أنوار الأصول - ج ٢

أنوار الأصول - ج ٢

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-14-8
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٥٠٤

فقياس المقام بها مع الفارق ، فتأمّل.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه لا يجوز الترخيص في المخالفة القطعيّة ويكون العلم الإجمالي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعيّة وإن لم تكن الموافقة القطعيّة واجبة وجازت المخالفة الاحتماليّة.

نعم ، يستثنى منها موردان يجوز للشارع الترخيص فيهما :

الأول : ما إذا كان القطع الإجمالي موضوعياً فيمكن للشارع أن يقيّد القطع الذي يأخذه في موضوع الحكم بقيد التفصيلي بلا إشكال ، لكنّه خارج عن محلّ البحث لأنّ البحث هنا في القطع الطريقي المحض.

الثاني : إذا صادف الحكم أحد موانع الفعلية كالعسر والحرج ، ويؤدّي الاحتياط وتنجيز العلم الإجمالي للحفاظ على الحكم الواقعي إلى العسر والحرج ، لكنّه لا يختصّ بموارد العلم الإجمالي بل أنّه جارٍ في موارد العلم التفصيلي أيضاً.

لكن لتهذيب الاصول في المقام كلام ، وهو أنّ البحث في المقام عن القطع الوجداني بالتكليف الفعلي الذي لا يحتمل الخلاف ويعلم بعدم رضا المولى بتركه لكن اشتبه متعلّق التكليف بحسب المصداق أو غيره ، كما أنّ البحث في باب الاشتغال إنّما هو عن العلم بالحجّة المحتمل صدقها وكذبها كإطلاق دليل حرمة الخمر الشامل لصورتي العلم بالتفصيل والإجمال ، وعلى ذلك فلا شكّ أنّ العلم والقطع الوجداني بالتكليف علّة تامّة لحرمة المخالفة ووجوب الموافقة القعطيّين ولا يجوز الترخيص في بعض أطرافه فضلاً عن جميعه إذ الترخيص كلاً أو بعضاً ينافي بالضرورة مع ذاك العلم الوجداني ، فإنّ الترخيص في تمام الأطراف يوجب التناقض بين الإرادتين في نفس المولى ، كما أنّ الترخيص في بعضها يناقض ذاك العلم في صورة المصادفة ... ( إلى أن قال ) : وممّا ذكر يظهر حال الأقوال المذكورة في الباب ، فإنّ كلّ ذلك ناشٍ عن خلط ما هو مصبّ البحث مع ما هو مصبّه في باب الاشتغال » (١).

أقول يرد عليه :

أوّلاً : أنّه كيف يكون مصبّ البحث هنا هو العلم الوجداني بالتكليف الواقعي وهناك العلم بالحجّة والحكم الظاهري مع أنّا لم نجد أحداً يلتزم بهذا الفرق؟ والأمثلة في المسألتين واحدة

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٥٢ ـ ٥٣ ، طبع جماعة المدرسين.

٢٦١

كأدلّتهما ، إلاّ أن يقال : يدلّ على كون مصبّ البحث هنا العلم الوجداني قياسه بالعلم التفصيلي ، فلا شكّ في أنّ المقصود منه هو العلم التفصيلي الوجداني ، ولذلك يقال بأنّه حجّة ذاتاً ولا تناله يد الجعل.

اللهمّ أن يقال : إنّ هذا لا يمنع عن كون البحث عاماً في مبحث الاشتغال كما هو ظاهر كلماتهم ، وحينئذٍ يكون بين المسألتين عموم مطلق فلا يبقى وجه أيضاً للتكرار.

ثانياً : لو كان المعلوم بالإجمال هو الحكم الفعلي من جميع الجهات الذي لا يرضى المولى بتركه ، فكيف وقع البحث عن كونه علّة تامّة للحكم وعدمه وعن أنّه هل يكون الحكم فعلياً أو لا؟ وإن هو إلاّكالقضايا الضروريّة بشرط محمولاتها.

ثالثاً : كيف يحصل العلم الوجداني بالحكم مع أنّ الطرق الموجودة عندنا إطلاقات وعمومات التي هي طرق ظنّية توجب العلم بالحجّة لا العلم الوجداني.

وإن شئت قلت : جعل مصبّ البحث هنا العلم الوجداني يستلزم أن يكون البحث هنا بحثاً عن شيء تكون مصاديقه نادرة.

هذا كلّه في أنّ العلم الإجمالي هل هو علّة تامّة لتنجّز التكليف أو يكون مقتضياً له؟ وقد اخترنا كونه علّة تامّة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعيّة ومقتضياً بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعيّة كما اختاره الشيخ الأعظم رحمه‌الله.

ثمّ إنّه بعد كونه مقتضياً لحرمة المخالفة الاحتماليّة أو وجوب الموافقة القطعيّة ، فهل يوجد مانع عنه من قبيل عموم قوله عليه‌السلام « كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام » أو من قبيل أدلّة خاصّة تدلّ على وجود المانع ، أو لا؟ فسيأتي البحث عنه في باب الاشتغال إن شاء الله تعالى.

هذا كلّه في المقام الأوّل.

أمّا المقام الثاني : في كفاية العلم الإجمالي في مقام الامتثال وعدمه

وهو البحث عن كفاية العلم الإجمالي في مقام الامتثال وعدمه فهو ما تعرّضوا له في مباحث الاجتهاد والتقليد وأنّ الناس على ثلاثة أصناف : مجتهد ومقلّد ومحتاط ، فهل يمكن العمل بالاحتياط مع إمكان الاجتهاد أو التقليد أو لا؟ وهو تارةً يتصوّر في الشبهة الموضوعيّة كالإتيان بأربع صلوات إلى الجهات الأربعة ، واخرى في الشبهة الحكميّة كما إذا علم إجمالاً بأنّ

٢٦٢

الواجب عليه يوم الجمعة أمّا صلاة الظهر أو صلاة الجمعة ، ومحلّ الكلام ما إذا قدر على تحصيل العلم التفصيلي ، وإلاّ فلا ريب في تعيّن الاحتياط وكفاية الامتثال الإجمالي.

ويتصوّر للمسألة أيضاً أربع صور ( والمهمّ منها هو الصورة الرابعة ) ، لأنّ المعلوم بالإجما تارةً يكون من التوصّليات ، واخرى من التعبّديات ، وفي كلّ منهما تارةً يكون الامتثال الإجمالي مستلزماً للتكرار ، واخرى لا يكون.

أمّا التوصّليات فلا إشكال ولا كلام في كفاية العلم الإجمالي فيها في مقام الامتثال ، سواء استلزم التكرار أو لم يستلزم ، وهكذا في التعبّديات إذا لم يستلزم التكرار كما إذا شككنا في جزئيّة السورة.

إنّما البحث والإشكال في العبادات إذا استلزم الامتثال الإجمالي فيها التكرار كمثال الصّلاة في أربع جهات ، فأجازه قوم ومنعه آخرون ، واستدلّ المانعون بوجوه متفرّقة في كتبهم يمكن جمعها وتلخيصها في ثمانية :

الوجه الأوّل : الإجماع بإحدى الصور التالية :

الاولى : الإجماع قولاً على المنع في خصوص ما إذا استلزم التكرار في العبادات ، أي في خصوص محلّ النزاع.

الثانية : الإجماع قولاً على المنع مطلقاً ، استلزم التكرار أو لم يستلزم.

الثالثة : الإجماع عملاً في خصوص العبادات ، والمقصود منه أنّ سيرة علماء السلف استقرّت على عدم تكرار العبادة.

الوجه الثاني : أصالة الاشتغال ، فإنّه إذا شككنا في حصول الامتثال وبراءة الذمّة مع ترك العلم التفصيلي فالاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة.

الوجه الثالث : أنّه يوجب اللعب بأمر المولى خصوصاً فيما إذا تداخل علمان إجماليّان أو أكثر في مورد واحد ، كما إذا أراد أن يصلّي كلّ واحد من صلاة الظهر وصلاة الجمعة في أربع جهات للحصول على القبلة وفي أثواب متعدّدة ، للعلم إجمالاً بطهارة واحد منها بحيث يوجب الإتيان بصلوات كثيرة بدل صلاة واحدة.

الوجه الرابع : لزوم الاخلال بقصد الوجه.

الوجه الخامس : لزوم الاخلال بقصد التمييز فلا يمكن أن يأتي بصلاة الظهر بقصد أنّها هي

٢٦٣

المأمور بها متميّزة عن غيرها.

الوجه السادس : أدلّة وجوب تحصيل العلم كقوله تعالى « فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ » وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : طلب العلم فريضة على كلّ مسلم » فإنّها ظاهرة في الوجوب التعييني فلا يجوز العمل بالاحتياط.

الوجه السابع : ظاهر أدلّة حجّية الأمارات والطرق فإنّ ظاهرها هو الوجوب التعييني أيضاً لا التخيير بين العمل بمفادها وبين الاحتياط.

الوجه الثامن : ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله في المقام ملخّصه : أنّ الإطاعة هي الانبعاث عن بعث المولى والتحرّك عن تحريكه خارجاً وهو لا يتحقّق مع الامتثال الإجمالي ، بداهة أنّ المحرّك لخصوص صلاة الظهر أو الجمعة يستحيل أن يكون هو إرادة المولى وبعثه ، فإنّ المفروض الشكّ في تعلّقها بكلّ منها بل المحرّك هو احتمال تعلّق الإرادة بكلّ منهما ، ومع التمكّن من التحرّك عن نفس الإرادة يستقلّ العقل بعدم حسن التحرّك عن احتمالها ، فإنّ مرتبة الأثر متأخّرة عن مرتبة العين ( المقصود من العين هو نفس الإرادة ومن الأثر احتمالها ) فكلّ ما أمكن التحرّك عن نفس الإرادة في مقام الإطاعة فلا حسن في التحرّك عن احتمالها » (١).

فملخّص كلامه استقلال العقل بعدم حسن التحرّك عن احتمال الإرادة الموجود في الامتثال الإجمالي في المقام.

هذا ـ والحقّ هو جواز العمل بالاحتياط وإن استلزم التكرار كما عليه أكثر المتأخّرين والمعاصرين ، ولا يتمّ أحد هذه الوجوه.

أمّا الإجماع فجوابه واضح ، لأنّ استناد المجمعين إلى الأدلّة السابقة محتمل أو معلوم فلا يكشف عن قول المعصوم.

وأمّا أصالة الاشتغال فلأنّ الأصل الجاري في المقام هو البراءة لا الاشتغال لأنّ الشكّ هنا يرجع إلى الشكّ في الشرطيّة أو الجزئيّة حيث يشكّ في اعتبار قيد عدم تكرار العمل ، وهو قيد أو شرط زائداً على الشروط والأجزاء المتيقّنة تفصيلاً ، فينحلّ العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي بسائر الأجزاء والشرائط والشكّ البدوي في القيد المذكور ، ولا ريب في أنّه مجرى

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ٢ ، ص ٤٤.

٢٦٤

لأصالة البراءة لا الاشتغال ، والاشتغال مصبّه غير ذلك ، وهو ما إذا كان أصل المأمور به معلوماً وشكّ في وجوده خارجاً.

قال المحقّق النائيني رحمه‌الله هنا ما حاصله : أنّ أدلّة أصل البراءة كحديث الرفع جارٍ فيما كان وضعه ورفعه بيد الشارع ويكون قاصراً عن الشمول لما يتحمّل اعتباره في الطاعة عقلاً كما في المقام ، حيث إن الشكّ فيه راجع إلى اعتبار أمر في الطاعة العقليّة ، ضرورة أنّ حسن الاحتياط من الأحكام التي يستقلّ العقل بها ، فمع الشكّ في تحقّقه لا يمكن التمسّك بحديث الرفع (١).

أقول : إن كان حسن الاحتياط في المقام من المستقلاّت العقليّة فلا معنى للشكّ فيه ، لأنّ لاعقل لا يشكّ في حكم نفسه ، فإمّا أن يحكم بكفاية الامتثال الإجمالي أو يحكم بعدمها ، ولا تردّد له فيه ، وحينئذٍ فلو كان هناك شكّ كان شكّاً في حكم الشرع ، أي شكّاً في الجزئيّة أو الشرطيّة الشرعيّة فيرجع إلى الأقلّ والأكثر الإرتباطيين الذي يكون مجرى لأصل البراءة.

وأمّا الدليل الثالث وهو لزوم اللعب بأمر المولى فاجيب عنه بجوابين :

أحدهما : أنّ التكرار لا يعدّ لعباً بأمر المولى إذا نشأ من دواعٍ عقلائيّة.

ثانيهما : سلّمنا ذلك ، ولكنّه لعب في كيفية الإطاعة لا في أصلها ، واللعب في كيفية العمل لا يوجب بطلان أصله.

لكن الإنصاف أنّ هذا الجواب غير تامّ ، لأنّ كيفية العمل ليست منفكّة عن أصل العمل بل هي متّحدة معه عرفاً.

وللمحقّق الإصفهاني رحمه‌الله هنا كلام وإليك نصّه : « إنّ المانع إمّا عدم صدور العمل عن داعٍ إلهي بل من غيره ، أو التشريك في الداعي بحيث لا يكون الأمر مستقلاً في الدعوة ، أو تعنون الفعل بنفسه بعنوان اللعب ، أو تعنون الفعل المأتي بداعي الأمر بعنوان اللعب ، والكلّ مفقود ، أمّا الأوّل فلأنّ المفروض أنّ المحرّك لفعل كلّ من المحتملات هو الأمر المحتمل تعلّقه به ، وأمّا الثاني فلأنّ المفروض عدم محرّك إلى ذات كلّ واحد من المحتملات سوى الأمر المحتمل فلا تشريك في الداعي ، وإلاّ فلو فرض التشريك لم يكن فرق بين الداعي العقلائي وغيره في المفسدية وعدم صدور العمل عن داعٍ إلهي مستقلّ في الدعوة ، وأمّا الثالث فلأنّ المفروض أنّ

__________________

(١) راجع أجود التقريرات : ج ٢ ، ص ٤٥.

٢٦٥

ذات العمل صلاة واتّصافها باللعب والعبث باعتبار صدورها عن داعٍ نفساني شهواني ومع فرض صدورها عن داع الأمر المستقلّ في الدعوة لا معنى لتعنون ذات الصّلاة باللعب والعبث ، وأمّا الرابع فبأنّ اتّصاف المأتي به بداع الأمر بوصف اللعب والعبث بأن يكون الداعي إلى جعل الأمر داعياً غرضاً نفسانياً غير عقلائي والمفروض أنّ داعيه إلى امتثال أمر المولى ما هو الداعي في غيره من توقّع الثواب أو تحصيل مرضات المولى أو غيرها » (١).

أقول : الحقّ عدم الحاجة إلى هذا التفصيل بل روح الكلام والعمدة في المقام هو ما ذكرنا من أنّ التكرار لا يكون لعباً إذا نشأ من دواع عقلائيّة.

أمّا الدليل الرابع : وهو اعتبار قصد الوجه ففيه : أوّلاً : أنّه قد ثبت في محلّه عدم اعتباره في صحّة العبادة.

وثانياً : لو سلّمنا اعتباره فإنّه حاصل في المقام لأنّه على قسمين : قصد الوجه الغائي وقصد الوجه الوصفي ، والغائي حاصل في المقام لأنّ صلاته إنّما هي لغاية وجوب تلك الصّلاة الواجبة إجمالاً ، وكذلك الوصفي لأنّه بصدد الإتيان بالصلاة المتّصفة بالوجوب المتردّد بين الأربعة.

وأمّا قصد التمييز فهو ممّا لا دليل على اعتباره إلاّفي مورد واحد ، وهو ما إذا توقّف عليه حصول عنوان من العناوين القصديّة ، حيث إن العنوان القصدي لا يحصل إلاّبتمييزه عن سائر العناوين كما إذا اشتغل مثلاً ذمّة المكلّف بصيام يوم للكفّارة وبصيام يوم آخر للنذر وبصيام يوم ثالث للقضاء ، وكلّ واحد من هذه الثلاثة عنوان من العناوين القصديّة يحتاج تحقّقه في الخارج إمّا إلى تمييز تفصيلي له بالنسبة إلى سائر العناوين كما إذا قال مثلاً : أصوم للكفّارة ، أو تمييز إجمالي كما إذا نوى ما اشتغلت به ذمّته أوّلاً ، وأمّا في غير هذه الصورة فلا يجب التمييز لا إجمالاً ولا تفصيلاً بل يكفي قصد ما في الذمّة ، وما نحن فيه من هذا القبيل كما لا يخفى.

ثالثاً : أنّه لم يأت بدليل على مقالته إلاّما إفاده من أنّ التحرّك عن الأثر متأخّر عن التحرّك عن العين ، وهذا ما لا محصّل له لأنّه إن كان المراد منه التأخّر في عالم الخارج فهذا مسلّم لكنّه لا يثبت المدّعى ، وإن كان المراد التأخّر في الداعويّة والبعث فهو أوّل الكلام لأنّه ربّما يتحرّك الإنسان عن الأثر من دون أن يتحرّك عن العين كما إذا أمر الطبيب بالحمية فنهى عن أكل

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ، ص ٣٩.

٢٦٦

بعض الأغذية وشرب بعض آخر لرفع المرض والحصول على السلامة ، والمريض يتركها لكن لا لجهة مرضه وتحصيل السلامة عنه بل لما يترتّب عليها من العواقب والآلام.

بقي هنا امور :

الأوّل : إنّه هنا كان البحث في جواز الامتثال الإجمالي مع القدرة على تحصيل العلم التفصيلي واخترنا فيه الجواز ، أمّا إذا لم يقدر على تحصيل العلم التفصيلي بل كان قادراً على الظنّ التفصيلي الذي هو الغالب في الفقه كما مرّ وعليه يدور رحى الاجتهاد والتقليد فالكلام فيه أظهر ، بل يجوز الامتثال الإجمالي فيه بطريق أولى كما أشرنا إليه سابقاً.

الثاني : أنّ ما يقال من « أنّ الاحتياط في ترك الاحتياط » فهو صحيح على الإطلاق في بعض الموارد ، وهو ما إذا كان قادراً على العمل التفصيلي ، والوجه فيه هو الخروج عن القول بالخلاف ، أمّا إذا لم يقدر على العلم بل كان قادراً على الظنّ التفصيلي المعتبر ، فحينئذٍ لعلّ الاحتياط من بعض الجهات كان في العمل بالاحتياط لا في تركه ، وذلك لأنّ الاحتياط حينئذٍ يوصل الإنسان إلى الواقع قطعاً ، والظنّ المعتبر يوصله إليه ظنّاً ( مع قطع النظر عن ما يستلزم التكرار من مخالفة الاحتياط ).

الثالث : لا يخفى أنّ ما اخترناه من جواز الاحتياط لا يجري في نفس المسألة وهي « هل يجوز العمل بالعلم الإجمالي والاحتياط مع إمكان الاجتهاد أو التقليد؟ » بل لابدّ فيها من الاجتهاد أو التقليد وهو واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.

الرابع : كثيراً ما لا يمكن العمل بالإحتياط لكونه من موارد الدوران بين المحذورين ، ويرشدنا إلى هذه الموارد الرجوع إلى أبواب الحدود والتعزيرات والقصاص وكذلك باب الإرث وكثير من أبواب المعاملات ، وحينئذٍ لابدّ من الاجتهاد أو التقليد وعلى هذا العمل بالاحتياط مطلقاً غير ممكن.

الخامس : أنّ العمل بالاحتياط قد يوجب العسر والحرج لشخص الإنسان وقد يوجب اختلال النظام أو الاضرار بالغير كما إذا استلزم من احتياط إنسان الاضرار بعياله أو صديقه مثلاً ، فعلى الأوّل لا إشكال في جوازه وعدم حرمته لأنّه ليس ناشئاً من جانب الشارع بل هو نشأ من ناحية شخصه واختياره ، ولا كلام في أنّ المرفوع في أدلّة العسر والحرج هو الإلزام

٢٦٧

الحاصل من حكم الشرع لا الجواز ، وعلى الثاني فلا إشكال أيضاً في حرمة الاحتياط حينئذٍ ووجوب العمل بالاجتهاد أو التقليد. والله العالم.

تمّ الكلام إلى هنا عن مباحث القطع.

٢٦٨

المقام الثاني في مباحث الظنّ

( حجّية الأمارات الظنّية )

وقبل الدخول في هذا البحث لابدّ من رسم امور ثلاثة :

الأمر الأول : أنّ الظنّ وبتعبير آخر : أنّ الأمارات الظنّية ليست بحجّة ذاتاً ، أي ليست الحجّية من لوازمها الذاتيّة كما في القطع ( مع قطع النظر عمّا مرّ منّا في مبحث القطع من أنّه لا معنى لحجّية القطع بمعنى كونه طريقاً إلى الواقع بل هو نفس النظر إلى الواقع ومشاهدته والإحاطة به ).

الأمر الثاني : أنّه يمكن التعبّد بها وجعلها حجّة.

الأمر الثالث : في تأسيس الأصل في المسألة ، فهل الأصل فيها أنّ جميع الأمارات الظنّية حجّة إلاّما خرج بالدليل أو العكس ، أي ليس شيء منها بحجّة إلاّما ثبت خروجه بالدليل؟

وبعبارة اخرى : هل يكون إثبات الحجّية وإقامة الدليل عليها على عهدة المنكر للحجّية أو على عهدة المثبت المدّعى لها؟ فإن كان الأصل هو الأوّل فلا بدّ للمنكر إقامة الدليل وهو مدّعٍ في الواقع ، وإن كان هو الثاني فعلى المثبت.

ولا يخفى أنّ البحث في الأمرين الأوّلين بحث في مقام الثبوت ، وفي الأخير بحث في مقام الإثبات.

أمّا الأمر الأوّل : أنّ الأمارات الظّنية ليست بحجّة ذاتاً

فاستدلّ له :

أوّلاً : بإجماع العقلاء واتّفاقهم على أنّ الظنّ ليس بحجّة ذاتاً بل لابدّ من جعلها بيد جاعل كجعل الحجّية لخبر الواحد ، أو من حصول مقدّمات توجب الحجّية له إمّا عقلاً بناءً على تماميّة

٢٦٩

مقدّمات الانسداد على تقرير الحكومة ، وأمّا شرعاً بناءً على تماميتها بنحو الكشف.

وثانياً : بحكومة الوجدان ، فإنّ الوجدان شاهد على عدم حجّية الظنّ ذاتاً إذ لا كشف تامّاً لها عن الواقع كما في القطع فلا بدّ لجبران نقصها في الكشف إلى جعل جاعل من ناحية الغير ، نظير ما يقال في الوجود الممكن من أنّه ليس ذاتياً له ولذلك لابدّ من حصوله له بسبب أمر خارج خلافاً للوجود الواجب.

بقي هنا شيء :

وهو أنّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية ذكر لتصوّر الحجّية المجعولة للظنّ طريقين : جعل الجاعل وحصول مقدّمات الانسداد ، ولكن هنا طريق ثالث وهو إخبار الشارع بعدم العقاب لمن عمل بالظنّ من دون أن يكون في مقام الجعل ، فإنّ إخباره بذلك كافٍ في حصول الأمن عن العذاب الذي هو نتيجة الحجّية.

وأمّا الأمر الثاني : في إمكان التعبّد بالظّن

وهو إثبات قابلية الظنّ لأن يصير حجّة وإمكان جعل الحجّية له. فنقول : المراد من الإمكان هنا هو الإمكان الوقوعي ، بمعنى أنّه لا يلزم من وقوعه محذور عقلي من أمر ممتنع ذاتي كاجتماع الضدّين أو أمر ممتنع عرضي كالقبيح الذي يستحيل صدوره من الحكيم.

توضيح ذلك : المعروف من معاني الإمكان أربعة :

أحدها : الإمكان الذاتي وفي مقابله الامتناع الذاتي كاجتماع النقيضين.

ثانيها : الإمكان الوقوعي وفي مقابله الامتناع الوقوعي وهو ما يلزم من وقوعه محال كامتناع اجتماع الآلهة في العالم وهو مفاد قوله تعالى : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا ).

ثالثها : الإمكان العادي بمعنى عدم الامتناع بحسب العادة في مقابل الامتناع العادي كامتناع بلوغ عمر الإنسان إلى آلاف سنين عادةً.

رابعها : الإمكان الاحتمالي وهو ما أشا إليه الشيخ الرئيس بقوله : كلّ ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يضدّك عنه قاطع البرهان.

أمّا القسم الأخير فلا شكّ في عدم كونه مقصوداً في المقام لأنّه إنّما يكون في النظر البدوي ،

٢٧٠

وسيزول بالتأمّل ويرجع إلى أحد الأقسام الاخر ، ولذلك عبّر الشيخ بـ « كلّما قرأ سمعك ».

وكذلك الإمكان العادي لأنّ العادة لا يمكن أن تقع موضوعاً للأدلّة العقليّة ، وأيضاً الإمكان الذاتي لأنّه لا شكّ لأحد في أنّه لا مانع في إمكان التعبّد بالظنّ ذاتاً وأنّ حجّية الظنّ ليست كاجتماع النقيضين ، فيتعيّن حينئذٍ الإمكان الوقوعي ، فالمراد بالإمكان في المقام هو الوقوعي في مقابل من يدّعي الامتناع الوقوعي كابن قبّة (١) من قدماء الأصحاب.

ومن العجب أنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله ذهب إلى « أنّ المراد من الإمكان المبحوث عنه في المقام هو الإمكان التشريعي ، بمعنى أنّ من التعبّد بالأمارات هل يلزم محذور في عالم التشريع من تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة ، واستلزامه الحكم بلا ملاك ، واجتماع الحكمين المتنافيين وغير ذلك من التوالي الفاسدة المتوهّمة في المقام ، أو أنّه لا يلزم شيء من ذلك؟ ثمّ قال : وليس المراد من الإمكان هو الإمكان التكويني بحيث يلزم من التعبّد بالظنّ أو الأصل محذور في عالم التكوين ، فإنّ الإمكان التكويني لا يتوهّم البحث عنه في المقام وذلك واضح » (٢).

ولكن لا يخفى ما فيه من أنّ كون موضوع الإمكان والاستحالة أمراً تشريعياً لا يقتضي خروج إمكانه عن التكوين إذا كان المحذور على كلّ لزوم اجتماع الضدّين في عالم التكوين أو صدور القبيح من الحكيم الذي يستحيل صدوره منه تكويناً أيضاً.

وبعبارة اخرى : المحذورات الخمسة التي سيأتي في بحث اجتماع الحكم الظاهري والواقعي وكذلك شبهة ابن قبّة ، كلّها ترجع إلى محذورات تكوينية ناشئة عن تشريع العمل بالظنّ فراجع وتدبّر.

والإنصاف أنّه لا معنى للإمكان التشريعي في مقابل الامتناع التشريعي إلاّحكم الشارع بالإباحة في مقابل الحرمة ، وأين هذا ممّا نحن بصدده.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ ابن قبّة خالف إمكان حجّية خبر الواحد واستدلّ له بدليلين : أحدهما مختصّ بخبر الواحد ، والآخر عام يشمل جميع الأمارات الظنّية.

أمّا الأوّل : فهو أنّه لو جاز التعبّد بخبر الواحد في الإخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لجاز التعبّد به في

__________________

(١) هو من عيون الأصحاب وصالحيهم وكان معاصراً للشيخ المفيد رحمه‌الله والشيخ كان يروي عنه وكان من تلاميذه وهو صاحب كتاب الإنصاف ، وكان فقيهاً متكلّماً ، وقيل أنّه كان معتزلياً ثمّ استبصر.

(٢) فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٨٨ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢٧١

الإخبار عن الله تعالى ، والتالي باطل إجماعاً ، ووجه الملازمة أنّ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد.

والصحيح في الجواب عنه ( كما سيأتي في مبحث خبر الواحد ) أنّه قياس مع الفارق ، لأنّ التعبّد بخبر الواحد في الإخبار عن الله تعالى ملازم لدعوى النبوّة ، وهي من اصول الدين ، التي تحتاج إلى دليل قطعي.

وأمّا الثاني : فهو أنّ جواز التعبّد بالظنّ موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال إذ لا يؤمن أن يكون ما أخبر مثلاً بحلّيته حراماً وبالعكس.

أقول : كلامه هذا مبهم يحتاج إلى مزيد توضيح فنقول : إنّ تحليل الحرام أو تحريم الحلال اللازم من جواز التعبّد بالظنّ يستبطن بنفسه محاذير خمسة عقليّة :

أحدها : اجتماع النقيضين في صورة عدم إصابة الظنّ بالواقع ، واجتماع المثلين في صورة الإصابة ، وهذا بالنسبة إلى نفس الحكم.

ثانيها : اجتماع الضدّين في نفس المولى في صورة الخطأ وهو اجتماع الإرادة والكراهة لأنّ الأمر ينشأ من الإرادة والنهي ينشأ من الكراهة وهذا يكون بالنسبة إلى مبادىء الحكم.

ثالثها : اجتماع الضدّين من المصلحة والمفسدة في صورة الخطأ ، ويكون بالنسبة إلى متعلّق الحكم.

رابعها : التكليف بما لا يطاق ، لأنّ الحكم الواقعي يكلّف الإنسان بالفعل في مفروض الكلام ، والظاهري يكلّفه بالترك مثلاً ، والأمر بهما يستحيل على الحكيم الخبير.

خامسها : الإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحة في صورة الخطأ.

ولا يخفى أنّ جميع هذه المحاذير مبني على بقاء الحكم الواقعي في مورد الأمارة على قوّته كما هو الصحيح لأنّ ارتفاع الحكم الواقعي يستلزم التصويب الباطل عندنا.

ولقد حاول جميع العلماء بعد ابن قبّة رفع هذه المحاذير ، وكلّ سلك في حلّها طريقاً خاصاً ، وهذا هو الذي يسمّى عندهم بمسألة الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي.

ومن الطرق طريق المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، ومنها ثلاث طرق ذكرها في درر الفوائد التي حكى اثنين منها من استاذه السيّد السند المحقّق الفشاركي رحمه‌الله ، ومنها طريق المحقّق النائيني رحمه‌الله وطريق سادس ذكره في تهذيب الاصول ، وهيهنا طريق سابع يستفاد من كلمات شيخنا الأنصاري رحمه‌الله وهو المختار.

٢٧٢

ونحن نذكرها واحداً بعد واحد ثمّ نبيّن المختار في المقام ( وهو نفس ما يستفاد من كلمات شيخنا الأعظم ) :

١ ـ قال المحقّق الخراساني رحمه‌الله ما حاصله : أنّ أغلب هذه المحاذير نشأ من توهّم أنّ التعبّد بالأمارة واعتبار الأمارة شرعاً معناه أنّ للشارع أحكاماً ظاهريّة على طبق مؤدّياتها ، فإذا قامت الأمارة على وجوب شيء فيحكم الشارع ظاهراً بوجوب ذلك الشيء ، وإذا قامت على حرمة شيء فيحكم ظاهراً بحرمة ذلك الشيء وهكذا ، وبعبارة اخرى : أنّ هذه المحاذير نشأت من القول بجعل أحكام ظاهريّة على وفق مؤدّى الأمارة مع أنّنا لا نلتزم بإنشاء الأحكام الظاهريّة في مورد الأمارات بل المجعول فيها هو نفس المنجزيّة والمعذّريّة عند الإصابة والخطأ ، وهذا لا يستتبع إنشاء أحكام تكليفية ظاهريّة على طبق مؤدّيات الطرق في قبال الأحكام الواقعيّة كي يلزم منها اجتماع المثلين عند إصابة الأمارات ومطابقتها للواقع ، واجتماع الضدّين من إيجاب وتحريم وإرادة وكراهة ومصلحة ومفسدة بلا كسر وإنكسار في البين عند خطأ الأمارات ومخالفتها للواقع ، بل إنّما يلزم منها تنجّز التكليف الواقعي بقيام الأمارة المعتبرة عند اصابتها وصحّة الاعتذار بها عند خطأها.

نعم ، يبقى في البين إشكال واحد وهو تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة عند خطأ الأمارة ، وهذا ممّا لا محذور فيه إذا كان في التعبّد بالظنّ الذي إعتبره الشارع مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء كما لا يخفى.

أقول : الظاهر أنّ مراده من المصلحة الغالبة هو الوصول إلى الواقعيات غالباً مع تسهيل الأمر للمكلّفين ورفع التضييق عنهم ، فحيث إنّها كانت أهمّ بنظر الشارع من تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة عند خطأ الأمارة أحياناً قدّمها عليه.

ثمّ قال : هذا كلّه إذا كانت الحجّية بمعنى المنجّزيّة والمعذّريّة ولو فرضنا كونها بمعنى جعل الحكم المماثل فلا يلزم محذور أيضاً ، لأنّ هذه الأحكام المجعولة على طبق مؤدّيات الأمارات أحكام طريقيّة مقدّمة للوصول إلى الواقعيات لا توجب إلاّتنجّز التكليف إذا أصابت الواقع ، وصحّة الاعتذار إذا أخطأت ، من دون أن تكون ناشئة عن مصلحة أو مفسدة.

ثمّ إنّه قدس‌سره نظر إلى أنّ هذا البيان كلّه يصحّ بالنسبة إلى الأمارات ولكن الإشكال باقٍ بعدُ في بعض الاصول الشرعيّة مثل الإباحة الشرعيّة التي توجب جعل حكم ظاهري بلا ريب

٢٧٣

وليست طريقاً إلى الواقع ، لأنّ المفروض عدم كونها أمارة ، فقال ما نصّه : « فلا محيص في مثله ( بعض الاصول العمليّة كأصالة الإباحة الشرعيّة ) إلاّعن الالتزام بعدم إنقداح الإرادة أو الكراهة في بعض المبادىء العالية أيضاً كما في المبدأ الأعلى لكنّه لا يوجب الالتزام بعدم كون التكليف الواقعي بفعلي ، بمعنى كونه على صفة ونحوٍ لو علم به المكلّف لتنجّز عليه كسائر التكاليف الفعليّة التي تنجّز بسبب القطع بها ، وكونه فعلياً إنّما يوجب البعث والزجر في النفس النبويّة أو الأولويّة فيما إذا لم ينقدح فيها الإذن لأجل مصلحة ».

وحاصل ما أفاده : أنّ الحكم الواقعي في مورد هذه الاصول ليس فعليّاً تامّاً لأنّ الفعليّة موقوفة على حصول الإرادة وهو موقوف على عدم صدور إذن من جانب الشارع على الخلاف ، وإلاّ لو صدر إذن من ناحيته كما في الاصول العمليّة فالحكم فعلي تقديري ، بمعنى أنّه لو تعلّق به العلم أو قامت أمارة عليه لتنجّز ، بخلاف الإنشائي الذي لا تنجّز وإن تعلّق به العلم خارجاً ، وبهذا ترتفع المنافاة بين الحكم الواقعي والظاهري ، لأنّ الحكم الواقعي فعلي تقديري ، والحكم الظاهري فعلي تحقيقي ولا منافاة بينهما.

فظهر إلى هنا أنّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله اختار لحلّ إشكال الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ثلاثة طرق :

الأوّل : إنكار أن يكون مؤدّى الأمارة حكماً بل هو مجرّد المنجّزيّة والمعذّريّة.

الثاني : كونه حكماً طريقيّاً.

الثالث : أنّ الواقعي فعلي تقديري أي فعلي لولا الترخيص والإذن ، والظاهري فعلي مطلقاً.

ولا يخفى أنّ هذا الكلام منه مبني على ما ذهب إليه من أن للأحكام مراتب أربعاً كما مرّت الإشارة إليه منّا في باب اجتماع الأمر والنهي ، وكما أشار إليه في تعليقته على رسائل شيخنا الأعظم رحمه‌الله :

أحدها : الاقتضائيّة والشأنية ، وهي عبارة عن كون الشيء ذا ملاك يقتضي الحكم الفلان على طبق ذلك الملاك.

ثانيها : الحكم الإنشائي وهو عبارة عن إنشاء الحكم على طبق المصالح والمفاسد الكامنة في الأشياء ضرباً للقاعدة والقانون ، من دون أن يكون في البين إرادة أو كراهيّة فعلية.

ثالثها : الحكم الفعلي ، وهو عبارة عن تعلّق الإرادة الفعلية أو الكراهة الفعلية بشيء أي البعث والزجر.

٢٧٤

رابعها : مرتبة التنجّز وهي عبارة عن حكم العقل باستحقاق العقاب على مخالفة حكم المولى وعصيانه بعد وصوله إليه بعلم أو علمي.

هذا ـ وقد عرفت أنّه بعد تقسيمه الفعلي إلى الفعلي التامّ وغير التامّ ، أو الفعلي التقديري والفعلي المطلق صارت الأقسام خمسة.

ولكنك قد عرفت سابقاً أنّ مرتبة الاقتضاء ( التي يسمّيها بالحكم الاقتضائي أو الحكم الشأني ) ومرتبة التنجّز لا ينبغي أن يعدّا من الأحكام الشرعيّة ومجعولات الشارع ، لأنّ الحكم الاقتضائي والشأني ليس إلاّمجرّد اقتضاء الحكم وشأنيته له وليس هذا أمراً مجعولاً ، والتنجّز حكم عقلي لا حكم شرعي ، فإطلاق الحكم الشرعي عليهما لا يخلو من مسامحة ، فلم يبق للحكم إلاّمرتبتين : مرتبة الإنشاء ومرتبة الفعليّة.

نقد كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله :

وفي كلامه مواقع للنظر :

١ ـ إنّ ما ذكر من تفسير الحجّية بالمعذّريّة والمنجّزيّة خلاف ظاهر أدلّة حجّية الأمارات ، فإن المستظهر منها هو جعل الأحكام على وفق مؤدّيات الأمارات ، ويشهد لذلك فهم الفقهاء بأجمعهم وتعبيرهم في كتبهم الفقهيّة ورسائلهم العمليّة عن مفاد الأمارات بالوجوب والحرمة وغيرهما من الأحكام.

أضف إلى ذلك أنّ لحن بعض أدلّة الأمارات وتعبير الإمام عليه‌السلام فيها بحكم من الأحكام الخمسة بدلاً عن التعبير بالحجّية من أقوى الأدلّة على ذلك :

منها : ما ورد في باب حجّية أمارة السوق من ما رواه فضيل وزرارة ومحمّد بن مسلم أنّهم سألوا أبا جعفر عليه‌السلام عن شراء اللحوم من الأسواق ولا يدري ما صنع القصّابون فقال : « كُلْ إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه » (١).

وأيضاً ما رواه أبو نصر قال سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة أيصلّي فيها؟ فقال : « نعم ليس عليكم المسألة ... » (٢).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٦ ، كتاب الصيد والذباحة ، الباب ٢٩ ، ح ١.

(٢) المصدر السابق : أبواب النجاسات : الباب ٥٠ ، ح ٣.

٢٧٥

ومنها : ما ورد في باب حجّية خبر الواحد ممّا رواه حفص بن البختري عن أبي عبدالله عليه‌السلام في الرجل يشتري الأمة عن رجل فيقول : إنّي لم أطأها ، فقال : « إن وثق به فلا بأس أن يأتيها » (١).

فهذه الرّوايات تعبّر عن مفاد الأمارات بالحكم ( بقوله « كُل » و « يصلّي » و « يأتيها » ) مع أنّه بناءً على مبنى المحقّق الخراساني رحمه‌الله كان ينبغي أن يجيب الإمام عليه‌السلام في مقام الجواب بتعبير آخر من قبيل : « إذا كان حراماً فأنت معذور » مثلاً.

ولو سلّمنا عدمه بالدلالة المطابقية فلا أقل من أنّها تدلّ على حكم الترخيص بالالتزام كما هو مفاد الاصول الشرعيّة بلا ريب.

٢ ـ ما الفرق بين الفعلي التقديري والإنشائي؟ فإنّ الفعلي التقديري ليس هو إلاّ الحكم الإنشائي ، لأنّ في مورد الأمارة إذا لم ينقدح إرادة أو كراهة وبعث أو زجر بالنسبة إلى الحكم الواقعي فلا يتجاوز عن مرتبة الإنشاء ، وهذا ما سيأتي من ما ذهب إليه شيخنا الأنصاري رحمه‌الله في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري الذي لم يقبله هو ( أي المحقّق الخراساني رحمه‌الله ).

٣ ـ ( وهو العمدة في الإشكال عليه ) أنّ ما أجاب به عن إشكال تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة من وجود مصلحة غالبة ـ ينافي ما ذهب إليه من بقاء الحكم الواقعي على الفعليّة لأنّ فعلية الحكم تابعة للمصلحة الغالبة الأقوى فإذا كان مؤدّى الأمارة ذا مصلحة أقوى يكون مفادها هو الحكم الفعلي ، ويسقط الحكم الواقعي عن الفعلية نظير سقوط حرمة الدخول في الدار المغصوبة لإنقاذ الغريق ، لأنّ المصلحة الأقوى توجد في إنقاذ الغريق ، وهو رجوع إلى ما فرّ منه.

٤ ـ أنّه ليس لطريقية الحكم معنى محصّل ، لأنّ الطريق إنّما هو الظنّ أو القطع لا الحكم ، فالحكم الطريقي الذي أشار إليه في كلامه لا معنى له.

هذا كلّه في بيان ما اختاره المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الجواب عن إشكال ابن قبّة ونقده.

٢ ـ ما نسبه في الدرر إلى استاذه المحقّق السيّد محمّد الفشاركي قدس‌سره الشريف وحاصله : أنّ الموضوع في الحكم الظاهري غير الموضوع في الحكم الواقعي ، أي أنّهما حكمان

__________________

(١) وسائل الشيعة : ح ١ ، الباب ٦ ، من ابواب النكاح العبيد والاماء.

٢٧٦

على موضوعين مختلفين لا على موضوع واحد لكي يستلزم مثلاً اجتماع الضدّين أو المثلين. توضيح ذلك : أنّه لا إشكال في أنّ الأحكام لا تتعلّق ابتداءً بالموضوعات الخارجيّة بل إنّما تتعلّق بالمفاهيم المتصوّرة في الذهن لكن لا من حيث كونها موجودة في الذهن بل من حيث إنّها حاكية عن الخارج ، فالشيء ما لم تتصوّر في الذهن لا تتّصف بالمحبوبيّة والمبغوضيّة ، وهذا واضح ، ثمّ إنّ المفهوم تارةً يكون مطلوباً على نحو الإطلاق واخرى على نحو التقييد ، والإطلاق والتقييد عنوانان لا يجتمعان في الذهن في آنٍ واحد ، فإذا فرضنا كون صلاة الجمعة حراماً بمقتضى دلالة أمارة مع أنّها واجب في الواقع فموضوع الوجوب هو صلاة الجمعة المتصوّرة على نحو الإطلاق ، وأمّا موضوع الحرمة فهو صلاة الجمعة المتصوّرة على نحو التقييد ، أي صلاة الجمعة المشكوك حكمها الواقعي فهما في رتبتين متفاوتتين : رتبة التقسيمات الأوّليّة السابقة ، ورتبة التقسيمات الثانويّة اللاحقة ، والأوصاف المتأخّرة عن الحكم لا يمكن ادراجها في موضوعه ، وحينئذٍ إذا فرضنا بعد ملاحظة اتّصاف الموضوع بكونه مشكوك الحكم تحقّق جهة المبغوضيّة فيه ، فيصير مبغوضاً بهذه الملاحظة لا محالة ولا يزاحمها جهة المطلوبيّة الملحوظة في ذاته لأنّ الموضوع بتلك الملاحظة لا يكون متعقّلاً فعلاً ، لأنّ تلك الملاحظة ملاحظة لذات الموضوع مع قطع النظر عن الحكم ، وهذه ملاحظة مع الحكم.

فإن قلت : العنوان المتأخّر وإن لم يكن متعقّلاً في مرتبة تعلّق الذات ولكن الذات ملحوظة في مرتبة تعقّل العنوان المتأخّر ، فعند ملاحظة العنوان المتأخّر يجتمع العنوانان في اللحاظ ، فلا يعقل المبغوضيّة في الرتبة الثانية مع محبوبيّة الذات.

قلت : إن تصوّر ما يكون موضوعاً للحكم الواقعي الأوّلي مبني على قطع النظر عن الحكم ( أي بنحو الماهيّة بشرط لا ) وتصوّره بعنوان كونه مشكوك الحكم لابدّ وإن يكون بلحاظ الحكم ( أي بنحو الماهيّة بشرط شيء ) ولا يمكن الجمع بين لحاظ التجرّد عن الحكم ولحاظ ثبوته (١).

أقول : وكلامه أيضاً قابل للمناقشة من جهات :

أوّلاً : من ناحية اعترافه بأنّ المفاهيم المتصوّرة في الذهن تتعلّق بها الأحكام من حيث إنّها حاكية عن الخارج ـ فيرد عليه أنّه لا اعتبار بما في الذهن حينئذٍ بل الاعتبار كلّه بما هو في

__________________

(١) راجع درر الفوائد : ج ٢ ، ص ٣٥١ ـ ٣٥٣ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢٧٧

الخارج وهو المتعلّق للحبّ والبغض والإرادة والكراهة وفيه المصلحة والمفسدة لا في الذهن ، وهو ( أي ما في الخارج ) يكون واحداً لا اثنين ، وحينئذٍ يستلزم اجتماع الإرادة والكراهة في محلّ واحد ، كما أنّ المفسدة والمصلحة أيضاً متعلّقهما هو الخارج ، وهما لا يجتمعان في شيء واحد خارجي ، وقد مرّ نظير هذا الكلام في مبحث اجتماع الأمر والنهي ، وأجبنا عنه بهذا الجواب.

وثانياً : من ناحية قوله : « أنّ صلاة الجمعة بشرط لا بالنسبة إلى الانقسامات السابقة وبشرط شيء بالنسبة إلى الانقسامات اللاحقة ».

فيرد عليه : أنّ متعلّق الأحكام الواقعيّة كما أنّها لا تتقيّد بوجود الانقسامات اللاحقة فلا تكون بالنسبة إليها بشرط شيء ، كذلك لا تقبل التقييد بالنسبة إلى عدمها ، فلا تكون بشرط لا بالنسبة إليها أيضاً ، بل أنّها من قبيل اللاّبشرط المقسمي ، فيمكن أن يكون ذات الموضوع ( وهو عنوان الصّلاة مثلاً ) ملحوظة في مرتبة تعقّل العنوان المتأخّر ( وإن لم يمكن ملاحظة العنوان المتأخّر في مرتبة تعقّل ذاته ) فيجتمع العنوانان في اللحاظ فلا تعقل المبغوضيّة في الرتبة الثانية مع محبوبيّة الذات.

فبهذا يظهر أنّ ما ذكره أيضاً لا يكفي في حلّ مشكلة التضادّ لا في الخارج ولا في الذهن.

٣ ـ ما نسبه أيضاً في الدرر إلى المحقّق الفشاركي رحمه‌الله وهو « أنّ الأوامر الظاهريّة ليست بأوامر حقيقية بل هي إرشاد إلى ما هو أقرب إلى الواقعيات ، وتوضيح ذلك : ـ على نحو يصحّ في صورة انفتاح باب العلم ولا يستلزم تفويت الواقع من دون جهة ـ أن نقول : إنّ انسداد باب العلم كما أنّه قد يكون عقليّاً كذلك قد يكون شرعياً ، بمعنى أنّه وإن أمكن للمكلّف تحصيل الواقعيات على وجه التفصيل لكن يرى الشارع العالم بالواقعيات أنّ في التزامه بتحصيل اليقين مفسدة ، فيجب بمقتضى الحكمة دفع هذا الالتزام عنه ، ثمّ بعد دفعه عنه لو أحاله إلى نفسه يعمل بكلّ ظنّ فعلي من أي سبب حصل ، فلو رأى الشارع بعد أن صار مالك أمر المكلّف إلى العمل بالظنّ أنّ سلوك بعض الطرق أقرب إلى الواقع من بعض آخر فلا محذور في إرشاده إليه ، فحينئذٍ نقول : إمّا اجتماع الضدّين فغير لازم لأنّه مبني على كون الأوامر الطرقيّة حكماً مولويّاً ، وأمّا الإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحة فليس بمحذور بعد ما دار أمر المكلّف بينه وبين الوقوع في مفسدة أعظم » (١).

__________________

(١) درر الفوائد : ج ٢ ، ص ٣٥٤ ـ ٣٥٥ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢٧٨

وعمدة الإشكال في هذا الطريق إنّا لا نقبل كون المجعول في الأمارات حكماً إرشاديّاً إلى ما هو أقرب إلى الواقعيات لأنّه خلاف ظاهر أدلّة حجّية الأمارات كما مرّ آنفاً. مضافاً إلى ما مرّ من فهم الفقهاء وتعبيرهم عن مفاد الأمارات بحكم مولوي من وجوب وحرمة وغيرهما.

٤ ـ ما أفاده المحقّق الحائري رحمه‌الله بنفسه في الدّرر ، بقوله : « إنّ بطلان ذلك مبني على عدم جواز اجتماع الأمر والنهي لأنّ المورد من مصاديق ذلك العنوان فإنّ الأمر تعلّق بعنوان العمل بقول العادل مثلاً ، والنهي تعلّق بعنوان آخر مثل شرب الخمر ، وحيث جوّزنا الاجتماع وبيّناه في محلّه فلا إشكال هنا أيضاً ، لا يقال : جواز اجتماع الأمر والنهي على تقدير القول به إنّما يكون فيما تكون هناك مندوحة للمكلّف كالأمر بالصلاة والنهي عن الغصب لا فيما ليس له مندوحة ، وما نحن فيه من قبيل الثاني ، لأنّ العمل بمضمون خبر العادل مثلاً يجب عليه معيّناً حتّى في مورد يكون مؤدّى الخبر وجوب شيء مع كونه حراماً في الواقع بخلاف الصّلاة لعدم وجوب تمام أفرادها معيّناً بل الواجب صرف الوجود الذي يصدق على الفرد المحرم وعلى غيره ، لأنّا نقول : اعتبار المندوحة في تلك المسألة إنّما كان من جهة عدم لزوم التكليف بما لا يطاق ، وفيما نحن فيه لا يلزم التكليف بما لا يطاق من جهة عدم تنجّز الواقع ، فلم يبق في البين إلاّقضية اجتماع الضدّين والمثلين وهو مدفوع بكفاية تعدّد الجهة » (١).

ثمّ إستشكل على هذا الطريق بما حاصله : إنّ ما نحن فيه ليس من باب تعدّد الجهة والعنوان حتّى يكون من باب اجتماع الأمر والنهي لأنّ جعل الخبر طريقاً إلى الواقع معناه أن يكون الملحوظ في عمل المكلّف نفس العناوين الأوّليّة ، مثلاً لو قام الخبر على وجوب صلاة الجمعة في الواقع فمعنى العمل على طبقه أن يأتي بها على أنّها واجبة واقعاً ، فيرجع إيجاب العمل به إلى إيجاب الصّلاة على أنّها واجبة واقعاً ، فلو فرضنا كونها محرّمة في الواقع يلزم كون الشيء الواحد من جهة واحدة محرّماً وواجباً ، فليس من جزئيات مسألة اجتماع الأمر والنهي التي قلنا بكفاية تعدّد الجهة فيه.

أقول : ما أورده على هذا الطريق وارد جدّاً ، إلاّ أن هنا إشكالاً آخر يرد على ردّه ، وهو الذي نقله في ضمن كلامه ( أي ما ذكره في حكم المندوحة ) وهو أنّه إن كان المراد من عدم تنجّز

__________________

(١) درر الفوائد : ج ٢ ، ص ٣٥٥ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢٧٩

الواقع في جوابه كونه في مرتبة الإنشاء فقط فلا حاجة حينئذٍ إلى التمسّك بذيل باب اجتماع الأمر والنهي وتعدّد الجهتين لعدم المنافاة بين الحكم الإنشائي والحكم الفعلي ، وإن كان المراد كون الواقع فعلياً أيضاً فلا وجه لعدم كونه منجزاً لأنّ عدم التنجّز إنّما يكون لمانع عن الفعليّة كالعجز والجهل ، والمفروض عدمهما.

٥ ـ هو ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله وحاصله : أنّ الأحكام الظاهريّة على ثلاثة أقسام : الأمارات والاصول التنزيلية نحو الاستصحاب ، والاصول غير التنزيلية ، أمّا في الأمارات : فيرتفع الإشكال بأنّ الشارع لم يجعل فيها غير صفة المحرزيّة والوسطية في الإثبات شيئاً فلم يجعل فيها حكماً حتّى ينافي الحكم الواقعي وذلك لأنّ الأمارات إمضائيّة وليست عند العقلاء أحكام تكليفية ولازمه أن لا يكون بعد إمضاء الشرع للأمارات تكليفة ظاهريّة في مواردها. فحال الأمارات حال العلم الوجداني في أنّه ليس في موردها أحكام تكليفية.

وأمّا الاصول التنزيلية : فالمجعول فيها هو الوسطية في الإثبات من حيث الجري العملي مع أخذ الشكّ في موضوعها خلافاً للأمارات.

وأمّا الاصول غير التنزيلية : فليست ناظرة إلى الواقع أصلاً فلا يمكن أن يكون المجعول الوسطية في الإثبات بل لابدّ فيها من الالتزام بجعل الأحكام التكليفية فيها فلتوهّم لزوم اجتماع الضدّين حينئذٍ مجال ، وطريق دفعه أنّ الأحكام التكليفية فيها متأخّرة رتبة من التكاليف الواقعيّة فهي متفرّعة عليها وليس بينهما منافاة أصلاً فلا يكون بينهما تضادّ ، وهذا مراد سيّد أساتيذنا العلاّمة الشيرازي قدس‌سره من عدم كون الحكم الظاهري منافياً للواقع لترتّبه عليه (١).

نقد كلام المحقّق النائيني رحمه‌الله :

أقول : إنّ كلامه قابل للمناقشة بجميع أقسامه :

أمّا القسم الأوّل : فلأنّ القطع أمر تكويني غير قابل للجعل كالبرودة والحرارة وليس من قبيل الملكيّة والزوجيّة وغيرهما من المجعولات الاعتباريّة ، فلا يمكن للشارع أن يجعل ما

__________________

(١) راجع فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ١٠٥ ـ ١١٢ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢٨٠