أنوار الأصول - ج ٢

أنوار الأصول - ج ٢

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-14-8
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٥٠٤

عند المكلّف على نجاسة الغسالة وحرمة استعمالها ، يمتنع عليه أن يعقد القلب على خلافها أو يلتزم جدّاً على طهارته ، إلاّ أن يرجع إلى تخطئة الشارع ( والعياذ بالله ) وهو خارج عن المقام.

وبذلك يظهر أنّ وجوب الموافقة الالتزاميّة وحرمة التشريع لا يرجع إلى محصّل إن كان المراد من التشريع هو البناء والالتزام القلبي على كون حكم من الشارع مع العلم بأنّه لم يكن من الشرع ، أو لم يعلم كونه منه ، ومثله وجوب الموافقة وهو عقد القلب اختياراً على الاصول والعقائد والفروع الثابتة بأدلّتها القطعيّة الواقعيّة.

والحاصل أنّ التشريع بهذا المعنى أمر غير معقول بل لا يتحقّق من القاطع حتّى يتعلّق به النهي ، كما أنّ الاعتقاد بكلّ ما ثبت بالأدلّة أمر قهري تتبع مبادئها ويوجد غبّ عللها بلا إرادة واختيار ولا يمكن التخلّف عنها ولا للحاصل له مخالفتها ، فلا يصحّ تعلّق التكليف لأمر يستحيل وجوده ، أو يجب وجوده بلا إرادة واختيار » (١).

أقول : لا يخفى أنّ لازم ما أفاده في المقام عدم وجود موضوع للبحث هنا فينتفي بانتفاء موضوعه لأنّه أنكر إمكان تعلّق الوجوب بالالتزام القلبي ثبوتاً فلا تصل النوبة إلى مقام الإثبات والبحث في أنّه هل يكون الالتزام القلبي واجباً شرعاً أو لا؟

لكن الإنصاف هو إمكان التفكيك بين العلم والالتزام القلبي ثبوتاً وأنّه يوجد وراء العلم شيئاً آخر اختياريّاً يسمّى بالتسليم والالتزام القلبي ، وإن شئت فعبّر عنه بالإيمان مقابل الإسلام ، وقد بيّنه المحقّق الإصفهاني رحمه‌الله في كلامه (٢).

وتوضيحه : أنّه إذا تيقّن الإنسان بشيء يجد بوجدانه في قبال يقينه وعلمه أمرين مختلفين : أحدهما : التسليم الجوارحي ، والثاني : التسليم الجوانحي فربّما يحصل له التسليم الجوارحي ولا يحصل له التسليم القلبي والانقياد الجناحي وبالعكس فيعلم كثيراً ما مثلاً بأهلية شخص للرئاسة والمرجعية لكنّه لا ينقاد له قلباً ولا يقرّبه باطناً لخباثة نفسه أو لعدم كونه من قومه وقبيلته أو لجهة اخرى ، وإن كان في مقام العمل يتحرّك بحركته خوفاً من سوطه وسطوته ، ونحن نعتقد أنّه من هذا القبيل الكفر الجحودي فكثير من الكفّار الذين نطق القرآن بكفرهم كانوا عالمين بحقّانيّة القرآن ونبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومع ذلك لم يكونوا منقادين ، ولو كان ملاك الإيمان

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٤٥ ـ ٤٦ ، طبع جماعة المدرّسين.

(٢) راجع نهاية الدراية : ج ٢ ، ص ٢٦ ، الطبع القديم.

٢٤١

الحقيقي نفس العلم لزم أن يكونوا مؤمنين به وأن يكون الشيطان أو فرعون مثلاً أظهر مصاديق المؤمن من أنّ كفرهم ممّا لا ينكره أحد ، ومن هنا يكون المراد من الجحود في قوله تعالى : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ) الجحد القلبي لا أنّهم جحدوا لفظاً وعملاً.

والعجب من تهذيب الاصول حيث إنّه مع ما ذهب إليه من عدم كون الالتزام القلبي اختياريّاً صرّح في ذيل كلامه بانفكاك العلم عن الإيمان وقال : « إنّ الإيمان ليس مطلق العلم الذي يناله العقل ويعدّ حظّاً فريداً له » ولم يبيّن أنّه كيف لا يلزم من عدم كون العلم عين الإيمان كون الالتزام والانقياد اختياريّاً بل قال : « وبما أنّ المقام لا يسع طرح تلك الأبحاث فليراجع من أراد التفصيل إلى محالّه » (١).

وكيف كان ، فإنّ عدم كون الإيمان والالتزام القلبي اختياريّاً ينافي ظاهر كثير من الرّوايات والآيات كالتي تأمر بالإيمان وتعلّق الأمر فيها بالتسليم القلبي كقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) ولو لم يكن الإيمان والتسليم أمراً اختياريّاً يكون هذا القبيل من الأوامر تكليفاً بما لا يطاق ، والقول بأنّها محمولة على تحصيل مبادئه وأسبابه تكلّف لا وجه له.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ محلّ البحث أنّه إذا علمنا بوجود شيء فهل يتصوّر فعل قلبي وراء العلم أو لا؟ فإن قبلنا وجود ذلك الفعل فيعقل ويتصوّر البحث عن وجوب الالتزام القلبي وعدمه وإلاّ فلا ، وقلنا أنّ الوجدان حاكم على وجود أمر آخر قلبي يسمّى بالالتزام والتسليم القلبي وهو المستفاد من ظاهر الآيات والرّوايات ، ومن هنا يعلم أنّ حقيقة التشريع هي الالتزام القلبي على كون حكم من الشارع مع العلم بأنّه لم يكن من الشرع أو مع عدم العلم بكونه منه.

هذا كلّه في إمكان تعلّق الوجوب على الالتزام وعدمه.

المقام الثاني : في أنّه بعد قبول إمكان تعلّق الوجوب ثبوتاً فهل يكون واجباً إثباتاً أو لا؟

فنقول : لا دليل لنا على وجوب الالتزام في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة تفصيلاً لا عقلاً ولا نقلاً وإن كان واجباً في الاصول الاعتقاديّة.

أمّا عقلاً فلأنّ العقل والعقلاء لا يحكمون باستحقاق العبد للعقوبة على ترك الالتزام القلبي

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ص ٤٩ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢٤٢

في الأحكام الفرعيّة ، ولا يحكمون فيما إذا أتى العبد بالعمل ولم يلتزم قلباً لا بوجوبه ولا بحرمته بأنّه هاتك للمولى.

وأمّا نقلاً فلعدم وجود رواية تدلّ على وجوب الموافقة الالتزاميّة ، ومع عدمه والشكّ في الوجوب تصل النوبة إلى البراءة ، نعم مقتضى أدلّة الإيمان بالنبوّة هو الإيمان بالأحكام الفرعيّة التي جاء بها النبي إجمالاً ، وهذا غير وجوب الالتزام القلبي بها تفصيلاً ، وخارج عن محلّ الكلام ، وممّا يؤيّد هذا المعنى غفلة عامّة الناس عن هذا الالتزام التفصيلي ، ولو كان واجباً لكان على الشارع البيان.

المقام الثالث في ثمرة المسألة : وليعلم أنّ المسألة ليست لها ثمرة في الاصول ، وإن كان قد يمنع ذلك من إجراء الاصول في أطراف العلم الإجمالي على بعض الاحتمالات ، بل تظهر ثمرتها في الفقه بلا واسطة ، فإنّ تعلّق العلم بحكم تفصيلاً كالعلم بوجوب الصّلاة وجب الالتزام به قلباً إن قلنا بوجوب الموافقة الالتزاميّة ولا يجب إن قلنا بعدمه ، وإن تعلّق العلم بحكم إجمالاً وجب الالتزام القلبي به كذلك إن قلنا بوجوبه كالعلم الإجمالي بوجوب صلاة الجمعة أو صلاة الظهر ، وذلك لعدم القدرة حينئذٍ على الالتزام التفصيلي ، وهكذا لو تعلّق العلم بما يدور بين المحذورين ، كما إذا علمنا بأنّ صلاة الجمعة إمّا حرام أو واجب ، فيكون الالتزام القلبي حينئذٍ مثله.

هذا كلّه بالنسبة إلى الحكم الواقعي ، وكذلك إذا كان الحكم ظاهريّاً كوجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي كمثال الواجب يوم الجمعة إذا دار أمر الوجوب بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر ، وكالحكم بالتخيير فيما إذا دار الحكم بين الوجوب والحرمة ، وبما أنّ العلم بهذا الحكم الظاهري يكون تفصيلياً يجب الالتزام به تفصيلاً ، فيكون الالتزام الواجب في مثل هذه الموارد قسمان : أحدهما : تفصيلي ، وهو الالتزام بالحكم الظاهري المعلوم تفصيلاً ، والآخر : إجمالي وهو الالتزام بالحكم الواقعي المعلوم إجمالاً.

ولا منافاة بينهما لعدم المنافاة بين الحكم الواقعي والظاهري كما سيأتي في محلّه إن شاء الله.

وبهذا يظهر ضعف ما قيل : بأنّ ثمرة المسألة تظهر في المسألة الاصوليّة ، وهي جريان الاصول في موارد التخيير ، فإذا قلنا بعدم وجوب الالتزام القلبي بالحكم الواقعي فلا مانع من جريان البراءة عن الوجوب والبراءة عن الحرمة في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة مثلاً ، لأنّ جريانها إنّما يستلزم المخالفة العلميّة الالتزاميّة فقط ، والمفروض عدم وجوبها ، وأمّا إن قلنا

٢٤٣

بوجوب الالتزام القلبي فلا يمكن جريان الاصول من ناحية لزوم الالتزام والموافقة العلميّة بالحكم الواقعي.

ووجه الضعف : إنّ لنا في المقام التزاماً قلبياً إجمالياً بالحكم الواقعي ، وهو باقٍ على قوّته ، والتزاماً قلبياً تفصيلياً بالحكم الظاهري ، وهو البراءة ، وهو أيضاً باقٍ على حاله ، ولا منافاة بينهما كما سيأتي إن شاء الله.

بقي هنا شيء :

وهو أنّ الالتزام القلبي ممّا لابدّ منه في الأحكام التعبّديّة التي يعتبر فيها قصد القربة ، سواء قلنا بوجوبه أو لم نقل ، وذلك لوجود الملازمة بين قصد القربة والالتزام القلبي وعدم انفكاك الأوّل عن الثاني ، فلا معنى لوجوبه ذاتاً ومستقلاً ، وحينئذٍ لا يجري البحث عن وجوبه وعدمه.

نعم ، هذا بالنسبة إلى حين العمل والامتثال ، وأمّا بالنسبة إلى خارج وقت العمل فلا إشكال في جريان البحث أيضاً فإذا علمنا بوجوب الصّلاة سواء حضر وقتها أم لا فهل يجب الالتزام بوجوبها قلباً أو لا؟

وكذلك يجري البحث على مستوى العمل من ناحية ترتّب عقاب واحد على ترك قصد القربة أو عقابين ، فإن كان الالتزام واجباً مستقلاً فيترتّب على الترك عقابان ، وإن لم يكن الالتزام واجباً ذاتاً فيترتّب على الترك عقاب واحد.

المسألة السادسة : في قطع القطاع

ينقسم الناس من حيث قطعهم بالأشياء إلى ثلاثة أقسام :

الأوّل : من يكون قطعه متعارفاً ، فيقطع بالشيء فيما إذا حصلت مبادئه العقليّة وأسبابه العادية.

الثاني : القطّاع وهو من يقطع بدون تحقّق أسبابه المتعارفة.

الثالث : الوسواس وهو لا يقطع حين تحقّق تلك الأسباب.

٢٤٤

أمّا القطاع ، فتارةً يبحث فيه عن عدم حجّية قطعه بالنسبة إلى القطع الطريقي ، واخرى بالنسبة إلى القطع الموضوعي ، أمّا عدم حجّية قطعه بالنسبة إلى القطع الموضوعي فاللازم فيه ملاحظة ظواهر الأدلّة التي أخذ القطع فيها في الموضوع وإنّها هل تشمل قطع القطّاع أيضاً أو لا؟

فنقول : الظاهر إنصرافها عن قطع القطاع وإنّ القطع المأخوذ في موضوعها هو القطع الحاصل من الأسباب المتعارفة لا الحاصل من أي سبب كان.

أمّا القطع الطريقي ، فلا إشكال في حجّيته في قطع القطاع بالنسبة إلى حين القطع لأنّها كما مرّ سابقاً ذاتي للقطع لا يمكن أن يتخلّف عنه سواء كان قطع القطاع أو غيره ، ومن أي سبب حصل ، ولأيّ شخص كان ، فالقطاع في حالة قطعه لا يمكن نهيه وسلب الحجّية عن قطعه ، وأمّا بالنسبة إلى ما بعد زوال قطعه أو زوال حالة القطاعيّة فلا إشكال أيضاً في إمكان نهيه عن ترتيب الآثار على قطعه وأمره بقضاء ما لم يأت به ، لقطعه بعدم وجوبه أو عدم حصول شرائط الوجوب مثلاً.

هذا بالنسبة إلى مقام الثبوت ، وأمّا مقام الإثبات فإذا انكشف الخلاف فقد مرّ في مبحث الإجزاء عدم إجزاء الأحكام الظاهريّة العقليّة ووجوب القضاء عليه ، وإذا لم ينكشف وشكّ في صحّة عمله فهل يمكن إجراء قاعدة الفراغ أو لا؟ الحقّ عدم شمولها للمقام لانصرافها إلى غيره ، ولما ورد فيها من التعليل بأنّه « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » المعلوم عدم شموله للمقام.

هذا كلّه بالنسبة إلى القطع الحقيقيى ، أمّا القطع العرفي المسمّى بالاطمئنان الذي قد مرّ أنّه الغالب في العلوم والآراء العلميّة فحيث أنّه يجتمع مع احتمال الخلاف يمكن النهي عنه في القطّاع أو غيره وسلب الحجّية عنه حين القطع.

فتلخّص من جميع ما ذكر إمكان المنع عن العمل بقطع القطاع في ثلاثة موارد :

١ ـ القطع الموضوعي.

٢ ـ القطع الطريقي العرفي.

٣ ـ القطع الطريقي الحقيقي بالنسبة إلى حال زوال القطع أو حال زوال هذه الصفة أي كونه قطاعاً ، ولا يمكن سلبها عنه في مورد واحد ، وهو القطع الطريقي الحقيقي حين القطع ، هذا كلّه في القطاع.

٢٤٥

أمّا الوسواس فأحكامه تشبه أحكام القطّاع لأنّ كلّ واحد منهما خارج عن حدّ الاعتدال ، إنّما الفرق بينهما أنّ أحدهما داخل في جانب الافراط والآخر في جانب التفريط ، فكما أنّ الأدلّة التي كان القطع فيها مأخوذاً في الموضوع كانت منصرفة عن قطع القطاع كذلك منصرفة عن قطع الوسواس ، فإذا كان مفاد دليل : « إذا قطعت بنجاسة ثوبك يجب تحصيل القطع بطهارته » فهو منصرف إلى القطع المتعارف وغير شامل للوسواس ، فلا يجب عليه تحصيل القطع بطهارة ثوبه ، وهكذا بالنسبة إلى القطع الطريقي فلا يمكن منعه وسلب الحجّية عن قطعه في حال قطعه ، كما إذا قطع بنجاسة جميع المياه الموجودة في بلده ، فصار بناءً على قطعه هذا فاقداً للماء ، فتيمّم لصلاته ، فلا يمكن منعه في حال قطعه ، وأمّا بالنسبة إلى ما بعد زوال قطعه أو زوال حالة الوسوسة فلا إشكال أيضاً في إمكان سلب الحجّية عن قطعه السابق وأمره بالقضاء ثبوتاً ، وبالنسبة إلى مقام الإثبات أيضاً يجري هنا جميع ما مرّ في قطع القطاع من عدم الاجزاء وعدم جريان قاعدة الفراغ.

المسألة السابعة : هل القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة ، هو حجّة؟

قد مرّ في ما تقدّم أنّ القطع الطريقي حجّة ، والحجّية ذاتيّة له ، وقلنا إنّه بحسب الحقيقة ليس طريقاً للوصول إلى الواقع بل هو نفس الوصول إلى الواقع والمشاهدة له سواء كان قطع القطاع أو غيره ، ومن أي سبب حصل ، ولأي شخص كان وفي أي مورد من موارد الفقه.

لكن نسب إلى الأخباريين إنكار حجّية القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة وعدم عدّ العقل من الأدلّة الشرعيّة ، والذي يظهر من كلماتهم امور : أحدها : إنكار الملازمة بين حكم العقل والشرع ، والثاني : عدم حصول القطع من المقدّمات العقليّة ، والثالث : منع الشارع عن الرجوع إليها وإن حصل منها القطع ، هذا من أهمّ وجوه الاختلاف بين المسلكين ( المسلك الأخباري ومسلك الاصولي ) ولازمها سقوط دليل العقل من بين الأدلّة الأربعة الشرعيّة ، فصارت الأدلّة عندهم ثلاثة بل صارت دليلاً واحداً لعدم أخذهم بالكتاب بغير طريق السنّة وعدم اعتمادهم على الإجماع إذا لم يكن في المجمعين معصوم.

٢٤٦

أمّا المقام الأوّل : أي إنكار الملازمة بين حكم العقل والشرع فيتصوّر فيه احتمالات أربع ، لتعيين مرادهم :

الأوّل : أن يكون المقصود إنكار الحسن والقبح العقليين.

الثاني : إنكار كبرى الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي في سلسلة التشريع.

الثالث : إنكاره قدرة العقل على إدراك المصالح والمفاسد.

الرابع : عدم قدرته على إدراك الموانع والمعارضات.

أمّا الاحتمال الأوّل ، وهو عزل العقل بالمرّة عن إدراك الحسن والقبح كما ذهب إليه الأشاعرة فيردّه بداهة العقل ، ومراجعة الوجدان أدلّ دليل على إدراك العقل للحسن والقبح ، حيث لا إشكال في أنّ العقل يحكم بحسن بعض الأفعال كالإحسان وإعانة المظلوم وإغاثة الملهوف ، وقبح بعضها الآخر كالظلم وقتل النفوس الأبرياء والتجاوز على الحقوق والأموال المحترمة.

أمّا الاحتمال الثاني ( وهو إنكار حكم العقل بالملازمة بين ما استقلّ العقل بحسنه ووجود المصلحة الملزمة فيه وبين حكم الشارع بوجوبه ، وهكذا بين ما إستقلّ بقبحه ووجود المفسدة وبين حكم الشارع بحرمته ) فقد نقل المحقّق النائيني رحمه‌الله عن صاحب الفصول وجوهاً لعدم الملازمة :

أحدها : وجود الأوامر الإمتحانية في الشرع مع عدم وجود الملاك في متعلّقاتها ، فيمكن وجود الحكم الشرعي مع عدم وجود الحكم العقلي لعدم الملاك والمصلحة في مورده.

وجوابه : أنّ مورد البحث في المقام هو الأوامر الجدّية غير الإمتحانية.

ثانيها : موارد التقيّة إذا كانت في نفس الحكم دون المتعلّق كما إذا أمر الإمام عليه‌السلام بشيء لحفظ دم نفسه سلام الله عليه بنفس الأمر من دون أن يكون هناك مصلحة في المأمور به فقد تخلّف الحكم عن الملاك.

وفيه : ما مرّ من الجواب عن الوجه الأوّل من أنّ مورد البحث ما إذا كان الأمر بداعي الجدّ ، وإن شئت قلت : أنّ المصلحة إذا كانت في نفس الإنشاء بأن تكون التقيّة في نفس الأمر لا أن تكون التقيّة في المأمور بها ، فهو لا يكون بأمر حقيقة بل هو مجرّد تكلّم بلفظ ، والمصلحة في نفس التكلّم ، وأين ذلك من تخلّف الحكم عن الملاك؟

٢٤٧

ثالثها : أنّه لا ريب في أنّ الملاك ربّما يكون في بعض الأفراد دون بعض ، ومع ذلك يجعل الحكم على كلّي يشملهما ، وهذا كما في باب العدّة ، فإنّ مصلحة حفظ الأنساب وعدم اختلاط المياه اقتضت تشريع حكم العدّة مطلقاً حتّى فيما لا يلزم فيه من عدم العدّة اختلاط المياه فقد تخلّف الحكم في تلك الموارد عن الملاك.

وجوابه : أنّ المصلحة على قسمين : مصلحة نفس الحكم التي يمكن أن يكون نوعيّة غالبية ولا تكون موجودة في جميع الأفراد والمصاديق ، ومصلحة كلّية الحكم ، فيمكن أن لا يوجد في فرد مصلحة نفس الحكم ، وفي نفس الحال لا يستثنى ولا يخصّص ذلك الفرد لوجود المصلحة الثانية ، أي مصلحة كلّية الحكم فيه ، وذلك مثل حرمة الخمر الجارية في جميع مصاديقها مع أنّ مفسدتها وهي السكر لا يوجد في قطرة واحدة منها مثلاً ، ومع ذلك يكون شربها حراماً حفظاً لكلّية الحكم ، وأين ذلك من الالتزام بعدم تبعية الحكم للملاك كما هو المدّعى؟

رابعها : أنّه لا ريب في أنّ الملاك والمصلحة في العبادات إنّما يترتّب على إتيانها بقصد قربى لا على مجرّد وجوداتها في الخارج ، ومن المعلوم أنّ الأوامر فيها لا تتعلّق إلاّبأنفسها لما ذكر في محلّه من عدم جواز قصد القربة في متعلّق الأمر ، فما فيه الملاك يستحيل تعلّق الأمر به ، وما تعلّق به الأمر لا يكون واجداً للملاك على الفرض.

وجوابه : أنّه قد مرّ في محلّه إمكان أخذ قصد القربة في المأمور به بلا إشكال فراجع.

خامسها : أنّه ثبت لنا في الشريعة موارد لم يحكم الشارع فيها على طبق الملاكات الموجودة فيها كما هو مقتضى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « لولا أن أشقّ على امّتي لأمرتهم بالسواك » بل أمرنا بالسكوت فيما سكت الله عنه في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « اسكتوا عمّا سكت الله عنه فإنّ الله لم يسكت عنها نسياناً الخ » فإذا أمكن تخلّف الحكم الشرعي عن الملاك ولو في مورد واحد فبمجرّد إدراك العقل لحسن شيء أو قبحه لا يمكن استكشاف الحكم الشرعي في ذلك المورد بل لابدّ من السكوت فيه.

وجوابه واضح : لأنّ المقصود في هاتين الروايتين أنّ عدم الحكم الشرعي مع وجود الملاك يكون لوجود مصلحة أهمّ التي تمنع عن الحكم ، وإن شئت قلت : إنّ مصلحة الحكم هنا معارضة مع مفسدة العسر والحرج وأشباهه ، وبعبارة اخرى : أنّ محلّ الكلام إنّما هو في مورد لا يتطرّق فيه احتمال المزاحم مثل المشقّة ونحوها ، إذ معه لا يمكن استقلال العقل حتّى يستكشف منه الحكم الشرعي.

٢٤٨

إذا عرفت عدم صحّة الوجوه التي استدلّ بها لعدم وجود الملازمة فنقول : دليلنا على الملازمة وعلى أنّ

الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد أمران :

الأوّل : أنّ العقل يحكم بأنّه قبيح على الحكيم أن يأمر بغير مصلحة وينهى بغير مفسدة.

الثاني : الآيات والرّوايات التي علّلت الأحكام وإشارات إلى مصالحها أو مفاسدها : فمن الآيات قوله تعالى في الصّيام : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (١) وقوله في الحجّ : ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) (٢) وقوله في الزّكاة : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ) (٣) وقوله في الصّلاة : ( إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (٤) وقوله في القصاص : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (٥) وقوله في الجهاد : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) (٦).

ومن الرّوايات ما ورد في رواية تحف العقل وحاصله : أنّ كلّ ما هو مأمور به على العباد وقوام لهم في امورهم من وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره ممّا يأكلون ويشربون ويلبسون وينكحون ويملكون ويستعملون فهذا كلّه حلال بيعه وشراؤه وهبته وعاريته ، وكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا قد نهى عنه من جهة أكله وشربه ولبسه ... فحرام ، هذا هو المستفاد من مجموع ما ورد في تلك الرّواية الطويلة ، فإنّ هذه الرّواية تنادي بأعلى صوتها بأنّ الحلال تابع للمصلحة والحرام تابع للمفسدة وكذلك غيرها من الرّوايات الكثيرة المذكورة في كتاب علل الشرائع وغيره.

أمّا الاحتمال الثالث ( وهو أن يكون المراد إنكار قدرة العقل على إدراك المصالح والمفاسد ) والاحتمال الرابع ( وهو أن يكون مرادهم عدم إدراك العقل لموانعها ومعارضاتها ) فجوابهما واضح لأنّه لا إشكال في أنّ العقل ولو بنحو الموجبة الجزئيّة يمكن أن يدرك المصالح الملزمة

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٨٣.

(٢) سورة الحجّ : الآية ٢٨.

(٣) سورة التوبة : الآية ١٠٣.

(٤) سورة العنكبوت : الآية ٤٥.

(٥) سورة البقرة : الآية ١٧٩.

(٦) سورة البقرة : الآية ٢١٦.

٢٤٩

وحسن الأشياء أو المفاسد وقبحها لما مرّ من حكمه بحسن الإحسان وإعانة المظلومين وقبح الظلم وقتل النفس المحترمة ، والمنكر ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان.

هذا كلّه هو المقام الأوّل ، وهو إنكارهم الملازمة بين حكم العقل والشرع.

أمّا المقام الثاني : وهو عدم حصول القطع من المقدّمات العقليّة النظريّة فنسب إلى بعض الأخباريين أنّه لا يحصل القطع من المقدّمات العقليّة لكثرة وقوع الخطأ فيها.

والجواب عنه :

أوّلاً : أنّ ما ذهبوا إليه بنفسه دليل وبرهان عقلي اقيم على نفي العقل.

ثانياً : أنّه ينتقض بوقوع الخطأ والاختلاف الكثير بين الذين لا يعتمدون إلاّعلى الأدلّة النقليّة ، وحيث إن بعضهم تفطّن لذلك ـ أجاب عنه بأنّه إنّما نشأ ذلك من ضمّ مقدّمة عقليّة باطلة بالمقدّمة النقليّة الظنّية أو القطعيّة ، ولكنّه خلاف الإنصاف لانتقاضه بوقوع الاختلاف بين الأخباريين المنكرين لحجّية العقل أيضاً فإنّهم كثيراً ما يختلفون في ظهورات الأدلّة النقليّة واستظهاراتهم منها.

ثالثاً : أنّ هذا أيضاً خروج عن المفروض في محلّ النزاع لأنّ البحث هنا في حجّية القطع على فرض حصوله من المقدّمات العقليّة.

رابعاً : أنّ عزل العقل عن الإدراك والحجّية بالمرّة يوجب سدّ باب إثبات الصانع وسائر الاصول الاعتقاديّة ، وإثباتها بالأدلّة النقليّة دور واضح.

ثمّ إنّ للمحدّث الاسترابادي رحمه‌الله في المقام كلاماً لإثبات عدم حصول القطع من المقدّمات العقليّة ، ونقله شيخنا الأعظم رحمه‌الله في رسائله ، وحاصله ببيان منّا : أنّ العلوم مطلقاً على ثلاثة أقسام :

الأوّل : ما ينتهي إلى الحسّ كالعلوم التجربيّة.

الثاني : ما ينتهي إلى مادّة هي قريبة من الإحساس ، ومن هذا القسم علم الهندسة والحساب وأكثر أبواب المنطق.

الثالث : ما ينتهي إلى مادّة بعيدة عن الإحساس ومن هذا القسم الحكمة الإلهية والطبيعية وعلم الكلام وعلم اصول الفقه والمسائل النظريّة الفقهيّة وبعض القواعد المذكورة في كتب المنطق.

٢٥٠

ومن المعلوم عدم وقوع الخلاف بين العلماء أو الخطأ في نتائج الأفكار في القسمين الأوّلين ، بخلاف القسم الثالث حيث وقعت الاختلافات والمشاجرات الكثيرة الشديدة بين الفلاسفة في الحكمة الإلهية والطبيعية وبين علماء الإسلام في اصول الفقه ومسائل الفقه وعلم الكلام وغير ذلك ، والسبب في ذلك بُعد هذه العلوم عن الإحساس فلا بدّ في إثباتها من المنطق ، والقواعد الفقهيّة عاصمة من الخطأ من جهة الصورة لا من جهة المادّة.

ويمكن أن نضيف إلى ما ذكره : أنّ العلم الإجمالي بوقوع الخطأ في هذا القسم مانع عن حصول القطع في مسائله ، لأنّ الموجبة الكلّية لا تجتمع مع السالبة الجزئيّة كما مرّ ، وهذا يقتضي أن يتبدّل علمنا التفصيلي بكلّ واحد من تلك المسائل إلى الظنّ ويرجع هذا إلى عدم حجّية إدراكات العقل في غير المحسوسات وما تكون مبادئه قريبة من الإحساس.

والمحقّق الخراساني رحمه‌الله تجاوز هذا الوجه إتّكالاً على أنّ النزاع مع هذا المحدّث نزاع صغروي ، لكننا نعتقد بأهميّته لأنّه على أي حال سواء كان النزاع في الصغرى أم في الكبرى يوجب عزل العقل بالمرّة عن الإدراك والحجّية ، فلا بدّ من حلّه والجواب عنه.

فنقول يرد عليه :

أوّلاً : إنّ ما ذهب إليه من عدم وقوع الخطأ في الحسيّات وما ينتهي إلى مادّة قريبة من الإحساس ممنوع بالوجدان لوقوع الخطأ الكثير في المبصرات والمسموعات وغيرها الحواس ، فيقطع الإنسان مثلاً بوصول الماء إلى البشرة في الوضوء ثمّ ينكشف خلافه تفصيلاً أو إجمالاً ، وهكذا في الرياضيات فينكشف الخلاف مثلاً في جمعه وتفريقه وإن لم يظهر الخطأفي قواعده.

ثانيا : أنّ كلامه يوجب بطلان نفسه ، لأنّ استدلاله ليس من الحسّيات ولا من الرياضيات بل داخل في القسم الثالث الذي لا يحصل القطع فيه عنده.

ثالثاً : ما مرّ سابقاً من أنّ القطع الحقيقي وإن لم يكن في بعض العلوم النظريّة إلاّ أنّه لا إشكال في حصول القطع العادي العرفي الذي استقرّت سيرة العقلاء على حجّيته وقد أمضاها الشارع أيضاً.

هذا كلّه في المقام الثاني.

أمّا المقام الثالث : فهو في روايات استدلّوا بها على عدم حجّية العقل ، وهي المهمّ في المقام

٢٥١

بل هو الأساس في إنكارهم حجّية العقل وهي على طوائف :

الطائفة الاولى : ما تنهى عن العمل بالرأي ، وفسّر الرأي عندهم بحكم العقل.

الطائفة الثانية : ما تدلّ على غاية بعد العقول عن دين الله.

الطائفة الثالثة : ما تدلّ على أنّ المدرك الوحيد للأحكام هو روايات أهل البيت عليهم‌السلام.

أمّا الطائفة الاولى : النهي عن العمل بالرأي

فمنها : ما روي عن أبي جعفر عليه‌السلام : « من أفتى الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضادّ الله حيث أحلّ وحرّم فيما لا يعلم » (١).

ومنها : ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في كلام له : إنّ المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه ولكن أتاه من ربّه فأخذ به (٢).

ومنها : ما رواه غياث بن إبراهيم عن الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال في كلام له : « الإسلام هو التسليم ـ إلى أن قال ـ أنّ المؤمن أخذ دينه عن ربّه ولم يأخذه عن رأيه » (٣).

ومنها : ما رواه في الاحتجاج عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنّه قال لأبي حنيفة في احتجاجه عليه في إبطال القياس : « أيّما أعظم عندالله؟ القتل؟ أو الزنا؟ قال بل القتل فقال عليه‌السلام : فكيف رضى في القتل بشاهدين ولم يرض في الزنا إلاّبأربعة؟ ثمّ قال له : الصّلاة أفضل أم الصّيام؟ قال : بل الصّلاة أفضل قال عليه‌السلام فيجب على قياس قولك على الحائض قضاء ما فاتها من الصّلاة في حال حيضها دون الصّيام وقد أوجب الله عليها قضاء الصّوم دون الصّلاة ، ثمّ قال له : البول أقذر أم المني؟ فقال البول أقذر فقال : يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول دون المني ، وقد أوجب الله تعالى الغسل من المني دون البول ـ إلى أن قال عليه‌السلام : تزعم أنّك تفتي بكتاب الله ولست ممّن ورثه وتزعم أنّك صاحب قياس ، وأوّل من قاس إبليس ولم يُبْنَ دين الله على القياس وزعمت أنّك صاحب رأي وكان الرأي من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله صواباً ومن غيره خطأً لأنّ

__________________

(١) وسائل الشيعة : ح ١٢ ، من الباب ٦ ، من أبواب صفات القاضي.

(٢) المصدر السابق : ح ١٤.

(٣) المصدر السابق : ح ٢١.

٢٥٢

الله تعالى قال : ( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ ) ولم يقل ذلك لغيره » (١). الحديث.

ومنها : ما رواه يحيى البكّاء عن علي عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ستفترق امّتي على ثلاث وسبعين فرقة منها ناجية والباقون هالكون والناجون الذين يتمسّكون بولايتكم ، ويقتبسون من علمكم ولا يعملون برأيهم فاولئك ما عليهم من سبيل » (٢). الحديث.

ومنها : ما رواه معاوية بن ميسرة بن شريح قال : شهدت أبا عبدالله عليه‌السلام في مسجد الحنيف وهو في حلقة فيها نحو من مائتي رجل وفيهم عبدالله بن شبرمة فقال له : يا أبا عبدالله إنّا نقضي بالعراق فنقضي بالكتاب والسنّة ثمّ ترد علينا المسألة فنجتهد فيها بالرأي ـ إلى أن قال ـ : فقال أبو عبدالله عليه‌السلام : فأيّ رجل كان علي بن أبي طالب عليه‌السلام؟ فأطراه ابن شبرمة وقال فيه قولاً عظيماً. فقال له أبو عبدالله عليه‌السلام : « فإنّ علياً أبى أن يدخل في دين الله الرأي وأن يقول في شيء من دين الله بالرأي والمقاييس ـ إلى أن قال ـ : لو علم ابن شبرمة من أين هلك الناس ما دان بالمقاييس ولا عمل بها » (٣).

ومنها : ما رواه طلحة بن زيد عن أبي عبدالله عن أبيه عليه‌السلام قال ، قال : أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لا رأي في الدين » (٤).

ومنها : ما رواه أبو بصير قال قلت لأبي جعفر عليه‌السلام ترد علينا أشياء لا نجدها في الكتاب والسنّة فنقول فيها برأينا فقال : « أما إنّك إن أصبت لم تؤجر وإن أخطأت كذبت على الله » (٥).

ومنها : ما رواه زيد في حديث أنّه لمّا نزل قوله تعالى : « إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ » السورة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الله قضى الجهاد على المؤمنين في الفتنة بعدي ـ إلى أن قال ـ : يجاهدون على الأحداث في الدين إذا عملوا بالرأي في الدين ولا رأي في الدين إنّما الدين من الربّ أمره ونهيه » (٦).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ح ٢٨ ، الباب ٦ ، من أبواب صفات القاضي.

(٢) المصدر السابق : ح ٣٠.

(٣) المصدر السابق : ح ٣٣.

(٤) المصدر السابق : ح ٣٤.

(٥) المصدر السابق : ح ٣٥.

(٦) المصدر السابق : ح ٥٠.

٢٥٣

ومنها : ما رواه حبيب قال : قال لنا أبو عبدالله عليه‌السلام : « ما أحد أحبّ إليّ منكم إنّ الناس سلكوا سبلاً شتّى منهم من أخذ بهواه ومنهم من أخذ برأيه وإنّكم أخذتم بأمر له أصل » (١).

ومنها : ما روي عن أبي محمّد الحسن بن علي عليه‌السلام أنّه سئل عن كتب بني فضّال ، فقال : « خذوا بما رووا وذروا ما رأوا » (٢).

والجواب عنها : أنّها خارجة عن محلّ النزاع أي القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة بل هي ناظرة إمّا إلى الآراء والقياسات الظنّية كما تشهد عليه ما مرّ من رواية مسعدة بن صدقة عن أبي جعفر عليه‌السلام حيث ورد فيها : « ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضادّ الله ففسّر الرأي فيها بما لا يعلم ».

أضف إلى ذلك أنّ من لاحظ تاريخ فقه العامّة يرى أنّهم كانوا يعتقدون في الفقه بخلأ فقهي ( خلافاً لما ذهب إليه علمائنا أجمع ، فيتوهّمون أنّ هناك مسائل لم يبيّن حكمها في الكتاب والسنّة ولم يرد فيه نصّ ويعبّرون عنها بما لا نصّ فيه ) ولعدم جريان البراءة فيها عندهم يتمسّكون أوّلاً بذيل القياس إن وجدوا لها شبيهاً ونظيراً في الفقه وإلاّ يلتجأون إلى الاستحسان والاجتهاد بمعنى جعل القوانين وفقاً لآرائهم ، وهذا هو المقصود من الرأي الوارد في هذه الطائفة من الرّوايات فهي ناظرة إلى هذا المعنى بحسب الحقيقة ، وفي ضوء هذه النكتة التاريخيّة يتّضح المراد من هذه الأخبار.

وإن شئت قلت : هذا الإرتكاز الذهني المتداول بينهم يكون بمنزلة قرينة لبّية لتعيين المراد من الرأي الوارد في هذه الطائفة.

ويشهد عليه أيضاً ترادف الآراء بالمقاييس في لسان الرّوايات ، فمن المسلّم أنّ المقصود من القياس ليس هو قياس الأولويّة الذي يكون قطعيّاً بل المراد منه القياس الظنّي ، فليكن مترادفها أيضاً كذلك.

ومن هنا يظهر أيضاً أنّ المراد من التعبير بالاجتهاد الوارد في الرّوايات هو نفس العمل بالرأي والظنّ ، لا تطبيق الاصول على الفروع.

وأمّا أن تكون ناظرة إلى مقابلتهم الأئمّة والاستغناء عن مسألتهم ، وله أيضاً شواهد : منها

__________________

(١) وسائل الشيعة : ح ٣١ ، الباب ٦ ، من ابواب صفات القاضي.

(٢) المصدر السابق : ح ١٣ ، الباب ١١ ، من ابواب صفات القاضي.

٢٥٤

ما رواه يونس بن عبدالرحمن قال : قلت لأبي الحسن الأوّل عليه‌السلام : بما أُوحّد الله؟ فقال : « يايونس لا تكوننّ مبتدعاً ، من نظر برأيه هلك ، ومن ترك أهل بيت نبيّه ضلّ ، ومن ترك كتاب الله وقول نبيّه كفر » (١).

ومنها : ما مرّ من رواية حبيب ورد فيها : « منهم من أخذ برأيه وإنّكم أخذتم بأمر له أصل ».

أمّا الطائفة الثانية : ما تدّل على غاية بعد العقول عن دين الله

فمنها : ما رواه عبدالرحمن بن الحجّاج قال : سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول : « ليس شيء أبعد من عقول الرجال عن القرآن » (٢).

ومنها : ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن ، أنّ الآية ينزل أوّلها في شيء ، وأوسطها في شيء وآخرها في شيء » (٣).

ومنها : ما رواه جابر قال : قال أبو عبدالله عليه‌السلام : « ياجابر أنّ للقرآن بطناً وللبطن ظهراً ، ولى شيء أبعد من عقول الرجال منه ، أنّ الآية لينزل أوّلها في شيء وأوسطها في شيء ، وآخرها في شيء ، وهو كلام متصرّف على وجوه » (٤).

والجواب عنها هو الجواب عن الطائفة الاولى من أنّها ناظرة إلى الآراء الظنّية أو ناظرة إلى ترك أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما يشهد له ما رواه ابن عبّاس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قال : « من قال في القرآن بغير علم فيتبوّء مقعده من النار » (٥).

وما جاء في ما رواه إسماعيل بن جابر عن الصادق عليه‌السلام : « وإنّما هلك الناس في المتشابه لأنّهم لم يقفوا في معناه ولم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلاً من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء ونبذوا قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وراء ظهورهم » (٦).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ح ٧ ، الباب ٦ ، من أبواب صفات القاضي.

(٢) المصدر السابق : ح ٦٩ ، الباب ١٣.

(٣) المصدر السابق : ح ٧٣.

(٤) المصدر السابق : ح ٧٤.

(٥) المصدر السابق : ح ٧٤.

(٦) المصدر السابق : ح ٦٢.

٢٥٥

أمّا الطائفة الثالثة : التي تدلّ على انحصار الحجّة الشرعيّة بالنقل

فمنها : ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من أخذ دينه من أفواه الرجال أزالته الرجال ، ومن أخذ دينه من الكتاب والسنّة زالت الجبال ولم يزل » (١).

ومنها : ما روي عن حريز : « أنّ أبا حنيفة قال له : أنت لا تقول شيئاً إلاّبرواية قال : أجل » فهو يدلّ على أنّ مثل حريز الذي كان من كبار أصحاب الصادق عليه‌السلام وخواصّهم لا يقول شيئاً إلاّ برواية ولا حجّة عنده إلاّ الرّواية (٢).

والجواب عنها أيضاً هو الجواب عن الطائفتين السابقتين ، فلا بدّ من ملاحظة خصوصيّات تلك الأعصار حتّى يثبت لنا أنّ مراد أبي حنيفة في قوله « أنت لا تقول شيئاً إلاّبرواية » عدم اعتناء حريز بالقياس والاستحسان ، حيث إنّه لا ريب في أنّ الحريز أيضاً كان يعمل بحكم العقل في تقديم الأهمّ على المهمّ مثلاً والتمسّك بالكذب لنجاة مؤمن لو ابتلى به ، وإن لم يصدر فيه من جانب الإمام عليه‌السلام رواية ، كما أنّ المراد من أخذ الدين من أفواه الرجال أيضاً ليس إلاّ أخذه من القياسات الظنّية والاستحسانات غير القطعيّة.

أضف إلى ذلك ما رواه ابن أبي ليلى عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنّه قال لأبي حنيفة : « فدع الرأي والقياس وما قال قوم في دين الله ليس له برهان » (٣) فإنّها تشهد على أنّ مقصود هذه الطائفة من الأخذ بالرواية هو الاجتناب عن الآراء الظنّية ، حيث إنّها تعبّر عن الرأي القياس بـ « ما ليس له برهان ».

هذا كلّه في الوجوه التي استدلّ بها الأخباريون لمرامهم.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله أضاف إليها وجهاً رابعاً ، وحاصله : أنّا نحتمل كون حجّية دليل العقل من جانب الشارع مشروطاً بوساطة من جانب الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم ، وبعبارة اخرى : أنّ دليل العقل يدلّ على الحكم الشأني لا الفعلي ويصل إلى مرحلة الفعليّة إذا ايّد بالكتاب أو السنّة ، ومجرّد وجود هذا الاحتمال يوجب بطلان الاستدلال بالأدلّة العقليّة.

وأجاب عنه بالقول : « أنّ العقل بعد ما أدرك المصلحة الملزمة في شيء كالكذب المنجي

__________________

(١) وسائل الشيعة : ح ٢٢ ، الباب ١٠ ، من أبواب صفات القاضي.

(٢) المصدر السابق : ح ٣٢ ، الباب ١١.

(٣) المصدر السابق : ح ٣٣ ، الباب ١٠.

٢٥٦

للنبي أو لجماعة من المؤمنين مثلاً ، وأدرك عدم مزاحمة شيء آخر لها ، وأدرك أنّ الأحكام الشرعيّة ليست جزافيّة وإنّما هي لأجل ايصال العباد إلى المصالح وتبعيدهم عن المفاسد ، كيف يعقل أن يتوقّف في استكشاف الحكم الشرعي بوجوبه ويحتمل مدخلية وساطتهم صلوات الله وسلامه عليهم بل لا محالة يستقلّ بحسن هذا الكذب ويحكم بمحبوبيته ، والحاصل أنّ المدّعى هو تبعيّة الحكم الشرعي لما استقلّ به العقل من الحسن والقبح ، وبعد الاستقلال لا يبقى مجال لهذا الاحتمال أصلاً » (١).

أقول : ولذلك نعتقد بأنّ من لم يصل إليه بلاغ من رسول فلا أقلّ من استحقاقه للعقاب على ترك ما يستقلّ به العقل ، فلو قتل إنساناً عالماً عامداً كان مستحقّاً للعذاب عند الله تعالى بلا إشكال ، ولا يمكن أن يقال : إنّ هذا الحكم ما لم يصل إلى هذا القاتل من ناحية الشرع كان معذوراً في هذا الفعل.

ثمّ إنّ الاصوليين استدلّوا لحجّية العقل في قبال الأخباريين بوجوه :

الأوّل : الأخبار الواردة في هذا المجال :

منها : ما رواه محمّد بن عبدالجبّار عن بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبدالله عليه‌السلام قال قلت له : ما العقل؟ قال : « ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان » ، قال : قلت فالذي كان في معاوية؟ فقال : « تلك النكراء ، تلك الشيطنة وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل » (٢).

ومنها : ما رواه هشام عن أبي عبدالله عليه‌السلام في حديث طويل : « ياهشام أنّ لله على الناس حجّتين حجّة ظاهرة وحجّة باطنة فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام وأمّا الباطنة فالعقول » (٣).

ومنها : ما رواه إسماعيل بن مهران عن بعض رجاله عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « العقل دليل المؤمن » (٤).

ومنها : ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « لمّا خلق الله العقل استنطقه ثمّ قال

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ٢ ، ص ٤٠.

(٢) اصول الكافي : كتاب العقل والجهل ، ح ٣.

(٣) المصدر السابق : ح ١٢.

(٤) المصدر السابق : ح ٢٤.

٢٥٧

له : أقبل فأقبل ، ثمّ قال له أدبر فأدبر ، ثمّ قال : وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ منك ولا أكملتك إلاّفيمن أُحبّ ، اما أنّي إيّاك آمر وإيّاك أنهى وإيّاك اعاقب وإيّاك اثيب » (١).

أضف إلى ذلك لحن خطابات القرآن ، حيث إنّها متوجّهة إلى اولي الألباب وقوم يعقلون ويتفكّرون ، وهذا ينافي عدم حجّية العقل كما لا يخفى ، ولا أقلّ فيها من التأييد للمراد.

الثاني : الأخبار التي استدلّ فيها الأئمّة عليهم‌السلام بوجوه عقليّة كما يظهر لمن تتبّع فيها.

الثالث : اتّفاق الاصوليين والأخباريين على العمل بالأدلّة العقليّة في كلماتهم فمن راجع كلمات الأخباريين كصاحب الحدائق يجد صدق ما ذكرناه.

الرابع : عدم الخلاف في حجّيته في اصول الدين وهو يستلزم الحجّية في الفروع بالأولوية القطعيّة.

هذا تمام الكلام في العلم التفصيلي.

الكلام في العلم الإجمالي

كان البحث إلى هنا في العلم التفصيلي ، ونبحث الآن في العلم الإجمالي وأنّه ما هو حكمه؟ فهل يترتّب عليه جميع آثار العلم التفصيلي أو لا؟ وبعبارة اخرى : كان العلم التفصيلي حجّة في مقامين ، مقام التنجّز ومقام الامتثال ، فيقع البحث في العلم الإجمالي أيضاً في مقامين :

الأوّل : في إثبات التكليف وتنجّزه به ، فهل يجب موافقته ويحرم مخالفته قطعاً أو احتمالاً ، أو لا؟

والثاني : في أنّه هل يجوز الاكتفاء به في مقام الامتثال وإسقاط التكليف كما إذا صلّى الإنسان إلى أربع جهات مع كونه قادراً على تعيين القبلة تفصيلاً؟

ولا بدّ قبل الورود في البحث من الإشارة إلى نكتة ، وهي أنّه لماذا يبحث عن العلم الإجمالي في موضعين من الاصول : مباحث القطع ، ومبحث الاشتغال؟

ذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله في مقام بيان الفارق بين المقامين إلى أنّ البحث هنا بحث عن

__________________

(١) اصول الكافي : كتاب العقل والجهل ، ح ١.

٢٥٨

المقتضى ، أي هل العلم الإجمالي مقتض لإثبات الحكم أو لإسقاط التكليف كالعلم التفصيلي أو لا؟ وهناك يبحث عن المانع ، أي : هل يمنع مانع عن حجّية العلم الإجمالي في مقامين ، أو لا؟

وأمّا شيخنا الأعظم رحمه‌الله فقد فرّق بين البابين بوجه آخر ، وهو أنّ البحث هنا بحث في حرمة المخالفة القطعيّة ، وهناك بحث في وجوب الموافقة القطعيّة.

ونحن نقول : لا يمكن القناعة بهذا المقدار من الفرق والتفاوت مع أنّ أدلّة المسألتين مرتبطتان ، فلا وجه لتقطيع البحث والتكلّم هنا عن المقتضى وهناك عن وجود المانع ، أو يبحث هنا عن حرمة المخالفة وهناك عن وجوب الموافقة.

بل الحقّ أنّ العلم الإجمالي يناسب كلا البابين ، لأنّ ماهيّته علم مختلط بالشكّ ، فهو من جهة شكّ يمكن أن يترتّب عليه آثار الشكّ ، ومن جهة اخرى علم يمكن أن يترتّب عليه آثار العلم ، فيناسب أن يبحث عنه في مباحث القطع لجهة كونه علماً وفي مباحث الشكّ لاختلاطه بالشكّ ، نعم حيث إنّه لا وجه للبحث التفصيلي عنه في كلا الموضعين يبحث عنه هنا إجمالاً وهناك تفصيلاً.

إذا عرفت هذا فلنشرع في البحث عن المقامين :

أمّا المقام الأوّل : في تنجّز العلم الإجمالي وعدمه

وهو البحث عن تنجّز العلم الإجمالي ففيه أقوال أربعة :

الأوّل : ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله في المقام ( مباحث القطع ) من أنّ العلم الإجمالي خلافاً للعلم التفصيلي مقتضٍ للتنجّز بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة معاً وليس علّة تامّة لواحد منهما.

الثاني : ما ذهب إليه أيضاً المحقّق الخراساني رحمه‌الله لكن في مبحث الاشتغال وهو أنّه علّةتامّة لكلّ واحد من حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة ، ولكن ألاّ يؤدّي هذا إلى التناقض في كلامه قدس‌سره أو لا؟ فسيأتي إن شاء الله في مبحث الاشتغال بيانه وتوجيه كلامه.

الثالث : ما اختاره الشيخ الأعظم رحمه‌الله من كونه علّة تامّة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعيّة ومقتضياً بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعيّة.

الرابع : ما نسب إلى المحقّق الميرزا القمّي رحمه‌الله من أنّه مقتضي بالنسبة إلى حرمة المخالفة

٢٥٩

القطعيّة ، وأمّا بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعيّة ، فليس بعلّة تامّة ولا مقتضياً.

أمّا القول الأوّل : فاستدلّ له بأنّه فرق بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي حيث إنّ الأوّل كشف تامّ بالنسبة إلى متعلّقه ، ولذا لا مجال فيه لصدور حكم ظاهري بالترخيص ولا يمكن مخالفته ، بخلاف العلم الإجمالي لأنّه مخلوط بالشكّ ، فيمكن للشارع الترخيص في المخالفة الاحتماليّة بل في المخالفة القطعيّة أيضاً لمكان الشكّ.

إن قلت : العلم على كلّ حال لا يجتمع مع الترخيص ومانع عنه.

وقد أجاب عنه بجوابين : أحدهما : بالنقض بجواز الترخيص في أطراف الشبهة غير المحصورة كما قام عليه الإجماع ، وهكذا في الشبهات البدويّة ، لأنّ احتمال التناقض واجتماع النقيضين محال كاليقين به.

والثاني : بالحلّ وأنّ هنا حكمين : أحدهما : في مرحلة الإنشاء ، والآخر : في مرحلة الفعليّة ، ولا تنافي بين المرحلتين ، وبعبارة اخرى : الترخيص حكم ظاهري والمعلوم بالإجمال حكم واقعي ، ولا منافاة بين الحكم الواقعي والظاهري كما سوف يأتي في محلّه إن شاء الله.

أقول : يمكن توجيه ما اختاره الشيخ رحمه‌الله وتقويته ( أي تقوية أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعيّة لكنّه مقتضٍ بالنسبة إلى الموافقة القطعيّة ) بأنّ الحكم الظاهري وإن كان موضوعه الشكّ ولذا لا منافاة بينه وبين الحكم الواقعي لكن متعلّق الشكّ في العلم الإجمالي إنّما هو خصوص أحد الطرفين لا كليهما.

وبعبارة اخرى : أنّ قوله « كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام » وإن كان يشمل كلاً من الطرفين لكن مجموع الطرفين من حيث المجموع داخل في الغاية ، أي قوله : « حتّى تعلم أنّه حرام » وإن شئت قلت : ظهور الذيل مانع عن انعقاد الإطلاق في صدره وشموله لموارد العلم الإجمالي.

إن قلت : فكيف تحكم بالجواز في الشبهة غير المحصورة؟ قلت : جواز إرتكاب الجميع فيها أيضاً أوّل الكلام ، فلا يجوز فيها إرتكاب جميع الأطراف والمخالفة القطعيّة ، ولذا عدّ بعضهم من ضوابطها أن لا تكون جميع الأطراف قابلة للإرتكاب ، هذا أوّلاً.

ثانياً : أنّه يمكن أن يقال : إنّ احتمال انطباق العمل بالحرام الواقعي في الشبهة المحصورة ضعيف جدّاً بحيث يعدّ عند العرف كالعدم ، وحينئذٍ لا تنجّز للعلم الإجمالي الموجود فيها ،

٢٦٠