أنوار الأصول - ج ٢

أنوار الأصول - ج ٢

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-14-8
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٥٠٤

ليس بعلم علماً ، فإن كان المراد من جعل صفة المحرزيّة إلغاء احتمال الخلاف وجعل صفة العلم تكويناً فهو محال ، وإن كان المراد الجري العملي على طبق مؤدّيات الأمارات كما يظهر من بعض كلماته في المقام فهذا معناه إيجاب الجري العملي على وفق الأمارة ، وليس هذا إلاّجعل وجوب العمل على مؤدّى الأمارة ، وهذا حكم تكليفي ظاهري.

وأمّا ما أفاده من أنّ حجّية الأمارات ليست بشيء إلاّ إمضاء لطريق العقلاء ، والعقلاء ليس لهم حكم على طبق مؤدّى الأمارة بل يعدّونها فقط طريقاً إلى الواقع.

ففيه : أنّ العقلاء أيضاً إذا علموا مثلاً بأنّ هذا ليس لزيد من طريق أخبار خبر الثقة مثلاً يحكمون بأنّه لزيد ، ويكون مؤدّى الأمارة عندهم حكماً من الأحكام وقانوناً من القوانين ، فكيف لم يكن عندهم أحكام ظاهريّة قانونيّة؟ وعدم وجود التكاليف المولويّة بينهم ليس دليلاً على عدم وجود التكاليف القانونية.

وأمّا القسم الثاني : فلأنّ الاصول موضوعها الشكّ في الحكم الواقعي ، ولا معنى لكون الشكّ طريقاً إلى الواقع ، وحينئذٍ كيف يمكن جعل الشارع الوسطيّة في الإثبات والطريقيّة إلى الواقع لما ليس طريقاً أبداً؟ ولو قلنا أنّ الاستصحاب لا يخلو من طريقيّة إلى الواقع فلازمه عدّ الاستصحاب من الأمارات لا من الاصول ، وهو خلاف المفروض.

وأمّا القسم الثالث : ففيه : أنّ تأخّر الموضوع والتفرّع لا يحلّ المشكلة في المقام ، لأنّه وإن كان الموضوع متعدّداً في الذهن إلاّ أن الخارج واحد ، والمفروض أنّ الصورة الذهنيّة مأخوذة في الموضوع بما هي حاكية عن الخارج ، فيلزم حينئذٍ اجتماع حكمين فعليين على محلّ واحد ، ويعود الإشكال.

٦ ـ ما أفاده في تهذيب الاصول وحاصله بالنسبة إلى شبهة التضادّ « أنّهم عرفوا الضدّين بأنّهما الأمران الوجوديان غير المتضائفين المتعاقبان على موضوع واحد ، لا يتصوّر اجتماعهما فيه ، بينهما غاية الخلاف ، وعليه فما لا وجود له لا ضدّية بينه وبين شيء آخر كما لا ضدّية بين أشياء لا وجود لها كالاعتباريات التي ليس لها وجود إلاّفي وعاء الاعتبار ... والإنشائيات وبالتبع الأحكام التكليفيّة كلّها من الامور الاعتباريّة لا تحقّق لها إلاّفي وعاء الاعتبار » (١).

__________________

(١) راجع تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٦٥ ـ ٦٦ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢٨١

أقول : لو كان المراد من عدم وجود التضادّ في الأحكام التكليفيّة عدم التضادّ في مرحلة الإنشاء فلا بأس به ، ولكن المدّعى ليس هو اجتماع الضدّين في تلك المرتبة بل أنّه بالنسبة إلى مرتبة الفعليّة ، وفي هذه المرتبة وإن كان الإنشاء أو الحكم أمراً اعتباريّاً ولكن له مبادٍ ولوازم حقيقية ، حيث إن الحكم الفعلي لابدّ فيه من وجود مصلحة أو مفسدة في متعلّقه كما يحتاج إلى إنقداح إرادة أو كراهة في نفس المولى وبعث أو زجر ، ولا يخفى أنّ المصلحة أو المفسدة والإرادة أو الكراهة أمران حقيقيان لهما وجودان في عالم التكوين كما مرّت الإشارة إليه حينما تعرّضنا لمعنى الإمكان في هذا المبحث في جواب ما اختاره المحقّق النائيني رحمه‌الله من الإمكان التشريعي.

بيان المختار في المقام :

المختار في حلّ المشكلة هو الطريق السابع : وهو ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله في رسائله ، ويرجع إليه كلام كثير من الأعلام ، وإليك نصّ عبارته : « أنّه ( ابن قبّة ) إن أراد إمتناع التعبّد بالخبر في المسألة التي انسدّ فيها باب العلم بالواقع فلا يعقل المنع عن العمل به فضلاً عن امتناعه ، وإن أراد الإمتناع مع انفتاح باب العلم والتمكّن منه في مورد العمل بالخبر فنقول : إنّ التعبّد بالخبر حينئذٍ بل بكلّ أمارة غير علميّة يتصوّر على وجهين :

الوجه الأوّل : أن يكون ذلك من باب مجرّد الكشف عن الواقع فلا يلاحظ في التعبّد بها إلاّ الايصال إلى الواقع ، فلا مصحلة في سلوك هذا الطريق وراء مصلحة الواقع ، والأمر بالعمل في هذا القسم ليس إلاّللإرشاد ، وهذا الوجه غير صحيح مع علم الشارع العالم بالغيب بعدم دوام موافقة هذه الأمارة للواقع.

الوجه الثاني : أن يكون ذلك لمدخلية سلوك الأمارة في مصلحة العمل بها وإن خالف الواقع فإنّ العمل على طبق تلك الأمارة يشتمل على مصلحة فأوجبه الشارع ، وتلك المصلحة لابدّ أن تكون ممّا يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع وإلاّ كان تفويتاً لمصلحة الواقع وهو قبيح ، والمراد بالحكم الواقعي الذي يلزم بقائه هو الحكم المتعيّن المتعلّق بالعباد الذي يحكي عنه الأمارة ويتعلّق به العلم أو الظنّ وإن لم يلزم امتثاله فعلاً في حقّ من قامت عنده أمارة على خلافه ، ويكفي في كونه الحكم الواقعي أنّه لا يعذر فيه إذا كان عالماً به أو جاهلاً مقصّراً.

والحاصل : أنّ المراد بالحكم الواقعي هي مدلولات الخطابات الواقعيّة غير المقيّدة بعلم

٢٨٢

المكلّفين ولا بعدم قيام الأمارة على خلافها ، ولها آثار عقليّة وشرعيّة يترتّب عليها عند لاعلم بها أو قيام أمارة حكم الشارع بوجوب البناء على كون مؤدّاها هو الواقع ، نعم هذه ليست أحكاماً فعلية بمجرّد وجودها الواقعي » ( انتهى ملخّصاً ).

فالمستفاد من كلامه هذا بل عصارة بيانه في المقام أمران :

أحدهما : وجود مصلحة في سلوك الأمارة يتدارك بها فقدان المصلحة الواقعيّة في صورة الخطأ.

ثانيهما : أنّ الحكم الواقعي الفعلي ينقلب إنشائيّاً إذا قامت أمارة معتبرة على خلافه ما ـ دام لم ينكشف خلافها.

أقول : يمكن أن يكون المراد من المصلحة السلوكيّة في كلامه هو مصلحة التسهيل وعدم لزوم الحرج الشديد واختلال النظام من اعتبار حصول القطع في صورة الإنفتاح واعتبار الاحتياط التامّ في صورة الانسداد بل عدم لزوم رغبة الناس عن الدين الحنيف وخروجهم من الدين أفواجاً ، وإن شئت فاختبر ذلك بالعمل بالقطع يوماً وليلة واحدة ، لا تأكل إلاّ الحلال القطعي ولا تلبس ولا تشرب ولا تسكن إلاّذلك ، ولا تصلّي إلاّفي الحلال والطاهر الواقعيين ، ولا تعتمد على سوق مسلم ولا على يده ولا غير ذلك من الأمارات الظنّية.

ولا يخفى أنّه ترتفع بهاتين النكتتين جميع المحاذير المتوهّمة في الأحكام الظاهريّة :

أمّا المحذور الأوّل ( وهو لزوم اجتماع الضدّين أو المثلين ) فلأنّه لا منافاة بين الحكم الفعلي والإنشائي ، والمراد من الإنشائي ما يكون فيه مصلحة أو مفسدة لكن يمنع عن فعليته وعن صدور البعث أو الزجر مانع أو مصلحة أقوى.

وأمّا المحذور الثاني ( أي لزوم اجتماع المصلحة والمفسدة في متعلّق واحد ) فلأنّه لا مصلحة في متعلّق الأمارة حتّى يلزم اجتماع المصلحة والمفسدة في محلّ واحد.

وأمّا المحذور الثالث ( أي لزوم اجتماع الإرادة والكراهة في متعلّق واحد ) فأوّلاً : إنّ المتعلّق للإرادة والكراهة متعدّد ، فإحديهما متعلّقة بالفعل والاخرى متعلّقة بنفس السلوك لا بمتعلّق الأمارة ، وثانياً : لو سلّمنا كون المتعلّق واحداً إلاّ أن إحديهما تقع تحت شعاع الاخرى فتسقط عن الفعليّة وترجع إلى مقام الإنشاء لأنّ المفروض أنّ مصلحته أعمّ.

وأمّا الرابع ( أي لزوم التكليف بما لا يطاق ) فلأنّه إنّما يلزم فيما إذا كان الحكم الواقعي أيضاً

٢٨٣

فعلياً مع أنّ المفروض كونه إنشائيّاً.

وأمّا المحذور الخامس ( أي تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة ) فلأنّ مصلحة السلوك أهمّ فتجبر بها ما فاتت من المصلحة الواقعيّة.

إن قلت : « إنّ ما هو المجعول واقعاً طبقاً للمصالح والمفاسد ويكون مشتركاً بين العالم والجاهل وتدلّ الأدلّة على اشتراكه بينهما وإنحفاظه في مرتبة الجهل به ـ هو الحكم الفعلي الذي لو وصل إلى المكلّف كان داعياً له نحو الفعل أو الترك ، وإنكار مثل هذا الحكم في ظرف الجهل بالحكم الواقعي والقول بأنّ الموجود في هذا الظرف مجرّد الإنشاء فقط تصويب لا تقول به الإماميّة » (١).

قلت : الباطل من التصويب على قسمين : أحدهما : محال عقلي ، والآخر : محال شرعي ، أمّا المحال العقلي فهو أن يقال : إنّ الله تعالى يجعل الحكم بعد اجتهاد المجتهد مع خلوّ الواقع عن الحكم قبله فإنّ هذا محال عقلاً لأنّ معناه أنّ المجتهد يجتهد ويتفحّص عن شيء لا وجود له في الواقع والخارج ، ولا إشكال في أنّ لازمه الدور المحال ، وأمّا المحال الشرعي فهو أن يقال : إنّ الله يجعل بعدد آراء المجتهدين أحكاماً شرعيّة ، وهذا باطل إجماعاً عند أصحابنا رضوان الله عليهم ، وأمّا لو قلنا بوجود حكم إنشائي مشترك بين جميع المكلّفين ولكنّه بالنسبة إلى بعضهم بلغ حدّ الفعلية وبالنسبة إلى الباقين بقى على حاله فلا دليل على كونه من التصويب المحال بل الدليل على خلافه.

إن قلت : ما الفائدة في جعل حكم وإنشائه من دون أن يكون فعليّاً على المكلّفين؟

قلنا : فائدة هذا الحكم هي فائدة المقتضي في جميع المقامات ، فإذا اجتمعت فيه شرائط الفعلية وانتفت الموانع صار فعليّاً ، ولذلك لا يكون الجاهل المقصّر في الفحص اجتهاداً أو تقليداً معذوراً ، ومن هنا أيضاً يجب على المكلّف الإعادة بعد كشف الخلاف ( بناءً على القول بعدم الإجزاء ).

ثمّ إنّه في تهذيب الاصول أورد على المصلحة السلوكيّة إشكالات أربع :

أحدها : « أنّ حجّية أمارة في الشرع ليس إلاّ إمضاء ما كان في يد العقلاء في معاشهم

__________________

(١) راجع منتهى الاصول للمحقّق البجنوردي رحمه‌الله : ج ٢ ، ص ٧١ ـ ٧٢.

٢٨٤

ومعادهم ، من غير أن يزيد عليه شيئاً أو ينقص منه شيئاً ، ومن المعلوم أنّ اعتبار الأمارات لأجل كونها طريقاً إلى الواقع فقط من دون أن يترتّب على العمل بها مصلحة وراء إيصالها إلى الواقع ، فليس قيام الأمارة عند العقلاء محدثاً للمصلحة لا في المؤدّى ولا في العمل بها وسلوكها ، وعليه فالمصلحة السلوكيّة لا أساس لها ».

وفيه : أنّ للعقلاء أيضاً في تشريعاتهم وتقنيناتهم مصلحة تتعلّق بسلوك الأمارات بلا إشكال لأنّ عدم حجّية الظنّ في ما بينهم أيضاً يوجب الحرج الشديد واختلال نظامهم ومعاشهم الدنيويّة ولا نعني بالمصلحة السلوكيّة إلاّهذا ، فالإنسان إذا لم يعتمد على اليد كالدليل على الملكية وعلى قول المشهور ، وكذا ظواهر الألفاظ وخبر الثقة وغير ذلك من الأمارات العقلائيّة لا يقدر على أن يعيش ولو شهراً إلاّفي حرج شديد وضيق أكيد.

ثانيهما : ما حاصله : أنّه لا يتصوّر لسلوك الأمارة وتطرّق الطريق معنى وراء العمل على طبق مؤدّاها ، فلا يتصوّر له مصلحة وراء المصلحة الموجودة في الإتيان بالمؤدّى.

وإن شئت قلت : الإتيان بالمؤدّى والسلوك على طبق الأمارة من المفاهيم المصدريّة النسبية لا يعقل أن تصير متّصفة بالمصلحة أو المفسدة ، بل المصلحة والمفسدة قائمتان بنفس الخمر والصّلاة مثلاً.

وفيه أيضاً : إنّ المصلحة السلوكيّة ليس معناها أنّ صلاة الجمعة مثلاً ( التي يدلّ خبر الواحد على وجوبها ) تصير ذا مصلحتين بالسلوك بل المقصود أنّ جعل الحجّة للأمارة وجعلها طريقاً إلى الواقع يوجب التسهيل وعدم رغبة الناس عن الدين وشبه ذلك.

ثالثها : « إنّ ظاهر عبارة الشيخ وشارح مراده أنّ المصلحة قائمة بالتطرّق والسلوك بلا دخالة للواقع في حدوث تلك المصلحة ، وعليه فلو أخبر العادل عن الامور العادية لزم العمل على قوله في هذه الموارد أيضاً لأنّه ذا مصلحة سلوكيّة ، وهو كما ترى ».

أقول : ظاهر هذه العبارة أنّ وجود المصلحة السلوكيّة في الامور الشرعيّة يستلزم وجودها في الامور العادية أيضاً ( لأنّ المفروض أنّ حجّية الأمارات إمضاء لطريق العقلاء ، والمصلحة قائمة بنفس السلوك بلا دخالة للواقع في حدوث تلك المصلحة ) مع أنّه كما ترى ، أي لا معنى لحدوث المصلحة في سلوك الأمارة في الامور العادية.

والجواب عنه واضح ، لأنّ المراد من طريقة العرف والعقلاء الممضاة عند الشارع هي

٢٨٥

طريقيتهم في دائرة القوانين العرفيّة العقلائيّة ، ولا شكّ في وجود المصلحة السلوكيّة فيها أيضاً كما مرّ آنفاً ، لأنّ اعتبار حصول القطع عندهم أيضاً يوجب لزوم الاختلال في نظامهم الاجتماعي ومعاشهم.

رابعها : « أنّ لازم تدارك المصلحة الواقعيّة بالمصلحة السلوكيّة هو الاجزاء وعدم لزوم الإعادة والقضاء إذ لو لم يتدارك مصلحة الواقع لزم قبح الأمر بالتطرّق ، ولو تدارك سقط الأمر ، والمفروض أنّ المصلحة القائمة بتطرّق الطريق ليست مقيّدة بعدم كشف الخلاف ، فما يظهر من التفصيل من الشيخ الأعظم رحمه‌الله وبعض أعاظم العصر ليس في محلّه » (١).

وفيه أيضاً : إنّ ما يتصوّر من المصلحة في الأمارات على نوعين : تارةً هي مصلحة تقوم مقام المصلحة الواقعيّة فإشكاله حينئذٍ وارد ، فلا بدّ من القول بالإجزاء مطلقاً سواء انكشف الخلاف أو لم ينكشف ، واخرى ليست هي مصلحة تقوم مقامها ولكن في نفس الحال تكون أهمّ منها نظير العثور على الكنز لمن يحفر البئر للوصول إلى الماء ، مع أنّها لا تقوم مقامها أصلاً ولا يرتفع بها الظمأ ، ومن هذا القبيل مصلحة التسهيل وعدم خروج الناس عن الدين في المقام ، وحينئذٍ لو انكشف الخلاف وظهرت المصلحة الواقعيّة لابدّ من إحرازها والحصول عليها بالإعادة أو القضاء على القول بعدم الاجزاء.

والعجب من قوله أخيراً : « والمفروض أنّ المصلحة القائمة بتطرّق الطريق ليست مقيّدة بعدم كشف الخلاف » لأنّه ليس في البين إطلاق حتّى يتمسّك به ويستفاد منه وجود المصلحة في السلوك في كلتا الصورتين بل الدليل في المقام هو حكم العقل والقدر المتيقّن منه صورة عدم انكشاف الخلاف.

بقى هنا شيء : وهو أنّه قد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا فرق في إمكان الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ورفع المحاذير المتوهّمة بين الأمارات والاصول فنقول في موارد الاصول العمليّة أيضاً : أنّ الحكم الواقعي إنشائي والظاهري ( أي مفاد الأصل ) فعلي مع وجود المصلحة في سلوكها ومن دون فرق بين التنزيلية منها وغير التنزيليّة.

هذا تمام الكلام في الأمر الثاني ( أي في إمكان التعبّد بالظنّ ).

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٦٤ ـ ٦٥ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢٨٦

الأمر الثالث : في تأسيس الأصل في المسألة

إنّ الأمارة الظنّية قد يعلم حجّيتها وقد يعلم عدم حجّتها ، وقد يقع الشكّ فيها فإذا وقع الشكّ ، فهل الأصل حجّيتها إلاّما خرج بالدليل أو العكس ، أي أنّ الأصل عدم حجّيتها إلاّما خرج؟

لا خلاف في أنّ الأصل هو الثاني ، أي عدم الحجّية ، إنّما الخلاف في طريق الاستدلال عليه ، فذكر شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه‌الله له طريقاً ، وللمحقّق الخراساني رحمه‌الله طريق آخر ، فاستدلّ الشيخ رحمه‌الله بأنّ أصالة حجّية الظنّ معناها جواز الاستناد إلى الظنّ والالتزام بكون مؤدّاه حكم الله في حقّه ، مع أنّ هذا الاستناد عند الشكّ حرام بالأدلّة الأربعة ما لم يدلّ دليل على جوازه.

وقال المحقّق الخراساني رحمه‌الله تضعيفاً لذلك ما ملخّصه : أنّ صحّة الالتزام بما أدّى إليه الظنّ من الأحكام وصحّة نسبته إليه تعالى لا دخل لهما بمسألة الحجّية كي إذا لم تصّح الالتزام والنسبة كشف ذلك آناً عن عدم الحجّية ، وذلك كما في الظنّ على الانسداد والحكومة فإنّه حجّة عقلاً كالعلم في حال الانفتاح مع عدم صحّة الالتزام بما أدّى إليه وعدم صحّة نسبته إليه تعالى ، إذ المفروض عدم القول بالكشف وأنّ الظنّ طريق منصوب من الشرع ، بل هو حجّة عقلاً يجب العمل على طبقه والحركة على وفقه ، أي يقبح عقاب العبد على أزيد من ذلك ، ولو فرض صحّة الالتزام والنسبة فيما شكّ في اعتباره لم يُجد في إثبات حجّيته ما لم يترتّب عليه آثار الحجّية من المنجّزيّة والمعذّريّة ، ومع فرض ترتّب آثار الحجّية لم يضرّ عدم صحّتهما كما عرفت في الظنّ على الانسداد والحكومة فالمدار في الحجّية وعدمها على ترتّب آثارها وعدم ترتّبها لا على صحّة الالتزام والنسبة وعدمهما.

أقول : إنّه إشكال وارد في بدء النظر ، بل يمكن تأييده بأنّ مسألة صحّة الإسناد والالتزام من الأحكام الفرعيّة الفقهيّة ، ومسألة الحجّية مسألة اصوليّة لا ربط بينهما ، ولكن عند الدقّة والتأمّل يمكن الجواب عنه والدفاع عن مقالة الشيخ قدس‌سره بأنّ مراده من صحّة الإسناد والالتزام وعدمها هو مدلولها الالتزامي أي الحجّية ، حيث إن الحجّية الشرعيّة تلازم جواز الإسناد والالتزام ، والبحث في الحجّية الشرعيّة لا الحجّية العقليّة ، وطرح المسألة بهذا النحو وإن كان يجعلها من المسائل الفقهيّة لكن تثبت به الحجّية آناً.

وإن شئت قلت : أنّ صحّة الالتزام والنسبة وإن لم يكونا من آثار الحجّية لما عرفت من

٢٨٧

جواز انفكاك الحجّة عنهما كما في الظنّ الانسدادي على الحكومة ولكن لا يكاد يجوز تحقّقهما في غير الحجّة ، فليس كلّ حجّة ممّا صحّ الالتزام بكون مؤدّاه حكم الله وصحّ نسبته إليه تعالى ، ولكن كلّما صحّ الالتزام بكون مؤدّاه حكم الله وصحّ نسبته إليه تعالى كان حجّة قطعاً.

أضف إلى ذلك أنّه لا حاجة بناءً على مبنى المحقّق الخراساني رحمه‌الله في تفسير الحجّية إلى التمثيل بالظنّ الانسدادي على الحكومة ، لأنّه بناءً على ذلك المبنى في تمام الحجج الشرعيّة لا يجوز الإسناد والالتزام لأنّ الحجّية عنده بمعنى المنجّزيّة والمعذّريّة ، وهما في الواقع قضيتان شرطيتان ، أي لو وافق مؤدّى الأمارة الواقع كان منجزاً ولو خالفه كان عذراً ، وليستا حاكيتين عن حكم واقعي أو ظاهري حتّى يصحّ الإسناد ، فظهر أنّ مآل الطريقين إلى أمر واحد.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله استدلّ للمسألة بالضرورة فقال : « ضرورة أنّه بدونه لا يصحّ المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرّد إصابته ولا يكون عذراً لدى مخالفته مع عدمها ولا يكون مخالفته تجرّيّاً ولا يكون مخالفته بما هي موافقة انقياداً ».

ومقصوده من الضرورة هنا هو الضرورة العقليّة والبداهة الوجدانيّة ، وهو كذلك ، لأنّ الوجدان حاكم على عدم ترتّب آثار الحجّية على أمارة ما لم تتّصف بالحجية الفعليّة في مقام الإثبات.

وأمّا شيخنا الأنصاري رحمه‌الله فاستدلّ لحرمة الإسناد والإلزام التي يستفاد منها عدم الحجّية بالدلالة الالتزاميّة كما مرّ بالأدلّة الأربعة وقال : « التعبّد بالظنّ الذي لم يدلّ على التعبّد به دليل ، محرّم بالأدلّة الأربعة ويكفي من الكتاب قوله تعالى : ( قُلْ أَاللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ) دلّ على أنّ ما ليس بإذن من الله من إسناد الحكم إلى الشارع فهو افتراء ، ومن السنّة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في عداد القضاة من أهل النار « رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم » (١) ، ومن الإجماع ما ادّعاه الفريد البهبهاني في بعض رسائله من كون عدم الجواز بديهيّاً عند العوام فضلاً عن العلماء ، ومن العقل تقبيح العقلاء من يتكلّف من قبل مولاه بما لا يعلم بوروده من المولى ولو كان جاهلاً مع التقصير ».

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٤ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٦.

٢٨٨

أقول : أمّا الإجماع فلا يخفى أنّه في مثل المقام مدركي يرجع إلى سائر الأدلّة فلا اعتبار به مستقلاً ، وأمّا السنّة فقد نوقش فيها بأنّ مقام القضاء مقام خاصّ ، وللشارع اهتمام خاصّ به ، فيكون الدليل أخصّ من المدّعى ، كما ناقش فيها في تهذيب الاصول بأنّ مقام القضاء مقام إنشاء الحكم لا إسناده إلى الله تعالى ، أي أنّ القاضي إنّما يقول : « حكمت وقضيت بكذا وكذا » ولا يقول : « الله يقول كذا وكذا » (١).

لكن يرد عليه ( على مناقشة تهذيب الاصول ) : أنّ القضاء إنشاء يلازم الإخبار عن الشارع ، لأنّ القاضي قام على منصب القضاء الشرعي ، وكأنّه يقول : أنّي أحكم بكذا وكذا لأنّي من قضاة الشرع ومنصوباً من قبل الشارع ، فإنشاؤه حينئذٍ لا ينفكّ عن الإخبار.

ولكن الأنسب والأولى للشيخ قدس‌سره أن يستدلّ بما ورد في نفس الباب ( أي الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ) من دون أن يكون مختصّاً بباب القضاء ، وهي ثلاث روايات :

أوّلها : ما رواه زياد بن أبي رجاء عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « ما علمتم فقولوا : وما لم تعلموا فقولوا : الله أعلم ، أنّ الرجل ينتزع الآية يخرّ فيها أبعد ما بين السماء » (٢).

ثانيها : ما رواه مفضّل بن فريد ( يزيد ) قال : قال أبو عبدالله عليه‌السلام : « أنهاك عن خصلتين فيهما هلك الرجال : أنهاك أن تدين الله بالباطل وتفتي الناس بما لا تعلم » (٣).

ثالثها : ما رواه عبدالرحمن بن الحجّاج قال : قال لي أبو عبدالله عليه‌السلام : « إيّاك وخصلتين ففيهما هلك من هلك : إيّاك أن تفتي الناس برأيك أو تدين بما لا تعلم » (٤).

وأمّا دليل العقل فهو شبيه بما استدلّ به المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، يعني ضرورة العقل والوجدان ، وعلى أي حال فقد ظهر ممّا ذكر أنّ الأصل هو عدم حجّية الظنّ إلاّما خرج بالدليل.

__________________

(١) راجع تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٨٥ ، طبع جماعة المدرّسين.

(٢) وسائل الشيعة : الباب ٤ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٥.

(٣) المصدر السابق : ح ٢.

(٤) المصدر السابق : ح ٣.

٢٨٩

كلام في التشريع :

ثمّ إنّه لمّا انتهى الكلام إلى هنا ينبغي البحث عن حقيقة التشريع وأنّه هل هو عبارة عن الالتزام القلبي أو مجرّد الإسناد إلى الله تعالى مطلقاً؟ فنقول هنا امور ثلاثة لابدّ من البحث فيها :

الأوّل : في حقيقة التشريع.

الثاني : في الدليل على حرمته ..

الثالث : في أنّ المحرّم هل هو خصوص التديّن والتعبّد ، أو يسري القبح إلى الفعل المتشرّع به أيضاً فيصير الفعل الخارجي قبيحاً عقلاً وحراماً شرعاً؟

أمّا الأمر الأوّل : فنقول : إنّ حقيقة التشريع ومعناه ادخال ما ليس من الدين في الدين بحسب الاعتقاد القلبي وهو غير الإسناد إلى الله تعالى ، والنسبة بينهما هي العموم المطلق ، فالمعروف بين العلماء أنّ حقيقة التشريع تصدّق في الوحدة أيضاً بمجرّد بناء القلب من دون الإظهار والإسناد ، كما إذا صام يوم عيد الفطر بنيّة استحبابه من قبل الله تعالى من دون أن يسندها في محضر غيره إلى الله فيتحقّق حينئذٍ التشريع من دون تحقّق الإسناد الذي هو نوع من الإخبار.

ثّم إنّه هل التشريع يصدق في صورة الشكّ أيضاً؟ فإذا شككنا مثلاً في وجوب سجدتي السهو ، فهل يصدق التشريع إذا أتى بهما بنيّة الوجوب أو لا يصدق ، بل الصادق حينئذٍ مجرّد التجرّي؟

الصحيح عندنا هو الثاني ، لأنّ المسلّم من حرمة التشريع هو إدخال ما ليس من الدين في الدين اعتقاداً ، وإن كان المعروف عند العلماء أنّ التديّن والاعتقاد بالمشكوك فيه أيضاً تشريع محرّم.

وكيف كان ، فالمعروف أنّ التشريع عبارة عن الالتزام القلبي كالالتزام قلباً بأنّ هذا واجب أو حرام ولذا يقال : لا يجوز إتيان الذكر الفلان بقصد الورود ، أو يقال : يجوز إتيان الذكر الفلان بقصد الرجاء.

لكن قد أورد بعض الأعاظم على هذا إشكالاً حاصله : « أنّ الالتزام الجزمي بما شكّ كونه من المولى أمر ممتنع ، وكيف يمكن التعبّد الحقيقي بما لا يعلم أنّه عبادي ، فإنّ الالتزامات

٢٩٠

النفسانيّة ليست واقعة تحت اختيار النفس حتّى توجدها في أي وقت شاء » (١).

أقول : الحقّ أن التعبّد الحقيقي بما لا يعلم أنّه عبادي أمر ممكن كما هو المعروف في الألسنة والكتب الفقهيّة لأنّه من قبيل قوله تعالى ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ) فلا إشكال في أنّ فرعون مثلاً كان كافراً بالله تعالى مع علمه به ، وليس هذا إلاّ أنّه بنى في قلبه والتزم قلباً بأنّه ليس في العالم إله يسمّى بـ « الله » ، هذا في الاصول الاعتقاديّة ، وكذلك في الفروع فيمكن الالتزام القلبي بأنّ الشيء الفلان حرام مع العلم بحلّيته.

وإن شئت قلت : ليس التشريع هو العلم بل هو اعتقاد وعقد في القلب ، والاعتقاد غير العلم لأنّ العلم ، هو مجرّد الإدراك ، وأمّا الاعتقاد فإنّه من عقد القلب والبناء القلبي ، وكم من شيء يعلمه الإنسان ( أي يدركه ) ولكن لا يقبله ولا يلتزم به في قلبه وبالعكس.

وبعبارة اخرى : عقد القلب هو التسليم الباطني تجاه شيء ، علم به أو لم يعلم ، كما يدلّ عليه ما مرّ سابقاً ، وهو ما رواه إبراهيم بن أبي محمود عن الرضا عليه‌السلام في حديث طويل قال : أخبرني أبي عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، ... إلى أن قال : فإنّ أدنى ما يخرج به الرجل عن الإيمان أن يقول للحصاة ، هذه نواة ثمّ يدين بذلك ويبرأ ممّن خالفه ، يا ابن أبي محمود احفظ ما حدّثتك به فقد جمعت لك فيه خير الدنيا والآخرة » (٢).

هذا كلّه في الأمر الأوّل.

أمّا الأمر الثاني : وهو الدليل على حرمة التشريع ، فيدلّ عليها أوّلاً : جميع ما يدلّ على حرمة البدعة من الإجماع والآيات والأخبار الواردة في باب البدعة وتحريمها لأنّ التشريع مصداق من مصاديقها.

وثانياً : حكم العقل بقبح التشريع ، لأنّ من المستقلاّت العقليّة أنّ التشريع نوع تلاعب بأحكام المولى ومخالف لحقّ الطاعة ورسم العبوديّة.

أمّا الأمر الثالث : وهو أنّ المحرّم هل هو خصوص التديّن والالتزم القلبي أو يسري قبح التشريع إلى الفعل المتشرّع به بحيث يصير الفعل قبيحاً عقلاً وحراماً شرعاً؟ فذهب المحقّق النائيني رحمه‌الله إلى الثاني وقال : « إنّه من الممكن أن يكون القصد والداعي من الجهات والعناوين

__________________

(١) راجع تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٨٥ ، طبع جماعة المدرّسين.

(٢) وسائل الشيعة : الباب ١٠ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ١٣.

٢٩١

المغيّرة لجهة حسن العمل وقبحه فيكون الالتزام والتعبّد والتديّن بعمل لا يعلم التعبّد به من الشارع موجباً لانقلاب العمل عمّا هو عليه وتطرأ عليه بذلك جهة مفسدة تقتضي قبحه عقلاً وحرمته شرعاً ، وظاهر قوله : « رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم » حرمة القضاء واستحقاق العقوبة عليه ، فيدلّ على حرمة نفس العمل » (١).

أقول : كلامه في محلّه لأنّ أدلّة حرمة التشريع لا تعمّ مجرّد الالتزام القلبي من دون تحقّق عمل في الخارج ، وبعبارة اخرى : ليس التشريع من قبيل اصول الدين التي تتقوّم بنفس الاعتقاد في القلب بل القدر المتيقّن من الأدلّة هو الفعل الخارجي الناشيء من الالتزام القلبي ، وإن شئت فعبّر « الفعل الخارجي مع هذه النيّة ».

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ١٢٢ ـ ١٢١ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢٩٢

حجّية الأمارات الظنّية

١ ـ حجّية الظواهر

بعد أن ثبت إمكان التعبّد بالظنّ وبعد ثبوت أنّ الأصل هو عدم حجّية الظنّ إلاّما خرج ، تصل النوبة إلى البحث عمّا وقع التعبّد به خارجاً ، أي ما خرج من الظنون عن هذا الأصل ، فنقول : من جملة الظنون التي خرجت عن تحت أصالة حرمة العمل بالظنّ ودلّ الدليل على حجّيتها ظواهر الألفاظ مطلقاً من دون اختصاصها بالألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة كما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، فلا إشكال في حجّية ظواهر الألفاظ التي وردت في كتب الوصايا والأوقاف ورسائل العقود والعهود وإسناد المعاملات ، فلا زال البحث عنها بين الناس ثمّ يرسلونها إلى الفقهاء ويستفتون عن حكمها ، وكان عليه سيرة المسلمين في الماضي والحال ، مع أنّها من الموضوعات لا الأحكام ( خلافاً لأغلب الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة ) لكن لا بأس به لما مرّ سابقاً من أنّ تشخيص الموضوعات المعقّدة المشكلة على عهدة الفقيه ، ولا يقول فقيه : أنّه خارج عن شؤون الفقاهة ولست مكلّفاً بالجواب عنه حيث إنّ الأعظم من الفقهاء كانوا بل لا زال كانوا يستقبلون عن الأسئلة المربوطة بالموضوعات ويجيبون عنها كما يظهر لمن راجع فروعات كتاب العروة الوثقى فإنّ كثيراً من فروعاتها من هذا القبيل.

وكيف كان ، لا إشكال في حجّية ظواهر الألفاظ إجمالاً ، ( إنّما الإشكال والكلام في بعض خصوصيّاته وجزئياته ) واستدلّوا لها ببناء العقلاء الذي لم يردع الشارع عنه ، ويمكن أيضاً الاستدلال بلزوم نقض الغرض لو لم نقل بالحجّية ، وذلك لأنّ الغرض الأصلي في وضع الألفاظ التفهيم والتفهّم ، فلو اكتفى بالألفاظ الصريحة والقطعيّة الدلالة مع ملاحظة تلك المجازات والاستعارات الكثيرة ، والتصرّفات الحاصلة في الألفاظ التي توجب طبعاً تضييق دائرة الألفاظ الصريحة يلزم نقض غرض الواضع بلا ريب.

٢٩٣

لكن للمحقّق الحائري رحمه‌الله هنا بياناً يليق بالذكر وحاصله : أنّه إذا ثبت عندنا أمران نقطع بأنّ مراد المتكلّم هو ما يستفاد من ظاهر اللفظ :

أحدهما : أن نعلم بأنّ المتكلّم يكون في مقام البيان وتفهيم المراد.

ثانيهما : أن نعلم أنّه لم ينصب قرينة توجب إنصراف اللفظ عن ظاهره.

واستدلّ له بأنّه لولا ذلك لزم نقض الغرض ، أي لزم الالتزام بأنّه تصدّي لنقض غرضه عمداً وهذا مستحيل ، ولذلك لا يختصّ ذلك بمورد يكون المتكلّم حكيماً لأنّ العاقل لا يعمل عملاً يكون فيه نقض غرضه سواء كان حكيماً أم لا ، وهذا واضح.

هذا كلّه إذا أحرزنا المقدّمتين كلتيهما ، أمّا إذا شككنا في أنّ المتكلّم أراد من اللفظ معناه الظاهر أو غيره ، فإمّا أن يكون الشكّ من جهة الشكّ في كونه في مقام التفهيم ، وإمّا من جهة الشكّ في وجود القرينة ، وإمّا من جهة كليهما ، فيقول بالنسبة إلى الصورة الاولى : أنّ الأصل المعوّل عليه عند العقلاء كونه في مقام تفهيم مراده ، وهذا الأصل لا شبهة لأحد منهم فيه ، وبالنسبة إلى الصورة الثانية يقول : هل الأصل المعوّل عليه فيها هو أصالة عدم القرينة أو أصالة الحقيقة ( أصالة الظهور )؟ وتظهر الثمرة بينهما فيما لو إقترن بالكلام ما يصلح لكونه قرينة ، فعلى الأوّل يوجب إجمال اللفظ لعدم جريان أصالة عدم القرينة مع وجود ما يصلح للقرينيّة ، وعلى الثاني يؤخذ بمقتضى المستفاد من الوضع والمستظهر من اللفظ حتّى يعلم خلافه.

ثمّ قال : « فاعلم أنّ اعتبار الظهور الثابت للكلام وإن شكّ في احتفافه بالقرينة ممّا لا إشكال فيه في الجملة ، وأمّا كون ذلك من جهة الاعتماد على أصالة الحقيقة كي لا يرفع اليد عنها في صورة وجود ما يصلح للقرينيّة فغير معلوم ، وإن كان قد يدّعي أنّ بناء العقلاء على الجري على ما يقتضيه طبع الأشياء ما داموا شاكّين في الصحّة والفساد لأنّ مقتضى طبع كلّ شيء إن يوجد صحيحاً ، والفساد يجيء من قبل أمر خارج عنه ، ولعلّه من هذا القبيل القاعدة المسلّمة عندهم « كلّ دم يمكن أن يكون حيضاً فهو حيض » فإنّ مقتضى طبع المرأة أن يكون الدم الخارج منها دم حيض وغيره خارج عن مقتضى الطبع ».

ثمّ قال : « وعلى هذا نقول : أنّ مقتضى طبع اللفظ الموضوع أن يستعمل في معناه الموضوع له لأنّ الحكمة في الوضع تمكّن الناس من أداء مراداتهم بتوسّط الألفاظ فاستعماله في غيره إنّما جاء من قبل الأمر الخارج عن مقتضى الطبع ... إلى أن قال : وكيف كان فالمتيقّن من الحجّية هو

٢٩٤

الظهور المنعقد للكلام خالياً عمّا يصلح لأن يكون صارفاً » ( انتهى ) (١).

هذا كلّه في حجّية الظواهر إجمالاً.

وأمّا بالنسبة إلى خصوصيّاتها وجزئياتها فوقع النزاع في امور ثلاثة :

١ ـ هل الحجّية هنا مقيّدة بحصول الظنّ الشخصي على الوفاق؟

٢ ـ هل هي مقصورة على من قصد إفهامه؟

٣ ـ هل تكون ظواهر الكتاب حجّة مستقلاً أو بعد تفسير الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام كما ذهب إليه الأخباريون؟

أمّا الأمر الأوّل : فاختلفوا فيه على أربعة أقوال :

١ ـ قول من يقول بتقييدها بالظنّ بالوفاق.

٢ ـ قول من يقول بتقييدها بعدم الظنّ بالخلاف.

٣ ـ قول من لا يعتبر الظنّ الشخصي مطلقاً.

٤ ـ تفصيل المحقّق النائيني رحمه‌الله بين الألفاظ التي تتردّد بين العبيد والموالي وفي مقام الاحتجاج ، والألفاظ التي لا تصدر في هذا المقام كالمتردّدة بين صديقين مثلاً فاعتبر حصول الظنّ ( بل حصول أعلى مراتبه وهو الاطمئنان ) بالوفاق في الثاني دون الأوّل.

واستدلّ القائلون بالقول الثالث ، أي عدم اعتبار الظنّ الشخصي مطلقاً ، بإطلاق بناء العقلاء ( الذي كان هو المدرك في أصل حجّية الظواهر ) القائم على الأخذ بالظواهر واتّباعها إلى أن يعلم بالخلاف ، والدليل على هذا الإطلاق هو عدم صحّة الاعتذار عن مخالفتها بعدم إفادتها الظنّ بالوفاق ولا بوجود الظنّ بالخلاف.

أقول : الحقّ صحّة هذا الإطلاق وإنّ استدلالهم به في محلّه ولا بأس به.

وأمّا تفصيل المحقّق النائيني رحمه‌الله وهو عدم اعتبار حصول الظنّ بالوفاق في موارد الاحتجاج واعتباره في غيره فهو دعوى بلا دليل وإن كان بناء كثير من الناس في غير الموالي والعبيد على الاحتياط في هذه الموارد ، لا سيّما إذا كان في الامور المهمّة والأموال الضخمة.

نعم ، يستثنى منه بعض ما ثبتت أهميّته في نظر الشارع المقدّس كباب الحدود والديّات من

__________________

(١) راجع درر الفوائد : ج ٢ ، ص ٣٥٩ ـ ٣٦٢ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢٩٥

باب أنّ الحدود تدرؤا بالشبهات.

نعم ، هيهنا تفصيل آخر ( وهو المختار ) بين ما إذا كان الظنّ الشخصي مخالفاً لقرينة توجب الظنّ على الخلاف ، لمن اطّلع عليها غالباً بحيث تكون قابلة للإرائة والاستناد بها على الخلاف ، وما إذا لم يكن كذلك ، فيمكن أن يقال : إنّ العقلاء لا يعتمدون على الكلام في الصورة الاولى وإن كان ظاهراً في المراد عرفاً.

هذا كلّه في الأمر الأوّل.

وأمّا الأمر الثاني : وهو تفصيل المحقّق القمّي رحمه‌الله بين من قصد إفهامه بالكلام وغيره وأنّ ظواهر الكتاب حجّة بالنسبة إلى الأوّل دون الثاني ، فتظهر ثمرته في الخطابات الشفاهيّة في القرآن الكريم حيث إنّه بناءً على هذا التفصيل يختصّ هذا القبيل من الخطابات بالمشافهين دون الغائبين والمعدومين لعدم كونهم مقصودين بالإفهام ، كما تظهر الثمرة أيضاً في الرّوايات التي كان شخص الراوي لها مقصوداً بالإفهام كما إذا سئل زرارة مثلاً مسألة شخصية خاصّة بنفسه فليست ظواهر هذا القبيل من الرّوايات حجّة بالنسبة إلينا بناءً على التفصيل المذكور بل تنحصر الحجّة منها في الرّوايات التي يكون المخاطب فيها أعمّ من المشافهين كالتي ورد فيها قوله عليه‌السلام : « فليبلّغ الشاهد الغائب » وهي من قبيل خطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في مسجد الخيف وخطبته في منى.

وعلى كلّ حال استدلّ الميرزا القمّي رحمه‌الله بما حاصله ( على ما ذكر المحقّق الإصفهاني رحمه‌الله لكلامه من التوجيه ) أنّ دليل حجّية ظواهر الكتاب إنّما هو عدم تحقّق نقض الغرض ( لأنّ عدم حجّية الظاهر مع كون المتكلّم في مقام البيان ومع أنّه لم ينصب قرينة على الخلاف يوجب نقض الغرض ) وهو خاصّ بالمقصودين بالإفهام فقط لأنّه يكفي نصب القرائن الحاليّة أو المقاليّة لمن قصد إفهامه فحسب وأمّا اختفائها ممّن لم يقصد إفهامه فلا يوجب نقض غرضه من الكلام ، وبعده لا يبقى دليل لحجّية ظاهر كلامه بالنسبة إلى غيرهم (١).

أقول : الإنصاف كما ذهب إليه المحقّقون هو عدم الفرق بين من قصد إفهامه وغيره ، وذلك لعدم انحصار دليل حجّية الظواهر في لزوم نقض الغرض ، بل العمدة فيها إنّما هي بناء العقلاء ،

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ، ص ٦٢ ، الطبع القديم.

٢٩٦

ولا فرق عندهم بين الصورتين كما تشهد عليه شواهد كثيرة :

منها : أنّ القضاة لا يزالون يستندون إلى الشرائط التي حصلوا عليها من ناحية شخص أقرّ صديقه بشيء عنده مع أنّه هو المقصود بالإفهام.

ومنها : اعتمادهم بسجلاّت الأوقاف حتّى في ما إذا كان المخاطب فيها شخص المتولّي أو خصوص إنسان آخر.

ومنها : اعتمادهم بالمكالمات التلفونية أو المكاتبات السرّية التي يكون غير المخاطب فيها مقصوداً بالإخفاء فضلاً عن عدم كونه مقصوداً بالإفهام واستدلالهم بها. هذا أوّلاً.

وثانياً : سلّمنا باختصاص حجّية الظواهر بمن قصد إفهامه إلاّ أنّه لا تترتّب عليه ثمرة بالنسبة إلى خطابات القرآن والرّوايات.

أمّا الاولى : فلأنّ القرآن خاتم الكتب السماويّة ولا إشكال في أنّ المقصود بالإفهام من خطاباتهم جميع الناس إلى الأبد ، ولذلك ورد الأمر بالترتيل عند قرائتها واجابة خطاباتها بقول القاري « لبّيك ربّنا ».

وأمّا الثانية : فلأنّها على قسمين : قسم يكون من قبيل تأليف المؤلّفين للكتب التي ليس المقصود بالإفهام فيها شخصاً خاصّاً أو أشخاصاً معينين ، ولا إشكال فيها للمحقّق القمّي رحمه‌الله نفسه أيضاً ، وقسم آخر لا يكون كذلك إلاّ أن عدالة الراوي أو وثاقته وأمانته في النقل تقتضي نقل القرائن التي دخيلة في الفهم من الرّواية أيضاً بحيث يعدّ عدم نقله إيّاها من الخيانة في النقل.

فتلخّص أنّ كلامه مضافاً إلى عدم تناسبه مع الدليل المعتبر في حجّية الظواهر لا تترتّب عليه ثمرة في ما بأيدينا من آيات الكتاب وأخبار السنّة.

هذا كلّه في الأمر الثاني.

أمّا الأمر الثالث : وهو حجّية ظواهر كتاب الله مستقلاً فالمعروف والمشهور بين أصحابنا الإماميّة هو الحجّية ، وأنكرها جماعة من الأخباريين ، وقالوا بعدم حجّيتها قبل ورود تفسير الأئمّة المعصومين ، وهذا التفريط الذي يقصر الحجّة في الرّواية إنعكاس في الواقع لإفراط من قال : « حسبنا كتاب الله » ، وكلّ واحد منهما جائر عن سواء السبيل.

وكيف كان ، قبل بيان أدلّة الأخباريين لابدّ من ذكر الأدلّة التي تدلّ على حجّية ظواهر

٢٩٧

الكتاب ، فنقول : دليلنا على ذلك امور :

الأوّل : أنّها مقتضى القاعدة الأوّليّة لأنّ بناء العقلاء استقرّ على حجّية الظواهر مطلقاً ، ومنها ظواهر القرآن الكريم ، واستثنائها منها بغير دليل معتبر ممّا لا وجه له.

وإن شئت قلت : المقصود في الآيات تفهيم معانيها للناس من طريق ظواهرها فعدم حجّية ظواهرها يستلزم نقض الغرض كما لا يخفى.

الثاني : آيات من القرآن نفسه : منها قوله تعالى : ( قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (١).

ومنها : قوله تعالى : ( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُبِينٍ ) (٢).

إن قلت : إثبات حجّية ظواهر الكتاب بالكتاب يستلزم الدور المحال.

قلنا : أنّه كذلك إذا كان الاستدلال بظواهر الآيات مع أنّه في المقام استدلال بنصوصها التي لا ينكرها الأخباريون أيضاً.

الثالث : ( وهو العمدة ) دلالة طوائف من الأخبار على حجّيتها :

الطائفة الاولى : حديث الثقلين (٣) ، فإنّ ظاهره أنّ كلاً من الكتاب والعترة حجّة مستقلاً ، وإنّ الكتاب هو الثقل الأكبر ، والعترة الطاهرة عليهم‌السلام هو الثقل الأصغر ، وإن كان كلّ واحد منهما يؤيّد الآخر ويوافقه ، نظير حكم العقل وحكم الشرع في قاعدة الملازمة فليست حجّية حكم العقل مقيّدة بدلالة الشرع وبالعكس ، وإن كان يؤيّد أحدهما بالآخر ، فكذلك في ما نحن فيه ، وإلاّ لو كانت حجّية دلالة الكتاب مقيّدة بدلالة الرّوايات لكانت دلالة الرّوايات أيضاً مقيّدة بدلالة الكتاب مع أنّه لم يقل به أحد.

الثانية : ما يدلّ على أنّ القرآن هو الملجأ عند المشاكل والحوادث ، والمرجع عند التباس

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ١٥ و ١٦.

(٢) سورة الشعراء : الآية ١٩٢ ـ ١٩٥.

(٣) وقد جمع إسناد هذا الحديث القيّم من طرق العامّة والخاصّة في كتاب جامع أحاديث الشيعة الذي جمع تحت إشراف سيّدنا الاستاذ المحقّق البروجردي رحمه‌الله فراجع : ج ١ ، الباب ٤ ، من أبواب المقدّمة.

٢٩٨

الامور ، نظير ما نقله الطبرسي رحمه‌الله في مقدّمة تفسيره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا التبس عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فمن جعله أمامه قاده إلى الجنّة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ».

وغير ذلك ممّا ورد في نهج البلاغة نحو قوله عليه‌السلام : « فاستشفوه من أدوائكم فإنّ فيه شفاء من أكبر الداء » ، إلى غير ذلك ممّا هو كثير ، وكثرتها تغني عن ملاحظة أسنادها.

الثالثة : ما يدلّ على وجوب عرض الرّوايات على كتاب الله ، التي جمعها في الوسائل الباب ٩ من أبواب صفات القاضي :

منها : ما رواه السكوني عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه » (١).

فكيف يمكن أن يكون القرآن معياراً لتعيين الحجّة عن اللاّحجّة ، ولا يكون بنفسه حجّة.

الرابعة : ما ورد عند تعارض الخبرين الآمرة بأخذ ما وافق كتاب الله (٢).

الخامسة : ما يدلّ على أنّه يجب الوفاء بكلّ شرط إلاّما خالف كتاب الله ، وهو ما ورد في ج ١٢ ـ من الوسائل باب ١٢ ـ من أبواب الخيار ، التي ظاهرها حجّية ظواهر الكتاب لكونها ملاكاً لتشخيص الشروط الحقّة عن الشروط الباطلة » (٣).

السادسة : ما ورد في باب صلاة القصر في ذيل آية التقصير عن زرارة ومحمّد بن مسلم قالا : قلنا لأبي جعفر عليه‌السلام : رجل صلّى في السفر أربعاً أيعيد أم لا؟ قال : « إن كان قرأت عليه آية التقصير وفسّرت له فصلّى أربعاً أعاد ، وإن لم يكن قرأت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه » (٤).

إن قلت: ما المراد من قوله عليه‌السلام : « فسّرت »؟ أليس هذا مشيراً إلى مقالة الأخباريين؟

قلنا : كلاّ ، بل المراد ـ على الظاهر ـ تفسير قوله تعالى : « لا جناح » بما يقتضي الوجوب.

وأيضاً ما ورد في أبواب حدّ شرب الخمر وأنّ الشارب إذا لم يسمع آية التحريم لكونه

__________________

(١) وسائل الشيعة : ح ١٠ من ذلك الباب ، وراجع أيضاً : ح ١١ و ١٢ و ١٤ و ١٥.

(٢) المصدر السابق : أبواب صفات القاضي ، الباب ٩ ، و ١٩ و ٢١ و ٣٥.

(٣) المصدر السابق : ج ١٢ ، الباب ٦ ، من أبواب الخيار.

(٤) المصدر السابق : ج ٥ ، باب ١٧ ، من أبواب صلاة المسافر ، ح ٤.

٢٩٩

حديث العهد بالإسلام يدرأ عنه الحدّ (١).

السابعة : ما ورد في الرّوايات من إرجاع الناس في فهم أحكام الله إلى القرآن ، نظير ما ورد في باب الوضوء عن عبدالأعلى مولى آل سام قال : قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ قال : « يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّوجلّ ، قال الله تعالى : ( مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ، امسح عليه » (٢).

الثامنة : ما يدلّ على لزوم إرجاع المتشابهات من الأخبار والقرآن إلى محكماتها ، نظير ما رواه أبو حيون مولى الرضا عن الرضا عليه‌السلام قال : « من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدي إلى صراط مستقيم ، ثمّ قال عليه‌السلام : إنّ في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن ومتشابهاً كمتشابه القرآن ، فردّوا متشابهها إلى محكمها ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا » (٣).

إن قلت : لعلّ المراد من المحكم هو خصوص النصوص من الكتاب والرّوايات.

قلنا : إنّ المحكم ما يقابل المتشابه ، والمتشابه بمعنى المبهم والمجمل فكلّ ما لا يكون مبهماً محكم ، فيعمّ المحكم النصّ والظاهر معاً لأنّ الظاهر أيضاً لا يعدّ عند العرف والعقلاء من المبهم ، ويشهد لذلك ذيل الخبر لأنّه يدلّ على أنّ الأخبار أيضاً تنقسم إلى المحكم والمتشابه ، ولم يقل أحد حتّى من الأخباريين بأنّ ظواهر الأخبار داخلة في المتشابه.

التاسعة : ما يعبّر من الرّوايات بقوله عليه‌السلام : « أما سمعت قول الله ... » (٤).

فإن ظاهرها أيضاً أنّ ظاهر الكتاب حجّة كما لا يخفى.

العاشرة : ما دلّ على « أنّ الله لا يخاطب الخلق بما لا يعلمون » (٥) ، فإنّه ظاهر في أنّ خلق الله تعالى يدركون ما أنزله ويكون ظاهره حجّة عليهم.

هذه هي الطوائف العشرة يدلّ كلّ واحدة منها على المقصود مستقلاً ، ولو سلّمنا عدم دلالته كذلك فلا أقلّ من أنّ في المجموع بما هو المجموع غنىً وكفاية.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ح ١ ، ج ١٨ ، أبواب حدّ المسكر ، باب ١٠.

(٢) المصدر السابق : ح ٥ ، ج ١ ، باب ٣٩ ، من أبواب الوضوء.

(٣) المصدر السابق : ح ٢٢ ، ج ١٨ ، باب ٩ ، من أبواب صفات القاضي.

(٤) المصدر السابق : ح ٨٢ ، الباب ١٣ ، من أبواب صفات القاضي.

(٥) المصدر السابق : ح ٨١.

٣٠٠