أنوار الأصول - ج ٢

أنوار الأصول - ج ٢

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-14-8
ISBN الدورة:
964-8139-13-X

الصفحات: ٥٠٤

تنبيهات

التنبيه الأوّل : في مقتضى هذه الأدلة

ما هو مقتضى هذه الأدلّة؟ هل هو حرمة الفعل المتجرّي به ، أو حرمة النيّة؟

الإنصاف أنّ مقتضاها مختلف ، فلا إشكال في أنّ الدليل الأوّل يقتضي حرمة الفعل ، وكذلك الثاني والثالث من دون حاجة إلى توضيح ، وأمّا الدليل الرابع ، أي الرّوايات التي سيأتي ذكرها فحيث إنّها تصرّح بأنّ نيّة المعصية معصية ، فهي تقتضي حرمة النيّة ، وكذلك الدليل الخامس كما صرّح به المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، وإن كان يرد عليه : أنّه إن كانت النيّة حراماً عنده فكيف يتكلّم لإثبات الحرمة عن عنوان الهتك وانطباقه على التجرّي مع أنّ الهتك عمل في الخارج وإن كان من العناوين القصديّة التي لابدّ فيها من النيّة أيضاً؟ وهكذا الدليل السادس ، لأنّ الميزان في حرمة التجرّي لدى الميرزا الشيرازي رحمه‌الله القبح الفاعلي لا الفعلي.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله ذكر لعدم إمكان أن يكون الفعل الخارجي في ما نحن فيه حراماً وجهين :

أحدهما : ضرورة الوجدان ، وتوضيحها : أنّ الفعل المتجرّي به أو المنقاد به لا يحدث فيه بسبب القطع بالخلاف حسن أو قبح ولا وجوب أو حرمة واقعاً كي يترتب عليه الثواب أو العقاب ، بل هو باقٍ على ما هو عليه من الحسن أو القبح والوجوب أو الحرمة فقتل ابن المولى بسبب القطع بأنّه عدوّ له لا يحدث فيه حسناً ولا وجوباً بل هو باقٍ على قبحه وحرمته كما أنّ قتل عدوّ المولى مع القطع بأنّه ابن المولى لا يحدث فيه قبحاً ولا حرمة بل هو باقٍ أيضاً على حسنه ، ووجوبه فإنّ القطع بالحسن والقبح ليس من الوجوه والاعتبارات التي بها يتحقّق الحسن والقبح والوجوب والحرمة كالعناوين الثانويّة الطارئة للأفعال.

ثانيهما : أنّ الفعل المتجرّي به أو المنقاد به بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختياريّاً لأنّ هذا العنوان غير ملتفت إليه غالباً فإنّ من يشرب الماء باعتقاد أنّه خمر يقصده ويشربه بعنوانه الأوّلي الاستقلالي ، أي بعنوان أنّه خمر ، لا بعنوانه الطارىء الآلي ، أي بعنوان أنّه مقطوع الخمريّة فإذا لم يكن هذا العنوان اختياريّاً ملتفتاً إليه فلا يعقل أنّه يكون هو من جهات الحسن أو القبح عقلاً ، ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعاً.

لكن كلا الوجهين غير تامّ :

٢٢١

أمّا الوجه الأوّل : فلأنّ القطع بخلاف الواقع وإن لم يحدث واقعاً بسببه حسن أو قبح ولا وجوب أو حرمة كانت للفعل بعنوانه الأوّلي ولكن يحدث بسببه الحسن أو القبح الذي هو للفعل بعنوانه الثانوي ، وهو عنوان الإنقياد أو التجرّي الطارىء له ، وقد ذكر المحقّق الخراساني رحمه‌الله في ما مرّ من كلامه أنّه معنون بعنوان الهتك للمولى والخروج عن رسم عبوديته وهذا العنوان كافٍ في حرمته.

وأمّا الوجه الثاني : فلأنّ العنوان المحرّم في المقام وهو عنوان الجرأة على المولى والخروج عن رسم العبوديّة عنوان أعمّ يتحقّق في ضمن فردين : المعصية والتجرّي ، والمتجرّي حيث إن مقصوده هو هذا العنوان الأعمّ فهو على أيّ حال يقصد العنوان المحرّم وإن لم يتحقّق ضمن مصداق المعصية ، نظير من كان قصده شرب الخمر الزبيبي وإنكشف أنّه كان خمراً عنبياً.

التنبيه الثاني : الآيات والرّوايات

أمّا الآيات والرّوايات التي استدلّ بها على حرمة التجرّي.

أمّا الآيات فهي كثيرة :

١ ـ قوله تعالى : ( لَايُؤَاخِذُكُمْ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) (١).

٢ ـ قوله تعالى : ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) (٢).

٣ ـ قوله تعالى : ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً ) (٣).

ووجه الاستدلال بالأخيرة أنّ القلب مسؤول عمّا نوى.

٤ ـ قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) (٤).

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٢٥.

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٨٤.

(٣) سورة الإسراء : الآية ٣٦.

(٤) سورة النور : الآية ١٩.

٢٢٢

والجواب عن الاستدلال بهذه الآيات أنّه وقع الخلط بين معصية القلب وبين نيّة المعصية والعزم عليها ، فهناك أفعال تصدر من القلب وتترتّب عليها العقاب نحو كتمان الحقّ وحبّ إشاعة الفحشاء والرضا بالمعاصي ( كما ورد في زيارة وإرث : ولعن الله امّة سمعت بذلك فرضيت به ) والاعتقاد بالأوثان والأصنام ، كما أنّ هناك أفعالاً اخرى تصدر من القلب وتترتّب عليه الثواب كالاعتقاد بالله ورسوله ، لكن هذا لا يستلزم منه ترتّب العقاب على جميع أفعال القلب حتّى مثل نيّة المعصية والعزم عليها ، وبعبارة اخرى : أنّ هذه الآيات تدلّ على حرمة خصوص بعض المصاديق من الأفعال الجوانحيّة المذكورة فيها ، وأين ذلك من حرمة كلّ فعل قلبي؟

أمّا الرّوايات فهي على طائفتين : طائفة تدلّ على أنّ نيّة المعصية معصية ، وطائفة اخرى تدلّ على عدمها أو العفو عنها.

أمّا الطائفة الاولى : فهي روايات عديدة لابدّ من البحث عن كلّ واحدة منها والنظر إليها مستقلاً حتّى يتّضح مقدار دلالتها على المدّعى ثمّ ملاحظتها من حيث المجموع.

منها : ما ورد في الجواب عن إشكال الخلود في النار أو في الجنّة مع كون العمل في الدنيا محدوداً بمقدار معيّن نحو خبر أبي هاشم ، قال : قال أبو عبدالله عليه‌السلام : « إنّما خلّد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبداً ، وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبداً ، فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء ، ثمّ تلا قوله تعالى : ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ) قال : على نيّته » (١).

ولكن يناقش فيها بأنّها ممّا لا يمكن الالتزام بظاهرها لشمول إطلاقه من كان كافراً وليست نيّته في الدنيا أن لو خلّد فيها أن يعصى الله أبداً بل ربّما تكون نيّته أن يتوب بعد مدّة ، لكن مات على كفره قبل أن يتوب ، وشموله أيضاً مؤمناً ليست نيّته أن لو بقى في الدنيا أن يطيع الله أبداً ، لكن اتّفق موته على الطاعة ، ومن المسلّم أنّ الأوّل مخلّد في النار لأنّ الكافر خالد في النار مطلقاً بلا إشكال ، كما أنّه لا خلاف في أنّ الثاني لا يخلّد في النار ، وحينئذٍ فتحمل هذه الأخبار على أنّ الإمام عليه‌السلام تكلّم فيها على قدر عقل المخاطب ، وأجاب بما يقتضيه استعداده وطاقته الفكريّة فيكون الجوا اقناعياً أو يردّ علمها إلى أهلها.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١ ، الباب ٦ ، من أبواب مقدّمات العبادات ، ح ٤.

٢٢٣

وأمّا إشكال الخلود فلنا جواب آخر ذكرناه مفصّلاً في كتاب المعاد ، وملخّصه : أنّ الخلود في الواقع يرجع إلى تجسّم الأعمال وظهور خاصّية العمل وأثره ، فإنّ أثر كفر الكافر أن يخلّد في النار أبداً نظير إرشاد الطبيب مريضه بأنّك إن شربت الخمر أو السمّ تبتلِ بقرحة المعدة إلى آخر العمر.

ومنها : ما رواه فضيل بن يسار عن أبي جعفر عن آبائه عليهم‌السلام أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « نيّة المؤمن أبلغ من عمله وكذلك نيّة الفاجر » (١).

لكن في الباب روايتان شارحتان لهذه الرّواية ، وتدلاّن على أنّه لا ربط لها بالمقام :

إحداهما : ما رواه زيد الشحّام قال : قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : « أنّي سمعتك تقول : نيّة المؤمن خير من عمله ، فكيف تكون النيّة خيراً من العمل؟ قال : لأنّ العمل ربّما كان رياءً للمخلوقين ، والنيّة خالصة لربّ العالمين ، فيعطي عزّوجلّ على النيّة ما لا يعطي على العمل » (٢).

ثانيهما : ما رواه حسن بن الحسين الأنصاري عن بعض رجاله عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه كان يقول : « نيّة المؤمن أفضل من عمله ، وذلك لأنّه ينوي من الخير ما لا يدركه ، ونيّة الكافر شرّ من عمله وذلك لأنّ الكافر ينوي الشرّ ويأمل من الشرّ ما لا يدركه » (٣).

مضافاً إلى أنّ العمل بظاهرها مشكل جدّاً بل هو ممّا لا يتفوّه به فقيه ، حيث إن مقتضاه أن يكون مثلاً معصية من نوى شرب الخمر ولم يشرب ـ أشدّ ممّا إذا نوى وشربه ، وأمّا إذا شربه سهواً أو نسياناً بغير نيّة فلا عقاب له قطعاً فلا تكون الرّواية ناظرة إليه.

ومنها : ما رواه السكوني عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « نيّة المؤمن خير من عمله ونيّة الكافر شرّ من عمله ، وكلّ عامل يعمل على نيّته » (٤).

والجواب عن هذه هو الجواب عن الرّواية الثانية لاشتراكهما في المضمون كما لا يخفى.

ومنها : ما رواه جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال لي : ياجابر : يكتب للمؤمن في سقمه من العمل الصالح ما كان يكتب في صحّته ، ويكتب للكافر في سقمه من العمل السيّىء ما كان

__________________

(١) وسائل الشيعة : ح ٢٢ ، ج ١ ، الباب ٦ ، من أبواب مقدّمات العبادات.

(٢) المصدر السابق : ح ١٥.

(٣) المصدر السابق : ح ١٧.

(٤) المصدر السابق : ح ٣.

٢٢٤

يكتب في صحّته ، ثمّ قال ، قال : « ياجابر : ما أشدّ هذا من حديث » (١).

وهذه الرّواية لا إشكال في دلالتها على المدّعى في الجملة حيث إن ظاهرها أنّ نيّة المريض كان مؤثّراً في دوام العمل الصالح أو العمل السيّىء له.

ومنها : ما رواه عبدالله بن موسى بن جعفر عن أبيه عليه‌السلام قال : « سألته عن الملكين هل يعلمان بالذنب إذا أراد العبد أن يفعله أو الحسنة؟ فقال : ريح الكنيف والطيب سواء؟ قلت : لا ، قال : أنّ العبد إذا همّ بالحسنة خرج نفسه طيّب الريح ، فقال : صاحب اليمين لصاحب الشمال : قم فإنّه قد همّ بالحسنة ، فإذا فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده فأثبتها له ، وإذا همّ بالسيّئة خرج نفسه منتن الريح فيقول : صاحب الشمال لصاحب اليمين قف فإنّه قد همّ بالسيّئة فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده فأثبتها عليه » (٢).

فيمكن أن يستدلّ على المدّعى بقوله « وإذا همّ بالسيّئة خرج نفسه منتن الريح » حيث إن ظاهره أنّ انتان الريح نشأ من ناحية كون النيّة معصية.

لكن الإنصاف أنّ ذيله دالّ على خلافه حيث إن فيه توقّف ثبوت المعصية على تحقّق الفعل ، ولو تنزّلنا عن ذلك فلا أكثر من أنّه مشعر إلى المدّعى وليس على حدّ الدلالة.

ومنها : ما رواه أبو عروة السلمي عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « إنّ الله يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة » (٣).

لكنّها تفسّر برواية اخرى وهي رواية إسماعيل بن محمّد بن إسحاق بن محمّد قال : حدّثني علي بن جعفر بن محمّد وعلي بن موسى بن جعفر هذا عن أخيه وهذا عن أبيه موسى بن جعفر عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ( في حديث ) قال : « إنّما الأعمال بالنيّات ولكلّ امرىء ما نوى فمن غزى ابتغاء ما عند الله فقد وقع أجره على الله عزّوجلّ ، ومن غزى يريد عرض الدنيا أو نوى عقالاً لم يكن له إلاّما نوى » (٤).

فإنّها تدلّ على اعتبار قصد القربة في المثوبة.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ح ٥ ، ج ١ ، الباب ٧ ، من أبواب مقدّمات العبادات.

(٢) المصدر السابق : ح ٣.

(٣) المصدر السابق : ح ٥.

(٤) المصدر السابق : ح ١٠.

٢٢٥

ومنها : ما ورد في باب حرمة شرب الخمر وهو ما رواه حسين بن زيد عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام ( في حديث المناهي ) : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى أن يشتري الخمر ، وأن يسقى الخمر ، وقال : « لعن الله الخمر وغارسها وعاصرها وشاربها وساقيها وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها وحاملها والمحمولة إليه » (١).

وجوابها واضح ، لأنّها داخلة تحت عنوان الاعانة على الإثم الذي هو بنفسه من العناوين المحرّمة فهي أجنبية عمّا نحن بصدده.

ومنها : روايات الرضا وإنّ من رضى بفعل قوم كان منهم ، ومن جملتها ما ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أيّها الناس إنّما يجمع الناس الرضا والسخط وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم الله بالعذاب لمّا عمّوه بالرضا فقال سبحانه : ( فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ) (٢) » (٣). وأيضاً ما ورد في زيارة الحسين عليه‌السلام : « ولعن الله امّة سمعت بذلك فرضيت به » (٤).

لكن المستفاد من هذه الرّوايات أنّ الرضا غير النيّة وأنّه عنوان مستقلّ محرّم ، أي من رضى بعصيان شخص آخر فقد عصى ، وإن لم يكن من قصده فعل تلك المعصية بنفسها بل ربّما ينتهي إلى الكفر كمن رضى بقتل الحسين عليه‌السلام فإنّه يوجب انطباق عنوان الناصب ، والناصب كافر.

ومنها : ما ورد (٥) في السنّة الحسنة والسنّة السيّئة ، ومضمون جميعها يرجع إلى أنّ من سنّ سنّة حسنة كان له أجر من عمل بها ومن سنّ سنّة سيّئة كان عليه وزر من عمل بها.

والجواب : أنّها أيضاً ترجع إلى عنوان الاعانة على البرّ والتقوى أو عنوان الاعانة على الإثم والعدوان كما لا يخفى.

ومنها : ما روي أنّه « إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار ، قلت هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال : لأنّه أراد قتل صاحبه ».

__________________

(١) وسائل الشيعة : ح ٥ ، ج ١٢ ، الباب ٥٥ ، من أبواب ما يكتسب به.

(٢) سورة الشعراء : الآية ١٥٧.

(٣) فيض الإسلام ، خ ١٩٢.

(٤) زيارة وارث.

(٥) راجع بحار الأنوار : ج ٦٨ ، ص ٢٥٧.

٢٢٦

وهي أيضاً خارجة عن محلّ النزاع ، لأنّ الموجب للدخول في النار فيها ليس مجرّد نيّة القتل وإرادته بل الإلتقاء بالسيف ، وسلّ السيف على المسلم بنفسه من المحرّمات ، بل قد يدخل تحت عنوان المحارب الذي له حدّ شديد كما ورد في القرآن.

وإن شئت قلت : النيّة منضمّة إلى مقدّمة من مقدّمات القتل وهي الإلتقاء بالسيف ، والإلتقاء بالسيف حرام لانطباق عنوان الهتك أو اخافة المؤمن عليه.

فظهر إلى هنا أنّ التامّ من حيث الدلالة من بين هذه الرّوايات الكثيرة رواية واحدة وهي رواية جابر ، لكنّها من ناحية السند ضعيفة لمكان عمرو بن شمر.

هذا ، مضافاً إلى أنّ في قبال هذه الأخبار روايات (١) كثيرة تدلّ بالصراحة على عدم كون نيّة المعصية معصية نشير هنا إلى روايتين منها :

إحداهما : ما رواه زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام : قال : « إنّ الله تبارك وتعالى جعل لآدم في ذرّيته أنّ من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ومن همّ بحسنة وعملها كتبت له عشر ، ومن همّ بسيّئة لم تكتب عليه ، ومن همّ بها وعملها كتبت عليه سيّئة » (٢).

ثانيهما : ما رواه أبو بصير عن أبي عبدالله عليه‌السلام : قال : « إنّ المؤمن ليهمّ بالحسنة ولا يعمل بها فتكتب له حسنة ، وإن هو عملها كتبت له عشر حسنات ، وإنّ المؤمن ليهمّ بالسيّئة أن يعملها فلا يعملها فلا تكتب عليه » (٣). إلى غير ذلك ممّا هو في معناهما.

وذكر شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه‌الله للجمع بين هاتين الطائفتين وجهين كلّ واحد منهما جمع تبرّعي لا شاهد له.

أحدهما : أن تحمل الطائفة الاولى على من ارتدع عن قصده بنفسه ، والثانية على من بقى على قصده حتّى عجز عن الفعل لا باختياره.

الثاني : أن تحمل الاولى على من اكتفى بمجرّد القصد ، والثانية على من إشتغل بعد القصد ببعض المقدّمات.

ولكن الأمر سهل بعد ما عرفت من عدم تمام الطائفة الاولى ، سلّمنا ولكنّ الطائفة الثانية

__________________

(١) راجع وسائل الشيعة : ج ١ ، الباب ٦ ، من أبواب مقدّمات العبادات ، ح ٦ و ٧ و ٨ و ١٠ و ٢٠ و ٢١.

(٢) المصدر السابق : ح ٦.

(٣) المصدر السابق : ح ٧.

٢٢٧

أصرح دلالة وأكثر عدداً ، مضافاً إلى ما مرّ من المناقشة في كلّ واحد من روايات الطائفة الاولى دلالة أو سنداً ، ويتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّه لا دليل على حرمة التجرّي من العقل والنقل.

التنبيه الثالث : الكلام في تفصيل صاحب الفصول

في ما ذهب إليه صاحب الفصول من التفصيل ، وإليك نصّ كلامه : « أنّ قبح التجرّي ليس عندنا ذاتياً بل يختلف بالوجوه والاعتبار فمن إشتبه عليه مؤمن ورع عالم بكافر واجب القتل ، فحسب إنّه ذلك الكافر فتجرّى ولم يقدم على قتله فإنّه لا يستحقّ الذمّ على هذا التجرّي عقلاً عند من انكشف له الواقع ، وإن كان معذوراً لو فعل ، وأظهر من ذلك ما لو جزم بوجوب قتل نبي أو وصي نبي فتجرّى ولم يفعل ، ألا ترى أنّ المولى الحكيم إذا أمر عبده بقتل عدوّ له فصادف العبد إبنه وقطع بأنّه ذلك العدو فتجرّى ولم يقتله فاذا اطّلع المولى على حاله لا يذمّه بهذا التجرّي بل يرضى به وإن كان معذوراً لو فعل ... إلى أن قال : ومن هنا يظهر أنّ التجرّي على الحرام في المكروهات الواقعيّة أشدّ منه في مباحاتها ، وهو فيها أشدّ في مندوباتها ، ويختلف باختلافها ضعفاً وشدّة كالمكروهات ويمكن أن يراعى في الواجبات الواقعيّة ما هو الأقوى من جهاتها وجهات التجرّي » (١). ( انتهى ).

أقول : الظاهر من كلامه هذا أنّ حكم التجرّي لديه يختلف بعدد الأحكام الخمسة ، ولعلّ وجهه عنده هو نفس ما ادّعاه المحقّق الخراساني رحمه‌الله على مذهبه ( وهو حرمة التجرّي مطلقاً ) من حكومة الوجدان ، فكأنّ صاحب الفصول يقول : كما أنّ الوجدان يحكم بقبح التجرّي في بعض الموارد يحكم أيضاً بعدمه في موارد اخرى.

ولكن يجاب عنه

أوّلاً : بأنّه ليس تفصيلاً في المسألة بل هو يساوق حقيقةً القول بحرمة التجرّي مطلقاً لكنّها حرمة اقتضائيّة تتغيّر بطروّ عناوين ثانوية كما هو كذلك في غالب العناوين المحرّمة ، فإنّ الكذب مثلاً حرام باعتبار وجود مفسدة فيه ، وتتغيّر حرمته إذا طرأ عليه مصلحة أقوى.

__________________

(١) الفصول : الفصل الأخير من الاجتهاد والتقليد.

٢٢٨

وثانياً : إنّا ننكر أصل حرمة التجرّي ، لما مرّ من عدم صلوح الوجوه المذكورة لإثبات الحرمة ، فلا تصل النوبة إلى ملاحظة الكسر والانكسار بين قبحه وحسن ما طرأ عليه.

وثالثاً : أنّ قبح المتجرّي نشأ من القطع بالحرمة فلا يعقل أن يرتفع ما دامت صفه القطع موجودة قائمة بالقاطع بجهة من الجهات المجهولة المغفولة له ، وبعبارة اخرى : أنّ الحسن والقبح تابعان لما علم من الجهات ، لا لأقوى الجهات الواقعيّة التي يكون مغفول عنه للمتجرّي.

إن قلت : فبما تحكم في قضية ترك قتل ابن المولى مع علمه بأنّه عدوّ للمولى فهل يرضى أحد فيه باستحقاق العبد للمؤاخذة؟

قلت : إنّ المولى الحكيم العادل يحكم بالقبح والعقاب في هذا المورد أيضاً لأنّه يعاقب عبده على جرأته وخروجه عن رسم العبوديّة ، وهذا باقٍ ولم يتبدّل إلى غيره حتّى بعد انكشاف الواقع ، نعم قد لا يعاقبه ويعفو عنه شكراً لسلامة إبنه وخروجه عن خطر القتل لا من باب عدم صدق عنوان المتجرّي عليه كما يشاهد كثيراً مّا نظيره بين العرف والعقلاء في المعاصي الواقعيّة أيضاً فيتركون عقاب العبيد شكراً للنعم المقارنة للمعصية.

التنبيه الرابع : في الإنقياد

قد يقال : يترتّب الثواب على الانقياد لنفس ما استدلّ به على ترتّب العقاب على التجرّي ، وهو شهادة الوجدان ودلالة بعض الأخبار ، ثمّ يستنتج ويقال : حسن الانقياد يلازم قبح التجرّي ولا يجوز التفكيك بينهما.

لكن يناقش فيه بأنّ حسن الانقياد وترتّب الثواب عليه معلول لانطباق عنوان تعظيم المولى عليه لأنّ مفهوم الانقياد إنّما يصدق فيما إذا أتى بالعمل بقصد أمر المولى والتقرّب إليه وإتيان الفعل ، فهذا القصد لا ينفكّ عن انطباق عنوان التعظيم في جميع الموارد فيترتّب الثواب أيضاً في جميع الموارد ، وهذا بخلاف عنوان التجرّي ، فإنّه ليس معناه الإتيان بما يراه معصية بقصد مخالفة المولى والعناد له ، فإنّ هذا لا يعتبر في حقيقة التجرّي بل هو عنوان ثانوي ربّما يوجب الكفر فضلاً عن الفسق ، بل المتجرّي إنّما يأتي بما يأتي من فعله لشهواته ومقاصده الحيوانية كما ورد في دعائه عليه‌السلام : « ولكن خطيئة عرضت لي وسوّلت لي نفسي وغلبني هواي » إلى آخر ما مرّ ذكره.

٢٢٩

فإذاً الفرق بين مسألتي التجرّي والانقياد من هذه الناحية ظاهرة لا سترة عليه فلا يمكن قياس أحدهما بالآخر.

التنبيه الخامس : في سريان حرمة التجرّي بين الأحكام جميعاً

لا فرق في حرمة التجرّي بين مخالفة الأحكام الواقعيّة والظاهريّة ولا بين مخالفة العلم والظنّ المعتبر لأنّ حقيقة الجرأة على المولى موجودة في الجميع ، والأدلّة التي استدلّوا بها على حرمته تجري في الأحكام الظاهريّة والظنون المعتبرة أيضاً ولكن قد عرفت عدم صحّة شيء منها.

هذا تمام الكلام في أحكام التجرّي وأدلّتها والله العالم.

المسألة الثالثة : في أقسام القطع

كان البحث إلى هنا عن القطع الطريقي ، وهيهنا قسم من القطع يسمّى بالقطع الموضوعي يؤخذ في موضوع الحكم بحيث لا يتحقّق الموضوع بدونه ، نحو « إذا قطعت بنجاسة ثوبك فلا تصحّ الصّلاة فيه » فالموضوع لبطلان الصّلاة في هذا المثال هو القطع بنجاسة الثوب مع كون الثوب نجساً في الواقع ، حيث إن القطع حينئذٍ جزء للموضوع ، كما هو المشهور في محلّه وقد أفتى المشهور بعدم مانعية النجاسة الخبثيّة الواقعيّة عن صحّة الصّلاة ، خلافاً للنجاسة الحدثيّة.

وهيهنا أبحاث ثلاثة :

البحث الأوّل : أنّه يستحيل أخذ القطع بعنوان الموضوع

ويقع البحث فيه في ثلاث مواضع :

أحدها : أن يؤخذ في موضوع نفس الحكم.

ثانيها : أن يؤخذ في موضوع ضدّ الحكم.

ثالثها : أن يؤخذ في موضوع مثل الحكم.

٢٣٠

والدليل على الاستحالة في كلّ واحد منها واضح ، أمّا الأوّل فلاستلزامه الدور المحال مثل ما إذا قيل : « إذا قطعت بنجاسة هذا الثوب فهو ينجّس بنفس هذه النجاسة » أو قيل : « إذا قطعت بوجوب هذا العمل فهو يجب بنفس هذا الوجوب ».

أمّا الثاني : فلاستلزامه اجتماع المثلين كما إذا قيل : « إذا قطعت بوجوب هذا العمل فهو يجب بوجوب آخر مثله ».

وأمّا الثالث : فلاستلزامه اجتماع الضدّين مثل أن يقال : « إذا قطعت بوجوب شيء فهو يحرم ».

وهذا كلّه واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان ، ولكنّه بالنسبة إلى أصل المدّعى ، إنّما الإشكال في كيفية الاستدلال على عدم الصحّة بالنسبة إلى القسمين الأخيرين ، حيث إنّه لا استحالة لاجتماع الضدّين أو المثلين في الامور الاعتباريّة كما مرّ مراراً ، بل الإشكال فيه من جهة قبحه ولغويته ، فإنّ اجتماع المثلين لغو واجتماع الضدّين يستلزم التكليف بما لا يطاق ، وصدور كلّ واحد منهما من جانب المولى الحكيم قبيح بلا ريب.

البحث الثاني : أخذ القطع موضوعاً

أنّ القطع المأخوذ موضوعاً على أربعة أقسام : لأنّه تارةً يكون تمام الموضوع لحكم كما قيل به في مسألة الخوف بالضرر فإنّه تمام الموضوع لبعض الأحكام الشرعيّة فيترتّب عليه تلك الأحكام وإن لم يكن ضرر في الواقع ، كما أنّه كذلك في الامور التكوينيّة أحياناً فيوجب علم الإنسان بضرر خاصّ تغيّر اللون أو ارتعاش البدن مثلاً ، سواء كان الضرر موجوداً واقعاً أو لم يكن.

واخرى يكون جزء الموضوع ، والجزء الآخر هو الواقع الذي تعلّق به القطع كما في القطع بنجاسة الثوب الذي أخذ جزءً في موضوع بطلان الصّلاة ، فإذا قطعت بنجاسة الثوب وكان نجساً في الواقع تبطل الصّلاة ، وأمّا إذا قطعت بها وصلّيت مع تمشّي قصد القربة وانكشف الخلاف وعدم نجاسة الثوب فالحقّ صحّة الصّلاة حينئذٍ ، كما أنّه كذلك فيما إذا كان الثوب نجساً في الواقع ولكن لم يكن قاطعاً بها.

وعلى كلّ حال إنّ كلاً من القطع المأخوذ تمام الموضوع والمأخوذ جزء الموضوع تارةً يكون

٢٣١

مأخوذاً بما هو طريق وكاشف عن الواقع ، واخرى بما هو صفة خاصّة وحالة مخصوصة للقاطع أو المقطوع به ، والفرق بينهما أنّ القطع من الصفات ذات الإضافة التي تحتاج إلى طرف آخر كالقدرة المحتاجة إلى المقدور ( في قبال الصفات الحقيقة التي لا تحتاج إلى ذلك كالحياة ونحو ذلك من الصفات القائمة بالنفس من دون حاجة إلى طرف آخر ) ، فإنّ القطع من جهةٍ نور لنفسه ويكون كمالاً للنفس ، ومن جهة اخرى نور لغيره وكاشف عن غيره ، أي الأمر المقطوع به ، وحينئذٍ تارةً يمكن أن يلاحظ بما هو صفة قائمة بالنفس ، واخرى بما أنّه طريق وكاشف عن الغير ، وبهذا تصير أقسام القطع الموضوعي أربعة ، وبانضمام القطع الطريقي إليه تصير خمسة.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله أنكر هنا القطع المأخوذ تمام الموضوع على نحو الكاشفيّة ، وجعل الأقسام ثلاثة قائلاً بأنّه غير معقول لأنّ معنى الأخذ على نحو الكاشفيّة أنّ للواقع دخلاً في الموضوع وهو لا يجتمع مع أخذه تمام الموضوع ، وفي قباله المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية والشيخ الحائري رحمه‌الله في الدرر أثبتا هذا القسم وجعلا الأقسام أربعة.

أقول : الحقّ أنّه وقع هنا بين المحقّق النائيني رحمه‌الله من جانب وبين العلمين المذكورين من جانب آخر مناقشة لفظيّة لأنّ لكلّ من الطرفين بل لكلّ واحد من الأعلام الثلاثة تفسيراً خاصّاً للقطع المأخوذ على نحو الكاشفيّة يناسب مع ما ذهب إليه من الإنكار أو الإثبات.

أمّا المحقّق النائيني رحمه‌الله فيفسّر المأخوذ على نحو الكاشفيّة بأنّ معناه أنّ للواقع دخلاً في الموضوع ، فبناءً على هذا التفسير يكون إنكاره في محلّه كما لا يخفى.

وأمّا المحقّق الخراساني رحمه‌الله فيقول : أنّ القطع لمّا كان من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة ، ولذا كان العلم نوراً لنفسه ونوراً لغيره صحّ أن يؤخذ فيه بما هو صفة خاصّه وحالة مخصوصة بإلغاء جهة كشفه أو اعتبار خصوصيّة اخرى فيه معها كما صحّ أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلّقه وحاكٍ عنه ، فمراده من الكاشفيّة مجرّد النظر إلى الغير وصرف التعلّق بالغير سواء كان الغير موجوداً في الخارج أو لم يكن ، لا أن يكون للواقع دخل.

كما أنّ المحقّق الحائري رحمه‌الله قال في الدرر : « والمراد من كونه ملحوظاً على أنّه صفة خاصّة ملاحظته من حيث إنّه كشف تامّ ، ومن كونه ملحوظاً على أنّه طريق ملاحظته من حيث إنّه أحد مصاديق الطرق المعتبرة ، وبعبارة اخرى : ملاحظة الجامع بين القطع وسائر الطرق

٢٣٢

المعتبرة » (١). فمقصوده من المأخوذ على نحو الكاشفيّة في هذه العبارة أيضاً ليس كون الواقع دخيلاً في الموضوع ، بل المقصود مجرّد ملاحظة أنّه أحد مصاديق الطرق المعتبرة في قبال ملاحظة حالة المائة في المائه في المأخوذ على نحو الصفتية.

ولا يخفى أنّه بناءً على كلّ واحد من هذين التفسيرين يمكن تصوّر قسم رابع وهو كون القطع المأخوذ على نحو الكاشفيّة تمام الموضوع ، وبهذا يرتفع النزاع حقيقه بين الطرفين.

البحث الثالث : في أحكام القطع الموضوعي والطريقي وأنّه هل تقوم الطرق والأمارات مقامهما أو لا؟

لا ريب في قيام الأمارات بنفس دليل حجّيتها ( كآية النبأ ) مقام القطع الطريقي المحض ، كما لا ريب في عدم قيامها مقام القطع الموضوعي على وجه الصفتيّة فلا شكّ في أنّه إذا أشار المولى إلى الشمس مثلاً وقال : « بمثل هذا فاشهد » فأخذ القطع بما أنّه صفة خاصّة ودرجة خاصّة من العلم والكشف في موضوع الشهادة ، فلا تجوز الشهادة على مالكية زيد مثلاً بمجرّد قيام البيّنة على أنّ هذا ملك له ، أو ثبتت مالكيته بالقرعة.

إنّما الكلام في قيامها مقام القطع الموضوعي على نحو الكاشفيّة.

قال الشيخ قدس‌سره في الرسائل : « ثمّ من خواص القطع الذي طريق إلى الواقع قيام الأمارات الشرعيّة والاصول العمليّة مقامه في العمل بخلاف المأخوذ في الحكم على وجه الموضوعيّة فإنّه تابع لدليل الحكم فإن ظهر منه أو من دليل خارج اعتباره على وجه الطريقية للموضوع قامت الأمارات والاصول مقامه ، وإن ظهر منه اعتبار صفة القطع في الموضوع من حيث كونها صفة خاصّة قائمة بالشخص لم يقم مقامه غيره » (٢).

فظاهر كلامه هذا أنّ الطرق والأمارات تقوم مقام القطع الموضوعي على وجه الكاشفيّة مطلقاً سواء كان جزءً للموضوع أو تمام الموضوع.

لكن المحقّق الخراساني رحمه‌الله ذهب في الكفاية إلى عدمه ، حيث قال : « إنّ القطع المأخوذ بهذا النحو ( على نحو الكاشفية ) في الموضوع شرعاً كسائر ما لها دخل في الموضوعات أيضاً ( أي

__________________

(١) درر الفوائد : ج ٢ ص ٣٣٠ ـ ٣٣١ ، طبع جماعة المدرّسين.

(٢) الرسائل : ج ١ ، ص ٦ ، طبع جماعة المدرّسين.

٢٣٣

كسائر الصفات التي لها دخل في موضوعات الأحكام ) فلا يقوم مقامه شيء بمجرّد حجّيته أو قيام دليل اعتباره ما لم يقم دليل على تنزيله ودخله في الموضوع كدخله ».

أقول : لم يقم أحد من العلمين دليلاً على مدّعاه ، وكأنّ كلّ واحد منهما أرسلها إرسال قضايا قياساتها معها ، والإنصاف أنّ المشكلة هنا أيضاً تنحلّ بما مرّ آنفاً من لزوم ملاحظة التفاسير الثلاثة التي ذكرت لأخذ القطع موضوعاً على وجه الكاشفيّة فيثبت بذلك أنّ النزاع في هذا المقام أيضاً لفظي.

بيان ذلك : أنّ ظاهر كلام الشيخ رحمه‌الله كون مراده من المأخوذ على وجه الكاشفيّة أنّ ما أخذ في الموضوع هو جامع الكاشف وجنس الكاشف الذي يكون القطع مصداقاً من مصاديقه كما صرّح بهذا التفسير المحقّق الحائري رحمه‌الله في الدرر ( وقد مرّ بيانه ) ولا ريب أنّه بناءً على هذا التفسير يقوم مقام القطع سائر مصاديق الكاشف بلا إشكال.

وأمّا المحقّق الخراساني رحمه‌الله فقد مرّ أنّ مقصوده من المأخوذ على نحو الكاشفيّة أنّ تلك الحالة ، أي حالة المائة في المائة أخذت في الموضوع من جهة أنّها منوّرة لغيره لا من جهة أنّها تؤثّر في نفسه ، ولا إشكال ( حتّى عند الشيخ قدس‌سره ) في عدم قيام الأمارات مقام هذه الدرجة من العلم ، فالمناقشة بين العلمين لفظيّة نشأت من اختلاف التفسير للقطع الموضوعي على وجه الطريقيّة.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله بعد هذا أورد على نفسه ما حاصله : أنّه يكفينا لإثبات قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الكاشفيّة إطلاق دليل تنزيلها منزلة القطع الشامل ذلك الإطلاق لجميع آثار القطع من الطريقيّة والموضوعيّة ، فإنّ إطلاق دليل اعتبار الأمارة ينزّل الأمارة منزلة القطع في جميع آثاره ولوازمه المترتّبة عليه من كونه طريقاً محضاً وموضوعاً حتّى على نحو الصفتية.

وأجاب عن هذا بأنّ هذا الإطلاق ممتنع في المقام لاستلزامه اجتماع اللحاظين المتضادّين لأنّ تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي موقوف على لحاظ القطع استقلالاً لأنّ مقتضى موضوعيّة شيء هو استقلاله في اللحاظ من دون كونه تبعاً للغير ، وتنزيلها منزلة القطع الطريقي موقوف على لحاظه آلة للغير وهو الواقع المنكشف به فيستلزم منه لحاظ المنزّل عليه وهو القطع بلحاظين متضادّين في إنشاء واحد وهو محال.

٢٣٤

أقول : ويرد عليه : إنّ جوابه هذا مبنيّ على ما ذهب إليه في البحث عن حقيقة الاستعمال من أنّ استعمال اللفظ في المعنى فناؤه فيه حقيقة ، وقد مرّ الجواب عنه ، فقد قلنا أنّ حقيقة الاستعمال هو جعل اللفظ علامة للمعنى والبناء على إرادته عنده ، ولذلك لا مانع من استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى ومن احضار معاني متعدّدة في الذهن ثمّ استعمال لفظ واحد في جميعها.

هذا ولكن نحن أيضاً نمنع عن إطلاق أدلّة حجّية الأمارات لكن لا من باب اجتماع اللحاظين المتضادّين بل من باب انصراف أدلّة حجّية الأمارات عن القطع الموضوعي فإنّها ناظرة بظهورها إلى القطع الطريقي المحض فقط.

وللمحقّق النائيني رحمه‌الله في المقام بيان آخر لجواز قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي على نحو الكاشفيّة ، والنكتة الأساسيّة الرئيسة في كلامه ( بعد أن جعل عمدة ما يتصوّر أن يكون مانعاً عن القيام ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله من الجمع بين اللحاظين ) تفسير ذكره لحجّية الطرق والأمارات ، وهو أنّ دليل الحجّية إنّما ناظر إلى إعطاء صفة الطريقيّة والكاشفيّة للأمارة وجعل ما ليس بمحرز حقيقة محرزاً تشريعاً وإليك نصّ كلامه : « أنّه ليس معنى حجّية الطريق مثلاً تنزيل مؤدّاه منزلة الواقع ولا تنزيله منزلة القطع حتّى يكون المؤدّى واقعاً تعبّداً أو يكون الأمارة علماً تعبّداً ، بداهة أنّ دليل الحجّية لا نظر له إلى هذين التنزيلين أصلاً وإنّما نظره إلى إعطاء صفة الطريقيّة والكاشفيّة للأمارة وجعل ما ليس بمحرز حقيقة محرزاً تشريعاً ، نعم لابدّ وأن يكون المورد قابلاً لذلك بأن يكون له كاشفيّة عن الواقع في الجملة ولو نوعاً إذ ليس كلّ موضوع قابلاً لإعطاء صفة الطريقيّة والمحرزيّة له فما يجري على الألسنة بأنّ ما قامت البيّنة على خمريته مثلاً خمر تعبّداً أو أنّ نفس البيّنة علم تعبّداً فممّا لا محصّل له وليس له معنى معقول إذ الخمريّة أو العلم من الامور التكوينيّة الواقعيّة التي تنالها يد الجعل تشريعاً ، مضافاً إلى أنّ لم يرد في آية ولا رواية أنّ ما قامت البيّنة على خمريته خمر وإنّ الأمارة علم حتّى يصحّ دعوى كون المجعول هو الخمريّة أو كون البيّنة علماً ولو بنحو المسامحة من باب الضيق في التعبير ، وبالجملة ما يكون قابلاً لتعلّق الجعل التشريعي به كيفية المجعولات التشريعية هو نفس صفة الكاشفيّة والطريقيّة لما ليس كذلك بحسب ذاته من دون تنزيل للمؤدّى منزلة الواقع ولا لتنزيل نفسه منزلة العلم. وبعبارة اخرى له في موضع آخر : أنّ مفاد حجّية

٢٣٥

الأمارات هو تتميم الكشف أي يكمّل الشارع بأدلّة الحجّية الكشف الظنّي الموجود في الأمارة ).

ثمّ أشار إلى ما مرّ من إشكال الجمع بين اللحاظين بأنّ بناء هذا الإشكال على تخيّل أنّ دليل الاعتبار إنّما يتكفّل لإثبات أحكام الواقع للمؤدّى أو أحكام القطع للأمارة فيكون تعميماً في الموضوعات الواقعيّة أو في العلم المأخوذ في الموضوع واقعاً ، وأمّا إذا بنينا على عدم تكفّل دليل الحجّية والاعتبار للتنزيل أصلاً بل غاية شأنه هو إعطاء الطريقيّة والكاشفيّة للأمارة وجعل ما ليس بمحرز للواقع حقيقة محرزاً له تشريعاً فليس هناك تنزيل حتّى يترتّب عليه الجمع بين اللحاظين المتنافيين » (١).

أقول يرد عليه :

أوّلاً : ما المراد بإعطاء صفة الكاشفيّة لما ليس كاشفاً؟ أليست الكاشفيّة أيضاً من الامور التكوينيّة غير القابلة للجعل؟ فما ليس بعلم تكويناً وواقعاً كيف يمكن جعله علماً؟ أليس هذا إلاّ كرّ على ما فرّ منه؟

إن قلت : فما هو معنى الحجّية في رأيكم؟

قلت : يمكن أن يبيّن لها معنيان :

الأوّل : تنزيل المؤدّى منزلة الواقع بحسب الأحكام والآثار الشرعيّة ، فمعنى « صدّق العادل » مثلاً « نزّل ما أخبر العادل بخمريته مثلاً منزلة الخمر الواقعي في أحكامه ».

الثاني : جعل حكم طريقي مماثل للحكم الواقعي ، أي ينشأ دليل حجّية خبر العادل فيما إذا أخبر عادل عن خمريّة شيء حرمةً لذلك الشيء مثل حرمة الخمر الواقعي.

ولا يخفى أنّ المعنى الأوّل هو ظاهر لسان الأدلّة ، حيث إن الخبر الذي يقول مثلاً : « ما رواه عنّي فعنّي يروي » يعني « رتّب على ما رواه الآثار والأحكام الشرعيّة » ، والعمدة أنّ الذي يقبل التشريع هو الامور الاعتباريّة مثل الأحكام الشرعيّة لا غيرها.

ثانياً : سلّمنا إمكان إعطاء الكاشفيّة ، لكن ليس هو لسان أحد من أدلّة الاعتبار فليس معنى مفهوم آية النبأ ( وهو : إذا جاءكم عادل فلا تبيّنوا ) اعطيت خبر العادل صفة الكاشفية كما لا يخفى.

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ٢ ، ص ١٢ ـ ١٣.

٢٣٦

ثالثاً : سلّمنا ذلك ، ولكن نتيجته أنّ لدينا قسمين من القطع : قطعاً تكوينياً وقطعاً تشريعياً ، وظاهر أدلّة أخذها في الموضوع هو القطع التكويني فقط ، فالقطع التشريعي الحاصل بتتميم الكشف وإعطاء صفة الطريقية خارج عن منصرفها.

وبالجملة فالمختار في المقام أنّه إن كان المراد من الأخذ على نحو الكاشفيّة أخذ جامع الكاشف فلا إشكال في قيام الأمارة مقامه ، وإن كان المراد منه أخذ القطع بما أنّه كاشف تامّ فلا إشكال أيضاً في عدم قيام الأمارة مقامه لأنّ كشف الأمارة كشف ناقص.

هذا تمام الكلام في قيام الأمارات مقام القطع.

أمّا قيام الاصول مقامه فلنبدأ فيه ببيان أقسامها فنقول : قد قسّمها بعض الأكابر إلى الاصول المحرزة وغير المحرزة ، والحقّ أنّ محرزيّة شيء بالنسبة إلى الواقع تنافي كونه من الاصول العمليّة التي أخذ في موضوعها الشكّ بالواقع ، وعليه فلا محصّل لهذا التقسيم.

اللهمّ إلاّ أن يقال : أنّه مجرّد اصطلاح لكلّ أصل عملي له نظر إلى الواقع وإن لم يكن كاشفاً ظنّياً ، أو كان كذلك ولكن لم يكن الكشف الظنّي ملاك حجّيته شرعاً.

وكيف كان ، قال المحقّق الخراساني رحمه‌الله : « أمّا الاصول فلا معنى لقيامها مقامه بأدلّتها أيضاً غير الاستصحاب لوضوح أنّ المراد من قيام المقام ترتيب ما له من الآثار والأحكام من تنجّز التكليف وغيره كما مرّت إليه الإشارة وهي ليست إلاّوظائف مقرّرة للجاهل في مقام العمل شرعاً أو عقلاً ، إلى أن قال : ثمّ لا يخفى أنّ دليل الاستصحاب أيضاً لا يفي بقيامه مقام القطع المأخوذ في الموضوع مطلقاً ».

وحاصل كلامه : أنّ غير الاستصحاب من الاصول العمليّة لا يقوم مقام القطع لأنّ لسانها ليس لسان التنزيل وترتيب الآثار بل هي ليست إلاّمجرّد وظائف عملية للجاهل ، وأمّا الاستصحاب فهو وإن كان لسان أدلّته لسان التنزيل ولها نظر إلى الواقع إلاّ أنّ دليل الاستصحاب مثل قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين أبداً بالشكّ » لابدّ أن يكون ناظراً إمّا إلى تنزيل الشكّ في البقاء منزلة القطع به ، أو إلى تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن ، ولا يعقل أن يكون ناظراً إلى كلا التنزيلين لاستلزامه اجتماع اللحاظين على ما تقدّم منه قدس‌سره في قيام الأمارات.

أقول يرد عليه :

أوّلاً : ما مرّ من أنّ الإشكال في المقام ليس هو الجمع بين اللحاظين ، بل الإشكال أنّ الأدلّة

٢٣٧

منصرفة عن القطع الموضوعي ، فمثل قوله « لا تنقض اليقين » المعنى المستظهر منه هو ترتّب آثار الواقع المتيقّن أي الوضوء مثلاً في مورد هذا الخبر ، لا ترتيب آثار القطع.

ثانياً : ظاهر كلامه هذا أنّ الاصول لا توجب تنجّز التكليف لأنّها ليست إلاّوظائف مقرّرة للجاهل في مقام العمل مع أنّه لا منافاة بينهما بل إنّها تنجّز التكليف الواقعي في صورة الإصابة وإن لم يكن لسانها لسان التنزيل منزلة الواقع.

فظهر ممّا ذكرنا : أنّ الاصول لا تقوم مقام القطع الموضوعي مطلقاً حتّى إذا فسّر القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الكاشفيّة بأخذ جامع الكاشف لأنّه ليس لأصل عملي كاشفيّة وإن كان لسانه لسان التنزيل ، وعليه فلا وجه لما ذهب إليه في تهذيب الاصول من جواز قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي.

بقي هنا شيء :

وهو ما يستفاد من بعض كلمات المحقّق النائيني رحمه‌الله من إنكاره القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الصفتية في لسان الأدلّة الشرعيّة ، وأنّه لم نجد في الأحكام الفقهيّة حكماً أخذ في موضوعه القطع على نحو الصفتية.

فنقول في جوابه : إن كان المراد من القطع المأخوذ على نحو الصفتية تلك الدرجة العالية من العلم أي حالة المائة في المائة فيمكن أن يحمل عليها ما ورد في باب الشهادات عن علي بن غياث عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : لا تشهدنّ بشهادة حتّى تعرفها كما تعرف كفّك » (١). وما ورد أيضاً عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد سئل عن الشهادة قال : هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع » (٢).

وإن كان المراد منه القطع بما أنّه صفة كماليّة للنفس فيمكن أيضاً أن يحمل عليه ما ورد في بعض الرّوايات من استحباب إكرام العالم أو استحباب النظر إلى وجه العالم حيث إن العلم في هذين الحكمين لم يؤخذ بما أنّه كاشف لغيره بل بما أنّه نور في نفسه وصفة كماليّة للنفس كما لا يخفى.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١ ، الباب ٢٠ ، من أبواب الشهادات.

(٢) المصدر السابق : ح ٣.

٢٣٨

المسألة الرابعة : هل يتصوّر ما ذكر من الأقسام للقطع في الظنّ أيضاً أو لا؟

قد ذكرنا سابقاً أنّ للقطع الموضوعي أربعة أقسام :

١ ـ القطع المأخوذ في موضوع حكم نفسه.

٢ ـ القطع المأخوذ في موضوع حكم مثله.

٣ ـ القطع المأخوذ في موضوع حكم ضدّه.

٤ ـ القطع المأخوذ في موضوع حكم غيره ، ومرّ أيضاً بطلان الثلاثة الاولى وإنّ الجائز منها هو القسم الأخير نحو « إذا قطعت بنجاسة الثوب تبطل الصّلاة فيه ».

أمّا الظنّ فلا إشكال في بطلان القسم الأوّل بالنسبة إليه نحو « إذا ظننت بوجوب صلاة الجمعة فهي تجب بهذا الوجوب » ، وذلك للزوم نفس الإشكال وهو الدور المحال هنا أيضاً ، كما لا إشكال في جواز القسم الأخير فيه ، أمّا القسم الثاني والثالث فربّما يقال بأنّهما قد يصحّان بالنسبة إلى الظنّ نحو « إذا ظننت بوجوب صلاة الجمعة فهي تجب » و « إذا ظننت بنجاسة الثوب فهو طاهر » ، ونكتة الجواز والسرّ فيه أنّ الحكمين فيهما حكمان في مرحلتين : مرحلة الإنشاء ومرحلة الفعليّة ، فالمظنون بسبب الجهل به وعدم رفع الستار عنه كما ينبغي ـ يكون إنشائيّاً غير فعلي ، وأمّا الحكم الذي قد أخذ الظنّ موضوعاً له فيكون فعلياً ، وعليه فلا يلزم اجتماع الحكمين المتماثلين أو المتضادّين في مرتبة واحدة.

إن قلت : لو كان هذا هو السرّ في الجواز فيمكن أن يقال به في القطع أيضاً ، أي يمكن أن يأخذ القطع بحكم في مرحلة الإنشاء موضوعاً للقطع به في مرحلة الفعلية فيقال مثلاً : إذا قطعت بوجوب شيء وجوباً إنشائيّاً يجب ذلك الشيء بوجوب فعلي أو يحرم فعلاً ، فما هو الفارق بين المقامين؟

قلت : الفرق هو أنّ القطع بحكم إنشائي يلازم القطع بالفعليّة ( إذا كان المانع عن الفعليّة هو الجهل فقط ) لأنّ القطع حجّيته ذاتيّة ولا يمكن سلب الحجّية عنه ، بخلاف الظنّ فيمكن فيه للشارع جعل الحجّية له أو سلبها عنه لعدم كونها ذاتيّة له.

إن قلت : ما هي الثمرة لهذا البحث؟

قلنا : سيأتي إن شاء الله تعالى فائدتها العظيمة في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري في

٢٣٩

جواب شبهة ابن قبّة التي هي من المشكلات في مبحث الأحكام الظاهريّة.

المسألة الخامسة : في وجوب الموافقة الالتزاميّة في الأحكام الفرعيّة وعدمه

إذا علمنا بوجوب شيء أو حرمته أو استحبابه مثلاً فهل يجب الالتزام القلبي بذلك الوجوب أو الحرمة أو الاستحباب أو لا؟ وبعبارة اخرى : الواجب في الأحكام الفرعيّة شيئان أو شيء واحد؟

وفيه أبحاث ثلاثة :

الأوّل : في المراد من الالتزام القلبي والمعنى المقصود منه.

الثاني : في وجوبه في الأحكام الفرعيّة وعدمه بعد إمكان تصوّره في مرحلة الثبوت.

الثالث : في ثمرة البحث ، فيقع الكلام في ثلاث مقامات :

أمّا المقام الأوّل : فحلّ المشكل فيه يتوقّف على إثبات جواز انفكاك الاعتقاد عن العلم وأنّه هل يكون العلم عين الاعتقاد أو لا؟ فذهب جمع إلى عدم إمكان التكفيك بينهما.

قال في تهذيب الاصول : « إنّ التسليم القلبي والانقياد الجناني والاعتقاد الجزمي لأمر من الامور لا تحصل بالإرادة والاختيار ، من دون حصول مقدّماتها ومبادئها ، ولو فرضنا حصول عللها وأسبابها ، يمتنع تخلّف الالتزام والانقياد القلبي عند حصول مبادئها ، ويمتنع الاعتقاد بأضدادها فتخلّفها عن المبادىء ممتنع كما أنّ حصولها بدونها أيضاً ممتنع ... إلى أن قال : فمن قام عنده البرهان الواضح بوجود المبدأ المتعال ووحدته لا يمكن له عقد القلب عن صميمه بعدم وجوده وعدم وحدته ، ومن قام عنده البرهان الرياضي على أنّ زوايا المثلّث مساوية لقائمتيه ، يمتنع مع وجود هذه المبادىء ، عقد القلب على عدم التساوي ، فكما لا يمكن الالتزام على ضدّ أمر تكويني مقطوع به فكذلك لا يمكن عقد القلب على ضدّ أمر تشريعي ثبت بالدليل القطعي. نعم لا مانع من إنكاره ظاهراً وجحده لساناً لا جناناً واعتقاداً ، وإليه يشير قوله عزّوجلّ : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ). وما يقال من أنّ الكفر الجحودي يرجع إلى الالتزام القلبي على خلاف اليقين الحاصل في نفسه فاسد جدّاً. هذا هو الحقّ القراح في هذا المطلب من غير فرق بين الاصول الاعتقاديّة ... إلى أن قال : فلو قام الحجّة

٢٤٠