أنوار الأصول - ج ٢

أنوار الأصول - ج ٢

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-14-8
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٥٠٤

ثمّ إنّه اعتذر بعض الأخباريين عن بعض ما ذكرنا بما فيه تكلّف ظاهر ، مثل ما ذكره صاحب الوسائل في ذيل الطائفة العاشرة من أنّ المراد من الخلق فيها هم الأئمّة عليهم‌السلام أو جميع المكلّفين ( باعتبار دخول الأئمّة عليهم‌السلام فيهم وأنّه إذا علم بعضهم معنى القرآن فهو كافٍ في صدق قوله عليه‌السلام « لا يخاطب الخلق بما لا يعلمون » ) (١).

ولكن لا يخفى ما فيه من إرتكاب خلاف الظاهر والتعسّف والتكلّف ، كما أنّ توجيهه روايات العرض على القرآن بأنّ المراد منها العمل بالكتاب والسنّة معاً ـ أيضاً واضح البطلان لأنّ ظاهرها أنّ تمام المعيار في معرفة الحقّ والباطل في الرّوايات هو الكتاب الكريم لا أنّ الخمسين في المائة مثلاً منه للقرآن ، والخمسين في المائة الاخر للروايات ، بل ظاهر هذه الطائفة أنّ للقرآن ما هو أعظم وأهمّ من الحجّية وهو أنّه نور في نفسه ومنوّر لغيره.

وأجاب عن روايات الطائفة التاسعة بأنّ « وجهها أنّ من سمع آية ظاهرها دالّ على حكم نظري لم يجز له الجزم بخلافها ، لاحتمال إرادة ظاهرها ، فالإنكار هناك لأجل هذا ، وإن كان لا يجوز الجزم بإرادة الظاهر أيضاً ، لاحتمال النسخ والتخصيص والتأويل وغير ذلك ».

وهذا الكلام أيضاً مخالف لظاهر ما مرّ من الرّواية كما لا يخفى على الناظر فيها.

وأمّا الوجوه التي استدلّوا بها على عدم حجّية ظواهر الكتاب فهي ستّة بعضها ينفي كبرى الحجّية بعد قبول صغرى الظهور ، وبعضها الآخر ينفي الصغرى أعني ظهور الآيات في معانيها.

أمّا الوجه الأوّل : ( ولعلّه العمدة ) فهي الرّوايات الناهيّة عن التفسير بالرأي بتقريب أنّ العمل بالظواهر من مصاديق التفسير بالرأي.

منها : ما رواه الريّان بن الصلت عن الرضا عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال الله عزّوجلّ : « ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي » (٢).

ومنها : ما رواه عبدالرحمن بن سمرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لعن الله المجادلين في دين الله على لسان سبعين نبيّاً ، ومن جادل في آيات الله كفر ، قال الله : ( مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ، ومن فسّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب ... » (٣).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ذيل ح ٨١ ، الباب ١٣ ، من أبواب صفات القاضي.

(٢) المصدر السابق : ح ٢٨.

(٣) المصدر السابق : ح ٣٧.

٣٠١

ومنها : ما رواه أبو بصير عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « من فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر ، وإن أخطأ خرّ أبعد من السماء » (١).

وغير ذلك من بعض روايات الباب الثالث عشر من أبواب صفات القاضي (٢).

والجواب عن هذا الوجه مبني على بيان معنى التفسير والرأي الواردين في هذه الرّوايات وأنّهما هل يشملان العمل بالظواهر أو لا؟

أمّا كلمة التفسير ففي القاموس : « الفسر والتفسير الإبانة وكشف المغطّى ، والتفسير هو نظر الطبيب إلى الماء فإنّ الطبيب بنظره إلى الماء وهو البول يكشف عن نوع المرض ».

وفي مفردات الراغب « الفسر إظهار المعنى المعقول ، والتفسير قد يقال في ما يختصّ بمفردات الألفاظ وغريبها وما يختصّ بالتأويل ولذا يقال تفسير الرؤيا وتأويلها ».

وفي لسان العرب : « الفسر كشف المغطّى والتفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل ، قيل التفسيرة ( على وزن التذكرة ) البول الذي يستدلّ به على المرض ».

فبناءً على هذا المعنى ينحصر تفسير القرآن ببطونه وبمتشابهاته ، ولا يشمل الأخذ بظواهر الآيات نظير قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) و ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) وقوله تعالى : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) كما لا يخفى.

وأمّا معنى الرأي فالظاهر منه هو الآراء الباطلة التي لا أساس لها.

ففي مفردات الراغب : « الرأي اعتقاد النفس أحد النقيضين عن غلبة الظنّ » وليس المراد من الظّن إلاّ الآراء والظنون الباطلة كما يشهد به الرّوايات :

منها : ما روي عن الحسن بن علي العسكري عليه‌السلام في تفسيره بعد كلام طويل في فضل القرآن قال : « أتدرون من المتمسّك به الذي له بتمسّكه هذا الشرف العظيم؟ هو الذي أخذ القرآن وتأويله عنّا أهل البيت عن وسائطنا السفراء عنّا إلى شيعتنا لا عن آراء المجادلين وقياس الفاسقين » (٣).

ومنها : ما رواه عمّار بن موسى عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : سئل عن الحكومة فقال : « من

__________________

(١) وسائل الشيعة : ح ٦٦ ، الباب ١٣ ، من أبواب صفات القاضي.

(٢) وهي : ح ٦٤ و ٤٣.

(٣) المصدر السابق : ح ٦٣ ، من الباب ٣ ، من أبواب صفات القاضي.

٣٠٢

حكم برأيه بين اثنين فقد كفر ، ومن فسّر آية من كتاب الله فقد كفر » (١).

فالمراد من الرأي على ضوء مثل هاتين الروايتين هو قول العامّة : بأنّ هذا ممّا لا نصّ فيه فليتمسّك بذيل القياس أو الاستحسان.

الوجه الثاني : الرّوايات الناهيّة عن العمل بالمتشابهات بتقريب أنّ الظواهر من المتشابهات لأنّ المحكمات منحصرة في النصوص.

منها : ذيل ما رواه علي بن الحسين المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه نقلاً عن التفسير النعماني عن إسماعيل بن جابر عن الصادق عليه‌السلام : « وإنّما هلك الناس في المتشابه لأنّه لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلاً من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء ونبذوا قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وراء ظهورهم » (٢).

ومنها : ما رواه أبو بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : « نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله » (٣).

ومنها : ما رواه عبدالرحمن بن كثير عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « الراسخون في العلم أمير المؤمنين عليه‌السلام والأئمّة من ولده » (٤).

والجواب عن هذا الوجه واضح لأنّ المتشابه ( كما مرّت الإشارة إليه في ذيل الطائفة الثامنة من الرّوايات الدالّة على حجّية ظواهر الكتاب ) هو ما يتشابه بعضه بعضاً ، أي ما يشابه فيه أحد احتمالين احتمالاً آخر وبالعكس ، ولذلك يوجب الحيرة للإنسان فيصير مجملاً ومبهماً ، وإلاّ ما لم يكن فيه تشابه بين الاحتمالين بل كان أحدهما ظاهراً والآخر مخالفاً للظاهر فلا يكون متشابهاً حتّى يكون داخلاً في هذه الرّوايات.

والشاهد على ذلك ما مرّ من ذيل رواية إسماعيل بن جابر : « لأنّهم لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلاً من أنفسهم بآرائهم » وهو يعني أنّ المتشابه ما لا يفهم الإنسان معناه ، ولذلك يرى نفسه مضطراً إلى أن يأوّله من عند نفسه ، وهذا لا يكون صادقاً في

__________________

(١) وسائل الشيعة : ح ٦٧ ، الباب ٣ من ابواب صفات القاضي.

(٢) المصدر السابق : ح ٦٢ ، الباب ١٣ ، من أبواب صفات القاضي.

(٣) المصدر السابق : ح ٥٣.

(٤) المصدر السابق : ح ٧.

٣٠٣

العمل بالظواهر والمطلقات والعمومات لأنّ المعنى فيها مفهوم واضح.

هذا مضافاً إلى ما ورد في ذيل آية المحكم والمتشابه وهو قوله تعالى : ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ ) حيث لا يخفى أنّ العمل بالظواهر لا يكون فيه ابتغاء الفتنة ، بل الفتنة تنشأ من ناحية اتّباع الذين في قلوبهم المرض أحد الاحتمالين ، وهو يصدق في ما ليس له ظهور أو ما يخالف الظهور.

الوجه الثالث : روايات تدلّ على أنّ للقرآن مفاهيم عالية لا تصل إليها الأيدي العادية والأفهام القاصرة للناس ، ولذلك لا ظهور لها بالنسبة إليهم.

منها : ما رواه عبدالعزيز العبدي عن أبي عبدالله عليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ : ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) قال : « هم الأئّمة عليهم‌السلام » (١).

ومنها : ما رواه أبو بصير قال : قرأ أبو جعفر عليه‌السلام هذه الآية : ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) ثمّ قال : « أما والله يا أبا محمّد ما قال ما بين دفّتي المصحف » قلت :

من هم جعلت فداك؟ قال : « من عسى أن يكونوا غيرنا » (٢).

ومنها : ما رواه أبو بصير أيضاً قال سمعت أبا جعفر يقول في هذه الآية : « ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) فأوى بيده إلى صدره » (٣).

ومنها : ما رواه سدير عن أبي عبدالله عليه‌السلام في حديث قال : « علم الكتاب كلّه والله عندنا علم الكتاب كلّه والله عندنا » (٤).

ومنها : ما رواه الطبرسي في التفسير الصغير عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : ( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) قال : « إيّانا عنى وعلي أوّلنا » (٥).

والجواب عن هذا الوجه أنّ المقصود من هذه الرّوايات أنّ للقرآن بطوناً في مقابل الظواهر ، والمختصّ بالأئمّة هي تلك البطون خاصّة لا الظواهر ، ولنا على هذا شواهد من نفس الرّوايات :

__________________

(١) وسائل الشيعة : ح ١٠ ، الباب ١٣ ، من ابواب صفات القاضي.

(٢) المصدر السابق : ح ١١.

(٣) المصدر السابق : ح ٩.

(٤) المصدر السابق : ح ١٦.

(٥) المصدر السابق : ح ٥٨.

٣٠٤

منها : ما رواه جابر قال قال أبو عبدالله عليه‌السلام : « ياجابر أنّ للقرآن بطناً وللبطن ظهراً وليس شيء أبعد من عقول الرجال منه ، أنّ الآية لينزل أوّلها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصرّف على وجوه » (١).

فإنّ الضمير في قوله « منه » يرجع إلى القرآن فيكون المقصود أنّ القرآن بجميع شؤونه من الظاهر والباطن لا يفهمه غير الأئمّة ، ولا أقلّ من أنّ هذا طريق الجمع بينها وبين ما دلّ على إرجاع آحاد الناس إلى الكتاب العزيز ، وقد عرفت أنّها متواترة.

ومنها : ما رواه فضيل بن يسار قال : سألت أبا جعفر عن هذه الرّواية : ما من القرآن آية إلاّ ولها ظهر وبطن ، قال : « ظهره وبطنه تأويله ، ومنه ما قد مضى ومنه ما لم يكن ، يجري كما تجري الشمس والقمر كلّما جاء تأويل شيء يكون على الأموات كما يكون على الأحياء ، قال الله : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) » (٢). ومعنى قوله « ظهره وبطنه تأويله » أنّ ظهره واضح وأمّا بطنه فهو تأويله.

ومنها : ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « تفسير القرآن على سبعة أوجه ، منه ما كان ومنه ما لم يكن بعد ، تعرفه الأئمّة عليهم‌السلام » (٣) ، وظاهر الرّواية أنّ التفسير ( وهو الكشف عن المغطّى ) عندهم عليهم‌السلام.

ومنها : ما روي عن الباقر عليه‌السلام في قوله تعالى : ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) قال : « هم الأئمّة المعصومون عليهم‌السلام » (٤).

فإنّ آية « ولو ردّوه إلى الرسول ... الخ » نزلت في ما لا يكون له ظهور ، ولذلك وقع الاختلاف فيه فتدلّ هذه الرّواية على أنّ هذا السنخ من الآيات علمها عند الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام فقط.

ومنها : ما رواه إسماعيل بن جابر عن الصادق عليه‌السلام قال : « إنّ الله بعث محمّداً فختم به الأنبياء فلا نبي بعده ، وأنزل عليه كتاباً فختم به الكتب فلا كتاب بعده ـ إلى أن قال ـ : فجعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) وسائل الشيعة : ح ٧٤ ، الباب ١٣ ، من ابواب صفات القاضى.

(٢) المصدر السابق : ح ٤٩.

(٣) المصدر السابق : ح ٥١.

(٤) المصدر السابق : ح ٦١.

٣٠٥

علماً باقياً في أوصيائه فتركهم الناس وهم الشهداء على أهل كلّ زمان حتّى عائدوا من أظهر ولاية ولاة الأمر وطلب علومهم ، وذلك أنّهم ضربوا القرآن بعضه ببعض ... ولهذه العلّة وأشباهها لا يبلغ أحد كنه معنى حقيقة تفسير كتاب الله تعالى ولا نبيّه وأوصياؤه » (١) ودلالتها أيضا على المطلوب ظاهرة.

الوجه الرابع : روايات تدلّ على أنّ مخاطب القرآن إنّما هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة الهادين ، وهذه صغرى إذا انضمّت إلى كبرى اختصاص حجّية الظواهر بمن خوطب به يستنتج منها أنّ ظواهر الكتاب ليست حجّة لغير الأئمّة عليهم‌السلام :

منها : ما رواه زيد الشحّام قال : دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر عليه‌السلام فقال : « ياقتادة أنت فقيه أهل البصرة؟ » فقال : هكذا يزعمون فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « بلغني أنّك تفسّر القرآن ـ إلى أن قال أبو جعفر عليه‌السلام ـ ويحك ياقتادة إن كنت إنّما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد فسّرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ، ويحك ياقتادة إنّما يعرف القرآن من خوطب به » (٢).

وفيه إشكال صغرى وكبرى : أمّا الصغرى فلأنّ اختصاص مخاطبي القرآن بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام كلام غير معقول ، لما ورد من أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحتجّ مع المشركين بهذه الآيات ، وكان المشركون والكافرون يخاطبون بها بمثل قوله تعالى : « يا أهل الكتاب » و « يا أيها الكافرون » و « يا أيّها الناس » ولا يكاد ينتظرون تفسير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي لم يؤمنوا به.

وأمّا رواية قتادة فهي تفسّر بما رواه شبيب بن أنس عن بعض أصحاب أبي عبدالله عليه‌السلام في حديث أنّ أبا عبدالله قال لأبي حنيفة : « أنت فقيه العراق؟ » قال : نعم قال « فبم تفتيهم؟ » قال : بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « يا أبا حنيفة : تعرف كتاب الله حقّ معرفته؟ وتعرف الناسخ والمنسوخ؟ » قال : نعم ، قال : « يا أبا حنيفة لقد ادّعيت علماً ويلك ما جعل الله ذلك إلاّعند أهل الكتاب الذي انزل عليهم ، ويلك ولا هو إلاّعند الخاصّ من ذرّية نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما ورّثك الله من كتابه حرفاً » (٣).

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ح ٦٢ ، الباب ١٣ ، من ابواب صفات القاضي.

(٢) المصدر السابق : ح ٢٥.

(٣) المصدر السابق : الباب ٦ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٧.

٣٠٦

وهي تدلّ على أنّ خصوصيّات الناسخ والمنسوخ وشبهها عند الأئمّة عليهم‌السلام فقط ، وهذا ردّ على الذين استغنوا بآرائهم عن مسألتهم ، ولا يشمل من يعمل بظواهر الكتاب ويأخذ المشكلات من أهله ، ولا أقلّ من أنّ هذا طريق الجمع بينها وبين ما دلّ على ارجاع الناس عموماً إلى القرآن الكريم.

فالمراد من قوله في رواية قتادة : « إنّما يعرف القرآن من خوطب به » هو معرفة تفسير البطون والأسرار والمتشابهات ، كما يشهد عليه صدرها : « بلغني أنّك تفسّر القرآن » وقد عرفت أنّ التفسير عبارة عن كشف المغطّى ، وكما يشهد عليه أيضاً ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في احتجاجه على زنديق سأله عن آيات متشابهة من القرآن فأجابه ـ إلى أن قال ـ : « ثمّ إنّ الله قسّم كلامه ثلاثة أقسام فجعل قسماً منه يعرفه العالم والجاهل ، وقسماً لا يعرفه إلاّمن صفا ذهنه ولطف حسّه وصحّ تمييزه ممّن شرح الله صدره للإسلام ، وقسماً لا يعلمه إلاّ الله وملائكته والراسخون في العلم ، وإنّما فعل ذلك لئلاّ يدّعي أهل الباطل المستولين على ميراث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من علم الكتاب ما لم يجعله الله لهم ، وليقودهم الاضطرار إلى الايتمام بمن ولّي أمرهم فاستكبروا عن طاعته » (١).

هذا كلّه في الصغرى.

وأمّا الكبرى فلما مرّ في جواب كلام المحقّق القمّي رحمه‌الله من عدم اختصاص حجّية الظواهر بالمقصودين بالإفهام وأنّ بناء العقلاء استقرّ على الأعمّ منهم.

الوجه الخامس : أنّ ظاهر الكتاب وإن لم يكن ذاتاً مندرجاً في المتشابه لكنّه مندرج فيه بالعرض ، فسقط عن الظهور ، وذلك لأجل العلم الإجمالي بطروّ التخصيص والتقييد والتجوّز في الكتاب.

واجيب عن هذا الوجه بجوابين : أحدهما : بالنقض ، والآخر بالحلّ ، أمّا الأوّل فبالنقض بالإخبار فلا بدّ من القول بعدم حجّية ظواهرها أيضاً.

وأمّا الثاني فبأنّ سببية العلم الإجمالي ( بإرادة خلاف الظاهر في جملة من الآيات ) للإجمال مشروطة بعدم انحلاله بالظفر في الرّوايات بالمخصّصات وغيرها من موارد إرادة خلاف

__________________

(١) وسائل الشيعة : ح ٤٤ ، الباب ١٣ ، من أبواب صفات القاضي.

٣٠٧

الظاهر بمقدار المعلوم بالإجمال ، ومع الانحلال لا إجمال.

وإن شئت قلت : إنّ دائرة المعلوم بالإجمال ليست مطلق الأمارات حتّى يقال ببقاء احتمال التخصيص ونحوه حتّى بعد الظفر بمخصّصات ونحوها فيما بأيدينا من الرّوايات وغيرها ، بل خصوص ما لو تفحّصنا عنه لظفرنا به ، وهذا العلم الإجمالي يمنع عن التمسّك بالظواهر قبل الفحص لا بعده ، فبعد الفحص إذا لم يظفر بما يخالف ظاهر الكتاب من تخصيص أو تقييد أو قرينة مجاز يكون ذلك الظاهر ممّا علم خروجه تفصيلاً عن أطراف الشبهة ، فلا مانع حينئذٍ من إجراء أصالة الظهور فيه.

الوجه السادس : ما يبتني على مزعمة تحريف القرآن ، وهو أن يقال : إنّا نعلم إجمالاً بوقوع التحريف في الكتاب ، وكلّ ما وقع فيه التحريف يسقط ظهوره عن الحجّية ، فظواهر كلام الله تسقط عن الحجّية.

وهو باطل صغرى وكبرى ، ونقدّم البحث عن الكبرى لاختصاره ، فنقول : سلّمنا وقوع صغرى التحريف في الكتاب لكنّه لا يوجب المنع عن حجّية ظواهر القرآن الكريم ، وذلك لُامور :

الأوّل : أنّ التحريف على فرض وقوعه لا يوجب التغيير في المعنى دائماً كالتحريف بإسقاط آية أو سورة لا إرتباط لها بما قبلها وما بعدها.

الثاني : أنّ محلّ الكلام هو آيات الأحكام ، ودواعي التحريف فيها ضعيفة ، وإنّما الدواعي في ما له ربط بسياسياتهم أعني مسألة الولاية والحكومة ، فتأمّل.

الثالث : أنّه لو فرضنا وجود العلم الإجمالي بالتحريف في مجموع الآيات من الأحكام وغيرها لكنّه غير ضائر بحجّيتها لكونه من موارد الشبهة غير المحصورة أي من قبيل العلم الإجمالي بالقليل في الكثير وهو لا يوجب الإحتياط على ما قرّر في محلّه.

الرابع : سلّمنا كون الشبهة محصورة ، وأنّ العلم الإجمالي في المقام من قبيل العلم بالكثير في الكثير إلاّ أنّه لا يوجب أيضاً عدم حجّية الظواهر لأنّه من موارد عدم ترتّب أثر شرعي على بعض أطراف العلم الإجمالي لو كان المعلوم بالإجمال محقّقاً فيه ، فإنّ الخلل المعلوم بالإجمال إن كان في ظواهر غير آيات الأحكام من القصص والحكايات والاعتقادات والأخلاقيات لم يؤثّر شيئاً لعدم تكليف شرعي عملي فيها وليست هي أحكاماً تعبّديّة بل إنّها إرشادات إلى عدّة من الأحكام العقليّة ، وإن كان في ظواهر آيات الأحكام فهو شكّ بدوي فتكون أصالة

٣٠٨

الظهور في الأحكام باقية على حجّيتها.

وقد اجيب عن هذا الوجه في كلمات بعض الأعاظم بأنّ جميع آيات القرآن داخلة في محلّ الابتلاء في العمل بناءً على ما هو المشهور من لزوم قراءة سورة كاملة في الركعتين الأوّليين من كلّ صلاة ، ولو وقع التحريف في سورة لا يصحّ قراءتها في الصّلاة لعدم كونها كاملة سواء كان المحتوى فيها من الأحكام أم غيرها ، وإذن يصير كلّ سورة من سور القرآن محلاً للابتلاء في العمل فيؤثّر العلم الإجمالي أثره من عدم الحجّية.

كما يمكن إثبات دخول جميع القرآن في موضع الابتلاء من طرق اخرى أيضاً كاعتبار الطهارة في مسّها سواء كانت من الأحكام أم غيرها.

أقول : الإنصاف هو عدم الاعتماد بشيء من هذه الوجوه ، وذلك لأنّ أصالة حجّية الظواهر ليست من الاصول التعبّديّة بل هي كأصالة الحقيقة من الاصول العقلائيّة الطريقيّة التي استقرّ عليها بناء العقلاء من باب أنّها طريق لكشف الواقع لا من باب مجرّد التعبّد ، وحينئذٍ لابدّ من ملاحظة بناء العقلاء في المقام وأنّه هل هو ثابت على حجّية ظواهر كتاب حتّى بعد وقوع التحريف فيها أو لا؟ الإنصاف أنّ بناءهم لم يستقرّ عليها في هذه الصورة من دون فرق بين كونها داخلة في محلّ الابتلاء وعدمه ، ومن دون فرق بين أن يترتّب عليها أثر شرعي أو لا يترتّب.

والحقّ في الجواب أن نقول : أنّ الطوائف العشرة الدالّة على لزوم الأخذ بظواهر كتاب الله التي مرّت سابقاً لا تدعونا إلاّ إلى العمل بهذا القرآن الموجود في أيدي المسلمين ، وتلاوة آيات هذا القرآن الذي وصل إلينا من عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام والصادقين عليهما‌السلام سواء قلنا بتحريفه بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مدّة قصيرة قبل جمعه في عهد عثمان أو لم نقل به كما هو الحقّ ، وسيأتي تفصيله إن شاء الله ، لأنّه لا يقول أحد بوقوع التحريف بعد جمع عثمان إلى زماننا هذا.

وبالجملة لو فرضنا وقوع التحريف فيه وعدم بناء العقلاء على حجّية كتاب محرّف فلا كلام ولا إشكال في حجّية القرآن الموجود بأيدينا شرعاً وإنّا مأمورين بالعمل به بمقتضى تلك الرّوايات الكثيرة.

هذا كلّه في كبرى الوجه السادس من الوجوه التي استدلّ بها لعدم حجّية ظواهر القرآن الكريم ، أمّا الصغرى ( وهي صغرى وقوع التحريف ) فلا بدّ من البحث فيه بحثاً لا يكون فيه اقتصار مخلّ ولا تطويل مملّ فنقول ومن الله التوفيق والهداية :

٣٠٩
٣١٠

الكلام في عدم تحريف الكتاب العزيز

ولابدّ فيه من رسم مقدّمات :

المقدمة الاولى : في أشكال التحريف

إنّ التحريف على قسمين : لفظي ومعنوي ، فاللفظي ينقسم إلى ثلاثة أقسام : أحدها : التحريف بالزيادة ، والثاني : التحريف بالنقصان ، والثالث : التحريف بالتبديل والتغيير.

والمعنوي ينقسم أيضاً إلى قسمين : فتارةً يكون بتغيير المعنى كما إذا قيل : إنّ الوليّ في قوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللهُ وَرَسُولُهُ والمؤمنون ... ) بمعنى الصديق والحبيب لا بمعنى المولى الحاكم والولي في التصرّف ، واخرى بتطبيقه على غير مورده نظير ما يحكى عن معاوية في قصّة سمرة بن جندب في قوله تعالى : ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ) فطلب منه أن يعلن أنّ هذه الآية نزلت في عبدالرحمن بن ملجم أشقى الآخرين وقاتل علي عليه‌السلام بالسيف وإنّ قوله تعالى : ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ ) نزل ـ العياذ بالله ـ في علي عليه‌السلام وقد فعله سمرة بعد أن أخذ منه مائة الف من الدراهم من بيت مال المسلمين (١).

والتحريف اللفظي بالزيادة أيضاً على أقسام : التحريف بزيادة حرف ، والتحريف بزيادة كلمة ، أو زيادة جملة ، أو آية أو سورة ، وهكذا التحريف بالنقيصة ، كما أنّ التحريف بالتغيير على أنواع : التحريف بتغيير حركة ( اعراب ) والتحريف بتغيير حرف أو حروف ( كما يحكى في قصّة أهل انطاكية في عهد أحد الخلفاء حيث قدموا إليه وطلبوا منه أن يبدّل قوله تعالى في سورة الكهف : ( فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا ) بقولهم « فأتوا أن يضيّفوهما » حتّى يرتفع النقص

__________________

(١) راجع القواعد الفقهيّة ، قاعدة لا ضرر.

٣١١

والازراء عن أهل بلدهم ) والتحريف بتقديم كلمة أو آية أوتأخيرهما.

هذه هي الأقسام الخمسة الأصلية من التحريف.

ولا إشكال في وقوع التحريف المعنوي بكلا قسميه في مرّ التاريخ بأيدي الأعداء والطواغيت ، وفي يومنا هذا ببعض الطوائف الضالّين المضلّين المنحرفين.

أمّا التحريف اللفظي فالتحريف بالزيادة مجمع على بطلانه ولم يقل به أحد ، والظاهر أنّ سببه كون القرآن في حدّ من النظم والاعجاز بحيث لو اضيف إليه شيء يعرف عادةً ، وأمّا التحريف بالتغيير فهو ممنوع أيضاً بالنسبة إلى التغيير بالحركة والاعراب إن قلنا بتواتر القراءات السبعة وأنّ جميعها نزل بها الروح الأمين وأنّ سلسلة إسنادها تصل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمّا إن قلنا بأنّ القرآن نزل على قراءة واحدة فلا يمكن نفس هذا النوع لأنّه كان على قراءة واحدة في السابق وصار الآن على قراءات سبعة ، ومنشأ هذا أنّه كان يكتب بلا إعراب ثمّ اعربت ألفاظها في الأزمنة اللاحقة فوقع فيه هذا الاختلاف قهراً.

بقى التحريف بالنقصان أو بتغيير كلمة أو حرف ، وهو المشهور في محلّ النزاع ومحوراً للبحث في الكلمات فقد يقال بوقوعه في القرآن إمّا بنقصان كلمة ككلمة « يا أيّها الرسول » أو بنقصان آية أو سورة أو سورتين ، أو نقصان ثلث الكتاب أو أكثر من ذلك بما يأتي فيه من الأقوال والاستدلالات.

المقدمة الثانية : في الأقوال في المسألة

المشهور والمعروف بين الفريقين عدم وقوع التحريف مطلقاً في القرآن ، ومنهم قالوا بوقوعه ، ولذلك نقول في جواب من نسب التحريف من أهل العامّة إلى الشيعة : إن كان المراد الشاذّ منهم فلا فرق بين الشيعة والسنّة لأنّ شاذّاً من السنّة أيضاً قالوا بالتحريف ، وإن كان المقصود جمهور المحقّقين من الشيعة فهو كذب ومخالف لتصريحات أكابر علمائهم من المتأخّرين والقدماء كالشيخ الصدوق والمفيد والسيّد المرتضى والشيخ الطوسي والطبرسي قدّس الله أرواحهم.

فقال الشيخ المفيد رحمه‌الله رئيس المذهب في أوائل المقالات : « أنّه قال جماعة من أهل الإمامة أنّ القرآن لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة ، ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف

٣١٢

أمير المؤمنين عليه‌السلام من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله من مقال من ادّعى نقصان الكلمة من نفس القرآن دون تأويله » (١).

وقال الصدوق رحمه‌الله في اعتقاداته : « اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزل الله على نبيّه هو ما بين الدفّتين وليس بأكثر من ذلك ومن نسب إلينا بأنّا نقول أنّه أكثر من ذلك فهو كاذب » (٢).

وقال السيّد المرتضى رحمه‌الله : « أنّه لم ينقص من القرآن ، وأنّ من خالف في ذلك من الإماميّة والحشوية ( الأخباريين من أهل العامّة ) لا يعتدّ بخلافهم فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخباراً ضعيفة ظنّوا صحّتها » (٣).

وقال الشيخ الطوسي رحمه‌الله في التبيان : « وأمّا الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به أيضاً لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها ، والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه ، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا » (٤).

وقال الطبرسي رحمه‌الله في مجمع البيان : « ومن ذلك الكلام في زيادة القرآن ونقصانه فإنّه لا يليق بالتفسير ، فأمّا الزيادة فيه فمجمع على بطلانها ، وأمّا النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامّة أنّ في القرآن تغييراً ونقصاناً ، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه وهو الذي نصره المرتضى قدّس الله روحه واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات ، وذكر في مواضع أنّ العلم بصحّة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة ، فإنّ العنايّة اشتدّت والدواعي توفّرت على نقله وحراسته وبلغت إلى حدّ لم يبلغه فيما ذكرناه لأنّ القرآن معجزة النبوّة ومأخذ العلوم الشرعيّة والأحكام الدينيّة ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتّى عرفوا كلّ شيء اختلف فيه من اعرابه وقراءته وحروفه وآياته فكيف يجوز أن يكون مغيّراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد » (٥).

__________________

(١) أوائل المقالات : ص ٣٠ ، الطبع الاولى لجامعة طهران.

(٢) اعتقادات الصدوق رحمه‌الله.

(٣) راجع مقدّمة تفسير آلاء الرحمن : للشيخ الجواد البلاغي.

(٤) التبيان : ج ١ ، ص ٣.

(٥) مجمع البيان : ج ١ ، ص ١٥.

٣١٣

وقال كاشف الغطاء رحمه‌الله في كشف الغطاء : « لا ريب أنّه ( أي القرآن ) محفوظ في النقصان بحفظ الملك الديّان كما دلّ عليه صريح القرآن وإجماع العلماء في كلّ زمان ولا عبرة بنادر ، وما ورد من أخبار النقص تمنع البديهة من العمل بظواهرها فلا بدّ من تأويلها » (١).

وقال الرافعي في إعجاز القرآن : « ذهب جماعة من أهل الكلام ممّن لا صناعة لهم إلاّ الظنّ والتأويل واستخراج الأساليب الجدليّة من كلّ حكم وكلّ قول إلى جواز أن يكون قد سقط من القرآن شيء حملاً على ما وصفوا من كيفية جمعه » (٢).

هذا ـ وقد عرفت أنّه لا اعتبار بقول الشاذّ من أصحابنا ومن أهل السنّة بعد شهادة هؤلاء الأكابر بنفي التحريف مطلقاً ، كما أنّك قد عرفت أنّ قول الشاذّ لا ينحصر بالشيعة بل في بعض الكتب المعروفة من السنّة ما يبدو منه أنّ هذا القول الشاذّ نشأ من قبلهم ، فقد ورد في صحيح البخاري : روى ابن عبّاس : أنّ عمر قال فيما قال وهو على المنبر : « أنّ الله بعث محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحقّ وأنزل عليه الكتاب فكان ممّا أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها فلذا رجم رسول الله ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله ، والرجم في كتاب الله حقّ على من زنى إذا أحصن من الرجال ... ثمّ إنّا كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله : أن لا`ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفرٌ بكم أن ترغبوا عن آبائكم أو : أنّ كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم ... » (٣).

وآية الرجم التي ادّعى عمر أنّها من القرآن ولم يقبل منه أبو بكر لعدم دليل عليه : « إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم ».

وروى عروة بن الزبير عن عائشة قالت : « كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مأتي آية ، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلاّما هو الآن » (٤).

__________________

(١) راجع مقدّمة تفسير آلاء الرحمن : ص ٢٥.

(٢) المصدر السابق : ص ٤٩.

(٣) صحيح البخاري : ج ٨ ، ص ٢٦ ، نقلاً من كتاب التبيان : ص ٠ ٢٢ ، وفي صحيح مسلم : ج ٣ ، ص ١٣١٧ ، المطبوع في بيروت دار إحياء التراث العربي ، وفي موطأ مالك : ج ٢ ، ص ٨٢٤ ، طبع بيروت دار إحياء التراث العربي.

(٤) راجع البيان : ص ٢٢١.

٣١٤

إلى غير ذلك من الرّوايات الشاذّة التي لا يقام لها وزن عندنا وعندهم ، وأمّا العذر بأنّ ذلك من قبيل نسخ التلاوة فسيأتي عدم صحّته فانتظر.

المقدمة الثالثة : متى جمع القرآن؟

فقال بعض بأنّه جمع على عهد أبي بكر ، وقال بعض آخر أنّه جمع على عهد عمر ، وجماعة كثيرة يقولون بأنّه جمع في زمن عثمان.

وهيهنا قول رابع وهو أنّ القرآن جمع على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ بعد أن جمع تمامه ، وأمّا عثمان فهو إنّما نظّم القراءات المختلفة وجمع المسلمين على قراءة واحدة وهي القراءة التي كانت مشهورة بين المسلمين التي تلقّوها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّه منع عن القراءات الاخرى المبتنية على أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف ، وأمّا نسبة بعضهم الجمع إلى أبي بكر وبعضهم الآخر إلى عمر وبعضهم الثالث إلى عثمان فلعلّ ذلك من حرص بعض الناس على تكثير مناقبهم وإلاّ فلا دليل يعتدّ به عليه.

وينبغي هنا ذكر ما نقله الطبرسي رحمه‌الله في مقدّمة المجمع عن السيّد المرتضى رحمه‌الله في هذا المجال : « إنّ القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان حتّى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له وإن كان يعرض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويتلى عليه ، وإنّ جماعة من الصحابة مثل عبدالله بن مسعود وابيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عدّة ختمات وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتّباً غير مبتور ولا مبثوث » (١).

ويدلّ على صدق هذه الدعوى شواهد كثيرة :

منها : قضيّة كتّاب الوحي وشدّة إهتمام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بكتابة القرآن ، وقد نقل أنّه كان عنده لهذه المهمّة كتّاب كثيرون ، والرّوايات في عددهم مختلفة من أربعة عشر كاتباً إلى ثلاثة وأربعين ، قال في تاريخ القرآن (٢) : « كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كتّاب يكتبون الوحي وهم ثلاثة وأربعون أشهرهم الخلفاء الأربعة وكان ألزمهم للنبي زيد بن ثابت وعلي بن أبي طالب » وهذا يوجب عادةً أن يكون القرآن مجموعاً على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) مقدّمة المجمع : ص ١٥.

(٢) لأبي عبدالله الزنجاني.

٣١٥

ومنها : ما يشبه الدليل العقلي ، وهو عبارة عن عظمة القرآن في نفسه وأنّه بمنزلة القانون الأساسي لجميع أبعاد حياة الإنسان والمجتمع البشري وتمام رأس مال المسلمين ، وهذا يقتضي اهتمام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بحفظه وقراءته واهتمام المسلمين بما يهتمّ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وإن شئت قلت : إذا قلنا بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان لازماً عليه تعيين الإمام بعده لكونه حافظاً للشرع فبطريق أولى كان واجباً عليه أن يجمع القرآن الذي هو متن الشرع وقانون الشريعة ومعارف الإسلام ومصابيحه.

وينبغي هنا نقل ما ذكره في هذا المجال في كتاب البيان من « أنّ في القرآن جهات عديدة كلّ واحد منها تكفي لأن يكون القرآن موضعاً لعناية المسلمين وسبباً لاشتهاره حتّى بين الأطفال والنساء منهم فضلاً عن الرجال وهذه الجهات هي :

١ ـ بلاغة القرآن : فقد كانت العرب تهتمّ بحفظ الكلام البليغ ولذلك يحفظون أشعار الجاهلية وخطبها فكيف بالقرآن الذي تحدّى ببلاغته كلّ بليغ وأخرس بفصاحته كلّ خطيب لسن؟ وقد كانت العرب بأجمعهم متوجّهين إليه سواء في ذلك مؤمنهم وكافرهم ، فالمؤمن يحفظه لإيمانه ، والكافر يتحفّظ به لأنّه يتمنّى معارضته وإبطال حجّته.

٢ ـ إظهار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رغبته بحفظ القرآن والاحتفاظ به ، وكانت السيطرة والسلطة له خاصّة ، والعادة تقضي بأنّ الزعيم إذا أظهر رغبته بحفظ كتاب أو بقراءته فإنّ ذلك الكتاب يكون رائجاً بين جميع الرعيّة الذين يطلبون رضاه لدين أو دنيا.

٣ ـ أنّ حفظ القرآن سبب لارتفاع شأن الحافظ بين الناس وتعظيمه عندهم فقد علم كلّ مطّلع على التاريخ ما للقرّاء والحفّاظ من المنزلة الكبيرة ، والمقام الرفيع بين الناس ، وهذا أقوى سبب لاهتمام الناس بحفظ القرآن جملة أو بحفظ القدر الميسور منه.

٤ ـ الأجر والثواب الي يستحقّه القارىء والحافظ بقراءة القرآن وحفظه.

هذه أهمّ العوامل التي تبعث على حفظ القرآن والاحتفاظ به ، وقد كان المسلمون يهتّمون بشأن القرآن ويحتفظون به أكثر من اهتمامهم بأنفسهم وبما يهمّهم من مال وأولاد ، وقد ورد أنّ بعض النساء جمعت جميع القرآن ... وإذا كان هذا حال النساء في جميع القرآن فكيف يكون حال الرجال؟ وقد عدّ من حفّاظ القرآن على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جمّ غفير ، قال القرطبي : « قد قتل يوم اليمامة سبعون من القرّاء وقتل في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ببئر معونة مثل هذا العدد ، وقد

٣١٦

تقدّم في الرّواية العاشرة أنّه قتل من القرّاء يوم اليمامة أربعمائة رجل » (١).

ومنها : أنّ من الأسامي المشهورة لسورة الحمد هو فاتحة الكتاب ، والرّوايات التي لعلّها بالغة إلى حدّ التواتر تدلّ على أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه سمّاها بهذا الاسم ، وقد جمعت هذه الرّوايات في تفسير البرهان ونور الثقلين وغيرهما سيّما في درّ المنثور نذكر هنا من الأخير أربعة منها :

أحدها : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « كلّ صلاة لا تقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي حداج ( يعنى ناقص ).

ثانيها : قال رسول الله : « لو أنّ فاتحة الكتاب جعلت على كفّة الميزان وجعل القرآن في كفّته الاخرى لفضلت فاتحة الكتاب ».

ثالثها : أنّ رسول الله قال : « فاتحة الكتاب شفاء من كلّ داء ».

رابعها : قال رسول الله : « إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد فقد آمنت من كلّ شيء إلاّ الموت » (٢).

هذا من ناحية ، ومن ناحية اخرى أنّ سورة الحمد لم تكن أوّل سورة نزلت من القرآن ، بل قال بعض : أنّها من السور المدنية لا المكّية فلو لم يكن القرآن قد جمع في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن وجه لتسميتها بفاتحة الكتاب ، وبالجملة أنّ ظاهر هذه التسمية من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جمع القرآن على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ويؤيّده أنّ ظاهر حديث الثقلين ( لو خلّينا وهذا الحديث ) يؤكد أنّ القرآن كان مكتوباً مجموعاً منظّماً في زمن صدور هذا الحديث لأنّه لا يصحّ إطلاق الكتاب عليه وهو في الصدور.

ومنها : إطلاق لفظ الكتاب على القرآن في كثير من آياته الكريمة فإنّها دالّة على أنّ سور القرآن كانت متميّزة في الخارج بعضها عن بعض ومنتشرة بين الناس حتّى المشركين وأهل الكتاب ، ولذلك قد تحدّاهم على الإتيان بمثله أو بعشر سور مثله مفتريات أو بسورة من مثله.

ومنها : روايات صرّح فيها بأنّ القرآن قد جمع على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن جملتها ما

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن : ص ٢٧٢.

(٢) درّ المنثور ، فراجع.

٣١٧

رواه البخاري (١) في صحيحه عن قتادة : سألت أنس بن مالك : من جمع القرآن على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال : « أربعة كلّهم من الأنصار ، ابي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زبيد ».

ومن هذه الرّوايات ما رواه النسائي بسند صحيح عن عبدالله بن عمر قال : « جمعت القرآن فقرأت به كلّ ليلة فبلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال اقرأه في شهر ... ».

ومنها : ما رواه منتخب كنز العمال (٢) عن الطبراني وابن عساكر عن الشعبي قال : « جمع القرآن على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ستّة من الأنصار : ابي بن كعب وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وسعد بن عبيد وأبو زيد ، وكان مجمع بن جارية قد أخذه إلاّسورتين أو ثلاث ».

هذه هي الوجوه والقرائن التي تدلّ على أنّ القرآن قد جمع على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو أُورد على بعض هذه القرائن فلا أقلّ من أنّ في مجموعها بما هو المجموع غنىً وكفاية في الدلالة على المقصود.

بقي هنا أمران :

أحدهما : جمع القرآن من قِبل أمير المؤمنين عليه‌السلام.

والثاني : جمع القرآن من قِبل عثمان.

أمّا الأمر الأول : فقد ورد في الرّوايات أنّ أمير المؤمنين علي عليه‌السلام لزم بيته بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يخرج من بيته حتّى جمع القرآن مع تنزيله وتأويله والناسخ منه والمنسوخ ، وهو بحسب الواقع جمع لتفسير القرآن الكريم ، ويشهد لذلك عدّة من الرّوايات :

منها : ما رواه في البحار عن كتاب سليم بن قيس : أنّ أمير المؤمنين لمّا رأى غدر الصحابة وقلّة وفائهم لزم بيته ، وأقبل على القرآن يؤلّفه ويجمعه فلم يخرج من بيته حتّى جمعه ، وكان في المصحف والشظاظ والأسيار والرقاع فلمّا جمعه كلّه وكتبه بيده تنزيله وتأويله والناسخ منه والمنسوخ بعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع فبعث إليه أنّي مشغول فقد آليت على نفسي يميناً

__________________

(١) صحيح البخاري : ج ٦ ، ص ١٠٢ ، نقلاً من كتاب البيان : ص ٢٦٩.

(٢) كنز العمال : ج ٢ ، ص ٤٨ ، نقلاً من كتاب التبيان : ص ٢٦٩.

٣١٨

ألاّ أرتدي برداء إلاّللصلاة حتّى اؤلّف القرآن وأجمعه (١).

وهذه الرّواية بقرينة قوله « تنزيله وتأويله والناسخ منه والمنسوخ » الذي هو بدل عن الضمير في قوله « جمعه وكتبه » وكذلك سائر الرّوايات الواردة في الباب تدلّ على أنّ القرآن الذي جمعه أمير المؤمنين كان تفسيراً للقرآن وشرحاً لمعاني آياته ومواقع بيّناته لا أنّه كان فيه زيادة على هذه الآيات الموجودة أو تغيير.

وأمّا الأمر الأوّل فقد وردت روايات صريحة طائفة منها أنّ القرآن جمع على عهد أبي بكر ، وصريحة طائفة اخرى منها أنّ الجمع كان على عهد عمر ، وظاهر طائفة ثالثة منها أنّه كان في زمن عثمان فهي متناقضة في أنفسها فلا يمكن الاعتماد على شيء منها ، ولعلّ صدورها من باب تكثير المناقب كما مرّت الإشارة إليه سابقاً.

هذا ـ مضافاً إلى أنّ المستفاد من بعض الرّوايات أنّ عثمان إنّما أمر بجمع القرآن لحمل الناس على القراءة بوجه واحد ، وهي القراءة المشهورة بين الناس ( كما أشرنا إليه سابقاً ) ، والمنع عن القراءات الاخرى ، لا أنّه جمع الآيات والسور في مصحف ، ففعل ما لم يفعل في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واختلاف القراءات لم يكن مقصوراً على مجرّد اختلاف الاعراب والحركات بل يعمّ التغيير لبعض الكلمات أيضاً كما روي أنّ عمر كان يقرأ في سورة الجمعة : « فامضوا » بدلاً عن قوله تعالى : « واسعوا ».

ففي بحار الأنوار عن البخاري والترمذي عن الزهري عن أنس بن مالك : « أنّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح ارمينية وآذربيجان مع أهل العراق ، فأفزع حذيفة اختلافهم في القرآن فقال حذيفة لعثمان : إدرك هذه الامّة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى ، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ، ننسخها في المصاحف ، ثمّ نردّها إليك فأرسلت بها إليه فأمر زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف ، وقال عثمان للرهط القرشيّين : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنّما نزل بلسانهم ففعلوا حتّى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩٢ ، ص ٤٠ ، الطبع الحديث ، وج ١٩ ، ص ١١ ، الطبع القديم ، وكتاب سليم بن قيس : ص ٨١.

٣١٩

وأرسل إلى كلّ افق بمصحف ممّا نسخوا ، وأمر بما سوى ذلك من القرآن في كلّ صحيفة أو مصحف أن يحرق » (١).

فإنّ هذه الرّواية صريحة في أنّ جمع عثمان كان لأجل رفع الاختلافات الواردة في القراءات لا جمع الآيات والسور في مصحف.

هذا كلّه في المقدّمات الثلاث التي كان يجب ذكرها قبل الخوض في أصل البحث عن التحريف وأدلّة الطرفين.

أدلّة القائلين بعدم تحريف كتاب الله :

إذا عرفت ذلك فنقول : أمّا القائلون بعدم تحريف القرآن فاستدلّوا بوجوه عمدتها ثلاثة :

الوجه الأوّل : ما يشبه الدليل عقلي وهو مجموعة (٢) من القرائن التي توجب اليقين الباتّ بعدم التحريف ، وهي ما مرّ سابقاً في مقام إثبات وقوع جمع القرآن على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ضمن الشواهد الدالّة على جمعه في ذلك العهد من اهتمام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بحفظه وقراءته واهتمام المسلمين بما يهتمّ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وغيرهما من الجهات العديدة المذكورة هناك فراجع.

ونؤكّد هنا على ذلك أيضاً بما ورد في القرآن نفسه من قوله تعالى : ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ ) (٣). فهذه تدلّ على شدّة اهتمام النبي والمسلمين بقراءة القرآن من الصدر الأوّل حتّى إنّهم كانوا يقومون كثيراً من الليل لم يكن لهم همّ إلاّتلاوة القرآن.

وبما ورد في الأخبار ممّا يدلّ أيضاً على إهتمام المسلمين بتلاوته فإذا مرّ عليهم أحد يسمع

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩٢ ، ص ٧٦.

(٢) وهذا بنفسه طريق لإثبات حكم في يومنا هذا ، فمثلاً في باب القضاء إذا لم يحصل القاضي على إقرار أو بيّنة لكن حصلت له مجموعة من القرائن توجب بمجموعها اليقين فانّه يأخذ بها ويحكم بمقتضاها ونحن في البحث عن النبوّة العامّة أخذنا بهذا المنهج لإثبات النبوّة.

(٣) سورة المزمّل : الآية ٢٠.

٣٢٠