهور قوله : « ويتّبع ... » في كونه تفسيراً لاتّباع الضلالة بعد تبيّن الهداية.

فظهر من مجموع هذه القرائن والشواهد أنّ الآية لا دخل لها بالإجماع في الأحكام الفرعيّة ، بل ناظرة إلى المسائل الاصوليّة ( اصول الدين ).

وهيهنا آيات اخر استدلّوا بها على حجّية الإجماع أيضاً ، منها قوله تعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (١) بتقريب أنّ الوسط هو العدل والخير ، والعدل أو الخير لا يصدر عنه إلاّ الحقّ ، والإجماع صادر عن هذه الامّة العدول الخيار فليكن حقّاً.

والجواب عنها واضح ، لأنّ المراد من الوسط هو الاعتدال والسلامة من طرفي الإفراط والتفريط ، ولا إشكال في أنّ هذه الامّة بالنسبة إلى أهل الكتاب والمشركين على هذا الوصف فإنّ بعضهم وهم المشركون والوثنيّون مالوا إلى تقوية جانب الجسم محضاً لا يريدون إلاّ الحياة الدنيا ، وبعضهم كالنصارى اهتمّوا بتقوية جانب الروح لا يدعون إلاّ الرهبانيّة ، لكن الله سبحانه جعل هذه الامّة وسطاً وجعل لهم ديناً يهدي إلى وسط الطرفين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، كما يهدي إلى أنّه لا تعطيل ولا تشبيه ولا جبر ولا تفويض.

ومعنى « شهداء على الناس » أنّ هذه الامّة لكونها وسطاً يمكن لها أن تكون شهيدة على سائر الامم الواقعة في طرفي الإفراط والتفريط ، واسوة ومثالاً لهم يقاس ويوزن بها كلّ من الطرفين ، كما أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الاسوة والمثال الأكمل لهذا الامّة وميزان يوزن به حال الآحاد من الامّة.

فإذا كان هذا هو معنى الآية فلا ربط لها بمسألة الإجماع في الأحكام الفرعيّة كما هو ظاهر ، مضافاً إلى أنّ الامّة عام إفرادي يشمل آحاد الامّة فيكون كلّ واحد من الامّة شاهداً

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٤٣.

٣٦٠